عام

البحث عن الضال _ كيرلس السكندري.

البحث عن الضال

 

ق. كيرلس الإسكندري

 

 

كيف كان يمكن أن يخلُص العالم وهو ممسوك في شباك الخطية، ومذنبا بتهمة الشر، وخاضعًا لسيد قاسٍ أي الشيطان؟ 

 

هل يكون ذلك بفرض العقاب عليه لسقوطه في الخطية والتعدي؟!

 

أم بالأحرى عن طريق مساعدته. إذ أن الله طويل الأناة ومستعد أن يغطّي بالنسيان على تلك الأشياء التي تعدّى فيها الإنسان، وأن يجدِّد إلى قداسة الحياة أولئك الذين لم يعرفوا كيف يعيشون باستقامة.

 

 أخبرني إذن أيها الفريسي لماذا تتذّمر لأن المسيح لم يستنكف أن يأكل مع العشارين والخطاة، بل هيأ لهم عن قصد هذه الوسيلة للخلاص؟ 

فلكي يُخلِّص الإنسان أخلى نفسه، وصار مثلنا في الشكل، وارتدى لباس فقرنا البشرّي. فهل تلوم إذن تدبير الابن الوحيد في الجسد؟ وهل تجد خطأ في إنزال نفسه من السماء وهو الذي يفوق الكّل؟ إنك لا تدع التجسُّد نفسه بدون انتقاد! ومع ذلك فان الأنبياء القدِّيسين يتعجّبون من جمال التدبير الإلهي في هذا السر. فداود النبي يعلن في المزامير: ” رتلوا بفهم، فإن الرب ملك على كل الأمم” (مز 7:46 س) . وحبقوق النبي يقول: “يا رب قد سمعت خبرك فجزعت، ونظرت إلى أعمالك فاندهشت” (حب 2:3 س). فكيف تجرؤ أنت أن تفحص أعماله، وقد كان أحرى بك أن تُمجِّدها؟

هل تريد أن يكون رب الكّل صارماً عنيداً أم بالأحرى يكون صالحاً وشفوقاً بالبشر؟ 

فالأسرة البشرّية قد ضلّت طريقها، وقد ابتعدت عن يد رئيس الرعاة، لذلك فإن الذي يُطْعِم القطعان السماوية، صار مثلنا لكي يقودنا ويجعلنا نحن أيضاً نسكن في مساكنه، لكي يوحِّدنا مع أولئك الذين لم يضلوا أبداً، ويطرد منا الوحش المفترس، ويدفع عنا أذى الشياطين النجسين، الذين هم كعصابة لصوص شريرة قد أضلوا كل الذين تحت السماء.

 لذلك، فقد فتّش عن الضال، ولكي يبيّن أن تصيّد الأخطاء من اليهود بخصوص هذا الأمر باطل، قال لهم: “أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحدا منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده، وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحا”. ويقول إنه يفرح به أكثر من الذين لم يضّلوا. 

افهموا من هذا ـ يا أحبائي ـ الحدود المتسعة لمملكة المخلِّص، وجموع رعاياه الغفيرة التي تفوق الحصر، وخطة تدبيره الحكيمة من نحونا. فإنه يقول إن عدد الخراف مائة، وبذلك يجعل عدد رعاياه يصل إلى عدد كامل ومتكامل معا. فان العدد مئة هو عدد كامل ويتكّون من عشرة عشرات. وقد تعلّمنا أيضا من الأسفار الإلهية الموحى بها أن ألوف ألوف يخدمون أمام الله، وربوات وربوات وقوف حول عرشه السامي. لذلك، فالخراف هي مائة، وقد ضلّ واحد منها، وأعني به العائلة البشريّة التي على الأرض، والتي جاء رئيس رعاة الجميع يبحث عنها، تاركاً التسعة والتسعين في البرية، فهل لأنه ليس عنده اهتمام بالكثيرين قد أظهر الرحمة للواحد فقط؟ كلا، فان ذلك ليس لعدم اهتمامه بالكثيرين، فان هذا مستحيل، ولكن بسبب أنهم في أمان وهم محروسون بيده المقتدرة؛ لذلك من الصوابأن تظهر الرحمة من نحو ذلك الذي ضلَّ لكي لا ينقص شيء من العدد الغفير الكامل، بل إذ يردّ الذي ضلَّ فإن المئة تسترد جمالها.

لذلك، فالبحث عن الذي ضل ليس احتقارًا لأولئك الذين لم يضلوا، بل هو فعل نعمة ورحمة وحب للجنس البشرّى، وهو عمل لائق بالطبيعة العالية الفائقة، لكي تمنحه لخلائقها الساقطة. 

بل هيّا بنا لنفحص الأمر بمساعدة مثال آخر أيضا، لكي ما نُظهِر في كل الأوقات شفقة المسيح مخلّصنا جميعاً، تلك الشفقة التي لا تُجارى. فلنفترض أنه في بيت واحد يوجد أكثر من ساكن، ويحدث أن أحدهم يسقط مريضاً. فلمن يُستدعى الأطباء المعالجون؟ أليس لذلك الذي سقط مريضا؟ ولكن استدعاء الأطباء للمريض لا يعتبر إهمالاً لبقية سكان البيت، والأطباء يفيدون المريض ـ بمهارتهم بحسب ما يحتاجه من وقت وعناية. ولذلك فبنفس الطريقة كان جديراً بالله ــ بل وجديراً جداً ــ الذي يضبط الكّل أن يمد يده المخلِّصة لذلك الذي ضلَّ بعيدًا. وقد اقتنص الوحش المفترس الفرصة، وقاد العائلة البشرّية على الأرض إلى الضلال بعيدًا عن الراعي، وأسرع بها إلى كل أنواع البؤس. 

أمَّا رئيس الرعاة فقد خلَّص العائلة البشرّية، لأنه بَحَث عن ذلك الذي ضلَّ الطريق، وأسّس لنا حظيرة حصينة لا تُهاجَم من الوحوش المفترسة واللصوص، وأعني بها الكنيسة، التي يمكن أن نقول في وصفها بكلمات النبي: ” انظروا فإن لنا مدينة قوية وحصينة، ويجعل لنا الخلاص أسوارًا ومترسة” (إش 1:26 س).

أما معنى المَثَل الآخر التالي فهو مشابه للأول تماماً، والذي فيه يقول إنَّ ” امرأة كان لها عشرة دراهم أضاعت درهمًا واحدًا، وأنها أوقدت سراجًا ووجدته، وأنها فرحت به كثيرًا، وجعلته سببًا لفرح خاص”. كذلك فمن المَثَل الأول الذي فيه يشير الخروف الضَّال إلى العائلة البشرّية، نتعلَّم، أننا نحن خاصة الله فوق الكّل، فانه هو الذي أوجد الأشياء غير الموجودة. لأنه ” هو صنعنا، وليس نحن ” كما هو مكتوب “وهو إلهنا، ونحن شعب مرعاه وغنم يده” (مز 3:100). وفى المَثَل الثاني الذي فيه يُشار إلى المفقود بدرهم، وأيضا هذا المفقود هو واحد من عشرة، أي من عدد كامل، ومن جملة مبلغ كامل في الحساب ـ لأن الرقم عشرة هو عدد كامل أيضا، وهو نهاية مجموعة الأعداد من واحد إلى عشرة ـ فهذا يوضِّح، أننا على صورة الله ومثاله، أي من الله الذي هو فوق الكّل.

 

لأن الدرهم مختوم عليها الصورة الملكّية.  فنحن الذين سقطنا، وفُقدنا، قد وَجَدنا المسيح، وتم تغييرنا بالقداسة والبّر إلى صورته، لذا كتب بولس الرسول: “ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2كو 18:3). وهو يرسل إلى الغلاطيين أيضا قائلا لهم: ” يا أولادي الذين أتمخض بكم إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم” (غل 9:4).

 

إذن فقد حدث البحث والتفتيش عن ذلك الذي فُقد، ومن أجل ذلك أوقَدَت المرأة سراجاً، وكما قلت إننا قد وُجدنا بواسطة حكمة الله الآب ــ أي الابن ـ وذلك حينما أشرق علينا النور الإلهي والعقلي، وأشرقت الشمس، ” وطلع كوكب الصبح وانفجر النهار” حسب الكتب (2بط 19:1). فإن الله قد قال أيضا بواسطة أحد الأنبياء الذين تنبأوا عن المسيح: “بري يقترب سريعًا، وتظهر رحمتي، ويتقّد خلاصي كمصباح” (إش 1:62 س). وهو يقول عن نفسه مرّة:  “أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشى في الظلمة، بل يكون له نور الحياة” (يو 46:12).

 

إذن فإن الذي فُقد قد خَلُص بواسطة النور، وكان هناك فرح بين القوات العلّوية. لأنهم يفرحون بخاطئ يتوب، كما علّمنا الذي يعرف جميع الأشياء. لذلك فإن كانوا يفرحون معاً ـ متناغمين مع القصد الإلهي ـ بواحد فقط قد خَلُص، ويمجِّدون رحمة المخلص بتسابيح لا تنقطع، فبأي فرح عظيم يمتلئون حينما يَخلُص جميع الذين تحت السماء، ويُدعون للإيمان بالمسيح ويعترفون بالحق، ويخلعون أدناس الخطية، وتتحرّر رقابهم من رباطات الموت، ويُحرَّرون من اللوم أعني لوم الضلال والسقوط! فإننا نحصل على جميع هذه الأشياء في المسيح، الذي به وله من الله أبيه التسبيح والسيادة مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

 

 

 

المرجع: تفسير إنجيل لوقا، للقديس كيرلس الإسكندري، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، مركز دراسات الآباء.

 

Reference: Cyril of Alexandria, Homilies on Luke, Oxford