الردود على الشبهاتأبحاث

لماذا كتب موسى سفر التكوين؟  – كتاب أصعب الآيات في سفر التكوين

لماذا كتب موسى سفر التكوين؟  – كتاب أصعب الآيات في سفر التكوين

لماذا كتب موسى سفر التكوين؟  – كتاب أصعب الآيات في سفر التكوين
لماذا كتب موسى سفر التكوين؟  – كتاب أصعب الآيات في سفر التكوين

لماذا كتب موسى سفر التكوين؟  – كتاب أصعب الآيات في سفر التكوين

 

يعتبر سفر التكوين من أقدم كتب العالم، وقد كتبه موسى بشيء من البساطة والعمق في ذات الوقت، وفي إطار قصصي بحيث يمكن للعالم الكبير والطفل البسيط أن يفهمه. وهو الكتاب الوحيد الذي يتضمن الوصف الصادق والكامل للخليقة ولا سيما أصل الجنس البشري. وقد كتبه لعدة أهداف وهي:

1 – لكي يعلن أن للكون رباً أزلياً وأنه قادر وحكيم وعادل ورحيم. فقد شغل موضوع الخليقة العالم القديم بكل دياناته وفلسفاته وأدبه الشعبي، فكان هناك العديد من الأساطير والخرافات حول قصة الخلق، ولكن موسى قدم القصة بعيداً كل البعد عن الخزعبلات القديمة.

لذلك يرى القديس ديديموس الضرير في تفسيره لسفر التكوين أن غاية الوحي الإلهي من الحديث عن الخلق هو تصحيح الأفكار الخاطئة التي تسربت إلى إسرائيل في هذا الشأن من العبادات الوثنية المصرية.

أما القديس باسيليوس فيؤكد أن موسى النبي كتب في بساطة ليؤكد بعض الحقائق التي شوهها بعض الفلاسفة الملحدين، فأكد أن العالم ليس وليد الصدفة، وإنما هو عمل خالق ماهر، وأنه ليس أزلياً مع الله ولا يشاركه أبديته إنما له بداية ونهاية.

وقد جاءت الكلمات الأولى ” فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ” (تك 1: 1) لتعلن أن الله خلق كل شيء في هذا الكون، وهو مصدر الحياة، وأنه هو المحرك الأول لهذا العالم، وهو أيضاً الموجود بذاته. وأن خلق الله للعالم وما به “السماوات وما بها والأرض بما فيها” تم بكلمة من فيه ” لِيَكُنْ …. فَكَانَ”، والتي ترددت ثماني مرات. وست مرات جاء التعبير ” وَكَانَ كَذلِكَ”، برهاناً على أن مقاصد الله تمت. وواضح من الأصحاح الأول سلطان الله الكامل – كخالق عظيم – على كل الكون. ونظر الله إلى العالم وإذا هو حسن جداً.

2 – الإعلان عن وجود الله والتعرف عليه كشخص حي حقيقي متفرد ومختلف عن بقية الآلهة التي كان الناس يعتقدون في وجودها آنذاك، فهو الخالق المحب الرحيم القريب من خليقته المعتني بها، والساعي لخيرها دائماً.

فنجد السفر يبدأ بتأكيد أن الله خلق الكون، وينتهي بوعده أنه سيستمر في إظهار عنايته وحفظه لشعبه. وخلال جميع فصول السفر نلمس أن الله هو الشخصية الرئيسية، فهو يقيم ويحاكم ويعاقب ويقود ويساعد السالكين حسب وصاياه. إنه يسجل لنا قصص إيمان الناس بالله ويساعد في حفظ هذا الإيمان حياً.

3 – أبرز هذا السفر أن الإنسان في نظر الله ليس مجرد كائن وسط ملايين من المخلوقات الأرضية والسماوية، لكنه كائن فريد يحمل السمة الأرضية والسماوية، فلقد خلقه الله تراباً من الأرض أي جسده، ونفخ في أنفه نسمة حياة أي روحه من السماء. له تقديره الخاص في عيني الله. وهبه الله الإرادة الحرة التي تميز بها عن سائر المخلوقات الأرضية، فالأرض بكل جبروتها والكواكب بكل عظمتها تسير حسب قوانين طبيعية موضوعة لها، والحيوانات تسلك حسب غريزة طبيعية، أما الإنسان فكائن حر له أن يختار الطريق ويسلك حسبما يقرر.

من أجل هذا خلق الله الإنسان سيداً على الأرض، ومتسلطاً عل كل ما عليها وما تحتها، ما في البحار وما في الهواء، حتى على الفضاء! لقد وهبه صورته ومثاله وأقامه كسفير له.

ويبرز نظرة الله لنا واعتزازه بنا لدرجة أنه ينسب نفسه إلينا، فيدعو نفسه إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب وليس إله الآباء، يود أن يكون إلهاً خاصاً بكل ابن له.

وأبرز هذا السفر أبوة الله الفائقة للإنسان، فلم يخلقه أسيراً كما تخيلته بعض الفلسفات المعاصرة، ولا أقامه في مذلة يتحكم فيه كيفما أراد، وإنما أقامه ابناً محبوباً لديه، من أجله خلق المسكونة وقد هيأ له الأمجاد الأبدية ليرفعه إلى حيث يوجد الله أبوه ليعيش الإنسان شريكاً في المجد، متنعماً بالأبوة الفائقة.

وفي أبوته الحانية خلق من أجلي السماء والأرض الماديتين لينطلق بي إلى مجيئه الأخير لأنعم بالسماء الجديدة والأرض الجديدة على مستوى ملائكي أبدي!

4 – التأكيد على أن الله وحده المستحق العبادة لا مخلوقاته كالشمس، والقمر، والنجوم. وقد قدم لنا هذا السفر منهج العبادة لله بكونه يحمل شقين متلازمين: الذبيحة لأجل المصالحة، والسلوك الحي لحمل سمات الله فينا. وهكذا عرّفنا هذا السفر مفهوم العبادة كسر مصالحة مع الله خلال الذبيحة والحياة معه خلال شركة الحب العامل. وإن ما يهم الله في العبادة ليس المنظر الخارجي بل اتجاه القلب الداخلي. فما يهم الله لا ما في يدي، لا ما على شفتي، بل ما في قلبي.

5 – التأكيد على أن العالم المادي ليس أزلياً، ولا أبدياً، فله بداية ونهاية[1]. ولتفنيد المعتقدات السائدة آنذاك ولا سيما لدى البابليين والقائلة بأزلية المادة من ناحية، وألوهية الأرض والسماء والبحر كآلهة أساسية، يتلوها آلهة القمر، والشمس والنجوم.

6 – دحض المعتقدات التي كانت سائدة والمأخوذة من الأساطير اليونانية والقائلة بأن العالم جاء نتيجة صراع الآلهة وليس نتيجة إرادة الله الحرة ومشيئته الصالحة الكاملة[2].

7 – ليعلن عدم موافقته على معتقدات الحضارة المصرية التي نشأ وتربى فيها، لكن نعمة الله حفظته من التأثر بها، فقد كان النيل يعتبر من أول وأهم آلهة المصريين، وكانوا يطلقون عليه الإله (حابي أو هابي)، وكانوا يعبدونه تعبيراً عن فضله عليهم، فلقد كانت وما زالت مياهه هي شريان الحياة لمصر، وثروته السمكية تشكل طعاماً هاماً للمصرين، لذلك عبدوه وكانوا يلقون له بعروس في عيده السنوي.

وكانت بعض الحيوانات مقدسة عند المصريين، لذلك قال فرعون لموسى وهارون: “«اذْهَبُوا اذْبَحُوا لإِلهِكُمْ فِي هذِهِ الأَرْضِ». فَقَالَ مُوسَى: «لاَ يَصْلَحُ أَنْ نَفْعَلَ هكَذَا، لأَنَّنَا إِنَّمَا نَذْبَحُ رِجْسَ الْمِصْرِيِّينَ لِلرَّبِّ إِلهِنَا. إِنْ ذَبَحْنَا رِجْسَ الْمِصْرِيِّينَ أَمَامَ عُيُونِهِمْ أَفَلاَ يَرْجُمُونَنَا؟” (خر 8: 25-26). فأهل طيبة كانوا لا يحتملون أن يشاهدوا أحد يذبح غنمه، وأهل مندس كانوا لا يستطيعون أن يصبروا على من يذبح ماعزاً. وقد أثبت المؤرخون القدماء أمثال هيرودوتس، وديودوروس وغيرهما أن المصريين كانوا يعبدون البهائم وكانت هذه الآلهة من الكثرة فامتلأت بها هياكلهم وكأنها معرض حيوانات، فعبدوا العجل والتمساح والبقرة والعنزة والكبش والقطة والكلب.

وكانوا يعبدون الإله “نوت” إله السماء الذي رتب الكواكب في أبراجها، والإلهة “سخمت” إلهة النار والضوء المقدس. وكذلك كانوا يعبدون الشمس التي كانت أعظم آلهة المصريين، وكانت تبعد على أنها الإله الأعلى “رع” الأب اللامع الذي لقح الأرض بأشعة الحرارة والضوء، والذي منه اشتق اسم ملك مصر “فرعون”. وفي أيام أمنحوتب الثالث نقش المهندسان سوتي وحور نشيداً توحيدياً للشمس على لوحة محفوظة إلى الآن في المتحف البريطاني. وقد كانت العادة المتبعة في مصر منذ زمن طويل أن يخاطب إله الشمس أمون باسم أعظم الآلهة[3].

وفي سفر التكوين، أراد موسى أن يعلن أن كل هذه الأشياء هي صنعة يد الله وعمل أصابعه، وليس مطلوب من الإنسان تأليهها أو عبادتها، بل إخضاعها والتسلط عليها ” وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ»”. (تك 1: 28). فالخليقة كلها تعلن عظمة شخص الله، وتقودنا إليه لنعبده وحده وليس سواه (مز 19: 1).

وقد حذر موسى بوضوح في سفر التثنية من عبادة المخلوقات الحية كالحيوانات أو الخليقة الصامتة كالشمس والقمر، فقال: ” «فَاحْتَفِظُوا جِدًّا لأَنْفُسِكُمْ. فَإِنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً مَّا يَوْمَ كَلَّمَكُمُ الرَّبُّ فِي حُورِيبَ مِنْ وَسَطِ النَّارِ. لِئَلاَّ تَفْسُدُوا وَتَعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، صُورَةَ مِثَال مَّا، شِبْهَ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، شِبْهَ بَهِيمَةٍ مَّا مِمَّا عَلَى الأَرْضِ، شِبْهَ طَيْرٍ مَّا ذِي جَنَاحٍ مِمَّا يَطِيرُ فِي السَّمَاءِ، شِبْهَ دَبِيبٍ مَّا عَلَى الأَرْضِ، شِبْهَ سَمَكٍ مَّا مِمَّا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. وَلِئَلاَّ تَرْفَعَ عَيْنَيْكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَتَنْظُرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، كُلَّ جُنْدِ السَّمَاءِ الَّتِي قَسَمَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّتِي تَحْتَ كُلِّ السَّمَاءِ، فَتَغْتَرَّ وَتَسْجُدَ لَهَا وَتَعْبُدَهَا”. (تث 4: 15-19).

8 – هذا السفر يقدم لنا تاريخاً مختصراً للإعلان الإلهي[4]. أي إعلانه عن ذاته كشخص حي له اسم، وفكر، ومشاعر، ووجود حي فعال، وسط شعبه، كما حدث مع أخنوخ، ونوح، وإبراهيم، واسحق، ويعقوب، ويوسف. وهو يضع الأساس لكل إعلان، يفتح لنا الباب لإدراك المفاهيم اللاهوتية السليمة، فيعرفنا عن الله وعلاقته بنا، ووصيته الإلهية وعملها في حياتنا.

إن الله في حبه للإنسان قدم أسراره له – قدر ما يحتمل – لا للمعرفة العقلية الجامدة وإنما ليدخل معه في صداقة أبدية، وكأنه بالصديق الذي يفتح خزائن قلبه لصديقه حتى يدخل به من يوم إلى يوم إلى أعماق جديدة في الصداقة. فحدثنا الرب عن ألقابه الإلهية لكي نتعرف عليه خلال هذه الألقاب وننعم بعمله معنا وفينا. فلا نجد في السفر كتابات فلسفية نظرية ومبادئ جامدة وقوانين حرفية، لكننا نرى الله متجلياً كصديق، فيتمشى صوته عند هبوب ريح النهار في الجنة ليلتقي بالإنسان الساقط، وفي الحقل يحاج قايين القاتل، وعند ثورة بابل ينزل ليرى ماذا يفعل الإنسان، وفي وقت الظهيرة يتقبل مع ملاكيه ضيافة إبراهيم، وفي الطريق يلتقي مع يعقوب في صراع ليحطم اعتداده بذاته، إنه يهيئ العقل البشري من بداية التاريخ لتجسده المبارك في شخص المسيح.

9 – ليبين ويوضح طول أناة الله الذي صنع كل شيء حسناً للإنسان، ورغم خطأه في حق الله، لم ييأس منه بل سعى إلى خلاصه.

10 – سرد تاريخ الآباء الكبار كآدم، ونوح، وإبراهيم، واسحق، ويعقوب، ويوسف، فالسفر يغطي فترة زمنية حوالي 2369 سنة[5].

وفي عرضه لحياة الآباء البطاركة لم يقدم لنا السفر قصصاً مجردة لحياتهم إنما قدم معاملات الله معهم، مظهراً أن كل تحرك في حياتهم وكل تصرف مهما بدا تافهاً يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الخلاصية. بمعنى أنه يستخدم أولاده في كل تصرفاتهم كآلات بر تعمل لحساب ملكوته في حياتهم الخاصة وفي حياة الجماعة.

لكن ما أوضحه السفر هو تأكيد جانبين: الأول أن الله عامل في أولاده لكن ليس بدونهم، فإبراهيم ما كان يبقى إبراهيم كأب للمؤمنين بدون إبراهيم نفسه، فالله يكرم الحرية الإنسانية ويقدسها، فيتعامل معنا كبشر أحرار وليس كما مع آلات جامدة يحركها بطريقة آلية جامدة.

أما الجانب الآخر فهو إبرازه لبطولات رائعة ومتنوعة كنوح البار المطيع، وإبراهيم خليل الله ويعقوب مغتصب البكورية وسارة الزوجة المثالية، ويوسف الطاهر المستقيم، لكن خلال الواقع البشري العملي، فلم تخل حياة بطل من ضعف بشري. صورهم كما هم دون أن يضفي عليهم مسحة العصمة من الخطأ أو الضعف.

وأخيراً أقول إنه بالرغم مما في سفر التكوين من تاريخ إلا أنه ليس كتاب تاريخ، ورغم ما به من علوم كثيرة فهو ليس كتاب علم، ورغم ما به من حكم وفلسفات نافعة لكل جيل وعصر فهو ليس كتاب حكمة أو فلسفة، لذا أرجو ألا تقترب منه على أنه هكذا، بل لنقترب منه ككتاب روحي نرى ونلمس فيه إعلان الله عن ذاته، ومعاملاته العظيمة، ومقاصده السامية تجاه بني البشر، لخلاصهم والذي بدأ بوعد الخلاص في (تك 3: 15)، مروراً بخلاص نوح من الغرق والدخول في عهد معه، ثم العهد مع إبراهيم واسحق ويعقوب أن في نسلهم يتبارك كل شعوب الأرض.

 

[1] ديفيد اتكنسون. الكتاب المقدس يتحدث اليوم. القاهرة: دار النشر الأسقفية، ص 94.

[2] أنطوان نوي. وقائع أيام الخليقة. ترجمة ميشيل وديع، بولاند يسري 28.

[3] The Expositor’s Bible Commentary. p. 326.

[4] ق. صموئيل يوسف. المدخل إلى العهد القديم، ص 147.

[5] السنن القويم في تفسير العهد القديم ص 11.