الردود على الشبهات

و سُمع له من أجل تقواه! فادي ألكسندر

و سُمع له من أجل تقواه!

من ضمن شبهات غير المؤمنين حول حادثة صلب الرب يسوع المسيح , لإختلاف عقيدة المسلمين عن عقيدتنا , يقوم البعض بطرح شبهة مُلخصها كالتالى:

يقول القديس بولس فى رسالته الى العبرانيين :” الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ” (عب 5 : 7) , فإن كان المسيح قد صُلب و مات على الصليب بالفعل , فكيف يقول بولس أن المسيح كان يتضرع الى الله الآب أن يخلصه من هذا الموت و بالفعل الله الآب سمع له – من أجل تقواه – و خلصه من هذا الموت؟ أليس هذا إقرار بعدم صلب المسيح و صحة المُعتقد الإسلامى فى هذه المسألة و بُطلان الإعتقاد المسيحى؟

فى الحقيقة , فقد رد الكثير من الباحثين على هذا الإعتراض , غير أن أقوى رد قرأته هو رد الأب القمص متى المسكين – نيح الله روحه – فى معرض تفسيره للرسالة. لذا , فقد نقلت تفسير قدسه لكم لمعرفة الفهم الحقيقى للنص فى ضوء القرائن المتاضمنة فى هذا الموضوع.

مرجع هذا الشرح هو:

الرسالة الى العبرانيين: شرح و دراسة , الأب القمص متى المسكين , إصدار دير القديس أنبا مقار ببرية شيهيت , الطبعة الثانية 2001 , ص 376 – 383.

Fadie – Λυτρωτής

Servant for Jesus

“الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ” (عب 5 : 7).

تأتى هذه الآية كصدمة عنيفة بلبلت فكر كثير من المفسرين , و بالأكثر بسبب ورودها بعد النداء النبوى من السماء “أنت إبنى انا اليوم ولدتك” , و بعد القسم المُغلّظ من فم الله “أنت الكاهن الأبدى أمامى”. و لكن هذا ما قصده كاتب الرسالة و أعتنى أن يُبرزه بهذه المفارقة الصارخة المُبكية!! لأن المجد الذى إرتفع إليه الإبن و الكهنوت الأبدى الذى استوى على عرشه السماوى لم يأتِ كمنحة أو كما من فراغ , بل قصد ق. بولس قصداً أن يُبرز و يُمعِن فى الإبراز , أنه عن ألم و آلام و عن إهانة و مهانة و فضيحة و عار , و إن لم تأبه بها قلوب رؤساء الكهنة و أتباعهم الذين وقفوا يعاينون مأساة و محنة إبن الله بقلوب الوحوش الكواسر , و هم يمزقون جسده و يدوسون كرامته كإنسان حتى العُرى و العار و دق الجسد بالمسمار. فهل تستكثر يا قارئى العزيز أن يصرخ و يزيد و بصراخ شديد و يبكى بدموع و أنين مسموع و تأوهات تكسر القلب , ناظراً إلى فوق , أن ينقذه من وعد بإنقاذه من أيدى الظالمين.

و هنا تزوغ نفسه فى سكرات الموت , و تداهمه سكتة القلب , ليتوقف القلب القدوس عن نبضات الحياة ليتم الفداء!! بل كيف نطيق أو نفهم أن مثل ضربات السياط التسع و الثلاثين الموجعة التى مزقت ظهره تنهال عليه و هو صامت أو مبتسم؟ هل يمكن؟ هل يُعقل؟ هل يُصدق؟ إن لم يكن المسيح بجسد خيالى – كما يقول الهراطقة – و يبالغون فى الهرطقة فيقولون إنه حتى على الصليب كان يضحك!! إن كان المسيح إنساناً كامل الاحاسيس و الشعور , و قد كان , فكل ضربة كان يقابلها حتماً أنين , و إن تكررت يقابلها بالضرورة تأوه , و إن زادت فلها بكل يقين شديد الصراخ , و إن بلغت العنف – و قد بلغت حتى الموت – تسيل الدموع بلا ضابط. و أى إنسان – و هو كان أنبل إنسان – يأتيه الموت كغادر ولا يطلب منه الخلاص؟ ثم أى تقى – و هو كان أتقى الأتقياء – يتضرع ولا يُسمع له من أجل تقواه؟

إن هذه الآية البليغة هى أبلغ آية فى توقيع أوصاف البشرية على المسيح كتوقيع سيمفونية إلهية رائعة الأنغام و الوقفات لكى يُسمع فى نهايتها هتاف المجد!! إن هذه الصرخات هى أصلاً و فى الحقيقة صرخاتنا[1] التى صرخها من أجلنا , و الدموع هى دموعنا و قد كان يبكى من أجلنا , و التوسلات هى توسلاتنا توسلها بإسمنا. لأنه إبن الله , فقد صمم أن يحمل كل أوجاعنا , فتحملها فى جسده الذى هو اصلاً جسدنا الذى لبسه عليه ليظهر به كإنسان خاطىء أمام الله أبيه لينال تعطفاته عن جنسنا , هذا البشرى الذى بلغ الذل بين الأجناس!! فنال , و سُمع له فسُمع لنا[2] و صرنا به أتقياء!! و فيه أبناء.

و لكن عجبى على قوم و مفسرين يستكثرون على المسيح الصراخ و هو مذبوح على الصليب!! كيف لا يزداد الصراخ على ضرب المسامير فى الجسد الغض ضربة بضربة , و بصرخة تلو صرخة , و هل قُد جسده من حديد؟ حتى الحديد إذا دُق فيه فله صدى الدق بما يساوى الدق أو يزيد!! و حين عُلق الجسد بمسمار على خشبة و أنحلت أوصاله و تقطعت أوتاره ألا يصاحبه الأنين؟ و أى نزيف ينزف و القلب لا يخفق , و الدوار لا يلمه و معه الأنين المكتوم؟

ألا لأن الإنجيل صمت و حبس أنفاسه حتى لا يوقعنا فى المشهد ذاته فنفقد الصواب , و يداهمنا الدوار و ربما الصراخ! فصدقنا الرواية كأنه صُلب فى صمت , و تقطعت شرايينه و نزف دماءه فى سكون , كمن يتفرج على صالبيه من علِ؟ هل نحن دوسيتيون[3]؟!!

و لما جائنا ق. بولس بهذه الرسالة يكشف طرفاً قليلاً و قليلاً للغاية عما حدث من على بعدِ , جزعنا و تمنينا منه الصمت كرامة للألوهية , مع أنه صمم أن يبلغنا الرسالة أنه تألم بالحق و فعلاً تألم , بكل ملابسات الألم من مشاعر و تعبيرات أثبتت صدق الألم بل نُبله بل مجده! و حقيقة موته و بالتالى حقيقة ثمن الخلاص الذى دُفع لأجل خلاصنا. فعلينا أن لا نستكثر صراخه و دموعه بل بالحرى نقدسها و نكرمها :”و بحبره شفينا…و الرب وضع عليه إثم جميعنا” (إش 53 : 5 – 6).

“الذى فى أيام جسده”

الذى ὃς : إسم صلة يربط بين ما قيل عن المسيح فى الآية 5 أنه “لم يمجد نفسه” , و هو الشرط الثانى لصدق وظيفة رئيس الكهنة أنها من الله. و هنا يزيد عليها الشرط الأول إنه انسان أُخذ من بين أخوته حسب الشرط الواجب إتباعه فى تعيين رئيس الكهنة.

“فى أيام جسده”

ترجمنة حرفية من اليونانية , ترجمتها اللغة السيريانية “كان مدثراً بالجسد” , و هو الشرط الأساسى ليُحسب بشراً سوياً. و القصد طبعاً هو تحديد حياة المسيح على الأرض حيث الجسد موطن الضعف , هكذا صار فى وضع مماثل لنا تماماً بحسب طبيعتنا البشرية و هو فى زمن الإستعداد بتقبل دعوة الكهنوت. و ذلك فى مقارنة بعد تكميله شروط الدعوة “فى أيام جسده” , فى مقابل يوم “تعين ابن الله بقوة…بالقيامة من الأموات” (رو 1 : 4) , و إكتمال إستعلانه كرئيس كهنة بآن واحد.

و هكذا سنجد أنه فى ايام جسده أكمل كل ما للبشر ما يُحسب أنه ضعف البشرية , منع ان “جسده” كان غير قابل للفساد , الأمر الذى اكتشفته البشرية بعد قيامته من الأموات بجسده هو هو و جروحه عليه.

و لنا فى قوله “أيام جسده” مدخل لنتحسس من هذا التعبير أن ايام جسده كانت فترة زمنية محدودة و قليلة تُغاير تماماً من حيث الجوهر ما جاء فى هذه “الأيام”. أسمع ما يقوله القديس متى عن هذا الذى صار له بعد هذه الأيام التى قضاها تحت ثِقل الجسد :” دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ…… وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ” (مت 28 : 18 – 20).

“قدم بصراخ شديد و دموع طلبات و تضرعات”

هناك من يقول أن ق. بولس هنا يصف محنة جثيمانى[4] و صلاته المتكررة و سجدوه و عرقه المتصبب كالدم و النفس الحزينة حتى الموت بحسب الأناجيل , و لكن هذا القول مردود عليه , و إلا كيف سمع الله له “من أجل تقواه” فى طلبه أن تجوز عنه الكأس؟

و لكن بحسب هذه الرسالة نجد أن قوله “فى ايام جسده” تمنع تحديد الصراخ و الدموع بفترة معينة , فهنا يكون نظر ق. بولس مُتجهاً نحو بشرية المسيح فى صراعها الطويل مع أعداء الإنسان الذين صبوا جام غضبهم عليه مجاناً فيما قبل الصليب و على الصليب ايضاً.

و إذا رجعنا الى الأناجيل نجد هذه الآية موزعة على مواقف عدة , فنحن نسمع أن المسيح صرخ بصوت عظيم أمام قبر لعازر و بكى ايضاً و دمعت عيناه , و فى جثيمانى صلى طويلاً و حزيناً و سجد و سجد كثيراً و كرّر الصلاة و السجود ولا شك انه تخلل ذلك صراخ و دموع. كذلك نسمع انه طلب و طلب أن “تجوز عنه الكأس” بمعنى أن يُنقذ من الموت نفسه و ذلك بتعبير الرسالة الى العبرانيين “طلبات و تضرعات للقادر أن يخلصه من الموت” , إذاً فهذه التعبيرات لا تخرج عما ورد عن المسيح فى أيام جسده فى الأناجيل.

و لكن لكى يقف القارىء الموقف الواعى و الصريح و يُقيم هذه المحنة التى جازها المسيح كإنسان تجرّب بكل تجارب بنى الإنسان ماعدا الخطية وحدها , فعليه أن يقيس البداية و النهاية و يوازن بين ما قبل الصليب و ما بعد الصليب , لأنه بقدر ما تألم المسيح تمجد , و بقدر الهوان الذى عانى إرتفع فوق جميع السماوات , و بقدر ما وقع تحت سلطان المحاكم و الحُكام دُفع إليه كل سلطان مما فى السماء و على الأرض. و لكن ليس هذا كل ما هو على كفتى الميزان , بل بقدر ما تألم تأهل ليُعين المتألمين , و فى الهوان الذى عانى يذكر كل من وقع فى الهوان , و بقدر إنحنائه تحت سلطان القُساة و البُغاة يُقيم من سقطوا تحت القسوة و تحت بغى الباغين. ثم ألا ترى انه من أجلنا صرخ و من أجلنا بكى بدموع و من أجلنا قدم الطلبات و التضرعات المشفوعة بهذا البكاء و هذا الصراخ الشديد؟ هكذا فى الأول صرخ و بكى بطلبات و تضرعات كإنسان يجوز التجربة و المحنة , و فى الثانية و قد نال السلطان كرئيس كهنة يُقدم من جسده الذى ذاق المذلة و الهوان و به صرخ و بكى , نعم يقدمه – و قد أكمل به كل تجارب بنى الإنسان – ذبيحة عن كل الباكين و الصارخين , و يسمع طلبات المتوجعين و ينجيهم من محنة ذاقها هو بمرارتها و ينقذهم من موت أدرك طوله و عمقه!

أرأيت معى يا قارئى العزيز لماذا تجرب رئيس كهنتنا هكذا بكل تجارب بنى الإنسان؟

“للقادر أن يُخلصه من الموت”

قد ترجمتها اللغة السيريانية :”للقادر أن يقيمه من الموت” , و هى تحاول بذلك ان تعطى الترجمة نوعاً من الشرح الخاص. و لكن هذا يُحسب أحد المعانى و ليس كلها , فالآية تحتمل أن يخلصه من موت الجسد الأمر الذى يتضح من رواية الإنجيل :”الآن نفسى إضطربت , و ماذا أقول , الآب نجنى من هذه الساعة و لكن لأجل هذا أتيت الى هذه الساعة” (يو 12 : 27). كما يُحتمل فى كلام سفر العبرانيين هنا أن يُخلصه من الموت الى حياة جديدة.

و الذى نعلمه من كلام إنجيل ق. يوحنا فى الآية أعلاه أن الله لم يمنحه الخلاص من موت الجسد ولا هو إستحسنه , إنما كان ذلك اضطراب النفس البشرية من قهر الموت , الذى استطاع هو نفسه بموته راضياً أن يقهر سلطانه الى الأبد.

و لكن الآية باليونانية فيها “يُخلصه من الموت σῴζειν ἐκ θανάτου” , و بذلك تميل أكثر الى المعنى الذى ترجمت به اللغة السيريانية هذه الآية , أى يخلصه من خارج الموت أى بالقيامة و ليس يُخلصه من الموت نفسه بالجسد. و هذا هو الإحتمال الأكثر لياقة فى فهم فكر المسيح الذى هو نفسه يقول :”لأن إبن الإنسان قد جاء لكى يطلب و يخلص ما قد هلك” (لو 16 : 10) , أى يخرجهم من عقوبة الموت بعد أن جازوها. و بحسب رأى العلامة أتريدج أنه لو كان القصد أن يخلصه من موت الجسد للزم ان يكون الحرف “من” الموت ليس ἐκ بل απο[5].

و واضح ان سفر العبرانيين هنا متأثر بالمزامير و هذه لغة المزامير فى الخلاص من الموت :” ارْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ. لأَنَّكَ أَنْقَذْتَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ وَعَيْنِي مِنَ الدَّمْعَةِ وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ. أَسْلُكُ قُدَّامَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ.” (مز 116 : 7 – 9). و معروف ان هذا المزمور نبوة عن قيامة المسيح من الأموات بإنتصار , و الشكر هنا مقدم بلسان المسيح ان الله أنقذه من الموت بالقيامة.

هذا يُردده هوشع النبى بإحكام , و نقرأه هكذا :” مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ ἐκ θανάτου أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ (عقوبتك) يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ” (هو 13 : 14). و كلمة “عقوبتك” هى عن السبعينية.

و لكن الأكثر إيحاءً بأن طلبة المسيح فى سفر العبرانيين لينقذه الله من الموت هى الخلاص من البقاء فى الموت , هى أنها نفس طلبة المسيح فى الإصحاح 17 من إنجيل القديس يوحنا :” وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ” (يو 17 : 11). كذلك قوله عن القيامة من الموت :”الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.” (يو 17 : 4 – 5). بل و قوله الصريح لتلاميذه :” بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي (القيامة) لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ” (يو 16 : 16).

أما فى قوله :”و سُمع له من أجل تقواه” , فالإستجابة هنا واضحة أنها كانت بالقيامة من الأموات. و هذا يُفسّر بأبلغ بيان أن طلبته كانت ليخلصه من البقاء فى الموت أى ليحييه. لأنه من المستحيل ان يكون الله قد سمع له و نجاه من موت الجسد , لأنه مات بالفعل , و سفر العبرانيين يقول بأنه مات , و موته هو أساس السفر كله لأنه موت الكفارة و الذى أُستعلن به أنه رئيس كهنة.

و قوله “سُمع له (من أجل تقواه)” هو إفادة واضحة أنه , كونه بلا خطية فإن جسده لم ير فساداً بل قام من الأموات. لأن الخطية هى أساس الموت و البقاء فيه و عدم الخطية هو الدوس على سلطان الموت و الخروج منه بمجد عظيم. لأن “عدم الخطية” هو الوصلة السرية الفائقة الدقة و المعنى بين ما فيه للبشر و ما فيه للاهوت. فكونه بشراً , فإنه حتماً يموت , و كونه إلهاً , فإنه حتماً لا يموت. ففى هذه التضادة الكبرى , و بناء عليها , مات و قام من الأموات. و هذا هو ما صار إليه حالنا بموته الكفارى من أجلنا و بنا. فنحن كبشر حتماً نموت , و لأنه غُفرت خطايانا غفراناً مبيناً بكفارة قادرة مقتدرة بذبيحة المسيح , فلابد أن نقوم قيامة الصلاح للميراث المُعد.

“و سُمع له من أجل تقواه”

“تقواه”: باليونانية = εὐλαβείας , و باللاتينية (فولجاتا) = reverential

و هى تأتى باليونانية بمعنى “مخافة الله”.

توجد عند الله صلاة لابد أن تُستجاب و هذه هى نموذج الصلاة المُستجابة , فلو جمعنا مفردات هذه الصلاة العجيبة التى قدمها الرب يسوع فى حياته لوجدناها كالآتى : طلبات (كثيرة) , و تضرعات (كثيرة) , بصراخ شديد و دموع غزيرة , تسندها تقواه!! فبلغت أسماع الله و رضاه.

ليس من الضرورى أن تكون إستجابة الله لتضرعاته قد تمت فى الحال , لأن الله لم يكن ابداً فى عجلة من رفع الضيقات عن المسيح , لأن الآب هو الذى رضى بها له :”أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن” (أش 53 : 10).

و لكن علينا ان نتبصر فى هذا الأمر لأن طلبات و تضرعات المسيح و الرد المباشر عليها بأنها سُمعت , هذا الفعل من المسيح و رد الفعل من الله بلغا معاً النهاية الموضوعة و المرسومة أن يصير رئيس كهنة , مُخلصاً و فادياً و حامل دم كفارته على يديه , أليس هذا يوضح أن صلواتنا و تضرعاتنا التى نقدمها بصراخ شديد و دموع يسندها جهادنا فى التقوى , تُسمع من خلال دم المسيح , و فى إستجابتها تتم خطة الله نفسها التى أختطها الرب يسوع بحياته و كهنوته و كفارته؟ و كأن المسيح قد وضع النموذج الحى الذى إن طبقناه يضمن لنا بلوغ قصد الله أن يصير “لنا جراءة و قدوم” إلى الآب به (أف 3 : 12)!!

لأن هنا حقيقة يبرزها لنا هذا السفر العجيب , و هى أنه بالتجسد و بأخذ المسيح اللحم و الدم ليشبه إخوته فى كل شىء حدث أمر سرى للغاية , و هو أن المسيح تضامن مع البشرية فى مصيرها أمام الله!! الذى أسماه القديس بولس فى بقية رسائله بالكنيسة التى هى جسده و نحن أعضاؤه و هو الرأس فيها , ثم الكنيسة عروس المسيح.

هنا فى سفر العبرانيين يقول هذا القول إنما فى تعبير خفى نلمحه بل نلمسه فى كل آية , أن بالتجسد دخل إبن الله فى حالة تضامن عملى مع البشرية , كل ما يجوزه يجوزه بها و معها و من أجلها , تماماً كما خُلقت هى أصلاً له و به و من أجله “الكل به و له قد خُلق” (كو 1 : 16)!! فالمسيح التقى مع خليقته – فى تضامن فائق – لنقل البشرية مما صارت إليه من العجز إلى ما له من كمال و مجد , وذلك من واقع إرتباطه بها أصلاً أنها به و له و من أجله خُلقت. فالآن إذا نزل هو إلى هوانها , فهذا من شدة تعلقه بها , بل و من شدة تعلقها به و إن لم تدرِ , لكى يصحح ما أصابها و يعيدها الى رتبتها الأولى. و هذا هو سر قول السفر:” لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ.”(عب 4 : 15).

فتضامن المسيح مع البشرية – بالتجسد – جعله يحس بكل أحاسيسها و يسعد أن يسبر غور أوجاعها و آلامها , بل و يتمادى فى حبها :”أحبنى و أسلم نفسه لأجلى” (غل 2 : 20) , هذا هو هتاف البشرية كلها.

و فى هذا كله يظهر المسيح كأنه محاط بالضعف , و هكذا لاق به جداً أن يكون رئيس كهنة , و لكن ضعفه لم يكن عن خطية بل حباً فى أن يشارك الخطاة ليتأهل أن يكهن عنهم و بهم أمام الله!! و قد إشترك بالصدق فى كل محن الخطاة لكى يكون خبيراً فى تقديم مسألتهم أمام الله , بل “ليكمل رئيس خلاصهم بالآلام”. و هكذا تحلت قامة المسيح بالضعف – إرادياً – فأصبح لائقاً لمجد وظيفة رئيس كهنة فيما بعد:” لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضُعْفٍ لَكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ اللهِ. فَنَحْنُ أَيْضاً ضُعَفَاءُ فِيهِ، لَكِنَّنَا سَنَحْيَا مَعَهُ بِقُوَّةِ اللهِ مِنْ جِهَتِكُمْ” (2 كو 13 : 4).

و يرد ق. بولس على ضعف المسيح و جهالة الصليب عند اليونان بقوله العجيب :” لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ (إن جاز هذا القول) أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ (إن جاز هذا القول) أَقْوَى مِنَ النَّاسِ” (1 كو 1 : 25). و المعنى أن الجهالة فى نظر العلماء فيما عمله المسيح بإسم الله هو بعينه حكمة الله فى المسيح. و ما بدا على المسيح من ضعف (إرادى) بأسم الله هو بعينه قوة الله , فالمسيح نفسه هو:”قوة الله و حكمة الله”!! (1 كو 1 : 24).

إنتهى

[1] يقول القديس كيرلس الكبير تعليقاً على هذه الآية :”نحن الذين كنا فيه – كما فى مبدء ثان لجنسنا – نصلى بصراخ شديد و دموع و نطلب أن يُبطل سلطان الموت” PG 76:1392A
“لقد بكى بشرياً لكى يجفف دموعك و قدم طلبات و تضرعات للآب لطى يجعل أذن الآب صاغية لصلاواتك أنت أيضاً” PG 76:441

[2] “لكى يجعل صلاواتنا نحن ايضاً تصير مقبولة لدى الآب , لذلك قد وضع بنفسه بداية جديدة لفعل الصلاة , لكى يستميل بذلك أُذن الآب لصراخ الطبيعة البشرية” القديس كيرلس الكبير PG 76:1392A

[3] الدوسيتية هرطقة ظهرت فى القرن الأول , و إدعت ان جسد المسيح كان خيالياً و لم يكن حقيقياً.

[4] Moffat, James, A Critical & Exegetical Commentary On The Epistle To The Hebrews, (International Critical Commentary, 1924, reprint 1986) , P. 66
Montefiore, Hugh, The Epistle To The Hebrews , (Black’s NT Commentaries, London 1964, reprint 1987) , P. 97
Bruce, F. F. , The Epistle To The Hebrews , (New London Commentaries 1964, 1977), P. 98 – 100

[5] Attridge, Harlod W., A Commentary On The Epistle To The Hebrews, (Hermaneia, A Critical & Historical Commentary On The Bible, Fortress Press, 1989), P. 150