عام

تابع دراسة في الذبائح (23) ذبيحة الخطية חַטָּאת المسيح يقدم نفسه ذبيحة خطية.

تابع / دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس
الذبيحة טֶבַח – ط ب ح ؛ θυσίας σΦάζω
تابع / ثانياً : الخمسة أوجه من ذبيحة الصليب
[2] الوجه الثاني من أوجه الصليب
تابع / ذبيحة الخطية – άμαρτία – חַטָּאת

                                                        الوجه التطبيقي لذبيحة الخطية
                                                   رابعا: المسيح يقدم نفسه ذبيحة خطية
                                                   للرجوع للجزء الثانى عشر اضغط هنـا.

رابعاً: المسيح يقدم نفسه ذبيحة خطية

بعد أن تعرفنا على معنى الخطية ومفهومها الصحيح حسب الكتاب المقدس ككل وعلى ضوء التقليد اليهودي المتشبع من العهد القديم، ووقفنا على مدى خطورتها وفعلها في الإنسان الذي شوه طبعه الخاص المخلوق على صورة الله ومال نحوها بحريته وحده إذ هو الذي اختطف لنفسه قضية الموت لذلك استمر يعمل فيه الموت ولم يستطع يرفع نظره نحو الله بطهر وبراءة ليستحق رؤياه او التعامل معه، وتعرفنا على شروط تقديمها والمناسبات التي تُقدم فيها، فلنا الآن أن ندخل في عمق معناها التطبيقي بالنسبة لعمل المسيح كذبيحة خطية عن العالم كله، وقد رأينا في شرح ذبيحة المحرقة السالفة الذكر والشرح إذ أنها أول ذبيحة نشرحها وهي المقدمة أولاً كما سبق ورأينا، فقد تعرفنا فيها على المسيح الرب كذبيحة محرقة يتقدم إلى الصليب بإرادته وحده وسلطانه بكل مسرة، ليُكمل الطاعة، طاعة الابن للآب، ليصير كفارة عن عدم طاعة الإنسان لله، فقبله ابوه كذبيحة للرضا والمسرة التامة، ولكن في ذبيحة الخطية ينكشف وجه آخر من أوجُه الصليب، فلا نسمع في ذبيحة الخطية أنها للرضا والمسرة ولا أنها رائحة سرور مثل ذبيحة المحرقة [ فيما عدا الاستثناء الوارد في لاويين4: 31 ( وجميع شحمها – ذبيحة الخطية لأحد العامة – ينزعه كما نزع الشحم عن ذبيحة السلامة ويُوقد الكاهن على المذبح رائحة سرور للرب ويُكفر عنه الكاهن فيصفح عنه ) ]، بل نسمع فقط – عموماً – أن مُقدمها يضع يديه عليها معترفاً بخطاياه، فتُنقل خطاياه منه إلى ذبيحته؛ فتُساق الذبيحة للموت عوضاً عنه.

هكذا رأينا ايضاً – بوضوح شديد – هذا العمل يكمُل على الصليب، إذ تقدم المسيح حمل الله حاملاً خطايا وآثام ونجاسات الإنسان (كل إنسان): [ الذي حمل – Carried up – هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت (يُزال من أو يرحل بعيداً) عن الخطايا فنحيا للبرّ الذي بجلدته (بجراحه) شُفيتم ] (1بطرس2: 24) [ سكب للموت نفسه وأُحصيَّ مع أثمة، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين، لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره (جرحه أو جراحاته) شُفينا ] (أنظر أشعياء 53)، [ فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل خطايانا (كلنا)، البار من أجل الأثمة، لكي (بهدف) يُقربنا إلى الله مُماتاً في الجسد ولكن محيى في الروح ] (1بطرس3: 18).. 

وطبعاً القديس بطرس الرسول حينما قال أنه مات لأجلنا لم يكن يقولها استنتاجاً أو تخميناً أو حتى لم يكتب كل هذا الكلام من نفسه بل لأنه سمعها من فم الرب نفسه في العشاء الأخير حينما قال بنفسه: [ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين ] (مرقس14: 24)، والكنيسة أخذت هذا تقليداً من فم الرب وصار تقليد رسولي ظاهراً جداً في صلوات الإفخارستيا إلى هذا اليوم بل وإلى يوم مجيئه العظيم، وهذا هو منبع تسبحة المسيح التقليدية في الكنيسة الأولى وإلى يومنا هذا …

إذن نرى في هذه التقدمة – ذبيحة الخطية – أن لا مجال للمسرة فيها، ولا يوجد فيها موضع لرضا، بل على النقيض تماماً نجد أن الآب يحجب وجهه من هذه الناحية، أو على الأوضح ينحجب وجه الآب عنه، بسبب ما يحمله في جسده من نجاسات الإنسان وخطاياه العديدة والشنيعة كلها، أو باختصار حجب وجهه عنه حينما كان في موقف العار والفضيحة حاملاً كل أوجاع الإنسان الداخلية والتي فصلته عن الله (أي فصلت الإنسان عن الله ولا نتكلم هنا عن أنه يوجد انفصال بين الابن والآب لأنهم من نفس ذات الطبيعة والجوهر لا ينفصلوا قط وهذه استحاله مطلقة أن تحدث في الله قط) : [ إذ صار لعنة لأجلنا ] (غلاطية3: 13)
ولا ينبغي أن نفهم أن المسيح يسوع نفسه هو اللعنة، لأن هذا يستحيل، بل هو الذي حمل اللعنة على نفسه، ويقول القديس اثناسيوس الرسولي: [ لا نفهم من هذا ببساطة أن المسيح بكليته صار خطية أو لعنة، إنما حَمَلَ اللعنة التي علينا ]

يا إخوتي ينبغي أن نفهم الإنجيل في إطاره الصحيح لئلا نخرج بمفاهيم مغلوطة تقدم المسيح الرب وكأنه هو بشخصه اللعنة كما يفهم البعض خطأ، فقد شرح القديس بطرس الرسول وأثبت أن المسيح تألم وهو بريء مما نُسب إليه، لذلك فآلامه آلام كفارة عن الآخرين وليس عن نفسه هو شخصياً، وإذ هو نفسه المذبوح على الصليب أصبح هو الذبيحة وهو الكاهن معاً، وطبعاً قد سبق وذكرنا كلمات القديس بطرس الرسول مع كلمات وآيات أشعياء النبي كما رأينا، ومضمون الفقرتين معاً ليس فقط أن الرب قدم نفسه ذبيحة خطية أنه يُنجينا ويفدينا من الخطية، بل القصد أن يفكنا من قيد الخطية وحبسها وعبوديتها، لذلك تتجه الفقرتان إلى التعليم الأبدي الذي تقدمه لنا من جهة خبرة حرية مجد أولاد الله في المسيح يسوع لننفك من تحت سلطان الخطية والموت لندخل في عهد حرية مجد أولاد الله لنصير [ رعية مع القديسين وأهل بيت الله ] (أفسس2: 19).

ففي آية القديس بطرس الرسول [ الذي حمل هو نفسه خطايانا ] مقتبسة من إشعياء (53: 4)، مظهراً أن المسيح كعبد الله (بحسب أنه اتخذ جسداً حاملاً جسم بشريتنا نحن العبيد) هو حمل الله الوديع القدوس البار الذي حَمَلَ ليس خطاياه هو ولكن خطايانا نحن، وحملها كما يقول في جسده على الخشبة، وقد أتى تعبير القديس بطرس الرسول [ حمل هو خطايانا في جسده على الخشبة ] على أساس الآيات السابقة في نفس ذات الإصحاح وقبل هذه الآية، أنه لم يفعل خطية ولا وُجِدَ في فمه غش…

ولكن كيف وهو القوس البار، بل ومطلق القداسة والبرّ، يحمل خطايانا نحن البشر الأشرار ؟!!!

من جهة كيفيه حمل خطايانا وهو البار والذي لم يوجد في فمه غش وهو الذي قال [ من منكم يبكتني على خطية فأن كنت أقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي ] (يوحنا8: 46) ، فأن بداية حمل خطايانا في جثسيماني عندما صلى ثلاثة مرات بلجاجة أن يعفيه الله من شرب هذه الكأس [ يا أبتاه إن شئت أن تُجيز عني هذه الكأس ] (لوقا22: 42؛ متى26: 41 – 42).

وهنا يلزمنا أن نُلاحظ ونُدقق لكي نفهم عمل المسيح الرب بوضوح ودقة شديدة، فهو لم يكن خائفاً من الموت أو جزعاً منه أو كارهاً له أو في صراع ما بين ان يقبل الصليب والآلام أم يرفضها إطلاقاً، فأن المسيح الرب بسبب حمله خطايانا الشنيعة كلها يعود فوق الصليب على مرأى ومسمع من الجميع يصرخ قائلاً: [ إلهي إلهي لماذا تركتني ] (متى27: 46)، وهنا يتضح آية جثماني ومعناها الحقيقي، وهذا لأنه وقف ضمنياً موقف الخطاة أو بالأحرى موقف الخطية ذاتها: [ الذي لم يعرف خطية (مطلقاً) صار خطية لأجلنا ] (2كورنثوس5: 21)، ومن المعروف جيداً لدينا بيقين أن الله لا يرى الخطية أو يتعامل معها لا من قريب ولا من بعيد، لأن الظلمة يستحيل جمعها مع نور قط، ومن أجل ذلك أحتجب وجه الآب عن المسيح حامل الخطية على صورة ما، لا نستطيع ان ندركها أو نفهمها لأنها سر صنعه المسيح مع أنه ظل بار وقدوس (مطلق القداسة والبرّ) لا يعرف الخطية قط، وطبعاً لن نعود نكرر أن المسيح الرب ليس هو الخطية بل الحامل الخطية.

ولذلك لن نعود نستغرب أو نتعجب من تعبير الرب مُخلصنا الصالح الذي عَبَّرَ عن شناعة هذا الوجه من الصليب (ذبيحة الخطية) بقوله: [ إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ]، مع أننا سمعناه في الذبيحة السابقة (ذبيحة المحرقة) وهو في صورة الابن البار الطائع الآب حتى الموت إذ قال: [ الكأس التي أعطاني الآب ألا اشربها ]، إذن ففي الصليب عملان متداخلان يظهران، وكأنهما متعارضان، ولكن لم يَدَعْ الطقس في القديم محلاً لتعارُض ولا لاعتراض؛ فالمسيح الرب أكمل على الصليب ذبيحتين معاً : ذبيحة محرقة للرضا والسرور،وذبيحة خطية ولعنة

وكان من اللائق به أن يفرح بالصليب ويُقبل إليه كعلامة طاعة (ذبيحة محرقة كما شرحناها سابقاً في نفس ذات هذه السلسة) وإظهار برّ البنوة المطلق الذي له، وكان يليق أيضاً أن يرتعب ويفزع منه كخشبة عار وعلامة لعنة بسبب الخطية. فهو يحمل الخطايا التي منها التجديف والزنا والعداوة والقتل والبغضة وغيرها من الخطايا الشنيعة، التي وجد أنه لو حملها لا يستطيع ان يقف أمام الآب، وإلا كيف أن ابن الله يجدف على الله أبيه الذي هو معه واحد في الجوهر، وكيف للمسيح البار الذي لا يوجد في فمه غش ولا شبه خطية حتى أن يلقب كخاطئ ويحملها فعلاً بكل جرمها على الصليب، كيف له أن يقف كمتعدٍ وخاطئ، فيتم حجب وجه الآب عنه، وهو يرتضي بهذا كله قائلاً [ لتكن مشيئتك ولا مشيئتي ]، وهو يظهر سرّ إخلائه العجيب منتظراً أن يُتمم مشيئة الآب التي هي عينها نفس ذات مشيئته أيضاً كما سبق ووضحنا، وحَمَلَ خطايا كل بني آدم في جسده، وهذا كله لأجلنا نحن ونحن لا نشعر بقيمة عمله العظيم جداً !!!

——————————————————————————

تابع رابعاً: المسيح يقدم نفسه ذبيحة خطية
+ المسيح حمل خطايا كل البشر بسبب اتخاذه جسداً (لماذا اتخذ الله جسداً)

المسيح كلمة الله اللوغوس حينما تجسد أخذ جسداً بشرياً وظهر في هيئة إنسان، حل فيه ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي2: 9)؛ وبهذا أخذ جسده الخاص صفة اللاهوت وهو عدم المحدودية، وبهذه الصفة الإلهية امتد جسده ليشمل كل أجساد البشرية بطريقة ما وبالتالي خطاياها كلها أخذها في جسده – حسب السرّ والتدبير (أي سرّ التجسد) – حسب مشيئة الآب ليتمم خلاص كل إنسان يؤمن به: [ وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ] (فيلبي2: 8).

ولنا أن نستوعب سرّ التجسد الآن ونفهم لماذا لم يظهر الله في أي شيء آخر ولم يبهر الإنسان بظهوره المُحيي، فالمسيح الرب [ لم يظهر عن طريق أجزاء أُخرى من الخليقة أكثر سمواً من الإنسان، فهو لم يأتي لكي يتظاهر أو يستعرض نفسه، بل جاء لكي يُشفي ويُعلم الذين هم تحت الآلام، فالمعلم الصالح لا يتعالى على تلاميذه بل يتباسط معهم من أجل منفعتهم، فطريقة الذي يُريد أن يتظاهر، هي مجرد أن يظهر ويبهر عيون الناظرين ( وهذا هو تصور الإنسان الساقط عن الله فيرى أن الله عظيم من جهة الإبهار، وذلك لأن الإنسان دائماً ينظر للقوة المطلقة لتحقيق ذاته وكبرياء نفسه وهذا ما يسقطه على الله، لذلك نجد أن الكثيرين من الناس لا يقبلون التجسد الإلهي إطلاقاً وبالتالي يتعثرون في الصليب، وبالتالي لا يعلمون أن الذي يأتي ليُشفي جرح الإنسانية المتعبة وشفاء كسرها الذي صار بالموت، وقد أتى ليُعلِّم طريق الخلاص المؤدي للحياة)، فطريقته هي ألاَّ يكتفي بمجرد حلوله بيننا (وظهوره وسطنا) بل أن يُقدم ذاته لمساعدة من هم في احتياج، وأن يَظهر لهم بالقدر الذي يحتمله أولئك الذين هم في حاجة إليه، لئلا إذا زاد (ظهوره) عن القدر الذي يحتاجه المتألمون فقد يُسبب هذا اضطراباً لنفس الأشخاص الذين يحتاجونه، مما يجعل ظهور الله عديم النفع بالنسبة لهم. (لأننا رأينا المسيح الرب في التجلي وقد لمع وجهه وحتى ملابسة أكثر من ضياء الشمس الطبيعية فسقط التلاميذ ولم يحتملوا قط، فكم وكم أن ظهر بملء لاهوته العظيم أمام أعين الكل بدون جسد، فكم سيسقط الكل موتى لا يحتملون شدة بهاء مجد قداسته المرعب للساكنين في الظلمة والتي ملك عليهم الموت والفساد !!!)
(والمسيح الرب ظهر كطبيب حقيقي له القدرة المطلقة على الشفاء، والطبيب الحقيقي الذي له القدرة على شفاء الناس) في مرات كثيرة يضع أدوية على الجروح حسب ما يرى هو أنها نافعة ومُفيدة للمرض، رغم من أن الكثيرين يظنون أنها غير مناسبة، والطبيب يهدف دائماً إلى شفاء مرضاه، (لذلك فلنلاحظ أن الحديث عن الشفاء الذي تممه كلمة الله بتجسده ظهر بوضوح في إشعياء 53 كما سبق ورأينا إذ قال [ وبجراحاته شُفينا ] (أشعياء53: 5) وأيضاً في المزامير [ أرسل كلمته فشفاهم ] (مزمور107: 20)، فكل ما يسخر منه البشر كأمر غير لائق، هذا يجعله الله بصلاحه لائقاً ] (القديس اثناسيوس الرسولي – بعض أجزاء من فقرات كتاب تجسد الكلمة فصل 43؛ فصل 1: 1؛ فصل 2: 1؛ + الرسالة إلى ديونيسيوس الإسكندري، وما وضع بين قوسين للتوضيح وربط الفقرات مع بعضها البعض)

يا إخوتي لنتعمق ونتأمل جيداً فيما قلنا ونعود لنوضح بأكثر تفصيل قائلين: الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس، وفسدت الطبيعة البشرية ولم يعد في استطاعتها أن ترى الله ولا تنظر هيئته، لأنها صارت ظلمة ولا تستطيع ان تقترب من النور لذلك قال الله لموسى حينما طلب أن يراه: [ وقال (الله لموسى) لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش ] (خروج33: 20)، فالإنسان بسبب الظلمة والفساد لا يستطيع أن يعرف الله الحياة، لأنه ذاق الموت في الجسد، وأصبح فاسد كُلياً ليس فيه شيء صالح لكي يستطيع أن يتعرف على صلاح الله ويدخل في شركة معه، لأنه تستحيل للظلمة أن تثبت أمام النور، كما أنه لا يستطع أحد أن ينظر ويتفرس للشمس الطبيعية والمخلوقة بإحدى عينيه لئلا يعمى ويفقد نظره تماماً ولا يستطيع أن يُبصر مرة أخرى، فكم يكون حاله أن حاول أن ينظر لنور الله الذي يفوق الشمس في القوة والمجد والبهاء، وكيف للفاسد ان يحيا مع عدم الفساد، وكيف لمن انتن في قبر الموت يستطيع أن يقف مرة أخرى ويُشارك الأحياء، ولأن الفساد لا يتوقف أن لم يأتي عديم الفساد ليبطل قوته ويُميته، لذلك أتى الغير الفاسد الله الكلمة ولبس الجسد القابل للموت، وإذ أتحد بجسم بشريتنا اتحاداً حقيقياً غير قابل للانفصال، فأصبح نائباً عن البشرية ككل، وباشتراك الجسد في عدم موت الله الكلمة المتجسد، أُوقف فساد الجنس البشري، لأن الكلمة بتجسده أرتضى أن يحمل كل أوجاع البشرية وموتها المحتوم في جسده الشبيه لنا في كل شيء ما خلا الخطيئة وحدها، ولكونه فوق الجميع لأنه الله الكلمة بالحقيقة فقد جعل جسده ذبيحة لأجل الجميع، ولكونه واحداً معنا فعلاً ألبسنا عدم الفساد وأدخلنا في شركة حيه مع الآب في شخصه المتحد بنا اتحاداً حقيقياً لا رمزية فيه، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[ فقد أدرك الكلمة جيداً أنه لم يكن ممكناً أن يُقضى على فساد البشرية بأي طريقة أُخرى سوى الموت نيابة عن الجميع. ومن غير المُمكن أن يموت الكلمة لأنه غير مائت بسبب أنه هو ابن الآب غير المائت. ولهذا اتخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت حتى إنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الجميع، يُصبح جديراً ليس فقط أن يموت نيابة عن الجميع، بل ويبقى في عدم فساد بسبب اتحاد الكلمة به. ومن ذلك الحين فصاعداً يُمنع الفساد من أن يسري في جميع البشر بنعمة القيامة من الأموات. لذلك قَدَّمَ للموت ذلك الجسد الذي اتخذه لنفسه كتقدمة مقدسة وذبيحة خالية من كل عيب. وببذله لهذا الجسد كتقدمة مناسبة، فإنه رفع الموت فوراً عن جميع نظرائه البشر .

ولأن كلمة الله هو فوق الجميع فقد كان لائقاً أن يُقدم هيكله الخاص وأداته البشرية فدية عن حياة الجميع موفياً دين الجميع بموته. وهكذا باتخاذه جسداً مماثلاً لجسد جميع البشر وباتحاده بهم، فإن ابن الله عديم الفساد ألبس الجميع عدم الفساد بوعد القيامة من الأمواتولم يعد الفساد الفعلي بالموت له أي سلطان على البشر بسبب الكلمة الذي جاء وسكن بينهم بواسطة جسده.
وكما أنه عندما يدخل أحد الملوك العظام إلى مدينة عظيمة، ويسكن في أحد بيوتها فإن المدينة كلها تُكرَّمه أعظم تكريم ولا يجرؤ أي عدو أو عصابة أن تدخل إليها أو تحطمها، بل على العكس تكون جديرة بكل عناية واهتمام بسبب سُكنى الملك في أحد بيوتها، هكذا كان الحال مع ملك الكل.
والآن، لأنه قد جاء إلى عالمنا وسكن في جسد مماثل لأجسادنا، فقد بَطُلت منذ ذلك الحين كل مؤامرة العدو ضد البشر وأُبطل فساد الموت الذي كان سائداً عليهم من قبل، لأن الجنس البشري كان سيهلك بالتمام لو لم يكن رب الكل ومُخلص الجميع ابن الله قد جاء ليضع حداً للموت. ] (القديس اثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة الفصل التاسع: 1 – 4)

ويقول أيضاً: [ وفي الحقيقة فإن هذا العمل العظيم (التجسد) هو لائق بدرجة فائقة بصلاح الله. لأنه إذا أسس ملك منزلاً أو مدينة ثم تسبب إهمال سكانها، حاربها اللصوص، فإنه لا يُهملها قط، بل ينتقم من اللصوص ويُخلصها لأنها صنعة يديه وهو غير ناظر إلى إهمال سكانها، بل بما ما يليق به هو ذاته (فإهمال البشر يقابله عدم إهمال الله، فالإهمال لا يليق بصلاح الله تجسد الكلمة فصل2: 1).

هكذا وبالأكثر جداً فإن كلمة الآب كلي الصلاح، لم يتخلى عن الجنس البشري الذي خُلِقَ بواسطته، ولم يتركه ينحدر إلى الفناء. بل أبطل الموت الذي حدث نتيجة التعدي، بتقديم جسده الخاص. ثم قوَّم إهمالهم بتعاليمه، وبقوته الخاصة أصلح كل أحوال البشر.
وهذه كلها يُمكن للمرء أن يتحققها مما قاله الكُتاب (التلاميذ الرسل) الموحى إليهم عن المُخلِّص، إذا قرأ أحدٌ، ما كُتِبَ بواسطتهم حيث يقولون: ” لأن محبة المسيح تحصرنا، إذ نحن نحسب هذا إنه أن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذاً ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي لا نعيش فيما بعد لأنفسنا، بل للذي مات لأجلنا وقام ربنا يسوع المسيح ” . وأيضاً: ” لكن الذي وُضِعَ قليلاً عن الملائكة (باتخاذه جسداً بشرياً) نراه مُكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد ” (عب2: 9).

وبعد ذلك يوضح السبب الذي من أجله كان ضرورياً أن الله الكلمة نفسه وليس آخر سواه هو الذي يتجسدفيقول: ” لأنه لاق (لائق) بذلك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد أن يُكمل رئيس خلاصهم بالآلام ” (عب2: 10). وهو بهذا يقصد أن يوضح أنه لم يكن أحدٌ آخر يستطيع أن يسترد البشر من الفساد الذي حدث (نتيجة السقوط) غير كلمة الله الذي خلقهم في البداية.
وأيضاً أشار الرسول إلى أن الكلمة بذاته أتخذ لنفسه جسداً ليُقدمه ذبيحة عن الأجساد المُماثلة قائلاً: ” فإذ تشارك الأولاد في اللحم والدم أشترك هو أيضاً فيهما لكي يُبيد بالموت ذلك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ” (عب2: 14و 15).
لأن بذبيحة جسده الذاتي وضع نهاية لناموس الموت الذي كان قائماً ضدنا. وصنع لنا بداية جديدة للحياة برجاء القيامة الذي أعطاه لنا. لأنه إن كان بإنسان واحد (آدم) قد ساد الموت على البشر، ولهذا أيضاً فبسبب تأنس كلمة الله فقد حدثت إبادة للموت وتمت قيامة الحياة كما يقول لابس المسيح بولس: ” فإنه إذ الموت بإنسان،بإنسان أيضاً قيامة الأموات لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيُحيا الجميع ” (1كو15: 21 – 22)، وبالتالي فنحن الآن لا نموت بعد كمُدانين، بل كأُناس يقومون من الموت ننتظر القيامة العامة للجميعوالتي سيُبينها في أوقاتها التي يُحددها الله الذي أتمها والذي وهبنا إياها ] (القديس اثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة الفصل10: 1 – 5)