آبائيات

الروح القدس في تعليم القديس إبيفانيوس

الروح القدس في تعليم القديس إبيفانيوس

الروح القدس في تعليم القديس إبيفانيوس
الروح القدس في تعليم القديس إبيفانيوس

إقرأ أيضًا:

أما القديس إبيفانيوس، ففي كتابه “المثبَّت بالمرساة” (Anchoratus) الذي صدر قبل صدور كتاب القديس باسيليوس “عن الروح القدس” (De Spiritu Sancto)، وكذلك في كتابه “خزانة الدواء” (Panarium haeresium) الذي صدر بعد ذلك بأربع سنوات، قدَّم نفس المفهوم عن طبيعة الروح القدس الأقنومية الكاملة وعمله الأقنومي. غير أن القديس إبيفانيوس كان له توجه عبري في كونه أرجع “أنا هو” الخاصة بالله الواحد إلى جوهره (οσία) (الواحد)، بينما أشار إلى كل أقنوم بمصطلحات “شخص” و”اسم” و”أقنوم”[1].

وكان هذا الفكر يعد امتدادًا مباشرًا لتعليم القديس أثناسيوس الذي جاء في خطابه إلى كنيسة أنطاكية (Tomus ad Antiochenos). ولكن من الواضح أيضًا في نفس الوقت أن أفكار القديس إبيفانيوس وق. باسيليوس كانت مألوفة لدى بعضهما البعض[2].

وقد أكَّد القديس إبيفانيوس كذلك أن مصطلح “هوموأووسيوس” (μοούσιος) النيقي ينطوي ضمنيًّا على وجود أقانيم متمايزة في الله، لأن أقنومًا واحدًا لا يمكن أن يكون له ذات الجوهر الواحد “هوموأووسيوس” مع نفسه، وأصرَّ على أن كلاًّ من الأقانيم الثلاثة له وجود ثابت وجوهري وحقيقي وكامل داخل جوهر الله الواحد، وبالحقيقة فإن كيان الروح الكامل هو مثله مثل كيان الابن الكامل وكيان الآب الكامل، فكل أقنوم هو الله بالتمام والكمال[3]، ولذلك تَعبد الكنيسة وتمجِّد الروح القدس مع الله الآب والله الابن.

وفي ضوء هذا، يتضح أن صيغة “جوهر واحد، ثلاثة أقانيم” كانت مقبولة تمامًا لدى القديس إبيفانيوس، على الرغم من أنه كان ينظر إلى “الأوسيا” (οσία) بنفس طريقة مجمع نيقية* حيث إنه (أي مصطلح الأوسيا) كان يُفهم لديه بكونه يعبِّر عن الجوهر في علاقاته الداخلية (أي المتضمِّن العلاقات الداخلية للثالوث) وبكونه يشتمل على مدلول أو معنى أقنومي (أي شخصي)[4]. ولذا استطاع القديس إبيفانيوس أن يتعاملمثلما فعل القديس أثناسيوسمع

المصطلحين “أوسيا” (οσία) و”هيبوستاسيس” (πόστασις) بمرونة كبيرة* في ضوء المعنى المقصود في كل موقف[5]. وقد ساهم القديس إبيفانيوس بالفعل في الوصول بعقيدة نيقية عن الروح القدس إلى صورتها الكاملة التي تؤكد تمامًا وبلا تردد على ألوهية الروح القدس، ولذا نراه يقول: “نحن ندعو الآب الله، والابن الله، والروح القدس الله … وعندما تنطق بال “هوموأووسيوس” فإنك تعلن أن الابن هو إله من إله، وأن الروح القدس هو إله من نفس اللاهوت[6]“.

فالروح القدس في أقنومه الذاتي المتمايز، هو إله تام وكامل، إله من إله، له ذات الجوهر الواحد مع الآب والابن. وفي فعله الخاص الفريد بكونه الروح القدس، فإنه يجعل الاشتراك في الثالوثغير المنقسمممكنًا.

وكان لتعليم القديس إبيفانيوس عن الروح القدس بعض الملامح الخاصة المميَّزة:

  1. على خلاف الآباء الكبادوكيين، لم يتحدث القديس إبيفانيوس عن أقانيم الثالوث الآب والابن والروح القدس بكونها “أنماط للوجود” (τρόπος πάρξεως) في جوهر الله الواحد، ولكنه فضَّل أن يتحدث عنهم ككيان “أقنومي” (شخصي) أساسي (νυπόστατος) في داخل جوهر الله*، أي إن لهم كيانًا حقيقيًّا وشخصيًّا في الله وأنهم في تلازم وتواجد (احتواء) متبادل فيما بينهم. وكان هذا الأسلوب أكثر تحديدًا وواقعية في الحديث عن حقيقة الأقانيم الإلهية المتمايزة في داخل جوهر الله الواحد[7]، ومن الملاحظ أن القديس كيرلس السكندري قد التقط نفس هذا الأسلوبالذي يعود إلى القديس أثناسيوسفي تعليمه اللاهوتي.
  2. 2. كان فهم القديس إبيفانيوس لل “هوموأووسيوس” بأنه لا ينطبق على كل أقنوم فحسب، بل أيضًا على علاقات الثالوث الداخلية ككل*، مما كان له أكبر الأثر في تعميق إدراكه للتلازم والتواجد (الاحتواء) المتبادل الذي بين الآب والابن والروح القدس في علاقاتهم الأقنومية داخل الجوهر الواحد، حتى إنه استطاع أن يقول عن الروح القدس إنه في “وسط (ν μέσ) الآب والابن” أو إنه هو “رباط الثالوث (σύνδεσμος τς Τριάδος)[8]“. إلاّ أن هذا التعليم لم يكن يتضمَّن أية إشارة إلى تبعية أو خضوع أي من الأقانيم للآخر، لأن كل ما للآب هو للابن وهو للروح القدس. وصدور الابن والروح القدس من الآب، ووجودهما مع الآب، هو بلا أي بداية وبلا أي زمن (νρχως καί χρνως)؛ إذ لا يوجد “قبل” أو “بعد” فيما يتعلق بالله[9]. وكما قال القديس إبيفانيوس عن الروح القدس: “لم يوجد هناك (وقت)، لم يكن فيه الروح (القدس) كائنًا (οδέ ν ποτέ τε οκ ν Πνεμα)[10]#.
  3. الروح القدس كائن في، ويتدفق من، جوهر الثالوث القدوس الداخلي ومن حياته ونوره، حيث يشترك بصورة مطلقة وكاملة في المعرفة المتبادلة التي بين الآب والابن. ومن هذا المنطلق يحل الروح القدس في وسطنا (ν μέσ)، منبثقًا من الآب وآخذًا من الابن، ومعلنًا الله لنا، ويجعلنا فيه نشارك في معرفة الله لذاته[11].
  4. 4. ومثله مثل القديس أثناسيوس، رفض القديس إبيفانيوس بشدة أي اتجاه أو تفكير فيه تجزيء لله، سواء فيما هو نحونا (أي فيما يخص عمل الله معنا) أو فيما هو في ذاته (أي فيما يخص عمل الأقانيم الواحد). ولذا اعتبر القديس إبيفانيوس أن إعطاء الله ذاته لنا في الروح القدس هو أمر موحد لا يمكن تجزئته؛ إذ إن المُعطي والعطية هما واحد. كما رأى أنه توجد أعمال متنوعة للروح القدس، ولكن في جميعها، يكون الثالوث هو الذي يعمل بشكل مباشر وخلاَّق، فهناك نعمة واحدة (ν χάρισμα) فقط، وروح واحد (ν Πνεμα)، لأن الله ذاته في ملء كيانه الثالوثي يكون حاضرًا في جميع أعماله من خلق واستعلان وشفاء واستنارة وتقديس[12].

من كل هذا نرى أن القديس إبيفانيوس قدَّم تعليمه عن الروح القدس من منطلق فهمٍ شاملٍ للثالوث القدوس غير المنقسم ككل، وليس فقط من منطلق أن الرئاسة (في الثالوث) هي في الآب وحده (Μοναρχία).

وأكَّد إبيفانيوس تأكيداً مشدداً على أن الله واحد مثلث الأقانيم بدون أن يكون في ذلك أي انتقاص من حقيقة وكمال الطبيعة الأقنومية المتمايزة لكل من الأقانيم الإلهية في علاقتهم ببعضهم البعض، ونراه يقول: “وفي إقرارنا بوحدة المبدأ (أو وحدة الرأس) (Μοναρχία) فإننا لا نضلّ، بل نعترف بالثالوث، وحدة في ثالوث وثالوث في وحدة، لاهوت واحد للآب والابن والروح القدس[13]“، ويضيف أيضًا: “يوجد إله حقيقي واحد، ثالوث في وحدة، إله واحد الآب والابن والروح القدس[14]“.

ومن الجدير بالذكر أن صياغة القديس إبيفانيوس لعقيدة الروح القدسانطلاقًا من هذا التعليمكانت هي التي امتدت مباشرةً إلى مجمع القسطنطينية عام 381م وهي: “نؤمن بروح قدس واحد، الرب المحيي، المنبثق من الآب، نسجد له ونمجده مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء[15]“.

 

141Cf. Epiphanius, Anc., 6, 8; Haer., 57. 10; 62.7f; 63.7; 69.36, 67, 72; 73.16; etc.

142Basil, Ep., 258.

143Epiphanius, Haer., 62.3ff; 65.1-8.

*انظر الفرق بين مفهوم الأوسيا عند القديس أثناسيوس (وآباء نيقية) وعند الآباء الكبادوكيين: الحاشية صفحة 294. (المترجم)

144Epiphanius, Anc., 81; Haer., 73.34.

* كان الفكر اللاهوتي السكندري هو أول من بدأ في التمييز في المعنى بين ’الأوسيا‘ و’الهيبوستاسيس‘ بكون الأول يعبِّر عن الجوهر والثاني يعبِّر عن الأقنوم وذلك ابتداءً من أوريجانوس (origin, in John ii 6,10-75)، كما نراه كذلك عند ديونيسيوس السكندري (في رسائله إلى ديونيسيوس الروماني quoted by St. Basil, De Sp. St., 72) وأيضًا عند ديديموس الضرير (De Trin., 1.18 etc., cited by Newman, 436).

ولكن هذا النضج في التفريق بين مدلولي المصطلحين لم يكن كذلك خارج الإسكندرية، إذ بقي مفهوم ’الهيبوستاسيس‘ لا يخرج عن مفهوم ’الأوسيا‘ في أبسط معانيه، وهذا الاتجاه نجده واضحًا في مقررات مجمع نيقية نفسه؛ إذ يضع المجمع المصطلحين كمترادفين دون أي تفريق بينهما، وقد اضطر السكندريون لقبول ذلك على مضض (Hahn: the Creed p. 209 cited by Beth Bak. P. 237).

ولكن الأمر المدهش الذي حيّر اللاهوتيين، هو أن آباء الإسكندرية عندما أدركوا أن الأريوسيين يحاولون الاستفادة من اصطلاح الثلاثة أقانيم ليصلوا إلى التفريق في اللاهوت (أي التفريق بين الآب والابن والروح القدس في الجوهر، بمعنى أن هناك جوهرًا أوليًّا غير مخلوق وجوهرًا ثانيًا مخلوقًا)هذا من جهةومن جهة أخرى، عندما أدركوا كذلك عدم فهم اللاهوتيين وخاصة في الغرب للفرق بين معنى ’الأوسيا‘ و’الهيبوستاسيس‘، بدأوا في كتاباتهم الموجهة إليهم يخاطبوهم على حسب إدراكهم.

وهذه الحقيقة نراها في غاية الوضوح في كتابات القديس أثناسيوس: إذ بينما في كتاباته الخاصة يفرِّق في الاستخدام بين المصطلحين (Ibid. De Virginitate (1) De incarn.)، نجده يعود في كتاباته العامة الموجهة ضد الأريوسيين والموجهة للغرب ليقول بالهيبوستاسيس الواحد كمرادف للأوسيا دون تفريق. إلى أن جاء مجمع الإسكندرية 362م وأعلن القديس أثناسيوس للعالم أنه يصح الأخذ بمصطلح الهيبوستاسيس بمعنى الأقنوم.

ومع مرور الوقت اتفق العالم شرقًا وغربًا على الأخذ بتعليم الإسكندرية الرصين، وقد ساعد الآباء الكبادوكيون وبخاصة القديس باسيليوس على انتشار هذا الفكر. (ارجع إلى كتاب القديس أثناسيوس الرسولي للأب متى المسكين الطبعة الثانية صفحة 422). (المترجم)

145E.g. Epiphanius, Haer., 69.72.

146Epiphanius, Anc., 2.

*مصطلح (νυπόστατος) يعني كيان شخصي (أقنومي) أساسي في داخل الجوهر، وهذا يختلف عن التعبير عن الأقانيم بأنها أنماط (أشكال) للوجود. (المترجم)

147Epiphanius, Anc., 5-10, 67, 72, 74, 81; Haer., 57.4f; 62.1ff, 6; 65.1ff; 69.21, 40; 70.6; 72.5, 11; 74.9; 76. Ref. Aet., 2f, 12, 18; 77.32; 77.22; cf. Athanasius, De syn., 42; Con. Ar., 4.2; Con. Apol., 1, 20.

* كان القديس إبيفانيوس يقصد أن ’الوحدانية في ذات الجوهر‘ (μοούσιος) لا تنطبق فقط على كل أقنوم على حدة وبالتالي كل منهم هو ’هوموأووسيوس‘ مع الأقنومين الآخريّن، ولكنها تنطبق أيضًا على علاقة الأقانيم ككل ببعضهم البعض أي إن الثلاثة يشتركون معاً في ذات الجوهر الواحد وذلك بسبب التواجد (الاحتواء) المتبادل بينهم (داخل الجوهر). (المترجم)

148Epiphanius, Anc., 4, 7f, 10; Haer., 62.4; 74.11; cf. Gregory Naz., Or., 31.8f; Basil, De Sp. St., 38, 43, 45f.

149 Epiphanius, Anc., 46; Haer., 57.4; 62.3; 69.36; 70.8; 73.36; 74.1;76.6,21.

لاحظ إشارة القديس إبيفانيوس في (Haer., 69.54) إلى الابن والروح القدس بكونهما المصدر المطلق مع الآب، أي نبع من نبع(πηγή ε̉κ πηγη̃ς).

150 Epiphanius, Anc., 74, 120; Haer., 74.10. Cf. Gregory Naz., Or., 29.3; 31.4.

#وكانت نفس هذه العبارة قد قيلت عن الابن في مواجهة هرطقة أريوس. (المترجم)

151Epiphanius, Anc., 6ff, 11, 15, 67, 70f, 115; Haer., 57.9; 62.4; 64.9; 69.18, 43; 74.4, 10; 76. Ref. Aet., 7, 21, 29, 32. Cf. Athanasius, Con. Ar., 1.20, 33, and Hilary, De Trin., 2.3; and Basil, Hom., 111.7.

152Epiphanius, Anc., 7f, 67f, 70f, 119f; Haer., 69.17, 52; 70.5; 72.4f; 73.16, 18; 74.5, 7, 11f; De fide, 14.

153Epiphanius, Haer., 62.3.

154Epiphanius, Anc., 2. See also 6, 10, 24, 26, 28, 67, 73f, 81, 117f; Haer., 57.4, 8; 62.3, 8; 69. 33, 44, 54, 56, 62, 68, 74ff; 72.1; 73.16, 34; 74.11; 76.6; De fide, 14.

155Epiphanius, Anc., 119; cf. 120; Haer., 66.70ff, 84; 67.3; 74.10; 76. Ref. Aet., 36, etc.

الروح القدس في تعليم القديس إبيفانيوس

تقييم المستخدمون: 5 ( 3 أصوات)