آبائيات

العظة الأولى للقديس مقاريوس الكبير – النفس عرش الله وهو قائدها – د. نصحى عبد الشهيد

عظات القديس مقاريوس الكبير - د. نصحى عبد الشهيد - بيت التكريس لخدمة الكرازة

العظة الأولى للقديس مقاريوس الكبير – النفس عرش الله وهو قائدها – د. نصحى عبد الشهيد

العظة الأولى للقديس مقاريوس الكبير - النفس عرش الله وهو قائدها - د. نصحى عبد الشهيد
العظة الأولى للقديس مقاريوس الكبير – النفس عرش الله وهو قائدها – د. نصحى عبد الشهيد

العظة الأولى للقديس مقاريوس الكبير – النفس عرش الله وهو قائدها – د. نصحى عبد الشهيد

عظات القديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد – بيت التكريس لخدمة الكرازة

“تفسير مجازي للرؤيا الموصوفة في سفر حزقيال النبي”

يقص حزقيال النبي المبارك، الرؤيا المجيدة الملهمة التي رآها، ووصفه لهذه الرؤيا يبيّن أنها مليئة بالأسرار التي لا يُنطق بها.

لقد رأى مركبة[1] الشاروبيم وهي عبارة عن أربعة كائنات روحانية حيَّة، لكل منها أربعة أوجه، واحد منها وجه أسد، وآخر وجه نسر، وآخر وجه ثور، والرابع وجه إنسان. ولكل وجه أجنحة بحيث لا توجد أجزاء خلفية لأي واحد منهم، وظهورهم مملوءة عيونًا، وكذلك بطونهم مشحونة ومزدحمة بالعيون، وليس فيهم أي جزء لم يكن مملوءًا عيونًا. وكان أيضًا لكل وجه بكرات، بكرة في وسط بكرة وكان الروح في البكرات.

ورأى حزقيال منظر شبه إنسان قدميه كمنظر حجر العقيق (الياقوت) الأزرق. ومركبة الشاروبيم والكائنات الحيَّة كانت تحمل الرب الذي جلس فوقهم. وحيثما شاء أن يسير فإنه يسير والوجه إلى الأمام. ورأى تحت الشاروبيم كمثل يد إنسان تسند وتحمل.

وهذا الذي رآه النبي كان في جوهره حقيقيًا وأكيدًا، ولكنه يشير كظل مسبق إلى شيء آخر سرّي وإلهي- السر المكتوم بالحقيقة منذ الدهور ومنذ الأجيال (كو 1: 26)، ولكنه أُظهر في الأزمنة الأخيرة (1 بط 1: 10) بظهور المسيح، فإن السرّ الذي رآه هو سرّ النفس التي كانت ستستقبل ربها وتصير هي ذاتها عرشًا لمجده (مت 25: 31).

لأن النفس التي تتمتع بامتياز الاشتراك في روح ونور الله وتتشرب بأشعة جمال مجده غير الموصوف- وهو الذي هيأها لتكون كرسيًا ومسكنًا له- فإنها تصير كلها نورًا وكلها عينًا! ولا يكون فيها جزءًا غير مملوء بعيون النور الروحانيّة. أي ليس فيها جزءًا مظلمًا بل تصير بكليتها نورًا وروحًا، وتمتليء كلها عيونًا، فلا يكون لها جزءًا خلفي بل في كل اتجاه يكون وجهها إلى الأمام بواسطة الجمال الذي يفوق التعبير الذي لمجد نور المسيح الجالس والراكب عليها.

وكما أن الشمس هي بكليتها ذات شبه واحد، بدون أي جزء من الخلف أو من أسفل، بل هي مكسوة بالنور من كل ناحية، وهي بالحقيقة كلها نور، بدون اختلاف بين أجزائها، أو كما أن النار، أي نفس نور النار، هي متشابهة كلها، وليس فيها أول أو آخر، أو أكبر أو أصغر، هكذا أيضاً النفس التي تتشبع تمامًا بالجمال الذي لا يُوصف، جمال مجد نور وجه المسيح وتكون في شركة تامة مع الروح القدس وتنال الامتياز بأن تكون محل سكن الله وعرشًا له، فإنها تصير كلها عينًا، وكلها نورًا، وكلها وجهًا، وكلها مجدًا، وكلها روحًا، والمسيح الذي يقودها، ويرشدها، ويحملها، ويسندها، هو الذي يصنعها ويجعلها هكذا وينعم عليها ويزينها هكذا بالجمال الروحاني، لأن الكتاب يقول: ويد إنسان كانت تحت الشاروبيم[2] لأنه هو ذاك الذي يركب عليها ويوجهها.

الشاروبيم رمز لقوى النفس:

والكائنات الحيَّة الأربع التي حملت المركبة إنما كانت رمزًا للملكات (أي القوى) الحاكمة للنفس. فكما أن النسر هو ملك الطيور والأسد ملك الوحوش الضارية، والثور ملك الحيوانات والبهائم، والإنسان ملك المخلوقات عمومًا؛ هكذا النفس أيضًا لها ملكاتها الحاكمة. وهذه الملكات هي الإرادة، والضمير، والعقل، وملكة الحب. فهذه الملكات تضبط مركبة النفس، وعليها يستريح الله. وبحسب تفسير آخر فإن الرمز يشير إلى كنيسة القديسين في السماء.

فكما يُقال هنا إن الكائنات الحيَّة كانت مرتفعة جدًا، ومملوءة عيونًا وأنه لم يستطع أحد أن يدرك عدد العيون أو الارتفاع، لأننا لم نُعطَ معرفة، وكما أنه، قد أُعطي لجميع الناس، فيما يخص نجوم السماء، أن ينظروا النجوم ويتعجبوا منها، ولكن لم يُعطَ لهم أن يعرفوا ويدركوا عددها، وكذلك هو الحال مع نباتات الأرض، التمتع بها أُعطي للجميع، ولكن مستحيل أن يعرف أحد عددها، فهكذا أيضًا الحال فيما يخص كنيسة القديسين في السماء. فالدخول إليها والتمتع بها قد أُعطي لكل الذين يرغبون ويجاهدون في طلبها، أما كيفية رؤية وإدراك العدد الذي فيها، فهذا خاص بمعرفة الله وحده.

فالراكب إذن تنقله وتحمله مركبة أو عرش الكائنات الحيَّة التي كلها عيونًا، أو بمعنى آخر تحمله النفس التي أصبحت عرشًا له وكرسيًا، وهي الآن عين ونور. إنه يصعد عليها ويحكمها بزمام الروح ويقودها بحسب فكره هو. وكما أن الكائنات الروحانيّة الحيَّة لم تذهب إلى حيث شاءت بل إلى حيث يعرف ويشاء ذاك الذي يجلس عليها ويوجهها، هكذا الحال هنا، فإنه هو نفسه الذي يمسك الزمام ويقود قوى النفس بروحه، حينما تتجه للسير إلى السماء، فهي تسير حسب قيادته وليس بحسب مشيئتها الخاصة.

فأحيانًا يطرح الجسد، ويقود النفس ويأخذها بالفكر إلى السماء، وأحيانًا- حينما يشاء هو- يأتي بها للعمل في الجسد وشئونه، وأحيانًا- متى شاء- يأتي بها إلى أقاصي الأرض ويكشف للنفس أسرارًا بلا حجاب. آه، يا لسموه وصلاحه، ذلك القائد الحقيقي الوحيد (للنفس)!. وبنفس الطريقة، فإن أجسادنا أيضًا ستنال الأمتياز في القيامة، بعد أن تكون النفس قد سبقت وتمجّدت منذ الآن على الأرض وامتزجت مع الروح في الحياة الحاضرة.

أنتم نور العالم:

وأما أن نفوس الأبرار تصير نورًا سماويًا، فهذا هو ما أعلنه الرب للرسل، عندما قال “أنتم نور العالم” (مت 5: 14) لأنه صيّرهم نورًا أولاً، ثم بعد ذلك أمر بأن يستنير بهم العالم إذ يقول “لا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضيء لكل من في البيت، فليضيء نوركم هكذا قدام الناس” (مت 5: 15-16)

وبمعنى آخر، لا تخفوا الموهبة التي قبلتموها منى، بل أعطوا لكل الذين يرغبون أن ينالوها. وقال أيضًا “سراج الجسد هو العين فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون” (مت 6: 22-23، لو 11: 34)، فكما أن العينين هما نور الجسد- وطالما هما بحالة جيدة- فالجسد كله يكون نيرًا، ولكن إن حدث لهما حادث فاظلمتا، يصير الجسد كله في ظلمة، هكذا قد جعل الرسل ليكونوا عيونًا ونورًا للعالم كله.

لذلك فإن الرب أمرهم بهذا القول: فأنتم الذين هم بمثابة نور الجسد، إن كنتم تثبتون ولا تنصرفون عني، فحينئذٍ يستنير جسد العالم كله، وأما إن كنتم وأنتم النور تكونون مظلمين فما أعظم تلك الظلمة، التي هي ليست شيئًا سوى ظلمة العالم. وهكذا فإن الرسل، إذ كانوا هم أنفسهم نورًا، فقد أعطوا النور لأولئك الذين آمنوا، إذ أناروا قلوبهم بذلك النور السماوي- نور الروح الذي كانوا هم أنفسهم مستنيرين به.

الملح والذبيحة والكاهن:

وإذ كانوا هم أنفسهم ملحًا فإنهم حفظوا وملّحوا كل نفس مؤمنة بملح الروح القدس؛ لأن الرب قال لهم “أنتم ملح الأرض” (مت 5: 13)، ويقصد بالأرض قلوب الناس. إنهم أعطوا لنفوس الناس من الداخل الملح السماوي- ملح الروح- فيملّحونهم ويجعلونهم أحرارًا من الفساد والتعفن، بدلاً من تلك الحالة الكريهة التي كانوا فيها. إن اللحم، إن لم يُملّح، يفسد ويمتليء برائحة كريهة، حتى أن الناس كلهم يبتعدون من الرائحة العفنة، ويدب الدود في اللحم الفاسد ويسكن فيه ويتغذى عليه ويختبيء فيه؛ ولكن حينما يلقى عليه الملح يموت الدود الساكن فيه وتنتهي الرائحة الكريهة لأن هذه هي خاصية الملح أن يقتل الدود ويزيل الرائحة الكريهة.

وبنفس الطريقة فإن كل نفس لا تُصلّح وتُملّح بالروح القدس ولا تشترك في الملح السماوي الذي هو قوة الله فإنها تفسد وتمتليء برائحة الأفكار الرديئة الكريهة حتى أن وجه الله يتحول عن الرائحة المرعبة النتنة رائحة أفكار الظلمة الباطلة وعن الشهوات التي تسكن في مثل هذه النفس. والدود الشرير المرعب، الذي هو أرواح الشر وقوات الظلمة، تتمشى وتتجول فيها، وتسكن هناك، وتختبيء وتدب فيها وتأكلها وتأتي بها إلى التحلل والفساد. كما يقول المزمور “قد أنتنت وفاحت جراحاتي” (مز 38: 5)

ولكن حينما تهرب النفس إلى الله لأجل الخلاص وتؤمن وتطلب ملح الحياة الذي هو الروح الصالح المحب للبشر، فحينئذٍ يأتي الملح السماوي ويقتل تلك الديدان المرعبة ويزيل الرائحة النتنة، ويطهّر النفس بعمل قوته الفعّال، وهكذا تصير النفس سليمة صحيحة وحرّة من الاضمحلال بواسطة ذلك الملح الحقيقي وتُرد وتُعاد لتكون نافعة لخدمة السيد السماوي وهذا هو السبب الذي من أجله أمر الله، في الناموس مستعملاً الرمز أن كل ذبيحة ينبغي أن تُملّح بملح (لا 2: 13، انظر مرقس 9: 49).      

فالذبيحة ينبغي أولاً أن تُذبح بواسطة الكاهن، وتموت، ثم تُقطع قطعًا وتُملّح، وبعد ذلك توضع على النار. فإن لم يذبح الكاهن الخروف أولاً ويموت، فانه لا يُملّح ولا يُقرّب كقربان محرقة للرب. هكذا نفسنا أيضًا ينبغي أن تأتي إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقي ليذبحها، وتموت عن هوى فكرها الخاص وعن حياة الخطية الشريرة التي كانت تعيشها قبلاً. يجب أن تخرج منها الحياة حياة الأهواء الشريرة.

كما أن الجسد إذ خرجت منه النفس يموت، ولا يعود يعيش بالحياة التي سبق أن عاشها، فلا يسمع ولا يمشي، كذلك المسيح، رئيس كهنتنا السماوي- حينما يذبح نفسنا بنعمة قوته، ويميتها عن العالم، فإنها تموت عن حياة الشر إلى كانت تعيشها، فلا تعود تسمع أو تتكلم أو يكون لها شركة وتوطّن في ظلمة الخطيئة لأن حياتها- التي هي الأهواء الشريرة قد خرجت منها بواسطة النعمة. والرسول يصرخ قائلاً: “قد صُلب العالم لي وأنا صُلبت للعالم” (غل 6: 14).

فالنفس التي لا تزال تحيا في العالم وفي ظلام الخطيئة ولم تُمات بواسطة المسيح ولا يزال روح الخبث في داخلها، أعني نشاط ظلمة أهواء الشر التي تتحكم فيها، فإن هذه النفس لا تنتمى إلى جسد المسيح، لا تنتمي إلى جسد النور، بل هي في الحقيقة جسد الظلمة ولا تزال جزءًا لا ينفصل من الظلمة. أما الذين لهم حياة روح النور، أعني قوة الروح القدس، فإنهم جزء لا ينفصل من النور.    

ولكن قد يسألني أحدكم قائلاً: كيف تدعو النفس بلقب جسد الظلمة في حين أنها لم تخلق من الظلمة؟ أصغِ لي، وافهمني جيدًا. كما أن ثوبك الذي تلبسه قد صنعه آخر غيرك، وأنت تلبسه، وكما أن بيتك قد بناه آخر وأنت تسكن فيه، هكذا حينما تعدى آدم وصية الله وأطاع الحيَّة الخبيثة، صار مُباعًا أو باع نفسه للشيطان فاكتست النفس- تلك الخليقة الحسيّة التي صوَّرها الله على صورته الخاصة- اكتست بنفس الشرير مثل رداء. لذلك يقول الرسول: “إذ جرّد الرياسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب” (كو 2: 15)، وهذا هو الغرض الذي من أجله جاء الرب (إلى العالم)، لكيما يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله.

أي الإنسان. لهذا السبب تُسمى النفس “جسد ظلمة الخبث” طالما أن ظلمة الخطية موجودة فيها. لأنها تحيا لعالم الظلمة الشرير، وهي ممسوكة بشدة هناك. لذلك يسميها الرسول جسد الخطيئة أو جسد الموت، قائلاً: “ليبطل جسد الخطية” (رو 6: 6). وأيضًا “من ينقذني من جسد هذا الموت” (رو 7: 24)، ومن الجهة الأخرى فإن النفس التي قد آمنت بالرب وأُنقذت من الخطية وأميتت عن حياة الظلمة وقد نالت نور الروح القدس كحياة لها، وبهذه الطريقة قد انتقلت حقًا من الموت إلى الحياة، فإنها تصرف زمانها بعد ذلك في نفس هذه الحياة، لأنها تكون هناك ممسوكة بشدة بقوة نور اللاهوت.

فإن النفس في ذاتها لا هي من طبيعة اللاهوت، ولا هي من طبيعة ظلمة الخبث، بل هي خليقة عاقلة، جميلة، عظيمة، وعجيبة، وحسنة كمثال وصورة الله. وإنما عن طريق التعدي دخل فيها خبث أهواء الظلمة.

ضرورة المجيء إلى المسيح لنموت ونحيا:

إذن فما تختلط به النفس فإنها تكون متحدة معه في حركات إرادتها، فإما يكون لها نور الله في داخلها، وتعيش في النور، في كل الفضائل، وتنتسب إلى نور الراحة. وإما يكون لها ظلمة الخطيئة فتقابل الدينونة. فالنفس التي تشتهي أن تعيش مع الله في الراحة والنور الأبدي يجب أن تأتي- كما قلنا سابقًا- إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقي لتُذبح وتموت عن العالم وعن حياة ظلمة الخبث السابقة. وتنتقل إلى حياة أخرى وإلى سيرة إلهيّة.

وكما يحدث عندما يموت إنسان في مدينة ما فإنه لا يسمع صوت الناس الساكنين فيها ولا أحاديثهم ولا الضوضاء التي يصنعونها، بل هو يصير ميتًا مرة واحدة، وينتقل إلى منطقة أخرى حيث لا يوجد أصوات ولا صرخات من تلك المدينة التي خرج منها، كذلك النفس أيضًا حينما تنذبح مرة وتموت عن مدينة الأهواء الشريرة التي تسكن وتعيش فيها فإنها لا تعود تسمع في داخلها صوت أفكار الظلمة، ولا يعود يُسمع فيها حديث وصراخ المنازعات الباطلة الشريرة أو ضجيج أرواح الظلمة بل تنتقل إلى مدينة مملوءة بالصلاح والسلام، إلى مدينة نور اللاهوت وتعيش هناك، وتسمع وتستوطن وتتكلم وتشارك، وهناك تعمل أعمالها الروحانيّة التي تليق بالله.

فلنصلِّ لكي ننذبح بقوته:

لذلك فلنصلِّ لكي ننذبح بواسطة قوته ونموت عن العالم الظلمة الخبيث ولكي يموت فينا روح الخطية، ولكيما نلبس وننال حياة الروح السماوي، من شر الظلمة إلى نور المسيح، لكي نستريح في الحياة إلى مدى الدهور. فكما أن المركبات تتسابق في الميدان والمركبة التي تسبق الأخرى تصير لها مانعًا وحاجزًا وعائقًا حتى أنها لا تستطيع أن تتقدم وتصل إلى النصرة، هكذا أيضًا سباق أفكار النفس والخطيئة في الإنسان. فإذا حدث أن سبق فكر الخطيئة فإنه يعوق النفس ويحجزها ويمنعها، حتى أنها لا تستطيع أن تقترب إلى الله وتنال النصرة منه.

ولكن حيث يركب الرب ويمسك بزمام النفس بيديه فإنه دائمًا يغلب لأنه بمهارة يدير ويقود مركبة النفس إلى ذهن سماوي ملهَم إلى الأبد. وهو- أي الرب- لا يحارب ضد الخبث إذ له دائمًا القوة الفائقة والسلطان في نفسه، بل هو يصنع النصرة بنفسه. فالكاروبيم إذن لا تسير حيث تشاء من نفسها أن تسير، بل إلى حيث يقودها ويوجهها الراكب عليها. وهي تسير حيث يريد هو، وهو يسندها لأن الكتاب يقول “ويد إنسان كانت تحتها” (حز 1: 8).

فهذه النفوس المقدسة تنقاد وتسير بروح المسيح الذي يمسك بزمامها ويقودها إلى حيث يشاء- فأحيانًا يشاء أن تقيم في التأملات السماويَّة، وأحيانًا يشاء أن تلبث في الجسد، وهكذا حيثما يشاء هو فإنها تقوم بالخدمة.

وكما أن أجنحة الطائر هي له بمثابة الرجلين كذلك فإن النور السماوي أي نور الروح يمسك بأجنحة الأفكار التي للنفوس المستحقة، ويقودها ويدبرها كما يعرف هو أنه الأحسن لها.

انظر إلى نفسك جيدًا:

لذلك فحينما تسمع بهذه الأشياء انظر إلى نفسك جيدًا، هل أنت حاصل على هذه الأشياء ومالك لها بالفعل والحق في داخل نفسك أم لا؟ فإنها ليست مجرد كلمات تُقال بل هي فعل الحق الذي يحدث في داخل نفسك، فإن لم تكن مالكًا لها بل أنت معدم من مثل هذه الخيرات الروحانيّة، ينبغي لك أن تكتئب وتحزن وتسعى بلهفة، كإنسان لا يزال ميتًا ومنفصلاً عن الملكوت. وكإنسان مجروح اصرخ دائمًا إلى الرب واطلب منه بإيمان أن يمنحك أنت شخصيًا هذه الحياة الحقيقيّة.

وحينما صنع الله جسدنا هذا فإنه لم يمنحه أن تكون له حياة، لا من طبيعة الله الخاصة ولا أن يحيا الجسد بذاته، وهكذا دبر له الطعام والشراب واللباس والأحذية، وهكذا عيّن الله له أن يأخذ كل حاجات الحياة من الخارج إذ أنه صنع الجسد نفسه عريانًا. ولا يمكن للجسد أن يعيش بدون الأشياء الخارجة عنه، أي بدون الطعام والشراب واللباس، فإن حاول أن يعتمد على طبيعته وحدها دون أن يأخذ شيئًا من الخارج فإنه يضمحل ويموت.

وهذا هو نفس الحال بالنسبة للنفس أيضًا فهي لا تملك النور الإلهي رغم أنها مخلوقة على صورة الله وهكذا نظَّم الله أحوالها وقد أراد بألاّ تحصل على الحياة الأبديّة من طبيعتها الخاصة، ولكن من لاهوته، أي من روحه، ومن نوره، تنال طعامًا وشرابًا روحانيًا، ولباسًا سماويًا وهذه هي حياة النفس، أي الحياة بالحقيقة.

وكما رأينا أن حياة الجسد ليست من ذاته، ولكن من خارجه، أي في الأرض، وبدون الأشياء التي من خارجه لا يمكنه أن يعيش هكذا أيضًا النفس إن لم تولد الآن في “أرض الأحياء” (مز 27: 13) وتستمد غذاءًا روحيًا منها وتنمو نموًا روحيًا أمام الرب وتكتسي من اللاهوت بحلل الجمال السماوي التي تفوق الوصف، فإنها بدون ذلك القوت لا يمكنها أن تعيش من نفسها في فرحة وراحة.

إن الطبيعة الإلهيّة فيها خبز الحياة الذي قال “أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 35)، “والماء الحيّ” (يو 4: 10)، “والخمر التي تفرح قلب الإنسان (مز 104: 15)، “وزيت الابتهاج” (مز 45: 7)، وجميع أصناف طعام الروح السماوي ولباس النور، تلك التي تأتي من الله.

وفي هذه الأشياء تكون حياة النفس الأبديّة. ويل للجسد حينما يعتمد على طبيعته الخاصة لأنه حينئذٍ يضمحل ويموت، وأيضًا ويل للنفس إن استندت على طبيعتها الخاصة ولم تضع ثقتها في شيء سوى أعمالها الخاصة، ولم تنل شركة روح الله، فإنها تموت إذ أنها لم تحصل على حياة اللاهوت الأبديّة الممنوحة لها.

ففي حالة المرض بالجسد، بمجرد أن يفقد الجسد القدرة على تقبل الغذاء، لا يعود هناك أمل في الشفاء، ويبدأ أصدقاء مثل هؤلاء المرضى وأقرباؤهم ومحبيهم في البكاء وذرف الدموع، وبنفس الطريقة فإن الله والملائكة يبكون على النفوس التي لا تتغذى بطعام الروح السماوي، ولم تأتِ إلى الحياة في عدم الفساد. ومرة أخرى أقول: إن هذه الأشياء ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي عمل الحياة الروحانيّة، عمل الحق الذي يتحقق في النفس الآمينة المستحقة.

ليكن لنا حسًا سريعًا:

فإن كنت قد صرت عرشًا لله، وجلس فوقك الراكب السماوي، ونفسك كلها قد صارت عينًا روحانية، وصارت نفسك كلها نورًا، وإذا كنت قد تغذيت بذلك الغذاء، غذاء الروح القدس، وإن كنت قد سُقيت من ماء الحياة، وإن كنت قد لبست ملابس النور الذي لا يُوصف، وثبت إنسانك الداخلي في اختبار هذه الأمور بملء الثقة واليقين، فإنك تكون حيًا، بمعنى أنك تحيا الحياة الأبديّة الحقيقيّة، وأن نفسك هي في الراحة مع الرب منذ الآن فصاعدًا.

انظر فها أنت قد قبلت هذه الأشياء من الرب وامتلكتها بالحق، لكيما تحيا الحياة الحقيقيّة. ولكن إذا وعيت نفسك ووجدت أنه ليس عندك شيء من هذه الأشياء (التي سبق ذكرها) فحينئذٍ يلزم أن تبكي وتنوح وتحزن لأنك حتى الآن لم تجد الغنى السماوي الأبدي. لذلك ينبغي أن تتوجع بسبب فقرك المدقع، وتتضرع إلى الرب ليلاً ونهارًا لأنك قد سقطت في فقر الخطيئة المرعب.

يا ليت كل إنسان يصير له إحساس سريع وتوجع بسبب فقره، ولا نسير في الحياة بلا مبالاة، مكتفين كأننا قد امتلأنا!، لأن الذي يحس بشدة فقره، ويأتي إلى الرب ويسأله بالصلاة باستمرار، فإنه يحصل على الفداء والكنوز السماويَّة، كما قال الرب في ختام حديثه عن القاضي الظالم والأرملة “أفلا ينصف الله الذين يصرخون إليه ليلاً ونهارًا، نعم أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا” (لو 18: 7) الذي له المجد والقوة إلى الأبد آمين.

[1]  حزقيال النبي لم يستعمل كلمة “مركبة” في الأصحاح الأول ولكن الكلمة استُعملت في النسخة السبعينية لسفر حزقيال أصحاح 43: 3.

[2]  حزقيال 1: 8، يفسر القديس مقاريوس “الإنسان هنا بأنه المسيح ويد إنسان كانت تحت الشاروبيم لأنه هو الذي يركبها ويوجهها.

تقييم المستخدمون: 4.68 ( 2 أصوات)