أبحاث

من هم المتبالهون من أجل المسيح؟ ولماذا عاشوا متبالهين؟ وهل كانوا مرضى نفسيين؟

من هم المتبالهون من أجل المسيح؟ ولماذا عاشوا متبالهين؟ وهل كانوا مرضى نفسيين؟

من هم المتبالهون من أجل المسيح؟ ولماذا عاشوا متبالهين؟ وهل كانوا مرضى نفسيين؟
من هم المتبالهون من أجل المسيح؟ ولماذا عاشوا متبالهين؟ وهل كانوا مرضى نفسيين؟

من هم المتبالهون من أجل المسيح؟ ولماذا عاشوا متبالهين؟ وهل كانوا مرضى نفسيين؟

 

المتبالهون من أجل المسيح هم عادة رهبان ينزلون إلى “العالم”، إلى المدن والمجتمع، ويتصرفون ويأتون بأعمال غريبة لا معنى لها ظاهرياً، هي في عرف المجتمع أعمال بلاهة وجنون وحماقة. ومع ذلك، لهذه الأعمال دائماً معنى أعمق: إنها تكشف الواقع الذي يعيش فيه هذا العالم والحقيقة المحجوبة تحت غطاء “التمدن” المزيف. المتباله يعيش في الشوارع والأزقة، مثل المتشردين، مع أناس محرومين، بائسين، مرذولين من المجتمع، مع الزناة والمتشردين. يبدو المتباله ظاهرياً أنه يقلد طريقة عيشهم، بينما في الحقيقة يظهر لهم حقيقة الخلاص بطريقة يستطيعون أن يدركوها وتناسب مستواهم الروحي، وذلك عبر المزاح والتهريج والسخافات غير الاعتيادية.

كثيراً ما يوبخ المتباله هؤلاء الخطاة، ويجري العجائب ليمنعهم من المزيد من السقوط في الخطيئة. عادة ما تكون للمتباله نعمة نفاذ البصيرة وقراءة أعماق الإنسان الخفية؛ إنه يسخر من تعدياتهم الخفية علناً، لكن بطريقة لا يمكن أن يفهمها إلا المذنب فقط.

يقدم المتباله نفسه للعالم بصورة إنسان خاطئ: فهو أحياناً يكسر أصوام الكنيسة أمام الناس، بينما في الخفاء يمارس أقصى درجات النسك في أكله. إنه في الحقيقة يقوم علناً لا بازدراء الصوم والصلاة والنسك والبر، بل بازدراء الطريقة التي يمارس فيها المجتمع هذه الأعمال. وفي الليل يعود إلى جماعة القديسين، وإلى صلواته وصومه ومعاينة وجه الله. وفي الصباح يعود ثانية ليضع قناع التباله، مستهزئاً من هذا العالم الباطل ومن زيفه وافترائه ومراءاته. هذا التباله هو أحد أشكال درجات النسك القصوى، وهو رفض تام لمقاييس العالم وقيمه، وهجر كلي للأنا. إنه “يبالغ” في رفض العالم ومعاييره ومثله لكي “يهز” ضمير هذا العالم النائم، لكي “يصدمه” و”يصعقه” فيصحو حتى يرى معايير الإنجيل ومثله التي أضاعها هذا العالم.

يأتي المتبالهون ليذكرونا بأن رسالة الإنجيل هي “حماقة العالم”، وأن الخلاص والقداسة لا يمكن لهما أن يتصالحا مع قيم المجتمع الدنيوية ومُثُله المزيفة. إنهم يقدمون أنفسهم خلال فترات “العلمنة الكاذبة” عندما لا ينفصل الدين عن السياسة، بل عن الحياة نفسها، عندما تضيع فيها قيم الإنجيل وتصير الهوية المسيحية معتمدة على المقاييس والقيم التقليدية لعلم يقيس الحياة الحقيقية وفضيلة الإنسان بمقياس اللياقة الاجتماعية وعلم الأخلاق والواجبات الاجتماعية.

المتباله إناء للنعمة، ولديه الخبرة الآنية بملكوت الله. إنه يعيش هذا الملكوت وهو بعد هنا على الأرض، وفي العالم ولكنه ليس من هذا العالم. إنه يظهر بصورة نبوية التضاد بين “دهر العالم الحالي” و”دهر الملكوت”، والفرق الأساسي بين مقاييس كل منهما. إنه يرفض أي اعتبار موضوعي للفضيلة والتقوى لنفسه، ويذهب إلى أقصى حدود نكران المدح والكرامة الآتيين من الناس. إنه يعرف أن الفضيلة الفردية تفصل الإنسان عن الله لأنها تقود إلى الرضى عن الذات.

المتباله لا يمارس نسكه في دير، بل وحيداً في العالم، في “وسط” العالم. إنه يصارع في أحياء مغلقة مع العالم والشيطان. إنه يتحدى الشيطان “أمير هذا العالم” في وسط مملكته الأرضية، ومع أكثر ضحايا الشيطان خطيئة. إنه يحمل صلب الكنيسة وصليب المعذبين والخاطئين. إنه يلبس قناع التباله، قناع اللامسؤولية الاجتماعية، بحيث يكشف حقيقة الأقنعة الجميلة، لكن المزيفة، التي يختبأ وراءها أهل هذا العالم، ممزقاً حجب المناقبية التقليدية المزيفة. أنه يثب إلى بيت القوي ويمسك بأمتعته (متى 12: 29) ويقيده. القديس وحده يقدر على فعل هذا.

في الغرب لم يعرف التباله من أجل المسيح كما هو معروف في الشرق. في الشرق يوجد قديسون عديدون أهمهم: القديس سمعان الحمصي (من أميسا أو حمص الحالية، أيام جوستينيانوس 527-567) ورفيقه يوحنا، القديس أندراوس القسطنطيني (880-946)، القديس توما المتباله من أجل المسيح والقديس لوقا الأفسسي (القرن 11). وفي تقليد الكنيسة الروسية والصربية لدينا القديس يوحنا المتباله (1490)، والقديس باسيليوس المتباله (1552)، والقديس يوحنا من موسكو (1589).

أيضاً، كثيراً ما نجد في حياة القديسين الآخرين حوادث وأمثلة تذكرنا بحياة القديسين المتبالهين. فكل قديس هو متباله بصورة أو بأخرى. فكثيراً ما يتهم قديس بخطيئة ما ظلماً ولا ينبري للدفاع عن نفسه إلى أن يكشف الله الحقيقة. فبالنسبة للرهبان، إن قبول ذنب أو خطيئة إنسان آخر طوعاً وبدون دفاع عن النفس هو ليس مجرد فرصة للتواضع، بل إظهار عملي لقناعاتهم بأن الخطيئة هي مشتركة بين الجميع، وأن قبول هذه الخطيئة هو طريقة واضحة للمشاركة في الصليب المشترك الذي يجمع كل البشر معاً. فالراهب هو “على حدة” بالنسبة للجميع، هو متوحد، لكنه بالوقت نفسه “متحد بالجميع”، ويرى خطايا الآخرين على أنها خطاياه، أو أنها خطايا عامة للطبيعة البشرية التي نشترك جميعنا فيها. على المسيحي أن يحاكي المسيح الذي أخلى ذاته. عليه طوعاً أن يحمل عيوب البشرية وعيشها في الخطيئة وأن يحضرها إلى الله، مجسداً في شخصه كلمات القديس بولس: “أكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كو 1: 24).

في التباله جهاد كبير ضد الكبرياء وبناتها. المتباله يشرب شتائم الناس فيتواضع ويتذلل أمام الله. المتباله من أجل المسيح يبدو ظاهرياً أنه يخالف حض الرسول بولس على قبول الحرمان الشخصي والتضحية من أجل تجنب إعثار الآخرين (1كور 8: 13). لكن بولس الرسول يتكلم عن إعثار الآخرين في مجال الحقيقة. المتباله لا يخلق تشوشاً في إيمان الناس، ولا يعتم على الحقيقة. إنه ببساطة يفاجئ الذين قد طابقوا الإيمان والحقيقة مع المفهوم الدنيوي للاستقامة الأخلاقية واللياقة التقليدية. المتباله من أجل المسيح له الموهبة والجرأة ليظهر علناً حالة السقوط البشري وحالة الخطيئة التي جميعنا نشترك فيها. هاتان الحالتان لا تنمحيان ولا تزولان لا بحال التحسن الفردي ولا التحسن الاجتماعي. التباله حرب شعواء على الكبرياء، وحب الظهور، وحب المجد الباطل، وحب الرئاسة، هذه الأرومات العاتية لرذائل عديدة ضد التواضع والوداعة والخشوع.

مبدئياً، بهذا المعنى، كل راهب أرثوذكسي هو متباله من أجل المسيح. إنه يرتدي رداء الحزن لكن الحزن الفرح، البهي، وعلناً يعلن أنه يقبل سقوطنا المشترك وخطيئتنا المشتركة، وينسحب إلى الحياة النسكية والصلاتية، ويشن حرباً على هذا السقوط وعلى هذه الخطيئة من أجل جميع الناس، وليس من أجل نفسه وحدها.

بالمعنى نفسه أيضاً، كل مسيحي هو متباله من أجل المسيح في عين المجتمع. وهنا خلاصة التباله من أجل المسيح. فالمسيحي ليس من هذا العالم، وإن كان فيه. إنه ينتمي سلفاً إلى ملكوت الله، إلى ملكوت آخر لا يعرفه هذا العالم، ولن يفهمه. إنه غريب عن هذا العالم. إنه متباله، لأن مناقبه وقيمه ومُثُله مختلفة عن التي لهذا العالم. وبما أن «كلمة الصليب عند الهالكين هي جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله» (1كور 1: 18)، فإننا «نكرز بالمسيح مصلوباً: لليهود عثرة ولليونانيين جهالة… لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس» (1كور 1: 23، 25). لهذا، ليس المسيحية مجرد نواميس وشرائع اجتماعية وأخلاقية وإدارية تنظم حياة الإنسان؛ وليست “أوادمية” و”كياسة” أخلاقية، ولباقة اجتماعية، وتهذيب فردي. إنها جهاد متواصل في التوبة والصلاة والنسك ضد الخطيئة حتى الموت. والمسيحية نفسه هي تباله: فالرهبنة تباله بنظر العالم، والوصايا المسيحية تباله، والصلاة المتواصلة بدون ملل تباله، والصوم والتوبة والنواح على حالتنا الخاطئة تباله. حتى غاية المسيحية وهي التأله والمشاركة في حياة الله هي تباله. فلم العجب إن كان لدينا متبالهون من أجل المسيح. هذه هي صرخة المتباله: متى تطابقت هذه “المسيحية” مع أشكال اللياقة والكياسة والتهذيب والأخلاق الدنيوية التقليدية الاجتماعية صارت أي شيء سوى مسيحية السيد المسيح. المبتاله يظهر تحرراً مذهلاً من الأخلاق المزيفة والفضائل الاجتماعية المزيفة. هذا التحرر هو أولاً وأخيراً إماتة كاملة لكل عنصر فردي في حياته. هذا الموت (المجلي في التوبة المستمرة والجهاد ضد الخطيئة حتى الدم) هو عتق (انعتاق) يهدم كل شيء تقليدين. إنه قيامة إلى حياة التمايز الشخصي، حياة الحب التي لا تعرف قيوداً ولا حدوداً. (د. عدنان طرابلسي).