أبحاثآبائيات

العلامة أوريجانوس (185م -203م) – دكتور سامح فاروق حنين

العلامة أوريجانوس (185-203م) – دكتور سامح فاروق حنين

العلامة أوريجانوس (185م -203م) - دكتور سامح فاروق حنين
العلامة أوريجانوس (185م -203م) – دكتور سامح فاروق حنين

العلامة أوريجانوس (185م -203م) [1] – دكتور سامح فاروق حنين

حياة العلامة أوريجانوس

يعتبر العلامة أوريجانوس مجد الأدب الكنسي القديم وواحداً من أعظم الكتاب على مر العصور. ونستطيع أن نجمع معلومات عن حياة أوريجانوس من الكتاب السادس من «التاريخ الكنسي» ليوسيبيوس القيصري، الذي خصصه كله له والذي يعد بمثابة سيرة ذاتية” للعلامة السكندري. ويبدو أن يوسيبيوس القيصري قد استقى معلوماته عن أوريجانوس من معلمه بامفيلوس الذي ضمنها في “الدفاع” الذي كتبه عن أوريجانوس بمساعدة يوسيبيوس وذلك على أساس كتابات أوريجانوس ورسائله التي كانت محفوظة في مكتبة قيصرية فلسطين.

ويعتبر الكثيرون أوريجانوس هو ابن مصر الأصيل رغم أن اسمه يوناني وليس قبطيا (ابن الإله أور)، أما اسم أدامانتيوس ومعناه الماسي فقد أطلق عليه بسب سمو أخلاقه وندرتها وصلابة طاقاته الفكرية كالماس. وقد ولد أوريجانوس في الإسكندرية نحو عام 185م[2]، واستشهد أبوه ليونيديس الذي كان يعمل معلما للخطابة، في أيام الإمبراطور سبتميوس سيفيروس عام ۲۰۲م في حين كان أوريجانوس لا يزال في سن السابعة عشرة. وكان أبوه ليونيديس قد هذبه في بادئ الأمر بمعرفة الكتاب المقدس والدراسات الدينية قبل تعليمه العلوم اليونانية[3]. ويشهد بورفيريوس الأفلاطوني المحدث أن أوريجانوس “إذ درس الآداب اليونانية كيوناني انحرف إلى الطياشة البربرية.[4]” ثم بعد ذلك اتجه إلى دراسة المسيحية. وقد أظهر الابن شغفاً عجيباً في هذا الأمر. ويقال إن والده كثيراً ما كان يقف بجوار الصبي وهو نائم، ويكشف صدره كأن روح الله قد استقر في داخله[5]، ويقبله بوقار معتبراً نفسه أنه قد تبارك بذريته الصالحة. ولما عهد إلى كليمندس تعليم الإيمان في الإسكندرية خلفا لبنتينوس صار أوريجانوس أيضا أحد تلاميذه وكان لا يزال صبياً[6]. وبالإشارة إلى بنتينوس وكليمندس كمعلمي أوريجانوس فإن هذا يعني أن الأخير كان يدرس في مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وأنه قد تلقى تعليماً يونانياً ومسيحياً عالياً، وأنه قد سمع دروسهما وحضرها سواء أثناء فترة صباه أو بعد ذلك.

وقد عاصر ليونيديس، أبو أوريجينيس، الاضطهاد الذي أثاره سبتيموس ساويرس عام ۲۰۲م، والذي كان أكثر عنفاً على الكنيسة المصرية، حتى ظن كثيرون أن هذا الاضطهاد هو علامة على مجيء “المسيح الدجال”. فألقي القبض على ليونيديس ووضع في السجن، أما أوريجانوس الذي لم يكن بعد قد بلغ السابعة عشر من عمره، فلم يكن فقط يشجع أباه على الاستشهاد وأرسل له رسالة حثه فيها على ذلك، بل كان يتوق بشغف إلى إكليل الاستشهاد مع والده. وفي اللحظة الحاسمة منعته أمه من تحقيق رغبته بإخفاء كل ملابسه حتى يلتزم البقاء في المنزل ليرعى شئون إخوته الستة. فأرسل إلى أبيه رسالة قائلاً له: “احذر من أن تغير موقفك بسببنا” هذا ما يمكن تدوينه كأول دليل على حكمة أوريجانوس في شبابه وعلى محبته الصادقة للتقوى[7].

وإذ صودرت ممتلكات ليونيديس بعد استشهاده صار أوريجانوس وعائلته، المكونة من أم وستة إخوة كان هو أكبرهم، في عوز، لهذا التجأ إلى سيدة غنية رحبت به في منزلها، لكنه لم يحتمل البقاء كثيراً هناك، لأنه كان لهذه السيدة ابن بالتبني اسمه بولس وكان أحد رؤساء الهراطقة بمدينة الإسكندرية، فلم يرد أوريجانوس أن يختلط به ولا أن يشترك معه في صلاة حسب قانون الكنيسة. فترك أوريجانوس بيت السيدة الغنية وعمل في تدريس الأدب الدنيوي والنحو لينفق على نفسه وعلى عائلته[8]. ولما اشتد الاضطهاد على معلمي الإيمان المسيحي في مدينة الإسكندرية وأغلقت مدرستها اللاهوتية التي كان يقوم القديس كليمندس بالتدريس فيها ورغب بعض الأميين في التعليم وتعلم الإيمان المسيحي، رجوا أوريجانوس أن يتولى هو هذا العمل، فقبل الأخير إذ وجد في تدريسه للأميين الأدب والنحو فرصته للشهادة للإيمان المسيحي قدر ما تسمح الظروف، فكان يسلط الضوء على ما تحتله الكتابات اللاهوتية من مكانة في الكتابات اليونانية.

وبهذا اجتذب أوريجانوس بعض الوثنيين الذين جاءوا يطلبون أن يسمعوا منه عن التعاليم المسيحية وكان من بينهم بلوتارخوس الذي نال إكليل الاستشهاد وأخوه هيراقليس (یاروكلاس) الذي صار بطريركاً على الإسكندرية. ولأنه كان يقوم بالتدريس في المنازل وبسبب حضور نسوة كي يستمعن إلى محاضراته، ولكي لا تحدث عثرة، رأى أن ينفذ حرفياً ما ورد في الإنجيل أن أناسا خصوا أنفسهم من أجل ملكوت الله (مت ۱۲:۱۹)، ويبدو أنه قدم توبة على هذا الفعل بعد ذلك، ولكن البابا ديمتريوس بطريرك الإسكندرية كان له تحفظ على هذه الفعلة وقد استخدمها ضده.

وإذ تركت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بلا معلم بسبب الاضطهاد ونياحة القديس كليمندس، قام البابا ديمتريوس بتعيين أوريجانوس رئيسا للمدرسة عام ۲۰۲م، إذ لم يجد لهذه المهمة من هو أفضل منه، فقد كان يمتاز بعبقرية نادرة وثقافة دينية ولاهوتية موسوعية. فأوقف أوريجانوس كل نشاط له خاصاً بتعليم الأدب الدنيوي والنحو حتى إنه باع كل كتبه الثمينة الأثيرة لديه، ليكرس حياته بالكامل للعمل الجديد الذي أوكل إليه كمعلم للموعوظين وذلك لمدة ثلاثين عاماً تقريباً جاذباً إليه جمعاً كثيراً من مسيحيين وأمم. وتتلمذ على يديه كثيرون نذكر على سبيل المثال القديس أليكسندروس أسقف أورشليم الذي كان يتطلع إلى أوريجانوس كمعلمه وصديقه.

ونوجز فيما يلي دور العلامة أوريجانوس في تطور مدرسة الإسكندرية:

  1. ألقى العلامة أوريجانوس بكل طاقاته لا لدراسة الكتاب المقدس والتعليم به فحسب، بل لتقديم حياته مثلاً للحياة الإنجيلية. وفي هذا يقول ق. غريغوريوس العجائبي: “لقد جذبنا بأعماله التي فعلها أكثر من تعاليمه التي علمنا إياها” واتسم أيضاً أوريجانوس بالحياة النسكية مع ممارسة الصلاة بكونها جزءًا لا يتجزأ من الحياة النسكية، تسنده في تحرير النفس ودخوله إلى الاتحاد بالله بطريقة أعمق. وكان يرى في الصلوات أمراً ضرورياً لنوال نعمة خاصة من قبل الله لفهم كلمة الله. كما رأى أن الإنسان ينمو في الاتحاد مع الله من خلال حفظ البتولية؛ إذ ينسحب عن العالم وهو بعد يعيش فيه، مقدما تضحية في أمور الترف قدر ما يستطيع، محتقرا المجد البشري.

۲. في البداية ركز أوريجانوس على إعداد الموعوظين وتهيئتهم للعماد، لا بتعليمهم الإيمان المسيحي فحسب، وإنما بتقديم التعاليم الخاصة بالحياة المسيحية العملية أيضاً.

٣. لم يقف عمل العلامة أوريجانوس عند تهيئة الأعداد الضخمة المتزايدة لنوال سر العماد، وإنما كان عليه بالحري أن يهيئهم لقبول إكليل الاستشهاد، فكان كل من يقترب إليه إنما كان بالحري يجري نحو الاستشهاد.

٤. يعد أعظم أثر لأوريجينيس على مدرسة الإسكندرية هو تركيزه على تفسير الكتاب المقدس بطريقة رمزية (مجازية). وقد كرس حياته كلها لهذا العمل، حتى نسب هذا المنهج التفسيري لمدرسة الإسكندرية ولأوريجينيس.

وحوالي عام ۲۱۱م زار أوريجانوس روما، حيث وجد فرصة مواتية لمتابعة عظة للقديس هيبوليتس عن “كرامة المخلص”، وبعد إقامة قصيرة هناك عاد إلى الإسكندرية. وإذ كان جمهور تلاميذه يلتفون حوله من الصباح حتى المساء، رأي أوريجانوس أن يقوم بتعميق الفكر الدراسي وتقسيم الدارسين إلى فصلين، واختار تلميذه هيراقليس ليدرس المبتدئين المبادئ الأولى للتعاليم المسيحية، أما هو فكرس وقته لتعليم المتقدمين العلوم اللاهوتية والفلسفة معطياً اهتماماً خاصاً للكتاب المقدس[9]. ومن خلال هذا التكامل العلمي الغني أخذت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية شكلاً جديداً متألقاً.

وقد قام أوريجانوس بعدة رحلات إلى بلاد العرب، أولها حوالي عام 214م، حيث ذهب إليها بناء على دعوة من حاكم تلك البلاد الذي كان يرغب في التعرف على التعاليم المسيحية منه. وكذلك حوالي عام 216م، حين نهب الإمبراطور كاراكلا (Caracalla) مدينة الإسكندرية وأغلق مدارسها واضطهد معلميها وذبحهم، قرر أوريجانوس أن يذهب إلى فلسطين، وهناك رحب به صديقه القديم أليكسندروس أسقف أورشليم، كما رحب به ثيؤكتستوس أسقف قيصرية، اللذان دعياه ليشرح الكتاب المقدس للشعب في حضرتهما. وقد أدى ذلك إلى غضب البابا ديمتريوس السكندري جداً، لأنه حسب عادة الكنيسة المصرية لا يستطيع غير الكاهن أن يعظ في حضرة الأسقف، فأمره بالعودة إلى الإسكندرية سريعاً، فأطاع وعاد[10]، وبدت الأمور تسير كما كانت عليه قبلاً.

ومع بداية حكم إسكندر سيفيروس (۲۲۲م. 225م) أرسلت يوليا مامايا (Julia Mammaea) والدة الإمبراطور حامية عسكرية تستدعي أوريجانوس إلى أنطاكيا ليشرح لها بعض الأسئلة، وقد استجاب للدعوة ثم عاد إلى مدرسته[11]. كما أرسل العلامة أوريجانوس إلى اليونان لضرورة ملحة تتعلق ببعض الشئون الكنسية. وذهب إلى آخائية ليعمل صلحاً، وكان يحمل تفويضاً كتابياً من بطريركه، وفي طريقه عبر بفلسطين، وفي قيصرية سامه أسقفها قساً، حيث بدا للأساقفة أنه لا يليق بمرشد روحي مثل أوريجانوس بلغ أعلى المستويات الروحية والدراسية أن يبقى غير كاهن. وقد أرادوا أيضا أن يتجنبوا المخاطر التي يثيرها البابا ديمتريوس بسماحهم له أن يعظ وهو “علماني” في حضرتهم. وقد اعتبر البابا هذه السيامة أكثر خطأ من التصرف السابق، حاسباً إياها سيامة باطلة لسببين: الأول، أن أوريجانوس قد قبل السيامة من أسقف آخر غير أسقفه، دون أخذ تصريح من الأسقف التابع له، والسبب الثاني أن أوريجانوس كان قد خصى نفسه، وهذا يحرمه من نوال درجة كهنوتية. ولم يحتمل البابا ديمتريوس هذا الموقف فدعا لانعقاد مجمع من الأساقفة والكهنة بالإسكندرية عام ۲۳۱م حيث رفض المجمع القرار السابق وهو بطلان السيامة) مكتفين باستبعاده من التعليم في مصر.

ولم يرض البابا بهذا القرار فدعا مجمعاً من الأساقفة وحدهم عام ۲۳۲م، وقام بإعلان بطلان كهنوته واستبعده من الإسكندرية. وأرسل البابا السكندري القرار إلى كل الإيبارشيات، فدعا بونتياس Pontias أسقف روما مجمعاً أيد فيه القرار، وهكذا فعل كثير من الأساقفة، فيما عدا أساقفة فلسطين والعربية وآخائية وفينيقية وكبادوكيا الذين رفضوا القرار وهكذا اضطر المعلم العظيم أن يهجر المدينة التي ولد وعمل ودرس بها واستقر به المقام في قيصرية فلسطين محتملاً بشجاعة ورباطة جأش رياح التجارب. والجدير بالذكر أنه لا يتوفر لدينا. حتى الآن -أي سند تاريخي يؤكد الرأي القائل بأن أوريجانوس قد تمت محاكمته أمام أي مجمع في تلك الفترة أو أنه قد صدر أي قرار ينص على كونه هرطوقيا. ولكن ما حدث هو أن البابا ديمتريوس قد قام بعمل مجمع مكاني أقر بكون أوريجانوس لم يعد يخدم في كنيسة الإسكندرية حيث أنه خالف النظام المتبع وقبل كهنوتاً بغير إذن أسقفه، أي أنه كان قراراً إدارياً يخص النظام الكنسي المتبع، ولم يحكم عليه بكونه هرطوقياً آنذاك.

وقد اضطر أوريجانوس أن يدافع عن نفسه ضد الاتهامات الخطيرة التي وجهت ضده. فقد أورد روفينوس في كتابه “عن الغش” (De Adulteratione) نبذة طويلة من خطاب كان قد وجهه أوريجانوس إلى أصدقاء له في الإسكندرية يشكو فيه من الملفقين الذين غيروا بعض فقرات من كتبه وشوهوها، ومن الذين نشروا في العالم المسيحي كتباً مزورة ليس من العسير أن نجد فيها ما يستحق السخط. كذلك يعرفنا القديس جيروم بوجود خطاب آخر كتبه أوريجانوس إلى فابيانوس أسقف روما يتهم فيه صديقه أمبروسيوس بأنه قد تسرع ونشر أحد كتبه في وقت غير مناسب وقبل أن يكمله أوريجينيس. كما جاء في مقاله الخامس والعشرين على إنجيل لوقا: “إنه من دواعي سرور أعدائي أن ينسبوا لي آراء لم أكن أتصورها ولا خطرت ببالي”.

وبتشجيع من أسقف قيصرية فلسطين ثيؤكتيستوس، أسس أوريجانوس هناك مدرسة لاهوتية استمرت حتى نياحته وقد رأسها قرابة سبعة عشر عاما من عام ۲۳۲م إلى عام 249م. وقد جذب أوريجانوس تلاميذ عديدين منهم القديس غريغوريوس صانع العجائب وأخوه أثينادوروس، وقد درس التلاميذ في هذه المدرسة فقه اللغة اليونانية والهندسة والفلك ثم الأخلاق والفلسفة ثم أخيراً علم اللاهوت.

وخلال حكم الإمبراطور جورديانوس (حوالي عام 24۰م) دعي أوريجانوس إلى العربية عدة مرات ليتناقش مع الأساقفة وقد أشار المؤرخ يوسيبيوس إلى اثنتين من هذه المناقشات، نذكر منهما أنه في عام 244م انعقد مجمع عربي لمناقشة وجهة نظر الأسقف بيريللوس في شخص الرب يسوع المسيح وقد انعقد هذا المجمع على مستوى واسع وأدين فيه الأسقف بسبب قوله إن الله أقنوم واحد، وقد حاولوا باطلاً إقناعه أن يعود إلى الإيمان المستقيم. وقد أسرع أوريجانوس إلى العربية ونجح في إقناع الأسقف الذي يبدو أنه بعث إليه برسالة شكر، وصار من أكبر المدافعين عنه.

وفي أيام الإمبراطور ديكيوس (249م -251م)، ثار الاضطهاد مرة أخرى، فألقي القبض على أوريجانوس حيث تعرض للتعذيب ووضع في طوق حديدي ثقيل وألقي في السجن الداخلي، وربطت قدماه في المقطرة أياماً كثيرة، وهدد بأن يعدم حرقاً. ولكنه احتمل هذه العذابات بشجاعة، وإن كان لم يمت أثناءها، لكنه مات بعد فترة قصيرة، ربما متأثراً بالآلام التي لحقت به. وقبل أن يموت أرسل إليه البابا السكندري ديونسيوس الذي خلف هيراقليس، رسالة “عن الاستشهاد”، لعله بذلك أراد أن يجدد العلاقة بين العلامة السكندري أوريجانوس وكنيسة الإسكندرية. وفي عام 254م رقد أوريجانوس في مدينة صور في لبنان تقريباً وكان عمره 69 عاماً، تاركاً تراثاً ضخماً من تفاسير الكتاب المقدس، ومقدماً منهجه الرمزي في التفسير، وإن كان قد ترك أيضاً بلبلة شديدة في الكنيسة حول تعاليمه وقد تسببت في انقسامات ومتاعب لا حصر لها حتى بين الرهبان. وقد اهتم مسيحيو صور بجسده اهتماماً عظيماً فدفنوه إزاء المذبح وغطوا قبره بباب من الرخام نقشوا عليه: “هنا يرقد أوريجانوس العظيم”

وينتمي أوريجانوس إلى جماعة القادة الروحيين الذين أسسوا مدارس ولهم أثر واضح على التطورات الفكرية. وقد حاول جاهدا أن يعلي من شأن الإيمان المسيحي بمعرفة منظمة، أي بطريقة علمية على أسس فلسفية. ولكي يكتسب البنية الفلسفية الضرورية لهذا العمل تتلمذ على يد المعلم السكندري الشهير أمونيوس ساكاس. وقد قام بتطبيق المبادئ النظامية للفلسفة اليونانية على التفسير الروحي للكتب المقدسة. ورغم أنه في بعض الأمور كان قد مال عن تعاليم الكنيسة، إلا أنه أثرى الفكر اللاهوتي وأثر كثيراً في مسيرته. ويعزى إلى أوريجينس إدخال التعبيرات اللاهوتية الأساسية مثل: “طبيعة”، “أقنوم”، واحد في ذات الجوهر”، والتي أصبحت بعد ذلك أساس المناقشات اللاهوتية.

وقد امتد تأثير العلامة أوريجانوس إلى آباء القرن الرابع مثل القديس باسيليوس الكبير والقديسين غريغوريوس والقديس ديديموس الضرير وإيفاجريوس البنطي وكثيرين آخرين الذين استقوا من تعاليمه واستخدموا مصطلحاته وأفكاره. ومن شدة تأثير العلامة أوريجانوس وإعجاب الكثيرين به قام القديسان باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي بتجميع “أنثولوجيا” من أعمال أوريجانوس التفسيرية والتي سمياها “فيلوكاليا” أي مقتطفات.

ومن المفارقات الغريبة أن العلامة أوريجانوس قد حرم من بعض المجامع، في حين اعترف بأصدقائه وتلاميذه قديسين مثل القديس غريغوريوس صانع العجائب. وبالمثل سبب العلامة أوريجانوس اعتراضات شديدة واتهم بأنه أذكى نار الهرطقات حتى إن مقالاً مختصراً ينسب للإمبراطور جوستيان (542م -543م) في شكل أمر ملكي يتضمن عشرة حرومات ضد أوريجينيس. وقد قبل هذا الأمر الملكي مجمع القسطنطينية المحلي والبابا فيجيليوس بابا روما، كما حرم مجمع القسطنطينية الخامس (553 م) الأوريجينية تماماً.

كتابات العلامة أوريجانوس

يعد أوريجانوس أحد أكثر معلمي الكنيسة وآبائها كتابة وأغزرهم تأليفاً عبر كل العصور. وقد تساءل القديس جيروم في رسالته إلى باولا بخصوص هذا الشأن قائلاً: “هل يستطيع أحد أن يقرأ كل ما كتبه أوريجينيس؟!” (الرسالة رقم ۳۳). وقد اختلف الكتاب القدامى بخصوص عدد ما كتبه أوريجينيس، فها هو إبيفانيوس يقول إن أوريجانوس كتب حوالي 600 كتاب (باناريون 13، 14)، في حين يؤكد يوسيبيوس القيصري أنه قام في “سيرة بامفيلوس” بعمل حصر شامل لأعمال أوريجانوس التي كانت موجودة ومحفوظة في مكتبة قيصرية فلسطين. وقد قام القديس جيروم بنسخ هذا الحصر الشامل المفقود حالياً والذي يخبرنا بأنه كان يحوي حوالي ۲۰۰۰ كتاب. وهذه الأعداد الكبيرة من الكتب إنما تنم عن جلده واحتماله الشاق في الكتابة الروحية المستمرة والتي بسببها دعي “أدامانتيوس” أي “الماسي” وخالكينتروس” أي “الفولاذي.” ويبدو أن أوريجانوس قد ولد لكي يعظ ولكي يكتب. ومن الواضح أنه كانت لديه الأدوات اللازمة لهذا؛ إذ إنه كان يعرف اللغة اليونانية تمام المعرفة وكذلك كان مطلعاً على الأدب اليوناني الكلاسيكي والنظم الفلسفية القديمة والكتب المقدسة وتاريخ الفكر المسيحي.

وكثيراً ما كان أوريجانوس يدون أفكاره بنفسه عندما كان يتوفر له الوقت لهذا، أو كان يقوم هو بإملاء عظاته ومحاضراته على كتبة يقومون هم بتدوين ما يلقيه عليهم. ولذا غالباً ما نجد أن أعماله تشهد بهذا الأسلوب؛ إذ إنها تتكون من مجموعة من الموضوعات المتفرقة التي كان يلقيها على سامعيه. وبعض الأعمال كانت تعيبها هنات لأنها كانت تحتوي على الكثير من الإطناب والإعادات ونقص الأسلوب المنمق. ونادراً ما كان يجد أوريجانوس الفرصة ليعيد النظر فيما كتبه وأعده الكتبة من ملاحظاتهم المدونة.

وفي عام ۲۲۰م ارتبط بأوريجينيس أمبروسيوس الذي كان قبلا ينتمي إلى بدعة فالنتيانوس ثم انضم إلى العقيدة الأرثوذكسية وصار صديقاً لأوريجينيس وتابعاً له حتى إنه أصبح ناشر أعمال أوريجانوس متكفلاً بكل ما تتطلبه عملية التحرير والنسخ. ومن كثرة إلحاح أمبروسيوس على أوريجانوس لتدوين أعماله ونشرها كان الأخير يشكو من أن أمبروسيوس لا يدعه يستريح ولو قليلا لا أثناء الليل ولا حتى وقت الأكل. ويعتبر أمبروسيوس أقدم ناشر كتب معروف حيث كان يهدف إلى تزويد طلبة كلية اللاهوت السكندرية بالملازم اللازمة ونشر أعمال أوريجانوس على مستوى واسع. ويبدو أن أمبروسيوس كان يتعجل الغرض الثاني حتى إنه كان ينشر خفية أعمال أوريجانوس قبل أن يقوم أوريجانوس نفسه بمراجعتها ليطمئن من جهة خلوها من أية أخطاء واردة.

وقد دون أوريجانوس معظم كتاباته بعد سن الثالثة والعشرين عندما انتقل للعيش في قيصرية فلسطين حوالي عام ۲۱۸م، وبعضها دونه في الإسكندرية، والبعض الثالث أثناء إقامته القصيرة في أثينا تيروس ونيقوميديا. وقد فقد معظم كتابات أوريجانوس وربما يرجع السبب في ذلك إلى فترات. الاضطهاد التي كانت تزداد فيها ملاحقة الكتاب المسيحيين وحرق كتبهم، ولكن الأمر زاد بالنسبة الأوريجينيس نتيجة اتهامه بعد ذلك بالهرطقة.

يعتبر “الهيكسابلا” أهم أعمال أوريجانوس على الإطلاق، فهو عمل نقدي لغوي رائع لنص العهد القديم، أتمه أوريجانوس في قيصرية فلسطين بين عامي 232م و254م، ففي ستة أعمدة متوازية (ومن هنا جاء عنوانه “الهيكسابلا” أي “الكتب الستة” باليونانية) وضع أوريجانوس النصوص التالية:

العمود الأول: النص العبري.

العمود الثاني: النص العبري بأحرف يونانية.

العمود الثالث: ترجمة أكويلا[12].

العمود الرابع: ترجمة سيماخوس[13].

العمود الخامس: الترجمة السبعينية.

العمود السادس: ترجمة ثيودوتيون[14].

وكان أوريجانوس يرى أن التفسير الصحيح للنص المقدس يتطلب نصاً موثوقاً محققاً ناتجاً عن مقارنة بين كل النصوص الأساسية الموجودة. وبهذا العمل يعد العلامة أوريجينيس، حسب ما هو معروف، أول عالم مسيحي يجري دراسة على النص الكتابي. ونجد أن اقتباسات العهد القديم عند أوريجانوس هي من السبعينية. وكان إسهامه الرئيس في علم الكتاب المقدس هو محاولة تأسيس نص مدقق للترجمة السبعينية، وتحديد العلاقات التفسيرية بين اليهود والمسيحيين لأن التلاميذ اليهود كانوا يتناحرون مع زملائهم المسيحيين بخصوص أن النصوص العبرية التي يستخدمها المسيحيون لتأييد آرائهم بشأن شخصية ربنا يسوع المسيح ليست متضمنة في نصوصهم العبرية. ومن أجل هذا الهدف العظيم، الذي يعد أساس علم التدقيق النصي للكتاب المقدس، قرر أوريجانوس أن يدرس هذه النصوص؛ إذ كان قد درس اللغة العبرية قبل ذلك الوقت وكرس ثمانية وعشرين عاما ليجمع مادته من جميع أنحاء العالم المسيحي من حيث المخطوطات المختلفة وكذلك ترجمات السبعينية. وقد بدأ أوريجانوس هذا العمل في مدينة الإسكندرية ولكنه أكمله في قيصرية وأودع في مكتبة هناك، ولم يتم نسخه أبداً؛ إذ فقد ربما في القرن السابع الميلادي ولم يتبق منه سوى شذرات قليلة.

أما عمله “ضد كيلسوس” فيعد من أهم أعمال أوريجانوس الدفاعية وقد حفظ هذا العمل كاملاً في ثمانية كتب. وقد قام أوريجانوس في هذا العمل، بطريقة تستحق الإعجاب وبأدلة كتابية وأسانيد فلسفية، بتفنيد آراء الفيلسوف الأممي كيلسوس التي كان قد نشرها في أول كتاب عدائي وثني منظم ضد المسيحية بعنوان “القول الحقيقي” عام ۱۷۸م. ورغم أن عمل كيلسوس هذا قد فقد إلا أنه بفضل عمل أوريجانوس ضده يمكن جمع حتى ثلاثة أرباعه.

ويعتبر كتاب “عن المبادئ” (أربعة كتب) أكبر عمل نظري شاهد على تربية أوريجانوس اليونانية-المسيحية. وقد سعى أوريجانوس في هذا العمل لتأسيس علم اللاهوت المسيحي على أسس فلسفية، مستخدما البنية النظرية للفلاسفة اليونانيين القدماء. هذا هو العمل الذي اعتبر بعد ذلك خطراً على التعليم المسيحي وأدی إلى إدانة أوريجينيس.

وقد تميز أوريجانوس كمفسر للنصوص الكتابية ولم يأل جهداً في سبيل إتمام هذا العمل؛ ولهذا يعد من أوائل المفسرين وأكثرهم تميزاً في هذا المجال، إذ لم يترك أي جزء من نصوص الكتب المقدسة بدون تفسير بداية من سفر التكوين حتى سفر الرؤيا. وقد استخدم أوريجانوس طريقة التفسير المجازي السكندرية الشهيرة والتي طورها إلى حد المغالاة وكتب بها العديد من التفاسير والعظات. وقد حفظ القليل من هذه التفاسير في الأصل اليوناني ولكن الأغلبية منها قد فقدت أو حفظت على شكل شذرات أو ترجمات باللغة اللاتينية التي قام بها روفينوس.

وتختلف “التعليقات” عن “التفاسير؛ إذ إن التعليقات تعتبر مجرد ملاحظات تفسيرية مختصرة لنصوص من الكتب المقدسة صعبة الفهم. ولم يتبق من مثل هذه التعليقات إلا النزر اليسير.

أما “العظات” فقد ظهرت في مرحلة لاحقة في حياة أوريجينيس؛ إذ سمح لكتبة أن يقوموا بتدوين عظاته منذ عام 245م تقريباً. وكانت عظات أوريجانوس تلقى على القراءات اليومية في الكنيسة أو على أجزاء أخرى منتخبة من الكتب المقدسة ومنتقاة بقصد زرع مبادئ الأخلاق وتقوية إيمان الشباب المسيحي، ولهذا جاءت في شكل أخلاقي وتفسير روحي أكثر منها مناقشة الموضوعات اللاهوتية.

ويبقى أوريجانوس بشخصيته المحيرة؛ ولكنه رغم كل شيء هو شخصية مسيحية فذة، عالية الأخلاق، ومتعددة المواهب ويعتبر بحق رائداً وعالماً وفيلسوفاً ومعلماً جريئاً ظهر في زمن لم يكن فيه التعبير عن الإيمان قد وصل إلى كمال نضجه.

ونعيد هنا ما ذكرناه في مقدمة كتابنا “القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد. الدفاعان والحوار مع تريفون ونصوص أخرى” وهو أننا حين نحلل الفكر اللاهوتي لآباء القرون الثلاثة الأولى ونخص هنا أوريجانوس بالتحديد ينبغي أن نتذكر أنه ليس لدينا تصور كامل وشامل لتعليمه عن الإيمان المسيحي لأن نسخ كتاباته الأصلية قد فقدت تماماً، بل وقد اشتكي هو نفسه من تحريف بعض أفكاره والذي تم في حياته، ولا يمكن للنصوص المتوفرة لدينا أن تعطي صورة جدية أو كاملة عن الفكر اللاهوتي له. والنقطة الأخرى التي يجب أيضا أخذها في الاعتبار عند التعامل مع كتاباته أن الشرح اللاهوتي للإيمان في القرن الثالث كان لا يزال في مهده، كما أن التعبيرات اللاهوتية لم تكن قد صيغت بشكل محدد بعد، ولم يكن هو-فيما ذكره من أمور لاهوتية-يعارض فكراً لاهوتياً مستقراً من قبل في الكنيسة بل كان يقدم محاولة جادة. وإن جانبها الصواب في بعض نقاط. لشرح الإيمان، وفي هذا تكمن ريادته كما سبق القول. لذا فنحن عندما نقرأ لأوريجينيس يجب أن نتعامل مع أفكاره بطريقة تتناسب مع الظروف والملابسات الخاصة بزمنه والتي تختلف عن الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع تعاليم الآباء الذين جاءوا بعده، مثل القديس أثناسيوس والقديس كيرلس. وفي الحقيقة يكون من الخطأ بل والظلم أن نقوم بتقييم الفكر اللاهوتي لأوريجينيس على خلفية الفكر اللاهوتي الذي اكتمل نضوجه في الكنيسة في القرن الرابع.

ومن هذا المنطلق قام مركز باناريون للتراث الآبائي بترجمة ونشر الكتاب الأول للعلامة أوريجانوس “عظات على سفر التكوين” ضمن سلسلة:

“النصوص المسيحية في العصور الأولى”

وهذا الكتاب هو ترجمة عربية عن اللغة الفرنسية من سلسلة “المصادر المسيحية” (Sources Chrétiennes) المجلد ۷م، التي تصدر بمدينة ليون بفرنسا. ومن الجدير بالذكر أنه بعد المراجعة من اللغة الفرنسية تمت مراجعة الترجمة العربية مرة أخرى وضبطها على الترجمة اللاتينية التي تمت عنها الترجمة الفرنسية.

نسأل الله أن يبارك في هذا العمل.

وللثالوث القدوس المجد والإكرام والسجود الآن وإلى الأبد آمين.

الناشر

۳۰ بابه ۱۷۳۲ش. 10 نوفمبر 2015م

 تذكار ظهور رأس القديس مارمرقس الإنجيلي

[1] قام دكتور سامح فاروق حنين بإعداد هذه المقدمة لمركز باناريون للتراث الآبائي.

[2] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، 6: ۲: ۱۲

[3] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۲، الفقرة 8).

[4] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۱۹، الفقرة 7).

[5] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۲، الفقرة ۱۰).

[6] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل 6).

[7] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۲، الفقرة 6).

[8] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۲، الفقرة ۱۰).

[9] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۱۰).

[10] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۱۹، الفقرة ۱۷).

[11] يوسيبيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، (الكتاب 6، الفصل ۲۱، الفقرة 3-4).

[12] ترجمة أكويلا (Aquila) الذي يقال إنه كان يهوديا دخيلا بنطي الجنس، وقام بهذه الترجمة في حوالي عام ۱۳۰م. ويقال إن الدافع له للقيام بهذه الترجمة هو مقاومة ما كان للسبعينية من نفوذ، وبخاصة في استخدام المسيحيين لها في حوارهم مع اليهود، وكذلك إعادة ترجمة الفصول التي كان يستشهد بها المسيحيون من العهد القديم، ويطبقونها على الرب يسوع المسيح. وكان يغلب على ترجمته طابع الدقة الذي قد يصل إلى حد الترجمة الحرفية. ولا شك في أن تمشك أكويلا بالترجمة الحرفية جعل ترجمته مرجعا هاما في تحقيق النصوص، ولكن لم يصلنا منها سوى شذرات متفرقة في الهيكسابلا.

[13] ترجمة سيماخوس (Symmachus) قد ظهرت نحو نهاية القرن الثاني الميلادي بعد ترجمة أكويلا، ويقال إنه كان هرطوقيا من الأبيونيين، ويبدو أن ترجمته كانت يونانية فصيحة ولكن متحررة، ولكن لم يصلنا منها سوى شذرات متفرقة في الهيكسابلا أيضاً.

[14] ترجمة ثيودوتیون (Theodotion) الذي كان يهوديا نخيط من أفسس وهرطوقيا من الأبيونيين، وقد ظهرت ترجمته أيضا نحو منتصف القرن الثاني الميلادي. وكانت تلك الترجمة مبنية، في أغلب أجزائها، على الترجمة السبعينية، حيث يبدو أنه قد أجرى عليها بعض التنقيح على أساس النص العبري. ولم تكن ترجمته حرفية مثل ترجمة أكويلا، وفي نفس الوقت لم تكن متحررة مثل ترجمة سيماخوس، وكانت معرفته بالعبرية محدودة، ولم يكن في مقدوره القيام بالترجمة بدون وجود السبعينية.