أبحاث

الابيونية Ebionite والدوسيتية Docetic – بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح

الابيونية Ebionite والدوسيتية Docetic – بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح

الابيونية Ebionite والدوسيتية Docetic – بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح
الابيونية Ebionite والدوسيتية Docetic – بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح

الابيونية Ebionite والدوسيتية Docetic – بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح

أوَّلية علاقة الابن بالآب في الفكر اللاهوتي الآبائي

لقد تناولنا في الفصل الثاني العلاقة بين الآب والابن، ورأينا أنه من داخل هذه العلاقة فقط، أُعطينا إمكانية الدخول إلى معرفة الله وفقًا لما هو بالحقيقة في ذاته، لأنه في الابن فقط – الابن الوحيد المولود من الآب – وكلمة الله المتجسد، قد أظهر الله ذاته لنا بحيث نستطيع أن نعرفه وفقًا بالضبط لطبيعته الإلهية.

وفي هذا السياق، وجدنا أن كلاًّ من التقوى والبحث الدقيق، وكلاًّ من علم اللاهوت (الكلام عن الله) والعلوم الأخرى، يساهمان معًا في الإدراك المنطقي لإعلان الله عن ذاته لنا في يسوع المسيح – في الزمان والمكان – ويساهمان كذلك فيما يتطلبه هذا الإدراك من تغيير جذري في أسلوبنا المعتاد في التفكير.

وفي الفصل الثالث، ناقشنا حقيقة أنه فقط من داخل علاقة الآب بالابن يمكننا أن نفهم عملية الخلق بكونها عمل الله الآب (بواسطة الابن وفي الروح القدس). فكون الله “خالقًا” ينبغي أن يُفهم من منظور أو من واقع كون الله “آبًا” وليس العكس، لأنه في ابنه وبواسطته قد خُلقت كل الأشياء. إن ما يفعله الآب يفعله الابن وما يفعله الابن يفعله الآب.

ولذلك فإن كلاًّ من عملية الخلق وطبيعة الخليقة يجب فهمها من منظور يسوع المسيح. ومن هذا المنطلق تكون عقيدة الخلق في المسيحية وما تتضمَّنه من مفهوم “الاعتمادية” قائمة على أساس عقيدة التجسد. ولذا حين نبدأ تفكيرنا من منطلق هاتين العقيدتين نجد أن مفهومنا عن الله والمسيح والعالم قد تغيَّر بالكامل.

إذن فكل شيء يعتمد على العلاقة – وطبيعة العلاقة – الكائنة بين يسوع المسيح الابن المتجسد وبين الله الآب. ولذلك فإننا في هذا الفصل سنتناول الإجابة عن الأسئلة الآتية:

  • كيف يجب علينا أن ننظر إلى العلاقة الكائنة بين الابن والآب؟
  • ماذا يعني الإنجيل عندما يخبرنا أن المسيح قد أُرسل من قِبَل (بواسطة) الله، وأنه من عند الله وأنه من الله الآب؟
  • كيف يجب أن ننظر إلى يسوع المسيح ذاته في إعلانه عن الآب؛ إذ إن كل شيء يعتمد بالفعل على هذا الإعلان؟

وهذه الأسئلة، تجيب عنها بالفعل العبارات التي أوردها الآباء في قانون الإيمان النيقي – القسطنطيني[1]. ونحن في ظل تسليمنا بأولوية علاقة الآب بالابن على علاقة الخالق بالمخلوق، فإن ما يهمنا هنا هو كيف ينبغي أن نفهم علاقة الابن بالآب بشكل دقيق ومحدد، حتى نتفادى الوقوع في الأخطاء والالتباسات التي حدثت في القرن الرابع، والتي كادت أن تهدد قلب الإيمان المسيحي وجوهره.

بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح

لا شك أن مشاكل القرن الرابع هذه، كانت قد نشأت بسبب الثنائية الحادة بين عالم الحسّيات (الأشياء المحسوسة) وعالم المُدرَكات (الأشياء التي تُدرَك بالعقل) – والتي جاء ذكرها في مطلع الفصل الثاني – وبسبب ما أحدثته هذه الثنائية من تأثير على ما كان يوجد في داخل الكنيسة من أنماط مختلفة للفكر العبري والهلليني. وقد بدأت هذه المشاكل في الظهور حين شرعت الكرازة في الانتشار خارج قاعدتها الأولى في أورشليم واليهودية حيث بدأت تمد لها جذورًا في داخل الثقافة الإغريقية – الرومانية.

وسرعان ما ظهرت محاولات متناقضة لتفسير سر يسوع المسيح، ليس فقط انطلاقًا من الفكر العبري والهلليني المتباين، ولكن أيضًا من منطلق المفهوم السائد الخاص بالتناقض الحاد بين الله والعالم. ومن ثم ظهرت بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح: بدعة الأبيونيين ebionite وبدعة الدوسيتيين docetic.

وقد فصلت هاتان البدعتان بين اللاهوت والناسوت (في المسيح) وبالتالي شوَّهتا – وقسَّمتا بطرق مختلفة – كمال الصورة التي قدَّمها العهد الجديد عن المسيح بكونه إلهًا وإنسانًا معًا وفي آنٍ واحد (إله متأنس). وهنا يجب أن نتوقف قليلاً للنظر في هذه الانحرافات، لأنها تمثل الصور الأولى للمشاكل التي واجهت الكنيسة في القرن الرابع الميلادي.

البدعة الابيونية Ebionite

لقد نشأت البدعة الابيونية بين جماعة من المسيحيين الأوائل من أصل يهودي كانوا يُلقَّبون ب- “الفقراء” (ebionim)[2]. وكانوا يفسرون سر المسيح: بأن يسوع الإنسان قد اختاره الله لبنوّة إلهية خاصة عندما حلّ عليه الروح القدس في معموديته، ولم يؤمنوا به كمولود من الآب بل كمخلوق، ولم يعتبروه أنه هو الله الذي صار إنسانًا، بل رأوه بالأحرى كنبي قد حلّ الله فيه. وبالتالي فقد رفضوا فكرة وجود أية علاقة كيانية داخلية بين المسيح والآب، مفضِّلين عن ذلك فكرة وجود علاقة معنوية خارجية بينهما، وهي التي بموجبها أتمّ المسيح رسالته المسيانية.

وقد سعى الفكر الأبيوني عن المسيح – ومن مدخل يتجه من أسفل إلى أعلى* – إلى تفسير كيفيّة حلول الله في يسوع المسيح، بطريقة تحتفظ بمكانته الفريدة في الإيمان المسيحي، ولكن أيضًا بحيث لا يمس ذلك سمو الله الفائق ووحدانيته المطلقة. إلاّ أن يسوع المسيح في نظر هؤلاء كان بلا شك ضمن صفوف المخلوقات – بكل ما بينها وبين الله من فرق جذري – ولذا لم يكن من الممكن النظر إليه على أنه يجسِّد في شخصه الذاتي حضور الله الحقيقي نفسه أو عمل الله الخلاصي بين البشر.

وبالتالي لم يكن يسوع المسيح (في نظرهم) هو مركز الإيمان، بل كان مركز الإيمان هو “الآب السماوي” فقط، وهو الذي كان يشير إليه (إلى الآب) المسيح دائمًا في تعاليمه للجنس البشري. وبما أن أصحاب هذه البدعة كانوا يرون أن علاقة الله بالعالم هي علاقة هامشية، فقد ظل الله بالنسبة لهم هو إله اليهودية المخفي المجهول، الذي لا يسمح للبشر بأن يعرفوا أي شيء عنه حسبما هو في كيانه الذاتي الأزلي.

ولكي يقدر الأبيونيون أن يقدِّموا للعالم رسالة فعليّة عن الإعلان والفداء الإلهي، اضطروا – في نظرتهم للمسيح – أن يعتبروه على نحو ما شخصًا إلهيًّا! مما تناقض بالطبع مع ما قالوه في أول الأمر عن طبيعة المسيح المخلوقة.

البدعة الدوسيتية Docetic

أما البدعة الأخرى التي تسمى “الدوسيتية” (أي الخيالية) فقد أخذت اسمها من طوائف تُفرط في التفسير الروحاني وكانت تؤمن بأن جسد المسيح، ابن الله المتجسد، لم يكن جسدًا حقيقيًّا بل قد بدا كذلك، أي كان جسدًا وهميًّا (خياليًّا)[3]. وكانت هناك بالفعل تحذيرات من الدوسيتية وردت في العهد الجديد[4]، حيث كانت هذه البدعة سائدة وسط غنوسييّ القرن الثاني والثالث ثم انتشرت على نطاق واسع بعد ذلك.

ومن خلال مدخل يتجه من أعلى إلى أسفل* سعى الفكر الدوسيتي عن المسيح – وبالاعتماد على مفهوم الثنائية – إلى تفسير كيف صار الله إنسانًا في يسوع المسيح، بطريقة تركز فقط على حقيقته الإلهية بدون مساس بثبات الله وعدم تغيره وعدم شعوره بالألم رغم اتحاده بالجسد. وكانت النتيجة أنهم نظروا إلى طبيعة المسيح الإنسانية وشعوره بالألم كشيء وهمي (خيالي) غير حقيقي، وذلك لكي يعطوا (حسب تفكيرهم) لرسالة الإنجيل صفة المثالية، وبالتالي قوَّضوا حقيقة التجسد الموضوعية والتاريخية.

إذن فتجسد الكلمة لم يكن في نظرهم إلاّ أداة في يدي الله لإدخال الحق الإلهي في العالم، ولكن هذه الأداة تنتهي عندما يتحقق الغرض منها. ومما لا شك فيه أن تلك الصورة التي توصَّلت إليها الدوسيتية عن المسيح، كانت من جهة أخرى، قد تم التوصل إليها وتفسيرها بعيدًا عن تعليم الإنجيل وحسب الأفكار البشرية المسبقة.

وهكذا اعتادت الدوسيتية – فيما يخص المسيح – أن تبتعد عن نقطة البداية، ألا وهي: ألوهية المسيح. وكانت تميل إلى الافتراضات البشرية أو الأسطورية وتطبِّقها على الله، ولم تعدو ألوهية المسيح بالنسبة لهم عن كونها فكرة بشرية أضفوا عليها شكلاً إلهيًّا.

وهنا نلاحظ أن هناك خلطًا وجدلاً واضحًا في كلتا البدعتين، لأنه بسبب “الثنائية” التي ظهرت في كل منهما، وبسبب التضاد بين الخالق والخليقة، كان لا بد أن تتداخل الواحدة في الأخرى[5].

1  كان نص اعتراف الإيمان النيقي يحتوي على عبارة ” إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق”، ولكن مجمع القسطنطينية رأى حذف عبارة إله من إله باعتبارها مكررة.

2  See Justin Martyr, Dial.c. Tryph., 47-48, Irenaeus, adv. haer., 1.22.1, vol.1, pp. 212f; 3.11.10, vol.2, p. 45; 3.15.1f, pp.78f; 4.52.1f, pp. 259f; 5.1.3, pp. 316f; Hippolytus, Ref. haer., 7.34f; 9.13ff; Origen, De prin., 4.1.22; Con. Cel., 2.1; 5.61, 65; Minucius Felix, Dial. Oct., 36; Tertullian, De praescr., 33; Eusebius, Hist. eccl., 3.27; 4.22; Hilary, De Trin., 1.26; 2.4; 7.3,7; 8.40; De syn., 38f, 50; Epiphanius, Haer., 29f; Jerome, Ep., 112,13. Cf. Ignatius, Philad., 8; Magn., 8ff.

*   من أسفل إلى أعلى هو تعبير يشرح نظرة هذه البدعة للمسيح باعتباره كان إنسانًا عاديًّا (من أسفل) ثم أصبح ابنًا لله في المعمودية أي إنه انتقل إلى هذه الحالة (إلى أعلى). (المترجم)

3  Ignatius, Eph., 7.18-20; Trall., 9; Smyrn., 1-3, 5, 7; Magn., 11; Justin, De res., 2; Irenaeus, Adv. haer., 1.16.2, vol.1, p. 193f; 3.17.5f, vol.2, pp. 86ff; 4.55.2ff, p.266ff; 5.1.2, pp. 315f; Hippolytus, Ref. haer., 8.8-11; 10.16; Clement Alex., Strom., 7.17; Eusebius, Hist. eccl., 6.12; Theodoret, Haer., 5.12; Ep., 82. See also Tertullian, De carne Christi, passim.

[4]  1يو 22:2؛ 2:4؛ 2يو 7.

*  من أعلى إلى أسفل هو تعبير يشرح مدخل الدوسيتيين إلى المسيح باعتباره الله المتعالي (من أعلى)  الذي ظهر في شكل جسد غير حقيقي، أي إنه تنازل وظهر في هذه الحالة – الوهمية – الأقل (إلى أسفل). (المترجم)

[5]  كان ق. أثناسيوس مدركًا بالفعل لهذه الأمور الجدلية، ولكنه كان يعتبر أن قانون الإيمان النيقي هو الحصن الحامي ضدها جميعاً:

Con. Ar., 1.8; 2.12, 14; De decr., 12, 32; De syn., 45; Ad. Afr., 11. See also Evagrius/Basil, Ep., 8.3; and Basil, Ep., 125.1.

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

مختصر تاريخ ظهور النور المقدس

مدرسة الاسكندرية اللاهوتية – د. ميشيل بديع عبد الملك (1)

القديسة مريم العذراء – دراسة في الكتاب المقدس

الابيونية Ebionite والدوسيتية Docetic – بدعتان متناقضتان من جهة شخص يسوع المسيح

تقييم المستخدمون: 5 ( 3 أصوات)