سؤال وجواب

هل يمكن إعطاء بعض الأمثلة العملية عن دور الوحي في تسجيل النبوءات؟

49- هل يمكن إعطاء بعض الأمثلة العملية عن دور الوحي في تسجيل النبوءات؟

رابعا: أمثلة عملية على دور الوحي:

ج: تعتبر النبوءات دليل قاطع على دور الوحي في تسجيل الأسفار المقدسة، وقد ورد في العهد القديم نحو ثلثمائة نبوءة عن شخصية السيد المسيح وعمله الفدائي تحقق منها نحو ثلاثين نبوءة في الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة، وحوى العهد القديم أكثر من 1800 نبوءة تحقق معظمها والبقية في طريقها للتحقق، وهذه النبوءات لا تعتمد قط على الفراسة والذكاء والاستدلال العقلي، بل أن بعض هذه النبوءات كانت ضد العقل مثل ولادة العذراء، وبعضها ضد العلم الذي كان منتشرا حينذاك مثل كروية الأرض وتعلقها بالجاذبية الأرضية، وانحلال العناصر، ولك يا صديقي الرجوع إلى كتابنا أسئلة حول الكتاب المقدس ص 77- 101 لدراسة هذا الموضوع، وهنا نكتفي بذكر مثل واحد قوى على عمل الوحي في تدوين الأسفار المقدسة وهو النبوءات التي وردت بشأن مدينة بابل.

كانت مدينة بابل سيدة المدائن يعبر من خلالها نهر الفرات، وتعتبر حلقة الوصل والمركز التجاري الهام بين الشرق والغرب، بلغت مساحتها 196 ميلًا مربعًا ومحيطها 56 ميلًا، ويحيط بها سوران عظيمان يبلغ ارتفاع السور الخارجي مائة مترا وعرضه نحو 24 مترًا يكفى لسير ست مركبات حربية متجاورة وعمق أساساته اثني عشر مترا، وعلى السور 250 برجا للمراقبة، وبه مائة بوابة من خشب الأرز المغشي بالنحاس اللامع، وسورها الداخلى مبنى بالقوالب الملونة التي تمثل مناظر لصيد النمور والأسود، واشتهرت بابل بحدائقها المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، وتقدمت بابل في العلوم فاخترعت الألف باء للكتابة، وتقدمت في علوم الحساب والهندسة والفلك والفن والعمارة فشيدت أعظم المباني من الطين وأيضًا من الحجارة ومن عظمتها خشي هيرودت أن يضفها لئلا يكذبه الناس، ورغم هذه العظمة فقد تنبأ عنها إشعياء وأرميا بالخراب الأبدي في وصف تفصيلي للغاية ويمكن تتبع النبوءات كالآتي:

1- لم ينس الرب ما فعله نبوخذ نصر إذ خرب مدينة أورشليم وسلب الآنية المقدسة وخرب الهيكل بالإضافة إلى شرور بابل الأخرى، ولذلك جاءت النبوءة بمعاقبة بابل على شرها “وأكافئ بابل وكل سكان أرض الكلدانيين على شرهم الذي فعلوه في صهيون أمام عيونكم يقول الرب” (أر 51: 24) وتوعدها الله قائلا “فلو صعدت بابل إلى السماوات ولو حصلت علياء عزها فمن عندي يأتي عليها الناهبون يقول الرب” (أر 51: 53).

2- حدد إشعياء بأن الخراب سيحل ببابل على يد مملكة فارس ومادي فتنبأ قائلا “قد أعلنت لي رؤيا قاسية الناهب ناهبا والمخرب مخربا. اصعدي يا عيلام. حاصري يا مادي” (أش 21: 2) فجاءت نبوءة إشعياء على بابل كضرب من الخيال.

3- حدد إشعياء اسم الملك “كورش ” الذي سيكتسح بابل وسيصرح ببناء أورشليم وتجديد الهيكل “القائل عن كورش راعى فكل مسرتي ويتمم ويقول عن أورشليم ستبنى والهيكل ستؤسس” (أش 44: 28).

4- يصف هيرودتس حصار المدينة فيقول “وهكذا زحف الماديون والفارسيون على بابل بزعامة كورش وعندما طاف كورش وكبار قواده حول المدينة رأوا استحالة خضوع هذه الأسوار لكل آلات الحرب المعروفة آنذاك، فضلا عن الحاجز المائي المنيع، لم يغير رأيه. بل أمر بحصار دقيق حولها… وأحاطوها لمدة سنتين(1).

والأمر العجيب أن رجال بابل خشوا الخروج من المدينة لفك الحصار تمامًا كما تنبأ أرميا النبي قائلا “كف جبابرة بابل عن الحرب وجلسوا في الحصون. نضبت شجاعتهم صاروا نساء” (أر 51: 30) ويذكر زينوفون المؤرخ أن كورش دعا ملك بابل للمبارزة الفردية فأبى ملك بابل(2) وشجعهم على عدم الخروج من المدينة توفر المياه بها، والأرض الزراعية التي بداخلها، وسعة خزائنها، ولم تعلم أن آخرتها جاءت أمام الرب كما أخبر بذلك أرميا النبي “أيتها الساكنة على مياه كثيرة الوافرة الخزائن قد أتت آخرتك” (أر 51: 13).

5- كيف أقتحم كورش مدينة بابل..؟لقد هرب من مدينة بابل رجلان وانضما إلى جيش فارس، فاستعان بهما كورش ووضع خطة لاقتحام المدينة، فطلب كورش من جنوده حفر خندقا ضخما جدا، وفي الليلة السابقة من تشرين الأول سنة 539 ق.م تم تحويل مجرى نهر الفرات وتحققت نبوءة أرميا النبي ” هكذا قال الرب.. أنشف بحرها وأجفف ينبوعها” (أر 51: 36) واقتحمت قوات فارس المدينة عبر مجرى النهر الأصلي.

6- كيف تم الهجوم على المدينة الحصينة..؟ في ليلة كان البابليون يقيمون حفلا لآلهتهم يرقصون ويسكرون ويضحكون على أعدائهم الواقفين خارج الأسوار الحصينة دون أن ينتبهوا إلى كورش الذي حول مجرى النهر ويسرع جيشه الجرار إلى داخل المدينة. وفوجئ أهل بابل بجنود كورش داخل المدينة وداخل البهو الملكي بحسبما صور أرميا النبي من قبل “قد حلف رب الجنود بنفسه أنى لأملأنَّك أناسًا كالغوغاء فيرفعون عليك جلبة” (أر 51: 14) ويقول إشعياء على لسان بابل “ابتلأت حقواي وجعًا وأخذني مخاض كمخاض الوالدة. تلويت حتى لا أسمع. اندهشت حتى لا أنظر. تاه قلبي بغنى رعب” (أش 21: 3، 4) ويقول هيرودت بعد أن حفر كورش خندقا عظيما “وإذ أنجز هذا العمل الهندسي العظيم في ليلة كان البابليون غارقين في سكرهم وبطرهم وأفراحهم وهما منهم أن مدينتهم أمنع من عقاب الجو”(3).

7- تنبأ أرميا قائلا “يركض عداء اللقاء عداء، ومخبر للقاه مخبر ليخبر ملك بابل أن مدينته قد أخذت عن أقصى” (أر 51: 31) وفعلا تمت هذه النبوءة إذ اقتحم جيش كورش مجرى النهر من طرفيه في وقت واحد فركض المخبرون من الجانبين ليخبروا الملك، وكل عداء يخبر عداءا آخر لتصل الرسالة بأسرع ما يمكن للملك، وأمام قصر الملك التقى المخبران أحدهما جاء من طرف والآخر من الطرف الآخر لمجرى النهر.

8- لو أغلق البابليون أبواب النهر النحاسية قبل هجوم كورش لفشل الهجوم، ولكنها تركت مفتوحة لأنه لم يتوقع أهل بابل أن كورش سيحول مجرى النهر وبهذا تحققت نبوءة إشعياء النبي عندما قال “لأفتح أمامه (أمام كورش) المصرعين (أبواب القصر) ، والأبواب لا تغلق (أبواب النهر النحاسية)” (أش 1: 45).

9- قيل أن أهل بابل خشوا طول الحصار فقتلوا في يوم واحد 50000 من نسائهم وأولادهم، وأبقوا عددا من النساء لعمل الخبز وحمل الماء أثناء الحصار. ثم اقتحم كورش المدينة وقتل الكثيرين فتحققت نبوءة إشعياء النبي “فيأتي عليك هذان الاثنين بغتة في يوم واحد الثكل والترمل” (أش 47: 9) وحتى إن لم تكن الحادثة الأولى قد حدثت فإن جيش فارس قتل الكثيرين من الشباب فثكلت أمهاتهم، وقتل كثيرًا من الرجال فترملت نساؤهم.

10- حدد إشعياء النبي أن الهجوم سيحدث ليلا وقت احتفال أهل المدينة فقال “ليلة لذتي جعلها لي رعدة، يرتبون المائدة يحرسون الحراسة يأكلون يشربون قوموا أيها الرؤساء امسحوا المجن” (أش 21: 4، 5).

11- وهكذا قتل كورش رؤساء بابل وتحققت النبوءة “سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة” (أش 21: 9) والأمر المدهش أن أرميا النبي قد أكد نبوءة إشعياء هذه، إذ كتب كل الشرور الآتية على بابل، وأرسل بها سرايا بن نيريا إلى بابل، وأمره أن يقرأ كل هذه الشرور، وأوصاه “ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر إنك تربط به حجرا وتطرحه إلى وسط الفرات. وتقول هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها” (أر 51: 63، 64).

12- الأمر المدهش أن المدينة لم تقم لها قائمة بعد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فكم من المدن تخربت وأعيد تجديدها مثل أورشليم وروما وغيرهما، أما بابل فلم تجدد رغم أن كورش سكن بها وأراد أن يحييها ولكن خلفاءه اختاروا غيرها، ورغم أن الإسكندر الأكبر كان يتمنى إعادتهم إلى مجدها ولكنه وجد أن التكلفة باهظة، كما تصارع خلفاء الإسكندر وجرت المعارك بينهم على أرض بابل، فنهبتها الجيوش المتحاربة وأكملت خرابها، وعندما صارت من نصيب السلوقيين بنوا مدينة سلوقية شمال بابل بنحو أربعين ميلا فتحولت التجارة إليها وتدهورت بابل إلى الحضيض، وكل هذا جاء تتميما للنبوءات، حتى أن أرميا النبي يضف محاولات التجديد هذه وفشلها فيقول “سقطت بابل بغتة وتحطمت ولولوا عليها”، خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تشفى، داوينا بابل فلم تشف. دعوها ولنذهب كل واحد إلى أرضه لأن قضاءها وصل إلى السماء” (ر 51: 8، 9)…. يا لروعة الوحي.

13- وتحققت النبوءات بأن بابل ستظل خرابا إلى الأبد لا يسكنها إلا بنات أوى ولا يقيم فيها إعرابي ولا راعى… لماذا؟ لأنه نتج عن تحويل النهر البرك والمستنقعات، ولم تعد أرضا صالحة للزراعة فلا تنمو فيها حتى الأعشاب التي تجذب الرعاة إليها… لقد حدث ما صوره إشعياء النبي تماما “وتصير بابل بهاء الممالك وزينة الكلدانيين كتقليب الله سدوم وعمورة لا تعمر إلى الأبد ولا تسكن إلى دور فدور ولا يخيم إعرابي ولا يربض هناك رعاة. بل تربض هناك وحوش القفر.. وتصيح بنات اوى في قصورهم..” (أش 13: 19- 22) وبحسبما تنبأ أرميا النبي أيضًا “وتكون بابل كوما ومأوى بنات أوى ودهشا وصفيرا بلا ساكن… لا يسكن فيها إنسان ولا يعبر فيها ابن آدم” (أر 51: 37- 43) وبعد أن تهدمت بابل ومع الزمن سقطت أسوارها العظيمة حتى إنه عندما زارها “استرابو ” في حكم أوغسطس قيصر (27 ق.م – 14م) قال “لقد صارت المدينة العظيمة صحراء”(4)… لقد تحققت النبوءات تماما “هكذا قال رب الجنود أن أسوار بابل العريضة تدمر تدميرًا وأبوابها الشامخة تحرق بالنار” (أر 51: 58) وفي سنة 1956 كتب أندريه بارو في كتابه بابل والعهد القديم يقول “فبعد المدينة قليلا عن بغداد، ويتدفق إليها كثيرون من السياح كل يوم تقريبًا، وبصورة عامة يخيب ظنهم كثيرًا وبصوت واحد تقريبا إنه لا يوجد شيء لرؤيته”(6) وآخر هذه المحاولات ما قام به صدام حسين في منتصف سنة 1980 إذ أراج أن يقيم المدينة ثانية ويجعلها منتجع سياحي، ووضع الخطة كاملة لإقامة الفنادق وإنشاء الشوارع والمنتزهات وكان المال متوفرا لتنفيذ الخطة، ولكن في شهر سبتمبر من نفس العام اشتعلت الحرب بين العراق وإيران التي استمرت سنوات طويلة، وبعدها حدث غزو العراق للكويت، ثم استرداد الكويت منه، وضربه وفرض الحصار عليه وخلعه ومحاكمته فصارت الخطة في طي النسيان.

14- وجاءت أيضًا نبوءة غريبة تنبئ بأن أحجار بابل لا تستخدم في مكان آخر للبناء “فلا يأخذون منك حجرا لزاوية ولا حجرا لأسس” (أر 51: 6) وقد ذكر ستونر أن الحجارة التي كانت مستخدمة ضخمة، وبذلك تصبح تكلفة نقلها مكلفة جدا، فلهذا لم تستخدم بينما أعيد استخدام الطوب في أماكن أخرى(5).

ختام: أخذ عالم الرياضيات بيتر ستونر 7 نبوءات فقط من النبوءات السابقة وطبق عليها نظرية الاحتمالات ليعلم نسبة تحقق هذه النبوءات السبع على مدينة بابل بمجرد الصدفة، فوجد النسبة واحد إلى 75 مليون… حقًا أنه مهما طعن النقاد في تاريخ هذه النبوءات وقالوا أنها كتبت في وقت متأخر بعد خراب بابل فلن يصلوا إلى مبتغاهم ولن يستطيعوا لذلك فكاكا، وذلك لسببين:

أ- أن هذه النبوات التي وردت في سفري إشعياء وأرميا وجدت في مخطوطات قمران التي يرجع إلى سنة 250 ق.م. كما أن سفري إشعياء وأرميا ترجما إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد ضمن الترجمة السبعينية. إذًا من الثابت أن هذه النبوءات ترجع على أقل تقدير إلى ما قبل القرن الثالث قبل الميلاد.

ب- جزم النبوات بأن بابل لن تعمر إلى الأبد، وها قد مر عشرات القرون، وتقف النبوات ضد تعمير بابل كالجيل الشامخ تعظ غير المؤمنين وتناديهم أن يصدقوا الكتاب وكل حرف فيه ويأتوا إلى رب الكتاب حتى ينالوا النهاية الصالحة.

_____

(1) الراهب بولا البراموسي – النبوءات والآثار جـ 2 ص 61، 62.

(2) النبوءات والآثار جـ 2 ص 62.

(3) أرثر بيرسون- الحجة القوية في صدق أقوال الله الحية- تعريب متري صليب طبعة 1917م ص 85.

(4) برهان يتطلب قرارا سنة 351.

(5) برهان يتطلب قرارا ص 352.

(6) أورده القس عبد المسيح بسيط في كتابه إعجاز وحى الكتاب المقدس ونبوءته ص 46.

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)