أبحاثإلحادكتب

من الإلحاد إلى الإيمان – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF

من الإلحاد إلى الإيمان – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF

من الإلحاد إلى الإيمان - كتاب لغة الله - فرانسيس كولينز PDF
من الإلحاد إلى الإيمان – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF

من الإلحاد إلى الإيمان – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF

كتاب لغة الإله PDF – فرانسيس كولينز – للتحميل

 

الفصل الأول: من الإلحاد إلى الإيمان

لم تكن بداية حياتي تقليدية في عدة جوانب، ولكن كابن لمفكر حر كانت نشأتي حديثة تقليدية تماماً في موقفها من أن الإيمان ليس أمراً مهماً. لقد نشأت في مزرعة وحلة في منطقة Shenandoah Valley بولاية فرجينيا. لم يكن في المزرعة مياه جارية، وكان هناك القليل من وسائل الراحة. ولكن مقابل هذه الأمور حظيت بخليط من تجارب محفزة وفرص وفرها لي والداي من خلال مجموعة من الأفكار المميزة.

لقد التقى والداي في كلية الدراسات العليا في جامعة ييل Yale في عام 1931 وقد أخذا معهما مهارات التنظيم السائدة هناك وحب الموسيقى إلى منطقة Arthurdal في ولاية فرجينيا الجنوبية حيث عملا مع آنا الينور روزفلت[1] Eleanor Roosevelt على تطوير مناطق التنقيب عن الفحم المعلمة التي كانت تبعث على الاكتئاب.

ولكن بقية المستشارين في إدارة روزفلت كانت لديهم أفكار أخرى، وسرعان ما جف التمويل. تفكيك منطقة Arthurdal بسبب الطبقة السياسية في واشنطن جعل والداي لا يثقان بالحكومة طوال حياتهما. انتقل والداي إلى الحياة الأكاديمية في كلية ألون Elon College في بيرنلغتون Burlington في ولاية كارولاينا الشمالية. هناك تعرفوا على ثقافة الفن الشعبي الجميل في أرياف الجنوب، وأصبح والدي مولعا بجمع الموسيقى الريفية، مسافراً بين الهضاب والأودية محاولاً إقناع أبناء الولاية الكتومين لتسجيل أغانيهم في آلة التسجيل الخاصة به. هذه التسجيلات إضافة إلى مجموعة أكبر من تسجيلات ألن لوماکس Alen Lomax شكلت جزءًا مهماً مجموعة تسجيلات غناء الريف الأمريكي في مكتبة الكونغرس الأمريكية.

عندما وقعت الحرب العالمية الثانية، تراجع اهتمام والدي بتجربته الموسيقية إلى المقعد الخلفي ليفسح المجال أمام أمور طارئة تتعلق بالأمن القومي، فاتجه للعمل في مجال صنع القنابل لأغراض الحرب، وانتهى به المطاف إلى أن يصبح مستشاراً في صناعة الطائرات في لونغ أيلاند Long Island.

في نهاية الحرب، توصل والداي إلى قناعة بأن ضغوط بيئة التجارة لا تناسبهما. ولأنهم سبقوا عصرهم في الأربعينات قرروا أن يذهبوا إلى منطقة Shenandoah Valley في فرجينيا ليشتروا مزرعة بمساحة 59 هكتار وقاموا بتكوين نمط حياة زراعي دون استخدام أدوات زراعة. ولكنهم اكتشفوا بعد أشهر قليلة أن ذلك لن يساعدهم في تربية أثنين من أبنائهم المراهقين (وكنت أنا ثالثهم بعد فترة قصيرة). وهذا ما دفع والدي إلى العمل كمدرس للدراما في كلية محلية للبنات. لقد قام باستئجار ممثلين من البلدة، ومعاً قام هؤلاء الطلبة مع التجار المحليين بتمثيل مجموعة من المسرحيات وكانوا مستمتعين بذلك. وبسبب ضجر الأهالي من طول الصيف وشعورهم بالملل قام والداي بتأسيس مسرح في بستان من أشجار البلوط يقع بالقرب من مزرعتنا. وقد استمر هذا المسرح دون انقطاع لمدة خمسين سنة لاحقة.

لقد ولدت في مزيج مبهج من الجمال الريفي وطبيعة العمل القاسية والمسرح الصيفي والموسيقى وترعرعت فيه. باعتباري أصغر أربعة أخوان لم أستطع أن … لقد ترعرعت بانطباع أن عليّ أن أتحمل مسؤولية سلوكي واختياراتي لأنه لن يهتم أحد غيري بهذه الاختيارات سواي.

كما هو الحال مع بقية أخواني، فقد تلقيت تعليمي في البيت على يد والدتي التي كانت معلمة بارعة. لقد منحتني هذه السنوات الأولى من حياتي هدية لا ثمن لها وهي حب التعلم. على الرغم من أن أمي لم تكن تخصص جدولا محددا لتدريسي إلا أنها كانت تمتلك إدراكاً عجيباً في تشخيص المواضيع التي تأسر عقل شاب صغير، وكانت تقدم المواضيع بطريقة جادة حتى تصل إلى الهدف المطلوب، ثم تنتقل إلى موضوع جديد وفي الوقت نفسه يكون مشوقاً. التعليم لم يكن أمراً يجب أن تفعله، بل أن تقوم به لأنك تحبه.

لم يكن الإيمان جزءًا مهماً في طفولتي. لقد كانت لدي فكرة ضبابية عن الإله، وكان تعاملي معه منحصراً في لحظات طفولية عابرة عندما كنت أريد منه أن يحقق لي شيئا ما. على سبيل المثال، أتذكر عن أنني عقدت اتفاق مع الإله (في عمر التاسعة) أنه إذا منع سقوط المطر أثناء عرض المسرحية والحفلة الموسيقية مساء السبت والتي كنت استمتع بها بشكل خاص سوف لن أدخن. وبالتأكيد هذا ما حصل، لم يسقط المطر ولم أعد إلى التدخين مطلقا. وفي وقت سابق قرر والدي أن يرسلاني وأخي الأكبر مني لنصبح أعضاء في فرقة الإنشاد في كنيسة Episcopal. لقد كانوا واضحين معنا في أن هذه فرصة عظيمة لتعلم الموسيقى، وأن علينا ألا نأخذ التعاليم اللاهوتية على محمل الجد. وقد اتبعت تعليماتهم، فقد تعلمت عظمة التناسق والألحان، في حين أن المفاهيم اللاهوتية التي كان يلقيها علينا الواعظ تمر على مخيلتي من دون أن تترك أي أثر واضح.

عندما كنت في العاشرة من عمري انتقلنا إلى البلدة للبقاء مع جدتي المريضة، ودخلت المدرسة. وفي سن الرابعة عشرة تفتحت عيناي على عظمة ومتعة المناهج العلمية. ومن خلال شخصية معلم الكيمياء صاحب الكاريزما والذي كان يتقن الكتابة على السبورة بكلتا يديه، اكتشفت لأول مرة الاكتفاء الفائق للطبيعة المرتبة لهذا العالم. لقد كانت حقيقة أن كل ما هو موجود في الكون المكون من ذرات وجزيئات وفق مبادئ رياضية أمرا غير متوقعة، كما أن القدرة على استخدام أدوات العلم الاكتشاف أشياء جديدة جعلتني أدرك أنني أريد أن أكون جزءًا من هذه البيئة. في ظل الحماس لهذا التحول قررت أن هدفي في الحياة أن أصبح عالم كيمياء. على الرغم من أنني لا أعرف إلا القليل عن العلوم الأخرى إلا هذا الحب الصغير تبين أنه سيغير حياتي.

على العكس من ذلك فإن تجربتي مع الأحياء جعلتني بارداً تماماً. على الأقل من خلال عقل المراهق اعتقدت أن أساسيات الأحياء تميل إلى التعليم الروتيني للحقائق الجافة أكثر منها شرحاً للمبادئ. لم أكن على مهتماً بحفظ أجزاء جراد البحر، ولا كنت مهتماً بمعرفة الفرق بين الشعبة والصنف عند الحيوانات. التعقيد المذهل للحياة قادني للاستنتاج بأن الأحياء تشبه الفلسفة الوجودية[2]: إنها ببساطة لا معنى لها. بالنسبة لعقلي اليافع لم يكن هناك شيء مقنع يجذبني له. عندما تخرجت من الثانوية في سن السادسة عشرة دخلت جامعة فيرجينيا وقررت أن أتخصص في الكيمياء وأن أكمل طريقي في المجال العلمي. كما هو الحال مع غالبية طلبة السنة الأولى وجدت أن البيئة الجديدة منعشة عبر الكثير من الأفكار التي تطرح على جدران قاعات الدراسة وفي غرف السكن الجامعي في نهاية اليوم. بعض هذه الأسئلة كان يناقش مسألة وجود الله. عندما كنت في سنوات عمري الأولى كانت تمر عليّ لحظات من تجربة من الشوق نحو شيء ما خارج ذاتي، وكثيرا ما كان هذا الشوق موجهاً نحو جمال الطبيعة، أو بشكل خاص نحو تجربة الموسيقى الآسرة. ومع ذلك فإن إحساسي الروحي لم يكن ناضجاً وكان من السهولة تحديه بواسطة واحد أو أثنين من الملاحدة الشرسين الذين كانوا موجودين في كل مكان من السكن الجامعي. بعد مرور بضعة أشهر من حياتي الجامعية بدأت أقتنع أنه على الرغم من أن المعتقدات الدينية كانت سببا في تكوين تراث فني وثقافي إلا أن هذه المعتقدات لا تستند إلى الحقيقة.

على الرغم من أنني لم أكن أعرف معنى هذا المصطلح في ذلك الوقت إلا أنني أصبحت “لا أدريا” وهو المصطلح الذي ظهر على يد عالم القرن التاسع عشر هكسلي[3] T. H Huxly للإشارة إلى الشخص الذي لا يعرف ما إذا كان الإله موجوداً أو لا. هناك أنواع من اللا أدريين، فمنهم من وصل إلى هذا الموقف بعد تحليل معمق للأدلة، في حين أن البعض الآخر وجد أنه الموقف المريح الذي يسمح له بتجنب التفكير في الحجج التي يجدها مزعجة في الجهتين. أنا بالتأكيد من النوع الثاني. قولي بأنني “لا أدري” كان أقرب إلى القول بأنني لا أريد أن أدري”. كوني شاب في مقتبل العمر مع عالم مليء بالمغريات كان من الأنسب تجاهل الحاجة إلى الاستجابة لسلطة روحية عليا. لقد مارست نوعا من التفكير ونمط من سلوك “العمى الطوعي” وهو التعبير الذي استخدمه الكاتب لويس C. S. Lewis.

بعد تخرجي التحقت ببرنامج الدكتوراه في الفيزياء الكيميائية في جامعة ييل Yale متطلعاً إلى أناقة الرياضيات التي جذبتني إلى العلم منذ البداية. حياتي العلمية كانت متعلقة بفيزياء الكم[4] والمعادلات التفاضلية من الدرجة الثانية، وكان عمالقة الفيزياء ألبرت آينشتاين[5] Einstein ونیلس بور Niels Bohr وويرنر هیزنبرغ Werner Heisnberg وبول ديراك Paul Dirac هم أساطير بالنسبة لي. تدريجيا بدأت أقتنع أن كل شيء في الكون يمكن تفسيره على أساس المعادلات ومبادئ الفيزياء. قراءتي لسيرة آينشتاين واكتشافي أنه مع كونه صهيونياً متعصباً بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنه لم يؤمن إله اليهود يهوه Yahweh، مما أكد استنتاجي بأنه لا يوجد عالم مفكر يتقبل بصدق فكرة وجود الإله إلا ويكون قد ارتكب نوع من الانتحار الفكري.

وبذلك بدأت أتحول تدريجيا من اللا أدرية إلى الإلحاد. ووجدت راحة كبيرة في تحدي المعتقدات الدينية لأي شخص يذكر هذه المعتقدات في حضوري، وكنت انتقص من وجهات النظر هذه باعتبارها خرافات باطلة.

بعد مضي سنتين على انضمامي لبرنامج الدكتوراه بدأت خطة حياتي المنظمة تتفكك. على الرغم من استمتاعي اليومي بمتابعة بحث الدكتوراه في ميكانيكا الكم النظرية إلا أنني بدأت بالشك فيما إذا كان هذا هو الطريق الذي سوف أسلكه في حياتي. بدا أن أغلب التطور الذي حدث في مجال نظرية الكم حدث قبل خمسين سنة وأن حياتي العملية سوف تقتصر على تطبيق عمليات تبسيط ومقایسة متتابعة للوصول إلى معادلات أنيقة ولكنها غير قابلة للحل ولن تكون سوى قدر قليل من تبسيط هذه المعادلات. وبصورة عملية بدا أن طريقي سوف يقودني لا محالة إلى أن أصبح أستاذاً جامعياً يقوم بتقديم سلسلة من المحاضرات الكثيرة في الميكانيكا الحيوية والميكانيكا الإحصائية Statistical mechanics أمام طلبة بكالوريوس يشعرون إما بالملل أو الخوف من هذه المواضيع.

في الوقت نفسه وفي محاولة لتوسيع مداركي قمت بالتسجيل في مقرر الكيمياء الحيوية، حيث قمت أخيراً بالبحث في العلوم الحياتية التي طالما تجنبتها في الماضي. لقد كان المقرر رائعاً. لم تكن مبادئ الحمض النووي DNA والحمض الريبوزي RNA والبروتين واضحة بالنسبة، ولكن بدت لي الآن بكل تألقها الرقمي المقنع. كنت أعتقد أن القدرة على تطبيق المبادئ العقلانية الصارمة لفهم الأحياء أمر مستحيل، ولكن بدا الآن بشكل واضح للعيان كاشفاً عن الشفرة الوراثية. مع بدء اكتشاف إمكانية لصق مكونات الحمض النووي المبعثرة مع بعضها البعض بدا أن إمكانية تطبيق هذه المعرفة لمصلحة البشرية أمر ممكن تماماً. لقد كنت مشدوهاً. أخيراً أصبح لعلم الأحياء أناقة رياضية. الحياة أصبح لها معنى.

وفي الوقت نفسه، وفي سن الثانية والعشرين فقط أصبحت متزوجاً ولدي بنت ذكية وفضولية، وأصبحت اجتماعياً بصورة أكبر. عندما كنت صغيراً كنت أفضل أن أبقى وحيداً. أما الآن فإن التواصل الإنساني والرغبة في تقديم شيء ما للبشرية بدأ أكثر أهمية. ومع هذه التجليات المتسارعة مجتمعة بدأت في مراجعة كل اختباراتي السابقة بما في ذلك الانخراط في الحقل العلمي والقيام ببحوث مستقلة. كنت على وشك الانتهاء من برنامج الدكتوراه ولكن بعد جهد كبير من التفكير الروحي المعمق تقدمت بأوراقي للقبول في كلية الطب. ومن خلال كلمة محضرة بعناية حاولت إقناع لجنة القبول بأن الانعطافة الجديدة في مساري العلمي عبارة عن تحول طبيعي لتدريب أحد أطباء المستقبل. ولكن في داخلي لم أكن متأكدة. ألم أكن أنا الشاب الذي كان يكره علم الأحياء لأنها تتطلب الكثير من الحفظ؟ أليس الطب هو أكثر تخصص تتطلب دراسته الحفظ؟ لكن الأمر مختلف الآن، فالأمر يتعلق بالبشرية وليس بجراد البحر، فالمبادئ التي تحكم هذه التفاصيل يمكن أن تغير بشكل جذري حياة الناس.

لقد تم قبولي في جامعة كارولينا الشمالية. وخلال عدة أسابيع اقتنعت بأن كلية الطب هي المكان المناسب لي. لقد أحببت الحافز الفكري والتحديات الأخلاقية والعنصر الإنساني والتعقيد المذهل لبدن الإنسان. في ديسمبر في العام الأول لي تعلمت كيف أوفق بين الحب الجديد للطب وحبي للرياضيات. طبيب الأطفال المتزمت الانعزالي الذي يقوم بتدريس ما مجموعه ست ساعات لطلبة السنة الأولى بكلية الطب بين لي مستقبلي. لقد أحضر إلى الفصل الدراسي مرضى مصابين بفقر الدم المنجلي ومصابين بجالاكتوز الدم (الذين لديهم حساسية قاتلة من منتجات الألبان ومصابين بالمتلازمة وجميعها أمراض ناتجة عن خلل في الجينوم، بعضها نتيجة لتغير بسيط كما لو أن حرفة واحدة تحرك من مكانه.

لقد ذهلت من إبداع شفرة الحمض النووي للإنسان، ومن التداعيات الكبيرة للحالات النادرة لعدم الدقة في نسخ آلية عمله. وعلى الرغم من أن القدرة الحقيقية على مساعدة الكثيرين ممن أصيبوا بالأمراض الوراثية تبدو بعيدة المنال، إلا أنني بصورة فورية أنسقت إلى هذا الاتجاه. وعلى الرغم من أنه في ذلك الوقت لم يكن يدور في خلد أحد إمكانية مشروع جبار مثل مشروع الجينوم البشري، إلا أن الطريق الذي بدأته في عام 1973 أنتهى لحسن الحظ ليؤدي بي إلى المشاركة في أحد أكبر التحولات التاريخية للبشرية.

هذا الطريق قادني أيضا وأنا في السنة الثالثة بكلية الطب إلى تجربة غنية متعلقة بالاهتمام بالمرضى، كأطباء متدربين، يجد طلبة الطب أنفسهم مندمجين بعلاقة حميمية مع أناس كانوا غرباء عنهم إلى حين دخولهم في تجربة المرض. الموانع الثقافية عادة ما تمنع من تبادل معلومات شخصية جدا، ولكن هذه الموانع تتساقط عبر التواصل المستمر بين المريض والمعالج. لقد وجدت أن العلاقات التي تطورت مع المرضى المشرفين على الموت عميقة، ولقد حاولت جاهداً الحفاظ على وجود مسافة مهنية بيني وبين المرضى والبعد عن التفاعل العاطفي الذي حرص عدد من أساتذتي على التأكيد عليه.

لقد شكلت لي الحوارات الجانبية مع المرضى من سكان نورث کارولینا صدمة عميقة بخصوص الحالة الروحية التي يمر بها العديد منهم. لقد شهدت الكثير من الحالات لأشخاص وفر لهم الإيمان شعوراً قوياً بالطمأنينة الكاملة إما في البقاء في هذا العالم أو العالم الأخر، على الرغم من معاناتهم الشديدة التي لم يكونوا يستطيعون عمل شيء حيالها.

إذا كان الإيمان هو العصا النفسية التي يتكئون عليها فإن عليّ أن أستنتج بأنه لابد أن تكون هذه العصا من القوة بمكان. إذا كانت مجرد مظهرة خادعة لعادات ثقافية فلماذا لا يهز هؤلاء المرضى قبضاتهم بوجه الإله ويطلبون من أصدقائهم وعوائلهم التوقف عن الحديث حول الحب وقوة الخير الخارقة.

أشد لحظات الضعف التي مرت علي حدثت عندما سألتني امرأة مسنة تعاني يوميا من حالة متقدمة من مرض الخناق عن ما أؤمن به. لقد كان سؤالاً مستحقاً، وقد ناقشنا العديد من المواضيع المهمة عن الحياة والموت، وقد عبرت لي عن معتقداتها المسيحية. لقد شعرت أن وجهي محتقن وتلعثمت في جوابي قائلا “أنا لست متأكدا”. لقد كان تعجبها مبعث راحة كبيرة لي، وهو ما كانت أتجنبه لستة وعشرين سنة من عمري: لم أفكر مطلقاً في البراهين التي تؤكد أو تنفي وجود الإله.

هذه اللحظة شغلتني لعدة أيام؟ ألم أكن أعتبر نفسي عالم؟ هل يصل العالم إلى نتائجه من دون تمحيص في بياناته؟ هل يوجد في وجود الإنسان أسئلة أهم من السؤال “هل يوجد إله؟”، وها أنا لم أجد نفسي حتى الآن بسبب مزيج من “العمى الإرادي” وشيء آخر يمكن وصفه بأنه غطرسة بحيث أتجنب التفكير جدياً بأن الإله يمكن أن يكون حقيقة ممكنة. فجاءة وجدت أن كل حججي بدت ضعيفة، وتولد لدي شعور بأن الجليد تحت قدمي بدأ يتصدع.

هذا الإدراك كان تجربة مرعبة. في النهاية، إذا كنت أستطيع التعويل على متانة موقفي الإلحادي هل أستطيع تحمل مسؤولية الأفعال التي أفضل أن تظل دون تمحيص؟ ألم أكن أجيب على أسئلة الآخرين وأهمل نفسي؟ أصبح السؤال الآن أكثر إلحاحا بحيث لا يمكن تجاهله.

في البداية، كنت أعتقد أن البحث الشامل للأساس العقلي للإيمان سوف يفقد الإيمان ميزته ويقوي إلحادي. ولكنني قررت أن أبحث في الحقائق مهما تكن النتائج. وبذلك بدأت بدراسة سريعة عن الأديان الرئيسية في العالم. أغلب ما وجدته في كتاب CliffNotes عن الأديان المختلفة جعلني حائراً، ولم أجد دافعاً للاقتناع بأي منها. كان لدي شك بأنه لا يوجد أي أساس عقلي للقناعات الروحية لأي من هذه المعتقدات. ولكن هذا الشعور سرعان ما تغير. ذهبت لزيارة أحد رعاة الكنيسة الذي كان يسكن بالقرب مني لأسأله إن كان للإيمان أي أساس عقلي. لقد استمع بصبر إلى تساؤلاتي المشتتة ثم أعطاني كتيباً صغير ونصحني بقراءته.

 كان عنوان الكتاب “Mere Christianity” للفيلسوف لويس C. S. Lewis. قضيت الأيام التالية في تصفح الكتاب في محاولة لاستيعاب عمق وشمولية الحجج الفكرية لأحد أشهر مفكري أكسفورد، وأخيراً أدركت أن موقفي ضد عقلانية الإيمان لا يعدو عن كونه أفكار طفل في المدرسة. كان من الواضح أن عليّ أن أفتح صفحة جديدة للتفكير في أهم الأسئلة التي تشغل الإنسان. بدا أن لويس يعرف كل اعتراضاتي، وأحيانا حتى قبل أن أصيغها بشكل كامل. لقد كان يتناولها بشكل متقن في صفحة أو صفحتين. عندما علمت أن لويس نفسه كان ملحداً، وأنه كان يحاول أن يبرهن منطقية على عدم صحة الإيمان أدركت كيف يمكن أن يكون مفيداً لي في طريقه للبحث عن الحقيقة. لقد كان طريقه هو طريقي أيضا.

أكثر حجة شدت انتباهي وحطمت أفكاري عن العلم والإيمان من أساسها متضمنه في الفصل الأول “الصحة والخطأ كمدخل لمعنى الكون”. مع أن “القانون الأخلاقي” الذي وصفه لويس من عدة جوانب عبارة عن صفة كونية للوجود الإنساني إلا أنه بدا وكأنني أتعرف عليه لأول مرة.

من المفيد لفهم القانون الأخلاقي أن نفكر -كما أشار لويس -بمئات المواقف التي تمر علينا وتستدعي القانون الأخلاقي من دون أن نتساءل عن الأساس الذي يقوم عليه هذا القانون. الاختلاف هو جزء من حياتنا اليومية. بعض الاختلافات معتادة مثل انتقاد الزوجة لزوجها لأنه لم يتكلم بطريقة لائقة مع صديق، أو اعتراض طفل بقوله “هذا ليس عدلا” عند توزيع كمية كبيرة من الأيس كريم في حفلة عيد ميلاد. البعض الأخر من الاختلافات له أهمية أكبر. على سبيل المثال، على الصعيد الدولي هناك من يجادل بأن من مسؤولية الولايات المتحدة أن تنشر الديمقراطية في العالم حتى لو تطلب ذلك التدخل العسكري، في حين أن البعض الأخر يعتقد العكس بالقول إن الاستخدام المنفرد للقوة العسكرية والاقتصادية يفتقد للشرعية الأخلاقية.

وفي المجال الطبي، هناك نقاشات محتدمة حالية حول السؤال ما إذا كان من المقبول القيام بأبحاث على خلايا الأجنة أم لا. البعض يعتبر بأن هذه الأبحاث تنتهك قدسية الحياة الإنسانية، في حين أن البعض الأخر يعتبر أن إمكانية رفع معاناة البشر يستحق المضي في هذه الأبحاث (هذا الموضوع وإشكاليات أخرى في مجال الأخلاق الحيوية سوف تناقش في ملحق هذا الكتاب).

من الملفت أنه في جميع هذه الأمثلة نجد أن كل طرف يستند إلى معايير متعالية غير مذكورة. ويمكن تسمية هذه المعايير بأنها “قانون السلوك الصحيح”، ووجوده في هذه الحالات يبدو أمرا مسلما به. ما كان محلاً للنقاش هو ما إذا كان هذا الفعل أو غيره أقرب نسبية لاشتراطات ذلك القانون. الذين يقعون في مثل هذه الأمور، كما هو الحال مع الزوج الذي يرتبط بعلاقة عاطفية مع صديقة زوجته سوف يتذرع بعدة أسباب للتخلص من هذه الورطة. من النادر أن نسمع أحدا من هؤلاء يقول “فليذهب تصورك عن السلوك الصائب إلى الجحيم”.

ما هو مميز هنا أن مفهوم الصواب والخطأ يبدو شاملاً لكل أفراد الجنس البشري (مع أن تطبيقاته قد ينتج عنها نتائج مختلفة تماماً). ولذلك فهذا المفهوم يبدو مقاربة ظاهرية لذلك القانون، كما هو الحال مع قانون الجاذبية وقانون النسبية الخاصة. وفي مثل هذه الحالة فإننا حين نكون صادقين مع أنفسنا لابد أن نقول إننا قمنا بانتهاك القانون بصورة منتظمة.

على أحسن الأحوال، يبدو أن القانون أنه ينطبق على البشر. ومع ذلك فإن الحيوانات الأخرى يمكن في بعض الأحيان أن تظهر لمحات من الحس الأخلاقي، ولكن ذلك ليس شائعة، وفي العديد من الحالات يبدو سلوك الكائنات الأخرى متناقضة تماماً مع هذا الادعاء. الشعور بالصواب والخطأ، واكتساب اللغة، والوعي بالذات، والقدرة على تصور المستقبل هو ما يشير إليه العلماء عادة عندما محاولتهم تعداد الصفات الخاصة للإنسان.

لكن هل هذا الإحساس بالصواب والخطأ صفة جوهرية للإنسان، أم أنها نتيجة للعادات الثقافية؟ البعض يجادل بأن الثقافات تختلف اختلافاً كبيراً في معايير السلوك مما يجعل الاستنتاج بوجود قانون أخلاقي مشترك لا أساس له. لويس، وهو تلميذ لعدة ثقافات يسمي ذلك “كذبة، كذبة ذات نغمة جميلة. إذا ذهب شخص للمكتبة وقضى عدة أيام يقرأ موسوعة الأديان والأخلاق فإنه سوف يكتشف إجماعاً شاملاً للعقل العملي للإنسان. في ترانيم البابليين إلى جزيرة ساموس، وقوانین  مانو Manu، وكتاب الأموات، والمختارات، والرواقيون، والأفلاطونيون، وسكان أستراليا الأصليين، والهنود الحمر، سيجد الشخص توافق كبير جداً على إدانة الظلم والقتل والخيانة والكذب، وفي المقابل الحرص على الشفقة على كبار السن والأطفال والضعفاء والتصدق على الفقراء والنزاهة والأمانة. في بعض الثقافات غير المألوفة نجد القانون يأخذ شكلاً غريباً، مثل إحراق الساحرة في القرن السابع عشر في أمريكا. ولكن عند التدقيق في مثل هذه الانحرافات الصارخة نجد أنها ناتجة عن استنتاجات مضللة عن مفهوم الخير والشر. إذا كنت متأكداً بشكل قاطع أن الساحرة هي تجسيد للشر على الأرض، وأنها مرسلة من قبل الشيطان ذاته، ألا يصبح مبرراً أن تقوم بمثل هذا العمل القاسي.

دعوني أتوقف هنا لأشير إلى أن الاستنتاج الذي يقول إن القانون الأخلاقي يتعارض بشكل صارخ مع الفلسفة الحديثة التي تدعي أنه لا يوجد خير أو شر مطلق، وأن كل القرارات الأخلاقية نسبية. هذه القناعة التي تبدو منتشرة بين الفلاسفة المعاصرين والتي تعتبر خادعة لعامة الناس تواجه سلسلة من الإشكاليات المنطقية. إذا لم تكن هناك حقيقة مطلقة، فهل يمكن أن تكون فلسفة ما بعد الحداثة -modernism Post صحيحة؟ في الحقيقة، إذا كان لا يوجد شيء مطلق صحيح أو خاطئ فإنه لا معنى لعلم الأخلاق من البداية.

سوف البعض يعترض قائلاً إن القانون الأخلاقي هو ببساطة نتاج للضغط التطوري Revolutionary Pressure. هذا الاعتراض منبثق من حقل الأحياء الاجتماعية Sociobiology محاولا إيجاد تفسيرات للسلوك غير الأناني، وهو ينطلق من موقف مؤيد لفكرة الانتخاب الدارونية. إذا كان يمكن لهذه الحجة أن تصمد فإن تفسير عدد من اشتراطات القانون الأخلاقي على أنها إشارة إلى الإله فإن ذلك سوف يفتح الباب على إشكاليات، وعليه لابد من التدقيق بشكل أكبر في وجهة النظر هذه.

لنأخذ مثال رئيسي للدافع القوي الذي نشعر به نتيجة للقانون الأخلاقي -دافع الإيثار وصوت الضمير الذي يدعونا لمساعدة الآخرين حتى لو لم نكن نتوقع منفعة في المقابل. لا يمكن إرجاع كل اشتراطات القانون الأخلاقي إلى الإيثار. فعلى سبيل المثال فإن تأنيب الضمير الناتج عن الإخلال البسيط في إقرار الضريبة يصعب إرجاعه إلى إحساس بإلحاق الأذى بشخص غير معلوم.

في البداية لابد أن نكون واضحين حول الموضوع الذي نتكلم عنه. أنا لا أقصد بالإيثار “أن تحك ظهري الآن مقابل أن أحك ظهرك في المستقبل”، فهذا نوع من السلوك الذي يتم فيه إسداء المعروف للآخرين مقابل توقع فائدة منه. الإيثار أكثر إمتاعا من ذلك، هو أن تعطى للآخرين من دون أي دافع أخر. عندما نصادف مثل هذا السلوك فإننا نشعر إزاءه بالتوقير والتبجيل. لقد عرض أوسكار شنلدر Oskar Scandler حياته لخطر شديد نتيجة لإيوائه أكثر من ألف يهودي أثناء بحث النازيين عنهم خلال الحرب العالمية الثانية وفي النهاية مات وهو مفلس -ونحن نشعر باحترام بالغ لما قام به. الأم تريزا تعد باستمرار واحدة من أكثر الأشخاص احتراماً في العصر الحديث ومع ذلك فإن فقرها الاختياري وعطائها للمرضى والمشرفين على الموت من مواطني كلكتا يتعارض بشكل صارخ مع نمط الحياة المادي الطاغي في الثقافة السائدة.

في بعض الحالات، يمكن أن يصل هذا الإيثار إلى أن يكون فيها المستفيد هو العدو. الراهبة البندکتية Joan Chittister تقص لنا القصة التالية.

 

” كان هناك امرأة كبيرة في السن تعمل كصائد للزبائن ضمن شبكة عصابات. وفي صباح أحد الأيام وعندما كانت تسعى لاصطياد زبون شاهدت عقرب يطفو بلا حول ولا قوة في تيار ماء قوي، وفي أثناء دفع تيار الماء للعقرب علق في الحشائش التي نمت على جانب النهر ولم يستطع التخلص منها. حاول العقرب التخلص جاهداً ولكنه علق بصورة أكبر. وسريعاً اقترب الأخت جوان من العقرب لتخليصه من ورطته، ولكنه بمجرد أن لمسته لسعها. سحبت السيدة المسنة يدها بسرعة ولكن بعد أن استعادت توازنها حاولت أن تنقذ العقرب مرة أخرى، وفي كل مرة كانت تفعل ذلك كان العقرب يلسعها بذيله إلى درجة أن يدها تلطخت بالدم وتغيرت ملامح وجهها من شدة الألم. وعندما شاهد عابر سبيل ما يحدث للمرأة المسنة مع العقرب صرخ بها “ماذا دهاك أيتها الغبية! هل تريدي أن تقتلي نفسك من أجل هذا الكائن المؤذي؟” التفتت جوان إلى الشخص الغريب وأجابت “لأن من طبع العقرب أن يلسع فلماذا أتخلى عن طبعي في محاولة إنقاذه؟”.

قد يبدو هذا المثال متطرف، لا يوجد هناك الكثيرون المستعدون التعريض حياتهم للخطر من أجل عقرب. ولكن من المؤكد أن كثيرين شعروا في وقت ما بشعور داخلي يدفعهم لمساعدة أناس غرباء في حاجة للمساعدة مع عدم وجود منفعة شخصية تعود عليهم من ذلك. وإذا قمنا بمثل ذلك فإننا في الغالب نشعر بإحساس عاطفي “بأننا قمنا بالعمل المطلوب”.

في كتابه المميز أنواع الحب الأربعة The Four Loves يتابع لويس البحث في طبيعة حب البذل والتي يسميها “agape” وهو تعبير مأخوذ من اليونانيين. يقول لويس أن هذا الحب يمكن تمييزه عن أنواع الحب الثلاثة الأخرى (التعلق، الصداقة، الحب الرومانسي) والتي من السهولة فهم ارتباطها بنوع من المنفعة المتبادلة، والتي يمكن أن نجدها في بقية الحيوانات إلى جانب الإنسان.

يشكل العطاء الإيثاري agape تحديا كبيرا للتطوريين. من العار الصريح إرجاع العطاء الإيثاري إلى أساس عقلي. لا يمكن تصديق إمكانية إرجاعه إلى جين الأنانية الذي يجعل الناس يحبون أنفسهم. على العكس من ذلك تماما: فالإيثار ربما يقود الناس إلى القيام بتضحيات يمكن أن تتسبب لهم في أصابات أو حتى تودي بهم إلى الموت دون أي دليل على إمكانية الاستفادة من هذا السلوك. حينما ندقق في الصوت الداخلي الآتي من أنفسنا والذي في بعض الأحيان نسميه الضمير فإننا نجد أن الدافع للقيام بذلك هو نوع من الحب الموجود في كل واحد منا، على الرغم من أننا كثيرا ما نحاول تجاهله. لقد حاول علماء الاجتماع من أمثال ولسون E. 0. Wilson تفسير سلوك الإيثار على أنه نوع من المنفعة المتبادلة لمن يمارس هذا الفعل، ولكن سرعان ما تواجه هذه الحجة صعوبات. إحدى صيغ هذه الحجة أن سلوك الإيثار المتكرر للفرد يفسر على أنه نوع من الاستجابة الإيجابية للشريك المضاد. ولكن هذه الفرضية تتعارض بشكل صريح مع مشاهدات للقرود على نحو مخالف تماماً، مثل قيام القردة المتحكمة حديثاً بوأد صغار القردة لتمهيد الطريق لنسلها المستقبلي للسيطرة.

الحجة الأخرى تقول إن هناك منفعة متبادلة غير مباشرة للأنانية حيث أنها توفر أفضلية لمن يقوم بها مع مرور الوقت، ولكن ذلك لا يفسر ممارسة أفعال بدافع من الضمير حيث لا أحد يعلم عنها. ويمكن أن نأخذ مثال من مستعمرات النمل، حيث يجهد النمل العقيم لتوفير البيئة التي تمكن أمهاتها من إنجاب نمل أكثر. ولكن هذا النوع من الإيثار “النملي” يمكن تفسيره بسهولة بتعابير تطورية على أن الجينات التي تحرك النمل العقيم لتوفير البيئة المناسبة هي ذاتها الجينات التي سوف تنقلها أمهات النمل إلى بقية نسلها. الارتباط الوراثي غير المألوف لا ينطبق على تجمعات أكثر تعقيداً، حيث يتفق التطوريون على أن الانتخاب يتم على مستوى فردي وليس على مستوى جماعي. ولذلك فإن سلوك النمل يختلف بشكل جوهري عن الصوت الداخلي الذي يدفعني إلى الشعور بالمسؤولية للقفز في النهر لمحاولة إنقاذ شخص غريب مشرف على الغرق حتى لو كنت لا أحسن السباحة مما يجعل احتمال موتي محتملا في سعيي لإنقاذه. وزيادة على ذلك ولكي تصح فرضية المنفعة المتبادلة بين أفراد المجموعة الواحدة فإن ذلك يتطلب أن يكون لدي سلوك عدائي تجاه الأفراد الذين ينتمون إلى مجموعات خارج مجموعتي. مواقف مثل أوسكار شندلر والأم تريزا تكذب هذا النوع من التفكير. المدهش أن القانون الأخلاقي يدعوني لإنقاذ الغريق حتى لو كان عدوي.

إذا كان القانون الأخلاقي لا يمكن تفسيره إلا كونه خاصية ثقافية أو منتج ثانوي للتطور فكيف إذن يمكن الاعتماد عليه؟ من الواضح أن هناك شيء غير اعتيادي بهذا الخصوص. وهنا أقتبس من لويس قوله “إذا كانت هناك قوة تتحكم بالكون من الخارج، فإن هذه القوة لا يمكن أن تظهر ذاتها كأحد حقائق هذا الكون، كما أنه لا يمكن لمصمم البيت أن يظهر نفسه على شكل حائط أو غرفة الدرج أو المدخنة الموجودة في ذلك البيت. الطريقة التي يمكن أن نتوقع أن هذه القوة تظهر نفسها هو داخل أنفسنا على شكل تأثير أو أمر يدفعنا للسلوك على نحو معين. وهذا ما نشاهده في ذواتنا. وبالتأكيد يجب أن يثير ذلك شكوكنا”.

عندما صادفت هذه الحجة وأنا في عمر السادسة والعشرين أصبت بالدهشة من المنطق الذي تستند إليه. لقد كانت هذه الدهشة مختفية داخلي كما هو الحال مع أمور حياتية أخرى، ولكن بدأت هذه الحجة تتجلى أمامي لأول مرة باعتبارها مبدأ مفسر، هذا القانون الأخلاقي أظهر لمعانه الأبيض في فجوات طفولتي الإلحادية، وهو يحتاج إلى تفكير جاد في أساسه. هل كان ذلك هو الإله وهو ينظر إلي؟

وإذا كان ذلك صحيحا، ما نوع هذا الإله؟ هل هو الإله الربوبي، هل هو الذي خلق الفيزياء والرياضيات وبدأ تحريك الكون قبل 14 مليون سنة، ثم قرر أن يتعامل مع الكائنات الأخرى باعتبارها كائنات أكثر أهمية كما كان يقول آينشتاين؟ لا، هذا الإله إذا كنت قد أدركته حقا يجب أن يكون إله الإيمان، والذي يرغب بنوع من العلاقة مع هذه الكائنات المتميزة التي تسمى بشر، والتي تبعا لذلك غرس فيها لمحة في كل واحد منا. قد يكون هو إله إبراهيم، ولكنه بالتأكيد ليس إله آينشتاين.

هناك تبعات أخرى للشعور بوجود إله إذا كان بالفعل موجوداً. الحكم وفقا للمعايير العالية للقانون الأخلاقي والتي أعترف أنني كنت أنتهكها-تقتضي وجود إله مقدس وخير. لابد لهذا الإله أن يجسد هذا الخير. لابد لهذا الإله أن يمقت الشر. وليس هناك مدعاة للشك بأنه عطوف ومتسامح. بداية اتضاح تصوري عن إمكانية وجود الإله خلق لدي مشاعر متناقضة: من جهة شعور بالعمق والشمولية بوجود مثل هذا العقل، ومن جهة أخرى شعور بضياع عميق من خلال إدراك نقصي مقارنة به.

لقد بدأت رحلتي الفكرية في البحث لتأكيد إلحادي. هذا الهدف تلاشى کون حجة القانون الأخلاقي (وأمور أخرى كثيرة أجبرتني على الاعتراف بعقلانية فرضية وجود الله. اللا أدرية والتي كانت تبدو كملجأ آمن بدت وكأنها هي الملامة. لقد بدا وكأن الإيمان بالإله أكثر عقلانية من عدمه.

لقد أصبح واضحا بالنسبة لي بأن العلم ورغم قوته التي ليست محلاً للشك -في الكشف عن غموض العالم الطبيعي لن يوصلني إلى حل سؤال الإله. إذا كان الإله موجودا فلابد أنه موجود خارج العالم الطبيعي، وبالتالي فإن أدوات العلم لن تفيد في التعرف عليه. وبدلا من ذلك، وبالعودة إلى قلبي بدأت أقتنع بأن البرهان على وجود الإله يجب أن يأتي من طريق أخر، وأن القرار النهائي يجب أن يستند إلى الإيمان. التدقيق المزعج في الطرق المحتملة التي عليّ أن أسلكها، على أن أعترف بأنني وصلت إلى عتبة إمكانية القبول بالوجود الروحي بما في ذلك وجود الإله.

بدا لي أنه من المستحيل التقدم إلى الأمام أو التراجع إلى الخلف. بعد سنوات من ذلك، قرأت قصيدة لشيدلون فانوكن Sheldon Vanauken تصف بشكل دقيق حيرتي. نهاية القصيدة تقول:

ما بين ما هو محتمل وما هو مؤكد هناك فجوات

أنا خائف من القفز والوقوف أمر سخيف

رأيت ما خلفي يغرق، والأسوأ أن ما تحتي يتفكك

الفجر هو أملنا الوحيد للانتقال نحو الوعد

الذي يفتح الكون المغلق

 

الوقت طويل وقفت أتأرجح على حافة هذه الفجوات. وفي النهاية لم أجد بداً من القفز. كيف لعالم أن يعتنق هذه المعتقدات؟ ألا يدعي الكثيرون بأن الدين لا يتوافق مع العلم بالقول “أرني البيانات” وهو موقف شخص كرس وقته لدراسة الكيمياء والفيزياء والأحياء والطب؟ بفتح لعقلي أمام الاحتمالات الروحية، ألا أكون بدأت حرباً تستنزفني بحيث أواجه خيارين: إما الانتصار الكامل أو العكس.

إلى الفصل السابق: طبيعة العقل البشري

إلى الفصل التالي: حرب وجهات النظر

[1] زعيمة سياسية أمريكية كان لها تأثير نشط، كما أنها السيدة الأولى في الفترة من 1933 إلى 1945. عملت لتعزيز سياسات جديدة للتعامل مع الزنوج، زوجة الرئيس فرانكلين روزفلت، وكذلك أخذت دورا بارزا كداعية للحقوق المدنية.

[2] تيار فلسفي يميل إلى الحرية التامة في التفكير بدون قيود ويؤكد على تفرد الإنسان، وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه. وهي جملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة، وليست نظرية فلسفية واضحة المعالم. ظهرت كحركة أدبية وفلسفية في القرن العشرين.

[3] توماس هنري هاکسلي (4 مايو 1825-29 يونيو 1895) عالم أحياء بريطاني. هو ابن المعلم ریاضیات. وهو جد جوليان هكسلي (1887 -1975) الأخصائي في علم الحيوان والفيلسوف والمربي والكاتب، ولجولیان دور كبير في تأسيس اليونسكو. وهو أيضا جد الروائي والشاعر الإنجليزي ألدوس هكسلي.

[4] ميكانيكا الكم هي مجموعة من النظريات الفيزيائية التي ظهرت في القرن العشرين، وذلك لتفسير الظواهر على مستوى الذرة والجسيمات دون الذرية وقد دمجت بين الخاصية الجسيمية والخاصية الموجية ليظهر مصطلح ازدواجية الموجة -الجسيم، وبهذا تصبح ميكانيكا الكم مسؤولة عن التفسير الفيزيائي على المستوى الذري كما أنها أيضا تطبق على الميكانيكا الكلاسيكية ولكن لا تظهر تأثيرها على هذا المستوى، لذلك ميكانيكا الكم هي تعميم للفيزياء الكلاسيكية لإمكانية تطبيقها على المستويين الذري والعادي.

[5] البرت أينشتاين (بالألمانية: Albert Einstein) (14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955) عالم فيزياء ألماني المولد، سويسري وأمريكي الجنسية، من أبوين يهوديين ،[1] وهو يشتهر بأبو النسبية كونه واضع النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة الشهيرتين اللتان كانت اللبنة الأولى للفيزياء النظرية الحديثة، ولقد حاز في عام 1921 على جائزة نوبل في الفيزياء عن ورقة بحثية عن التأثير الكهروضوئي ضمن ثلاثمائة ورقة علمية أخرى له في تكافؤ المادة والطاقة وميكانيكا الكم وغيرها، وأدت استنتاجاته المبرهنة إلى تفسير العديد من الظواهر العلمية التي فشلت الفيزياء الكلاسيكية في إثباتها.