عام

أعيادنا الحية – الأسرار (الجزء الثاني) القداس الإلهي

أعيادنا الحية - الأسرار (الجزء الثاني) القداس الإلهي

أعيادنا الحية – الأسرار (الجزء الثاني) القداس الإلهي

أعيادنا الحية - الأسرار (الجزء الثاني) القداس الإلهي
أعيادنا الحية – الأسرار (الجزء الثاني) القداس الإلهي

للرجوع للجزء الأول أضغط هنا.

 

أعيادنا الحية – الأسرار
الجزء الثاني – تابع تمهيد
(2) القداس الإلهي

 
هو عشاء الرب وفيه يُقدم لنا ذاته طعاماً للحياة: [ أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، أن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم ] (يوحنا 6: 51). وهذه هي المحبة في عمق معناها عند الله، وهو أن يعطينا ذاته لكي نحيا به، فالمحبة تستدعي الاتحاد للشركة، وأكمل صورة مادية لهذا الاتحاد هي اتحاد الأطعمة بالجسم البشري، إذ تتحوَّل في من يتناول منها إلى لحمه ودمه وعِظامه، لأن الأطعمة هي التي تبني الجسد وتقويه…لذلك إذ شاء الرب يسوع لعظمة محبته الفائقة التي لا تُحدّ، أن يتحد بنا اتحاداً سرياً في أكمل صورة ممكنة، فأعطانا ذاته بشكل طعام في سرّ الشكر، ولكن الفرق بين الطعام الإلهي والطعام الاعتيادي لاحتياج الجسد وتكوينه، هو أن الأخير – الطعام الجسدي – يتحول إلينا حينما نتناوله، أي يدخل في تركيب الجسد الفاني ويندفع إلى المخرج ما تفضل منه خارج احتياج الجسم، بينما الأول – أي الطعام السماوي الذي هو خبز الحياة – عندما نتناوله، فنحن من نتغير إليه وليس هو الذي يتحوَّل إلينا، وهذا التغيير هو تغيير سري، أي أن صورة الله تنطبع فينا وهو بنفسه يُغيرنا إليه، وتسري حياته الشخصية فينا، فنُردد مع الرسول بإيمان رائي الذي حدث سراً بالروح كنتيجة فينا: [ أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ ] (غلاطية 2: 19)
 
فالمسيح الرب في سرّ الإفخارستيا لا يتحوَّل فينا ويتغير إلينا ليُصبح فاني مع الجسد، بل نحن من نتغير إليه ونتشكل بشكله ونتطبع بطبعه، فتقول صلاة القسمة المقدسة: [ اشفِ ايها الرؤوف نفوسنا الشقية بمراهم أسرارك المُحيية… عند استحالة الخبز والخمر إلى جسدك ودمك تتحول نفوسنا إلى مشاركة مجدك، وتتحد نفوسنا بألوهيتك… لكي بذوق لحمك نؤهل لذوق نعمتك، وبشرب دمك نؤهل لحلاوة محبتك. وهبت لنا أن نأكل لحمك علانية، أهلنا للاتحاد بك خفية. وهبت لنا أن نشرب كأس دمك ظاهراً، أهلنا أن نمتزج بطهارتك سراً. وكما أنك واحد في أبيك وروحك القدوس نتحد بك وأنت فينا.. ]، وبذلك نتشكل ونتطبع بطبعه الإلهي من جهة طهارة النفس والنمو في القداسة، فنمتلئ من نعمة الله في كل مرة نتناول من هذا السرّ العظيم الذي للتقوى، وهذا هو المعنى العملي للاتحاد بالله الذي يُسمى التألُّه عند آباء الكنيسة، اي أننا نتحد مع الله حتى أنه هو الذي يحيا فينا، فنموت عن أنفسنا ليحيا الله فينا، لكي به نحيا ونتحرك ونوجد، لذلك كثيرين فهموا التأله عند الآباء خطأ وتصارعوا على المعاني وكل واحد حرم الآخر لأنه لا يتفق معه في المفاهيم، والبعض شرحه على أساس أننا نتحول فنصير آلهة، أي نخلق ونوجد في كل مكان.. الخ، وهذا عيب خطير في الفهم والشرح، لأن المقصود هو أن يحيا المسيح فينا، لأن النظرة الروحية الآبائية العميقة من جهة الخبرة، تنطلق من لفظة هامة وهي [ الاتحاد بالله سراً ]، أو الشركة والتشرب من [ طهارة الابن الوحيد ]…
وبسبب الشرح الحرفي المادي الخارج الإيمان وخبرة الحياة بإنسان جديد روحاني لبسناه في المعمودية، أتى المفهوم المغلوط المشوه للإيمان الحي، بأن الذي يتناول واصابه خدش أو جرح يجعل دم المسيح الرب ينزل مع دمه وبذلك يفقد ما ناله، وكأن الرب فينا يتحول إلينا وينطبق عليه كل ما هو من الجسد حسب قوانين الطبيعة، مع أنه أعطانا جسده سراً في شكل خبزٍ وخمر، ولم تنطبق عليه قط كل القوانين التي للفيزياء أو الكيمياء، أو أي قوانين بشرية، لأن من المستحيل أن المسيح الرب القائم من الأموات يتحول فينا نحن الترابيون إلى عنصر ترابي أو أرضي قابلاً للفساد أو الانحلال، فيسيل منا إذا جُرحنا أو حينما تمس افواهنا أكواب المياه أو يخرج مع اي شيء يخرج من أفواهنا !!! ولو كان هذا صحيحاً فكيف قُطع رؤوس الشهداء بعد التناول، هل ممكن أن نتصور أن دم المسيح انسكب منهم على الرض عند شهادتهم وفقدوا ما تناوله في سرّ الإفخارستيا !!!
فلننتبه يا إخوتي، لأن الرب يسوع قهر الفساد وأبطل سلطان الموت، حتى أنه لم يرى فساداً ولا جسده تحلل في القبر، فالحقيقة الأرثوذكسية (أي المستقيمة، ولا أتكلم عن الكلمة من جهة طائفية) هي التي عبَّرَ عنها القديس بولس الرسول، بأن المائت يُبتلَع بالحياة: [ حتى تبتلع ما هو زائل – حتى يُبتلع المائت بالحياة ] (2كورنثوس 5: 4)، فدم المسيح [ يُطهر ضمائرنا من الأعمال الميتة ] (أنظر عبرانيين 9: 13 – 14)
فالرب بنفسه قال عن كل من يتناول من هذا السرّ العظيم [ من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الأخير ] (يوحنا 6: 54)، فالإفخارستيا تعمل في داخلنا للحياة الأبدية حسب عمل استطاعته [ الذي سيُغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته ] (فيلبي 3: 21)؛ ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [ هذا الخبز المقدس الذي يوزع لغذاء النفس. هذا الخبز لا ينزل إلى الجوف، ولا يُدفع إلى المخرج (متى 15: 17). ولكنه يتوزع على كل بنيتك لفائدة النفس والجسد ] (عظة 23: 15).

فالجذر هو الدخول إلى شركة الطبيعة الإلهية، أي الدخول في برّ المسيح الرب وطهارته ووداعته، أي هي لبس المسيح الرب بمعنى أدق، والاتحاد به اتحاداً سرياً حقيقياً بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، وهو دخول سري على مستوى عمل الروح القدس الذي يُغيرنا إليه، ويجعلنا هيكل خاص لحلوله فينا، وبذلك يجعلنا نرتديه ونتشح به، ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [ وإذ أنت تشترك في جسد المسيح ودمه، تُصبح جسداً واحداً ودماً واحداً مع المسيح. وهكذا نُصبح نحن حاملي المسيح، بما أن جسده ودمه ينتشران في أعضاءنا. وبهذه الكيفية نُصبح على حد تعبير الطوباوي بطرس “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بطرس 1: 4) ] (من عظات القديس كيرلس الأورشليمي)

 
فبالإفخارستيا يا إخوتي نُصبح حقاً أبناء القيامة حسب ما أعلن لنا الرب وسلمنا أباء الكنيسة وحسب شهادة القداسات نفسها في الصلوات، فالرب اتحد بجسدنا اتحاداً كاملاً حقيقياً، وأخذ الترابي الذي لنا لكي يُعطينا الذي له، أي يُلبسنا ذاته ويعطينا الروح القدس روح القيامة (أنظر رومية 8)، وتقول التسبحة الكنسية وثيئوطوكية الجمعة: [ أخذ الذي لنا وأعطانا الذي لهُ ]؛ [ هو أخذ جسدنا وأعطانا روحه القدوس وجعلنا واحداً معهُ من قِبَلْ صلاحه ]، أي باختصار شديد، دخلنا في سرّ الوحدة معه لنتطبع بطبعه هو، فأصبحنا نتحوَّل لعدم الفساد وصرنا سماويين، رعية مع القديسين وأهل بيته فعلاً بالتناول من جسده ودمه.
 
يا إخوتي الإفخارستيا لم ولن تكون ذبيحة الصليب فقط، بل هي مرتبطة ارتباط وثيق بالقيامة، لأن الرب يسوع لم يعطينا جسده المصلوب، بل جسده القائم من الأموات، لأنه لا يعطي ذاته لنا ميتاً لنظن أنه يتحول لجسدنا المائت، والطقس الكنسي بارع في الشرح لأنه يؤكد تمام التأكيد بإيمان حي لا يلين أن الجسد هو [ الجسد المُحيي ]، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي:
[ إننا لا نشترك في جسد إنسان بل نتناول جسد الكلمة نفسه ] (رسالة 2: 1)
[ يا أحبائي إننا لا نقترب من عيد أرضي بل عيد سماوي وأبدي. ولا نرى شيئاً من الظلال بل الحقيقة… أما نحن فإننا من الآن نأكل من الكلمة الذي من الآب، وتُدهن أعتاب قلوبنا وتُختَم بدم العهد الجديد ] (رسالة 4: 3)
[ أننا نأكل طعام الحياة، ونعطش دائماً لكي تمتلئ نفوسنا بالشبع من ينبوع دمه الكريم ] (رسالة 5: 1)
[ لنستعد لكي نقترب من الحمل الإلهي، ولكي نلمس الطعام السماوي ] (رسالة 5: 5)
ويقول القديس إيرينيئوس: [ عندما ينال الكأس الممزوج والخبز المصنوع، كلمة الله، تصير الإفخارستيا جسد ودم المسيح، ومنها يتغذى ويحيا جسدنا وينمو. كيف إذن يؤكدون (الهراطقة) أن الجسد غير قابل على تقبل عطية الله التي هي الحياة الأبدية، وهو الذي تغذى من جسد ودم الرب، والذي هو دمه ونال نمواً من الخبز الذي هو جسده ]
ويقول أيضاً: [ والآن كيف يقولون أن الجسد يمضي إلى الفساد ولا يتشارك في الحياة، وهو الذي تغذى بجسد الرب ودمه، إما أن يُغيروا رأيهم أو يكفوا عن تقديم التقدمات… الإفخارستيا تؤكد رأينا، ونحن نُقدم لهُ مما لهُ مُعلنين شركتنا ووحدتنا، معترفين بقيامة الجسد والروح، لأنه كما أن الخبز الذي من الأرض، بعد أن ينال استدعاء الله، لا يعود بعد خبزاً عادياً، بل يصير إفخارستيا مكونة من عُنصرين، أرضي وسماوي، كذلك أيضاً أجسادنا، باشتراكها في الإفخارستيا لا تعود قابلة للفساد Corruptible بعد أن نالت رجاء القيامة الأبدية]

إننا باقترابنا من المائدة الإلهية – ليس فقط نتحد بالله – بل نتحد بعضنا ببعض، فعندما يُريد البشر التعبير عن اتحادهم أو توطيد علاقتهم، يجتمعون حول مائدة واحدة لتناول الطعام سوياً، هكذا المؤمنون – مع الفارق – يتحدون بعضهم ببعض ويصبحون جسداً واحداً عندما يتناولون كلهم من المائدة الإلهية الواحدة: [ فإننا نحن الكثيرين خُبزٌ واحد، جسد واحد، لأننا جميعُنا نشترك في الخبز الواحد ]، لذلك يا إخوتي لأن هناك خُبز واحد حي نازل من السماء للحياة، ونحن بالرغم من إننا كثيرين نصير جسد واحد، وذلك لأننا جميعاً نشترك في هذا الخبز الواحد، لأن بالاتحاد بشخص الكلمة المتجسد ربنا يسوع المسيح، نصير واحداً فيه على المستوى العملي والفعلي في حياتنا: [ أما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي إليك، أيها الآب القدوس أحفظهم في اسمك، الذين اعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن ] (يوحنا 17: 11)، [ وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد ] (يوحنا 17: 22)، [ أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم إنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني ] (يوحنا 17: 23)، [ وعرفتهم اسمك وسأُعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم ] (يوحنا 17: 26).

وعلينا أن نحذر من أن نفهم اتحادنا ببعضنا البعض بسبب الإفخارستيا وإننا جسد المسيح السري ككنيسة، أن هناك انقساماً بين جسد المسيح الشخصي وجسده على المذبح ووجوده في السماء عن يمين الآب، ونحن كأعضاء فيه من لحمه وعظامه، ونقسم المسيح الرب الواحد لعدة أجساد، معنوية ومادية وروحية.. الخ، واحد في السماء يختلف عن ما هو على المذبح أو يختلف عن الكنيسة، لأن ليس للمسيح الرب جسدان وليس له تعدديه، لأن هذا يخضع للفكر البشري الضعيف، وفي نفس ذات الوقت ليس بكوننا جسد المسيح السري معناها إننا ناكل بعضنا البعض على المذبح، لأن الأساس هو أن جسد الرب الذي على المذبح هو الذي يجعلنا كنيسة وليس العكس، لأننا لسنا نحن من يصنع للمسيح جسد، بل هو الذي يجمعنا ويوحدنا به، لأنه يسكن في كل واحد فينا ويجمعنا إلى واحد في شخصه الحي، وحينما ندخل في إطار الشرح العقلي ونخضع السرّ للعقل نتعثر ونقسم المسيح الرب الواحد بعدة أجساد ونضعه تحت نظريات وأفكار كثيرة ومنقسمة، فنخرج خارج السرّ الإلهي وندخل في المباحثات السخيفة التي تجلب خصومات وانشقاقات لا حصر لها، ونُقسم جسد المسيح الواحد بسبب رأي وفكر كل واحد …

وتقول الديداكي [ كما أن هذا الخبز المكسور، كان مرة مبعثراً على التلال، وقد جُمع ليصير (خبزاً) واحداً، كذلك أجمع كنيستك من أقاصي الأرض في ملكوتك. لك المجد والسلطان بيسوع المسيح أبد الدهور ]
ويقول الأسقف سرابيون في الخولاجي: [ وكما أن عناصر هذا الخبز، كانت فيما مضى، قد بُعثرت مرة على الجبال، قد جُمعت معاً وصارت واحداً، كذلك ابنِ كنيستك المقدسة من كل أمة ومدينة وبلد وقرية وبيت، أجعل منها كنيسة واحدة حية جامعة ]
وفي خولاجي دير بلوزة بأسيوط يقول: [ وكما أنتثر هذا الخبز على الجبال والتلال وفي الوديان (بصورة زرع – القمح ) وجُمِعَ ليصير جسداً واحداً. وكذلك هذا الخبز نبع من كرامة داود المقدسة، وهذا الماء ينبع عن الحمل الذي بلا دنس، ممتزجين وصائرين سراً واحداً، هكذا أجمع كنيسة يسوع المسيح الجامعة ]

وهنا نرى بوضح أن الوحدة التي تتم بين المؤمنين بالمناولة المقدسة، ترمز إليها مادة السرّ نفسها، فالخبز الذي تحوَّل إلى جسد المسيح، مؤلف من حبوب كثيرة من الحنطة أو القمح، اندمجت كلها لتؤلف وحدة واحدة، وكذلك الخمر التي تتحول إلى دمه بالسرّ، عُصارة حبات كثيرة وعديدة من العنب.

عموماً، يأتي المؤمنون إلى كنيسة الله وهم متفرقين، ينتمون إلى بيئات مختلفة ومتعددة، ولكن عندما يتحدون بالمسيح الرب الواحد الذي تجسد وصُلب [ ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد ] (يوحنا 11: 52)، يتحدون معاً عندئذٍ ويصيرون كنيسة واحدة لراعٍ واحد، إذ أنهم لا يصيروا أفراداً مستقلين كل واحد يحيا مبتوراً عن الآخر ووحدته معه صورية شكلية معنوية، بل يصيروا في شركة حقيقية في جسد واحد غير منقسم او منفصل، أي يصيرون شعباً لله واحداً في هيكل الرب الجديد الذي هو جسد المسيح يسوع الذي سيجمع كل الشعوب: [ ويرفع راية للأمم، ويجمع منفيَّي إسرائيل، ويضُم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض ] (أشعياء 11: 12)

_____يتبع_____
وفي الجزء القادم سنتكلم عن خلاصة ما تكلمنا فيه عن القداس الإلهي

 

أعيادنا الحية – الأسرار (الجزء الثاني) القداس الإلهي

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !