مُترجَم

المسيا/المسيح – بن ويذرينجتون الثالث

المسيا/المسيح – بن ويذرينغتون الثالث

 

Ben Witherington III is an American New Testament scholar. Witherington is Professor of New Testament Interpretation at Asbury Theological Seminary in Wilmore, Kentucky, and an ordained pastor in the United Methodist Church.
 
 
إنّ عبارة المسيح والآتية من الكلمة العبرية “مشيَخ” هي في الواقع قليلة الإستعمال جداً في العهد القديم، لكنّ ذلك لا يعني أنّ المبدأ غير موجود في العهد القديم. فهو يظهر في أماكن وطرق مفاجئة هناك. أمّا الكلمة فتعني بشكل بسيط “الممسوح” وقد تنطبق في الواقع على النبي والكاهن أو الملك الذين جميعهم يُمْسَحُون   بالزيت إجمالا لدى تسلّمهم مهامهم الملوكية أو الدينيّة. هكذا فمن الممكن الإشارة إلى المزمور الثاني (عدد ٢) حيث يُدعى الملك الداودي، وفي هذه الحال داود نفسه، الممسوح من الله مباشرة. هذا وإن إعتبار المِسْحَة على أنّها من الله (ليس فقط من قبل النبي صموئيل مثلاً) لهو دليل على وجود إذن إلهي وقوة وشرعية تخوّل الممسوح القيام بعمل خاص ومعيّن. وهكذا فمن المفاجئ لكن ليس بالضرورة غير متوقّع أن يدعى قورش وهو الملك الفارسي الوثني “مسيحي” في إشعياء ٤٥׃١لأنّه كان من المفترض به أن يطلق شعب الله في الحرية ويرجعهم إلى أرضهم. ويتّضح من هذا النصّ أنّ عبارة المسيح لم تكن بعد كلمة تقنيّة تستخدم لشخصيّة يهوديّة مِسْيَانيّة فقط. فإنّنا في الحقيقة لا نجد هذا النوع من الإستخدام التقني للعبارة في العهد القديم.

ومع ذلك فإنّ الأفكار المِسْيَانيّة تطّورت في الديانة اليهودية الأولى في مرحلة ما بين العهدين كما في زمن المسيح؛ وبإستطاعتنا أن ننظر إلى النصوص من مثل مزمور سليمان ١٧ ونرى أنّ شخص المسيح المحارب والذي يتبع نموذج داود متوقّع من قبل بعضهم، وربما من قبل الكثيرين من اليهود الأوائل. وبما أنّ يسوع لم ينظر لنفسه ولا لدوره خلال خدمته الأرضيّة بهذا الشكل، لذلك يبدو في معظم الأحيان وكأنّ يسوع يتحاشى إستخدام عبارة المسيح للإشارة إلى نفسه، مع أنّه قَبِلَ باللقب عندما اعلنه آخرون عنه – سواء أتى ذلك من بطرس تلميذه أو من قيافا عدوّه. سوف ننظر بعد قليل إلى النصوص المتصلة بالموضوع والتي تحدث فيها هذان الشخصان عن المسيح، لكن لنلتفت الآن قليلاً إلى الحوار الموجود في مرقس ١٢׃٣٥-٤٠.

يبدأ الحديث في مرقس ١٢׃٣٥-٤٠ بتوجيه يسوع سؤالاً يفتح الموضوع. وما يثير الانتباه هو أنّ السؤال المطروح يعكس النظرة السائدة لدى مختلف الخبراء الدينيّين يومها، وبشكل خاص عند معلّمي التوراة والناموس. ويظهر أنّ هؤلاء كانوا يتبعون الرأي القائل بأنّ المسيح يجب أن يكون إبناً لداود. وقد لا يفاجئنا هذا الأمرفي ضوء نصوص مثل ٢ صموئيل ٧ أدّت إلى توقّعات، على الأقل في اليهوديّة، بإتيان المسيح من مقاطعة اليهوديّة ومجيئه ملكاً محارباً على نمط داود. وفي مثل هذه الحال سيأتي ويقوم بتطهير أورشليم من سيطرة الرومان ويملك فيها عِوضاً عنهم. لكنّ يسوع لم يكن ليتبع هذا النوع من السلوك، وبالتالي إختار التشديد على أنّ هؤلاء المعلّمين هم بحاجة ماسّة لأن يفكّروا على مستويات أعلى، مع أنّه لم يرفض إحتمال كون المسيح ابناً لداود.  

وقد إقتبس يسوع أمام هؤلاء المعملّمين المزمور ١١٠׃١ مستخدماً بعض الحريّة في التفسير. وقد أشار يسوع بشكل عابر، مستنداً على تقليد شائع بأنّ داود نفسه كتب هذا المزمور، إلى أن داود نفسه يدعو شخص المسيح “ربّاً”، وهذا يعني أنّه أرفع مستوى من داود، أو ربما كان موجوداً حتى في زمن داود! ففي الجملة التالية، “قال الربّ لربي” الربّ الثاني هو المسيح في حين أنّ الأوّل هو الله الآب. وإذ أدهش سامعيه تماماً، سأل ببراءة إن كان داود يدعوه “ربّاً” فكيف يكون ابن داود؟ بعد ذلك لم نسمع جواباً ولا تعليقاً من المعلّمين. فقد وقفوا مشدوهين. أمّا الغرض الذي من أجله أجازهم في هذا التدريب فهو ليكشف لهم أن تصنيفاتهم المِسْيَانيّة كانت ضيقة وأنّهم متزمّتون فكرياً. فالمسيح أعظم من أن يكون مجرّد شخص آخر من سلالة داود الطويلة. وهذا يأتي بنا إلى بطرس وقيافا ثانية.

إنّ مرقس ٨׃٢٧-٣٠ هو مقطع جوهري تدور حوله قصة السرد المرقسيّة حيث تثبَّت هويّة يسوع التي أعلنت في مرقس ١׃١ لأوّل مرّة من قبل أحد تلامِذة يسوع. وإنّ ظروف الإعلان هذا هي هامّة أيضاً. فقيصريّة فيليبي هي خارج الجليل واليهوديّة، وهي بالتالي في الأراضي التابعة لهيرودس فيليبس في المدينة التي أعاد تسميتها لتمجيد ذاته والقيصر. تلك كانت المدينة القديمة المسماة بانياس والتي إشتهرت بتماثيلها المختلفة وآلهتها الوثنية المعروضة في أماكن متعددة منها. بالإضافة إلى ذلك كان فيها تمثال للقيصر المدعو “ابن الآلهة” كجزء من عبادة الأباطرة. وقد إختار يسوع في هذا المكان بالذات أن يسأل تلاميذه من يظنّون أنّه هو. فهنا على الأقل من غير المتوقّع أن يُسَاء فهم الإعلان بأنّ يسوع هو المسيح اليهودي كما هو محتمل في اليهودية حيث النماذج الداوديّة للمسيح مألوفة (أنظر مرقس ١٢׃٣٥-٤٠ ولاحظ بأنّ الحديث يجري في اليهودية).

وبالرغم من ذلك فقد أساء التلاميذ فهم يسوع. أمّا بطرس فكان على صواب عندما أكّد بأنّ يسوع هو المسيح اليهودي، لكنّ يسوع سرعان ما حذّره والآخرين معه بأن لا يقولوا لأحد، لأن الآخرين سيخرجون مفاهيمهم الخاصة بشأن الكلمة ويؤولونها حسب نزعاتهم. فكلمة المشيَخ العبرية مشحونة بالمعاني وهي بالحقيقة كلمة مسيّسة جدّاً ولم يكن يسوع يشاء أن يتابع برامج الملك داود وعنفه. فهو قد جاء لكي يخلّص ويشفي ويحب ويصنع رحمة – أي كان عنده برنامجاً مختلفا تماماً. ولنلاحظ أنّ يسوع يثير لأوّل مرّة في مرقس ٨׃٣١-٣٢ موضوع آلامه العتيدة الصعب. فهذا الأمر كان غير قابل للفهم بالنسبة لبطرس والآخرين، بالدرجة الأولى لأنّهم لم يكونوا يتوقّعون مسيحاً متألّماً، بل كانوا ينتظرون مسيحاً منتصراً. ويبدو أنّ اليهود قبل يسوع، بالرغم من غرابة الأمر، لم يفهموا إشعياء ٥٣ على أنّه إشارة إلى المسيح. لكنّهم فهموا النص بأنّه يشير إلى الأمّة الإسرائيليّة بكاملها، إذ تدعى “عبدي” في إشعياء ٤٠ والنصوص التي بعدها، وهكذا توقّعوا بأن تتألّم إسرائيل كأمّة من أجل خطايا العالم.

وفي ضوء قلة إستخدام عبارة المسيح من قبل يسوع نفسه، من المهم لنا أن نسأل كيف أصبحت هذه العبارة (الواردة في اليونانيّةchristos وفي اللاتينيةchristus) تستخدم ككلمة تقنية وغدت بالتالي شبه اسم ثانٍ ليسوع. يجب أن تقرأ العبارة تقنياً “يسوع المسيح،” لكنّها غالباً ما تَرِد على شكل “يسوع مسيح” (Jesus Christ). فلماذا إختار كتبة العهد الجديد (الذين معظمهم من أتباع يسوع اليهود، بإستثناء لوقا على الأرجح الذي قد يكون أمميّا) أن يستخدموا غالباً عبارة المسيح للإشارة إلى يسوع في حين أنّ يسوع نفسه لم يستخدمها كثيراً. إنّ أحد الأسباب بالطبع هو رغبتهم في التشديد على أنّ يسوع هو المسيح اليهودي، مع أنّ غالبيّة اليهود في القرن الأوّل الميلادي رفضوا هذا الاعتراف. لكن هناك سبب آخر وهو التالي.

عندما صلب المسيح، صُلب بالتحديد كملك لليهود، ولم تكن العبارات المعلّقة على الصليب “المسيح” باللّغات الثلاثة (اليونانية والعبرية واللاتينية). لكن كانت عبارة “ملك” معلّقة فوقه في لغات ثلاثة (rexmelek,basileus). كانت فكرة كون يسوع ملكاً لليهود أمرً مليئاً بالمعاني السياسيّة وتحدّيا واضحاً للسلطات. فلا يهودي غير مصرّح له من القيصر يقدر أن يعلن نفسه ملكاً لليهود. وقد حُكِمَ على يسوع بالصلب بسبب هذا الذنب بالتحديد، لأنّ ذلك كان يعتبر خيانة في الإمبراطورية الرومانيّة. فمن غير المفاجئ إذاً أن نرى بولس والباقين، وهم يكرزون بيسوع في العالم اليوناني الروماني، أن يستخدموا العبارة الأقل إثارة للحساسيّة السياسيّة ويختاروا كلمة المسيح كاسم ثانٍ ليسوع. لم تكن هذه العبارة لتثير مباشرة الاعتراضات نفسها التي تثار لدى التعريف بيسوع على أنّه ملك يهودي. بشكل بسيط، كان الأمر لياقة دفاعيّة جيّدة.

من الجيد لنا أن نشدد ونحن نقترب من ختام هذا الشرح على أنّ عبارة “المسيح المصلوب” كانت لتنظر من قبل اليهود الأوائل على أنّها تحوي النقيضين. فكيف يمكن لمسيح الله أن ينتهي به المطاف على الصليب؟ أوليس الصليب إشارة إلى أنّ المصلوب عليه ملعون من قبل الله؟ أيعقل أن يكون الله قد لعن الشخص المُبَارَكُ منه، والإنسان الذي مَسَحَهُ؟ فمن غير المستغرب إذا أن يقول بولس لاحقا لليهود أن الكرازة بالمسيح مصلوباً هي لليهود عثرة (أنظر ١ كور ١: ٢٣). لقد طلبوا مسيحاً منتصراً لا مسيحاً مصلوباً وكان من الصعب عليهم أن يؤمنوا بأنّ الله يمكن أن يسمح للممسوح منه أن يقاسي موتاً مخزياً كهذا. يتّضح أنّ يسوع عندما تحدث عن ابن الإنسان المتألم، بالحقيقة ابن الإنسان أو خادم الله الذي تحت الإعدام، كان يدخل مفهوماً جديدا على الفكر اليهودي. فيسوع لم يكن يريد أنّ يحدّد الآخرون هويّته، وهكذا نأى عن إستخدام العبارات المألوفة مثل المشيَخ والتي كانت مفاهيمها مغلوطة مقارنة مع الخدمة التي أتى يسوع ليتمّمها. وإلى يومنا هذا ما تزال فكرة المسيح المصلوب صاعقة بالنسبة لكثيرين بمن فيهم المسلمين على سبيل المثال، والذين يؤمنون بأنّ الله إستبدل المسيح بيهوذا في آخر لحظات صلب يسوع لأنه لا يمكن لله أن يسمح لنبيّه القدوس بالموت بهذه الطريقة. لكن بالنسبة ليسوع فطريق الصليب حدّدت من جديد بوضوح وإلى الأبد ما معنى المسيح. للمزيد من البحث حول الموضوع راجع،      Witherington, The Christology of Jesus (Fortress Press, 1990).