إلحادأبحاث

حجج العقل – هناك إله – كيف غير أشهر ملحد رأيه؟ – أنتوني فلو

حجج العقل – هناك إله – كيف غير أشهر ملحد رأيه؟ – أنتوني فلو

هناك إله - كيف غير أشهر ملحد رأيه؟ - أنتوني فلو
هناك إله – كيف غير أشهر ملحد رأيه؟ – أنتوني فلو

حجج العقل – هناك إله – كيف غير أشهر ملحد رأيه؟ – أنتوني فلو

Pilgrimage of Reason

لنبدأ بمثال، تخيل أن هاتفاً مرتبطاً بقمر صناعي سقط على ساحل جزيرة نائية تسكنها قبيلة لم يكن لها أي اتصال مع الحضارة الحديثة. يبدأ أبناء القبيلة بالعبث بالأزرار الموجودة على سطح الهاتف وعندها سمعوا أصواتاً مختلفة عند الضغط على تسلسل معين من للأرقام. في البداية سوف يفترضون أن الهاتف هو من يصدر هذه الأصوات، أما أبناء القبيلة الأذكياء ولنقل علماء هذه القبيلة فأعادوا الضغط على نفس تسلسل الأرقام وعندها سمعوا الصوت نفسه، وحينها يكون الاستنتاج لديهم واضحاً، فهذا المركب الذي يتكون من بلورات ومعادن ومواد كيماوية يصدر صوتاً يشبه صوت الإنسان، وهذا يعني ببساطة أن هذه من خصائص الهاتف.

لكن مجلس حكماء القبيلة اجتمع لمناقشة الأمر، وبعد نقاش طويل وعاصف للموضوع يتوصلون إلى نتيجة مفادها: أن الأصوات التي تصدر من الجهاز يجب أن تكون آتية من أناس مثلهم، وهؤلاء الناس أحياء يتمتعون بالوعي ولكنهم يتكلمون لغة أخرى. بدلاً من افتراض أن الأصوات تأتي من سماعة الهاتف فإن عليهم استكشاف إمكانية أنهم ومن خلال الوصول إلى فهم أكبر للعالم الذي يتجاوز جزيرتهم. لكن علماء القبيلة ضحكوا أمام حكيم القبيلة قائلين: “إذا كسرنا هذه الأداة فإن الأصوات ستتوقف، وهذا يعني بوضوح أن هذه الأصوات ليست سوى أصوات تصدر من خليط من الليثيوم وشريحة طباعة أرقام وصمامات ثنائية باعثة للضوء.

في هذا المثال، نرى كيف أن النظريات المسبقة تشكل الطريقة التي نرى بها الدليل بدلاً من أن ندع الدليل يشكل نظرياتنا، وعندها يمكن أن نتجنب القفزة الكوبرنكية (نسبة إلى كوبرنيكس[1] Nicolaus Copernicus)، من خلال الآلاف من أفلاك التدوير البطلمية[2]، وهنا كما يبدو تكمن الخطورة والشر المستشري للإلحاد العقائدي. تأمل في كلام مثل “علينا أن لا نطلب تفسيراً للكيفية التي وجد بها العالم، إنه موجود وكفى” أو “بما أننا لا نستطيع قبول مصدراً متعالي للحياة فإننا نختار أن نؤمن باستحالة: انبثاق هذه الحياة فجأة بطريق المصادفة من المادة” أو أن “القوانين الفيزيائية هي قوانين اللاقوانين التي ظهرت من فراغ – وانتهى النقاش”.

في البداية، قد تبدو هذه العبارات كحجج منطقية لها صلاحية خاصة لا حاجة لمناقشتها، ولكن بالتأكيد فإن ذلك ليس أكثر من أن تكون إشارة إلى أن هذه العبارات إما أنها عقلانية وإما أنها حجج. لكي نقدم حجة عقلانية بأن شيئاً ما كذا وكذا، فإن من الضروري تقديم الأسباب التي تدعم ذلك. ولكن لنفترض أننا نشك بأن هناك ثمة ثغرة في هذا الكلام، أو لنكن أكثر تطرفاً فنقول إن لدينا شك بأن كل ما قيل له أي قيمة أصلاً. كمحاولة لفهم ما يقصده هؤلاء علينا أن نحاول إيجاد الدليل الذي يؤكد حقيقة ما يزعمون.

لأن هذا الكلام إذا كان عقلانياً وحجة، فلا بد من تقديم الأسباب التي تؤيده من الناحية العلمية أو الفلسفية. وأيضاً لا بد من تقديم ما يمكن اعتباره ضد هذا الكلام أو تقديم ما يمكن أن يقنع المعترض بالانسحاب والاعتراف بأنه كان مخطئاً. ولكن إذا لم يقدم أي دليل أو سبب في صالحه، فإنه ليس هناك ما يدعونا للقول بأن هذا الكلام حجة عقلانية.

عندما يقول حكيم القبيلة للعلماء بأن عليهم أن يستكشفوا جميع أبعاد الدليل فإنه يريد أن يقول إن الفشل في استكشاف ما يعتبر لأول وهلة منطقياً ومقبولاً يعيق بطبيعة الحال فهماً أفضل للعالم الذي يتجاوز الجزيرة التي تسكنها هذه القبيلة. غالباً ما يبدو للناس غير الملحدين كما لو لم يكن هناك دليلاً مقبولاً يقنع الملحدين أصحاب التفكير العلمي الجزمي ليكون علة كافية للقول “قد يكون هناك إلهاً في نهاية المطاف”. ولذلك فأنا أسأل زميلي السابق الملحد السؤال المركزي البسيط: “ما الذي ينبغي أن يحدث أو يجب أن يحدث لكي تعتبره على أقل تقدير سبباً للتفكير في وجود عقل خارق؟”.

 

وضع الأوراق على الطاولة

Laying The Cards On The Table

لأترك المثال جانباً، لألقي أوراقي على الطاولة، وأعرض أفكاري والأسباب التي تدعم ذلك. أنا الآن أومن بأن الكون قد جاء إلى الوجود بواسطة ذكاء لا محدود. أنا أؤمن بأن قوانين الكون المعقدة تبين ما أسماه العلماء عقل الإله. أنا أؤمن بأن الحياة وإعادة الخلق أساسها مصدر إلهي.

لماذا أؤمن بذلك مع أني دافعت عن الإلحاج لأكثر من نصف قرن؟ الجواب باختصار هو أن هذه هي صورة العالم التي نبعت من العلم الحديث. العلم سلط الضوء على ثلاثة أبعاد للطبيعة وهي تشير إلى الإله.

الأول هو أن الطبيعة تخضع لقوانين.

الثاني هو بُعد الحياة في الكائنات الذكية المنظمة التي نتجت عن المادة.

الثالث هو الوجود الحقيقي للطبيعة.

ولكن ليس العلم فقط هو من قادني لذلك. ولكنني استفدت من الدراسة المستحدثة للحجج الفلسفية التقليدية.

إن تراجعي عن الإلحاد لم يكن بسبب أي ظاهرة أو حجة جديدة. فخلال العقدين الماضيين كان مجمل الإطار الفكري لي في حالة تبدل. وكان هذا نتيجة تقييمي المستمر لأدلة الطبيعة. وعندما وصلت في النهاية إلى الإيمان بالإله، لم يكن ذلك تبدلاً للنموذج الإرشادي Paradigm Shift، فنموذجي الإرشادي ما زال على حاله، وهو كما قال أفلاطون في الجمهورية على لسان سقراط “يجب أن نتبع الدليل حيثما ذهب بنا”.

قد يتساءل شخص كيف أنني وأنا فيلسوف أتحدث في مواضيع عالجها العلماء. إن أفضل جواب على هذا السؤال هو بطرح سؤال آخر: هل نحن الآن بصدد العلم أم بصدد الفلسفة؟ عندما تدرس التفاعل المتبادل بين جسمين ماديين ولنقل على سبيل المثال اثنين من الجسيمات دون الذرية فإنك تتحدث في المجال العلمي، أما إذا كنت تسأل كيف ولماذا توجد هذه الجسيمات – أو أي جسم مادي – فأنت تتحدث حينها في الفلسفة. عندما تستنتج نتيجة فلسفية من معلومات علمية فأنت تفكر كفيلسوف.

 

التفكير كفيلسوف

Thinking as a Philosopher

دعونا نتطرق لهذه النظرة هنا. في عام 2004، قلت بأن أصل الحياة لا يمكن تفسيره إذا بدأنا بالمادة فقط. رد المنتقدون بروح المنتصر قائلين بأنني لم أقرأ قط مقالاً في مجلة علمية ولا تابعت التطورات العلمية الحديثة المتعلقة بالتولد التلقائي (التولد الذاتي من كائنات غير حية). هم بهذا النقد لم يفهموا الهدف الرئيسي من كلامي، فاهتمامي لم يكن منصباً على هذه الحقيقة أو تلك في الكيمياء أو في علم الجينات، بل كان اهتمامي منصباً على السؤال الرئيسي عن معنى أن يكون شيء ما حياً، وما علاقة ذلك بالحقائق الكيميائية والجينية ككل. أن تفكر على هذا المستوى، فأنت تفكر كفيلسوف. وحتى لا أبدو متواضعاً أكثر من اللازم يجب أن أقول إن هذا عمل الفلاسفة وليس عمل العلماء كعلماء. التخصص الدقيق للعلماء لا يعطيهم أية ميزة عند مناقشة هذا السؤال، بالضبط كما أن لاعب البيسبول ليس من شأنه أن يحدد أي نوع من معاجين الأسنان أفضل.

بالطبع للعلماء، وللفلاسفة، ولأي شخص الحرية الكاملة في أن يقول ما يريد. وبالتأكيد لن يتفق كل العلماء معي في تفسيري الخاص للحقائق التي يتوصلون إليها، ولكن اختلافهم معي يجب أن يقوم على قدمين فلسفيتين. وبعبارة أخرى، إذا انخرط العلماء في تحليل فلسفي، فلا سلطتهم ولا خبرتهم بوصفهم علماء، هي ذات صلة، ويجب أن يكون ذلك واضحاً. عندما يقدمون رأيهم في علم الاقتصاد مثل تقديم ادعاءات حول عدد الوظائف التي يوفرها العلم والتكنولوجيا، فإن عليهم أن يقدموا تحليلهم في إطار التحليل الاقتصادي، وكذلك العلماء الذين يتحدثون كفلاسفة عليهم أن يطرحوا رأيهم في الإطار الفلسفي، وكما قال ألبرت أينشتين Albert Einstein “رجل العلم هو فيلسوف ضعيف”[3].

ولحسن الحظ أن الأمر ليس كذلك دائماً، فقادة العلم خلال مئات السنين الماضية وبعضهم من العلماء المعاصرين المؤثرين قدموا رؤية فلسفية تنبثق من عقل لاهوتي. وكذلك الحال معي، فأنا أقدم رؤيتي الخاصة عن العالم والتي أعتقد أنها قائمة فلسفياً على تفسير العديد من الظواهر التي واجهها العلماء والناس العاديين على حد سواء.

ثلاثة أبعاد من البحث العلمي كانت على وجه الخصوص مهمة بالنسبة لي، على ضوء الأدلة المتداولة اليوم. أول هذه الأبعاد هو السؤال الذي حير ولا زال يحير الكثير من العلماء اللامعين، وهو من أين جاءت قوانين الطبيعة؟ والثاني هو السؤال الواضح للجميع: كيف جاءت الحياة من اللاحياة؟ والثالث وهو السؤال الذي يوجهه الفلاسفة لعلماء الكون: كيف جاء الكون – بكل ما يحتويه من أشياء مادية – إلى الوجود؟

 

عودة الحكمة

A Recovery of Wisdom

بناءً على موقفي الجديد من نقاش الفلسفة التقليدية حول وجود إله، فإن أكثر ما أقنعني هو حجة الفيلسوف ديفيد كونوي David Conway المؤيدة لوجود إله في كتابه “عودة الحكمة: من هنا إلى البحث عن الحكمة” The Recovery of Wisdom: From Here to Antiquity in Quest of Sophia. كونوي فيلسوف بريطاني مميز في جامعة ميديلسيكس Middlesex، وهو معروف بالخصوص في مجالي الفلسفة التقليدية والحديثة معاً.

الإله الذي ندافع أنا وكونوي عن وجوده هو الإله الذي تحدث عنه أرسطو، فقد كتب كونوي قائلاً:

“وخلاصة القول، إن أرسطو حدد الصفات التالية للكائن الذي يفسر وجود العالم بمعناه الواسع: الثبات، غير مادي، على كل شيء قدير، بلك شيء عليم، يتصف بالوحدانية، غير قابل للتجزئة، يتصف بالخير المطلق ووجوب الوجود. هناك تشابه عجيب بين هذه الصفات وبين تلك الصفات التي ذُكرت للإله في التقليد اليهودي – المسيحي.

وهذا ما يبرر قولنا بأن أرسطو كانت لديه نفس فكرة الإله كمسبب للوجود وهو نفسه الإله الذي يستحق العبادة في هاتين الديانتين”[4].

وكما يرى كونوي، فإن الإله الذي تؤمن به الديانات التوحيدية له نفس صفات الإله الذي يؤمن به أرسطو. في كتابه، يحاول كونوي الدفاع عما أسماه التصور التقليدي للفلسفة. وهذا التصور يرى أن تفسير وجود العالم ينبثق من أن الإله كلي القدرة وكلي العلم خلق هذا العالم لكي يوجد ويستمر وجود الكائنات العاقلة عليه[5].

خلق الإله الكون من أجل أن يخلق جنس الكائنات العاقلة. يعتقد كونوي وأنا أشاركه في ذلك أنه من الممكن معرفة وجود وطبيعة هذا الإله الأرسطي عن طريق التجربة دون الحاجة إلى استدلال بشري.

لا بد أن أؤكد على أن اكتشافي للألوهية مر عبر مستوى طبيعي صرف، دون الرجوع إلى أية ظواهر غير طبيعية (خارقة). لقد كان اكتشافي للألوهية عبارة عن ممارسة ما يسمى باللاهوت الطبيعي[6]، وليس له علاقة بأي نوع من أنواع الوحي الديني. وأنا لا أدعي أنه حصلت لي أية تجربة شخصية مع الإله أو أية تجربة يمكن اعتبارها إعجازية أو غير طبيعية. باختصار، اكتشافي للألوهية كان عبارة عن رحلة عقل وليس رحلة إيمان.

 

[1] نيكولاس كوبرنيكس: أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه “في ثورات الأجواء السماوية”.

[2] المدافعون عن نظرية بطليموس بأن الأرض مركز الكون والرافضين لنموذج كوبرنيكس الشمس عن طريق استخدام تصور أفلاك التدوير للاعتراض على ملاحظة حركة الكواكب التي تتعارض مع نموذجهم.

[3] Albert Einstein, Out of My Later Years (New York: Philosophical Library, 1950), 58.

[4] David Conway. The Rediscovery of Wisdom (London Macmillan, 2000), 74.

[5] Conway . The Rediscovery of Wisdom, 2-3.

[6] التوحيد المبني على الدليل العقلي.