آبائيات

الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير ـ غريغوريوس اللاهوتي ـ يوحنا ذهبي الفم) – د. عصام سامي زكي

الآباء المعلمين: مقدمة عن حياتهم وتعاليمهم والأوضاع التاريخية والكنسية

تقييم المستخدمون: 4.9 ( 3 أصوات)

الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير ـ غريغوريوس اللاهوتي ـ يوحنا ذهبي الفم) مقدمة عن حياتهم وتعاليمهم والأوضاع التاريخية والكنسية – د. عصام سامي زكي

المحتوى

الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير ـ غريغوريوس اللاهوتي ـ يوحنا ذهبي الفم) مقدمة عن حياتهم وتعاليمهم والأوضاع التاريخية والكنسية - د. عصام سامي زكي
الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير ـ غريغوريوس اللاهوتي ـ يوحنا ذهبي الفم) مقدمة عن حياتهم وتعاليمهم والأوضاع التاريخية والكنسية – د. عصام سامي زكي

 

إعداد

د. عصام سامي زكي

دكتوراه في اللاهوت

 

إهداء إلى روح المتنيح الزميل والصديق والأخ والأب: أبونا صموئيل وهبة، الذي لي ثقة أنه يصلي عني في السماء

 

ابنك عصام سامي

 

مقدمة:

الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة غنية بآبائها ومعلّميها والذين بذلوا حياتهم في التعليم والوعظ والكتابة ومقاومة المبتدعين والهراطقة، ومن أشهر هؤلاء هم القديسون الثلاثة باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا ذهبي الفم والذين كانوا يلقبوا بأقمار الكنيسة الثلاثة، فنجد هذا الكتاب يحكي عن حياتهم وتعليمهم وتاريخ الكنيسة من خلالهم في صورة مبسطة ودقيقة فالمعد لهذا الكتاب كان دقيقًا منظمًا يذكر الحقيقة بصورة جميلة جمع بين التاريخ لأهم آباء الكنيسة وبين الروحيات العميقة واللاهوت كما قدمه اللاهوتيين الكبار بالكنيسة كما عضد الكاتب كل أجزاء الكتاب بالمراجع، الأمر الذي جعل من هذا الكتاب مرجعًا مهمًا.

وأخيرًا أقدّم الشكر لمعد هذا الكتاب لما بذله من تعب في إعداده والحصول على معلومة مفيدة ودقيقة وتقديمها لكل مسيحي يريد أن يتعمق في تاريخ الآباء الأول والذين لهم أهمية عظمى في الكنيسة إذ لا يخلو تعليم أو عظة في الكنيسة أو كتاب لأي كاتب أرثوذكسي من أحد أقوال هؤلاء الآباء.

الرب يعوض تعبه خيرًا ويجعل هذا العمل سبب بركة لكل إنسان

 

غبريال

أسقف بني سويف

 

مدخل للآبائيات

لقد عاشت الكنيسة وتعيش وسوف تعيش بقوة الروح الذي عمل في الآباء الذين أعطوا حياتهم لها وسوف يعطوا. فالكنيسة خالدة ولن تتوقف عن إنجاب آباء وقديسين. وقبل أن نسرد موجزًا صغيرًا عن بعض الآباء سنتعرف أولاً عن:

 

معنى وأهمية دراسة آباء الكنيسة:

الكنيسة عاشت وتعيش بآبائها ومعلّميها الذين ولدوا في أحضانها متعلمين من الروح القدس. ولهذا يلزم:

أ ـ تعريف عام بآباء ومعلّمي الكنيسة وكتاباتهم.

ب ـ تقديم بعض ما كتبه آباء ومعلّمي الكنيسة بطريقة مبسطة يسهل على القارئ فهم ما كتبوه.

ومن المهم جدًا أن نشرح أولاً مَن هو الأب ومَن هو المعلّم في الكنيسة؟ وبعد ذلك نحدد بالتدقيق معنى علم الآباء، حدوده، محتوياته، طريقة بحثه ومكانة الآباء في اللاهوت.

ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن الكنيسة ليست غنية فقط بأبنائها ولكن أيضًا بمعلّميها.

 

الأب والمعلّم:

الكنيسة تميّز بين الأب والمعلّم:

الأب أو الراعي هو الذي يلد المؤمنين روحيًا ويوجههم ويربطهم بالمخلّص يسوع المسيح عن طريق الروح القدس في الإنجيل والعامل في أسرار الكنيسة.

المعلّم وهو الذي له موهبة خاصة في التعليم حيث يقوم بمسئولية التعليم والتفسير للمؤمنين عن حقيقة الله، ويواجه أيضًا المشاكل الكبيرة والأزمات الشديدة اللاهوتية التي تعترض الكنيسة ويقوم بإيجاد حل لها.

ومن الأهمية أن نوضح أن كثيرًا من آباء الكنيسة كانوا آباء ومعلّمين في نفس الوقت وقد لقبتهم الكنيسة باسم الأب فقط دون أن تذكرهم باسم أب ومعلّم.

فغريغوريوس اللاهوتي على سبيل المثال يذكر في الكنيسة كمعلّم عظيم لكنيسة المسيح بينما كيرلس الأسكندري يُذكر كراعي ومعلّم حكيم في الكنيسة[1].

ومن المعروف أن الكنيسة عندما تعطي أحد أعضائها لقب الأب والمعلّم ليس من فراغ أو بالصدفة وإنما تقوم بالبحث الدقيق جدًا في كتاباته وعظاته وكيف قدم وأعطى للكنيسة.

 

الأعمال والكتب الكنسية وكيف قدّمها كتّابها ومعلّميها:

بصفة عامة قدّم اللاهوتيين لاهوتهم من منابع عديدة منها:

1 ـ الوعظ:

حيث كان من الضرورى إرشاد المؤمنين وتفسير الكلمة لهم حيث عكفوا على معايشة الكلمة وبمساعدة الروح القدس وعظوا المؤمنين عن الحقيقة التي تكلم عنها الكتاب المقدس.

 

2 ـ إظهار الحقيقة ومواجهة الهراطقة:

هنا تظهر محاولة اللاهوتيين في مواجهة الآراء والتعاليم الخاطئة التي قام بإثارتها أفراد أو أعضاء من الكنيسة أو خارجها حيث إن هذه التعاليم الغير صحيحة صارت وتصير عقبة في تقدم المؤمنين وتمثل خطورة في تعطيل خلاصهم لأن هذه التعاليم لا تعبّر عن الحقيقة، ولكنها خيال كاذب بعيد كل البُعد عن الحق الذي يؤدي إلى الخلاص وحيث أن جزءًا من عمل اللاهوتيين هو توضيح خطورة تلك الهرطقات محاولين إبعادها عن المؤمنين طالبين في ذلك أولاً الخبرة العملية للحقيقة التي عاشها آباء ومعلّمي الكنيسة محاولين في إظهار أخطاء هؤلاء الذين أصروا على أن عندهم الحقيقة وهو ليس صحيحًا، بل بأفكارهم السيئة وتعاليمهم الكاذبة زيفوا الحقيقة التي تكلم وكتب عنها الآباء والمعلّمين للكنيسة والتي تظهر أيضًا في المجاممع سواء المسكونية أو المحلية حيث إن الروح القدس كان مشاركًا وحاضرًا في بعض هذه المجامع وأضاء بوضوح، حيث قامت بإيضاح الكتب والتعاليم الفاسدة التي ضد التقليد وتعاليم الكنيسة.

ونستطيع أن نقول إن الآباء في إظهارهم للحقيقة الإلهية كانوا مفسرين للتدبير الإلهي لخلاص الإنسان أى عمل الثالوث لأجل البشرية.

وهنا يجب الإشارة إلى أن جزءًا من الكتابات المسيحية هذه كانت ردًا على أصحاب مذهب الغنوسية (مذهب الخلاص بالمعرفة) وأيضًا للعالم بصفة عامة سواء كان مؤمنًا أو غير مؤمن.

 

3 ـ صياغة الخبرة الإلهية:

أعضاء الكنيسة الذين لهم مع الروح القدس خبرة خاصة نتيجة الحياة التي عاشوها مع الحقيقة كاملة وعميقة قد اعتبروا أنه من الجيد صياغة هذه الخبرة العملية بصفة خاصة وكل تعاليمهم التي تعلّموها وعاشوها مع الروح القدس لاقتناء هذه الخبرة بصفة عامة.

الكنيسة منذ البدء كانت لها الرؤية الواضحة والتي بها ميزت بين الآباء الحقيقيين الذين أعطوا حياتهم للمسيح ولأولاده بلا حساب وبين مَن دعوا من الآخرين آباء. وهذا واضحًا ليس من التقدير والاحترام الذي أعطته لهم الكنيسة ولكن أيضًا بالطريقة المثلى في عطائهم للمؤمنين الذين في الحقيقة كانوا نورًا في العالم بطريقة حياتهم، في عطائهم، في سخائهم، بالإضافة إلى أنهم تركوا ثروتهم القلبية والعقلية في كتبهم التي هى كنز معطي باستمرار.

 

4 ـ العبادة والطقوس:

كان الاهتمام والعناية الأولى في تكوين الكنيسة هو ترتيب الأسرار والطقوس كسر المعمودية وسر التناول .. الخ، وغيرها من الأسرار على مضي الوقت، وهكذا تكونت النصوص الليتورجية خطو خطوة وكانت نتيجة ذلك أن المؤمنين عاشوا في المسيح متمتعين بالحياة الليتورجية مثمرين بذلك الألحان والأناشيد والتسابيح الكنسية.

نستطيع أن نفهم من العناصر السابقة أن الكتابات الآبائية التي ساعدت في خلق اللاهوت الكنسي الأصيل تساعدنا نحن أيضًا في تمييز الكتابات الصحيحة من غير الصحيحة.

 

اللاهوتي الحديث والتمييز بين الأب والمعلّم:

بعض اللاهوتيين المحدثين لم يعطوا الأهمية اللازمة لهذا التمييز بين الأب والمعلّم في الكنيسة، وذلك هروبًا من مشقة البحث، لأن هذا التمييز يستلزم من الباحث أن يفتش بالتدقيق في حياة وكتابات هؤلاء الآباء والمعلّمين ليرى الصورة بوضوح ويكشف الدور الذي قام به كل منهم وما قدمه للكنيسة في مسيرتها اللاهوتية الشاقة.

 

الآباء النساك:

وإلى جوار هذا التمييز السابق بين الأب والمعلّم هناك قديسون عظماء في الكنيسة الذين قدموا بحياتهم وسيرتهم وجهادهم في الجسد، قدوة للمؤمنين وصاروا نموذجًا يحتذى به، أمثال: القديسون الأنبا أنطونيوس، والقديس الأنبا بولا السائح، والثلاث مقارات القديسين، والقديسة مريم المصرية، وغيرهم كثيرون من الناسكون والناسكات، ومنهم من وصل إلى حالة التطهير الكامل، إذ كانت لهم شركة عميقة مع الإله الحق تبارك اسمه وكانوا مملوءين من روح المسيح القدوس. وكثير من هؤلاء القديسين لم يتركوا لنا كتابات في التعليم اللاهوتي والعقائد الكنسية ولكنهم تركوا لنا حياة معاشة تشرح اللاهوت والعقيدة عمليًا. دور هؤلاء القديسين في الكنيسة لا يقل في الأهمية عن دور الأب أو المعلّم.

 

الآباء كتبوا لاهوتهم مستضيئين بنور الروح القدس:

كتابات آباء وملعّمي الكنيسة كانت ثمرة شركة حقيقية مع الروح القدس. كما يقول القديس غريغوريوس النيسي [ الأنبياء والرسل وكذلك الرعاة (الآباء) والمعلّمون تغنوا بالروح القدس]. ولهذا فالكنيسة تعتبر كتاباتهم هذه ـ والتي تسميها الكنيسة بالتقليد ـ أنها تلي الكتاب المقدس مباشرةً في الأهمية كما أنها تعتبر العامل الأول في فهم الكتاب المقدس نفسه فهمًا مستقيمًا.

كتابات الآباء تعتبر أن الدخول إلى معرفة الحق والوصول إليه لا يمكن أن يتم إلاّ بواسطة إنارة الروح القدس المعطى مجانًا لأولئك الذين أعطوا حياتهم لله كليةً وبدون تحفظ. ونحن نتكلم هنا عن الحق الإلهي الذي يحرك الفكر وينقي المعنى الذي يظهر في الكلمة المكتوبة أو المقروءة. ومن المهم جدًا أن نذكر هنا أنه بدون قبول إشعاع الروح القدس لا نستطيع أن ندخل إلى معرفة الحق المكتوب في الكتاب المقدس.

ومن المعروف أنه في الأوقات الحرجة التي مرت بها الكنيسة استطاع الآباء والمعلّمون ـ بإنارة الروح القدس وإرشاده ـ أن يعبروا عن التعليم اللاهوتي الأصيل بقوة تفوق التفكير البشري[2]، وذلك برهان واضح على إيمان الكنيسة العظيم الذي حفظ بقوة بواسطة هؤلاء الآباء العظماء، حيث إن تعاليمهم ليست آراء شخصية بل هى تعاليم جامعة تابعة لتعاليم الرسل مكملة لها.

 

الحقيقة وكيف قدّمها الآباء في كتاباتهم:

الحق الذي يتطابق مع الوحي الإلهي يعطي للإنسان بطريقة إعلانية. الحقيقة هى الإله الحق أى الثالوث القدوس وعمله لأجل خلاص الإنسان، أعلن للإنسان بطريقة تدريجية: مرحلة الناموس ثم مرحلة الأنبياء ثم مرحلة الإنجيل (أى الاعلان الذي تم في تجسد الإلله) … ثم مرحلة يوم الخمسين. وهذه المرحلة هى مرحلة القيادة بالروح القدس في الكنيسة[3].

وفي هذا الصدد يذكر أبونا ومعلّمنا القديس كيرلس الأسكندري بكل وضوح [ أن الابن الوحيد الجنس يعلن عن نفسه بصفة مستمرة ][4]. ويذكر أن نور الروح القدس يعلن الرب نفسه. وهذا الخط في التعليم يتبعه معظم الآباء الذين جاءوا بعد كيرلس.

ومن الجدير بالذكر أن الآباء اعتمادًا على قول المسيح مخلّصنا له المجد أن هناك حقائق أخرى غير التي قالها المسيح لتلاميذه، سوف يعلّمهم إياها الروح القدس كاملة: ” إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون الآن أن تحتملوا. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ” (يو12:6ـ13). وكلمات المسيح هذه تقودنا إلى الطريقة التي تكشف لنا الحق الإلهي (أى عن نفسه).

وطالما أن المسيح لم يخبرنا عن الحقيقة كلها وأن الحقيقة الكاملة موجودة في شخصه، فهذا معناه أن الحقيقة الكاملة في عمقها واتساعها لا يمكن أن تعلن بسهولة. ورغم أن التجسد الإلهي هو الحقيقة ـ إذ أن الكلمة ظهر في الجسد ـ ولكن هذا الاعلان لا يعني أن الكلمة المتجسد أظهر الحقيقة وأعلنها كاملة بكل أعماقها وأبعادها. وحينما نتكلم عن الاعلان الإلهي أو اعلان الحق فنحن نعني أن الله يظهر الحقيقة للإنسان في شكلها العام. والإنسان الذي يجاهد ويطلب الاستمرار في الصلاة بالروح ينال الاعلان الإلهي ويشترك في الحقيقة ويعرف الحق والحق يحرره.

إن معرفة الحق ضرورية للإنسان الذي يبحث عن خلاصه فمعرفة الحق إتحاد بالله الذي هو حياة جديدة للإنسان. وحيث إن الكنيسة تعلم أن خلاص الإنسان هى حياته وبدون الخلاص فهناك الموت، لذلك أصبحت معرفة الحق أى الشركة في الحق هى مسألة حياة أو موت. وأصبحت هناك ضرورة أن يتعلم أعضاء الكنيسة الشركة مع الحق والتمييز بين الحق الأصيل وبين التعاليم المزيفة التي هى ليست حقًا بل كذبًا.

 

ملء الاعلان الإلهي:

اعلان الله للبشرية قبل المسيح كان ناقصًا. لذلك أعلن الله عن نفسه في الكلمة المتجسد حيث كانت الحقيقة، وبالتالي فإن اعلان الحقيقة في شخص المسيح كان كاملاً وفي ملء أصالته والتي يعلنها كاملة الروح القدس.

 

وهنا يُطرح التساؤل: هل المسيح الذي هو الحقيقة صار تاريخًا ماضيًا اندثر؟

بالطبع لا نستطيع أن نقول ذلك لأن مسيح التاريخ مسيح حيّ حاضر بدوره في الكنيسة الواحدة المقدسة وتدبيره في الجسد هو لأجل خلاصنا وخلاص كل البشرية في كل الأزمان ” الذي نجانا من موت مثل هذا وهو ينجي الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضًا فيما بعد ” (2كو10:1).

ونحن عندما نبحث ونفتش عن الحقيقة لا يقلل ذلك من الاعلان بل يكمله ويتممه وينقيه من أى تعاليم فاسدة أو دخيلة.

عندنا في ذلك أعظم مثل آباء الكنيسة حيث استطاعوا أن يتعمقوا بأبعاد مختلفة في فهم الحقيقة بمساعدة الروح القدس وواجهوا هؤلاء الذين بجهلهم رفضوا الإله الحقيقي وتبعوا الإله المزيف الذي صنعوه بفكرهم الخالي من الحقيقة. نجد في ذلك أمثلة كثيرة ففي مطلع القرن الرابع تقريبًا ظهر آريوس بتعاليمه الفاسدة والتي تشوه كل الحقيقة ولكن كما ذكرنا أن آباء الكنيسة كانوا قديسين وعظماء حيث كانوا عمالقة في البحث والتنقيب عن الحقائق الإلهية، فيظهر العظيم أثناسيوس في نفس العصر ليؤكد لآريوس أن تعاليمه فاسدة وليست حسب المكتوب وليست حسب تعاليم التقليد الكنسي بأدلة لاهوتية وفلسفية قوية.

لابد من أن تقتنع أنه بالرغم من أننا في شركة مع المسيح (الكلمة) لا نعرف الكثير عنه ونحتاج إلى الجهد والكفاح الدائم المستمر لنعرف هذه الحقيقة التي تعلن عن طريق الروح القدس الحيّ الحاضر بيننا. التاريخ يؤكد أن الحقيقة لم تعطَ وسوف لا تُعطى لأناس مظلمي الفكر، ولا لأناس يتكلمون عن الله نظريًا بدون حياة وشركة معه ولا لمن أغلقوا الأبواب في طريق الفكر المفتوح، بل لهؤلاء الآباء العظماء الذين فتحوا نوافذ عقولهم وقلوبهم لكل فكر ممتحنين كل شئ بالتدقيق فاحصين كل شئ بالروح.

هنا يتضح كيف يقود الروح القدس هؤلاء الأمناء المخلصين إلى اكتشاف وفهم الحقيقة، حيث إنه لا يوجد لاهوت بدون اعلان عن الحقيقة “كل الحقيقة”[5]. وعلى هذا الضوء فإن مشكلة طبيعة المسيح، على سبيل المثال، في القرون الأولى كانت مشكلة لم يشار إليها[6] من قبل لا في نصوص الكتاب المقدس ولا في التقليد مع أن المسيح تكلم عن نفسه وجاء الرسل وتلاميذه متكلمين عنه إلاّ أن هذا الموضوع أعلن عن طريق الروح القدس بواسطة آباء الكنيسة أمثال كيرلس الأسكندري وغيره.

سنتكلم في هذا الموضوع بإيجاز فيما بعد.

نحن نؤكد أنه في حقل اللاهوت الآبائي توجد طريقة حية قوية يتم عن طريقها النجاح والتقدم في فهم ومعرفة الحقيقة التي كانت بداياتها وأساسها وجوهرها الكتاب المقدس والتي أيضًا ستظل غير معلنة بالكامل. إن التقدم في معرفة هذه الحقيقة يتحقق عن طريق الروح القدس مستخدمًا بعض أعضاء الكنيسة والذين صاروا آباء ومعلّمين فيها.

غريغوريوس اللاهوتي ويوحنا ذهبي الفم في توضيحهما وتفسيرها لكيفية إعلان الله عن النفس البشرية ويذكرون أن مسيرة الإعلان كانت في تطور، فيقولون إنه كان مستحيلاً وغير منطقي إطلاقًا أن يبدأ المسيح رسالته بالإعلان عن نفسه أنه مساو للآب، كيف يكون ذلك وهم لا يستطيعون أن يدركوا أو يفهموا [ مَن هو الآب ومَن هو الابن ][7].

في حديث غريغوريوس اللاهوتي عن الاعلان يقول[8]: إنه من الخطأ أن نظن أن الله سوف يعلن عن نفسه للإنسان ما لم يطلب الإنسان ذلك بصبر طويل باحثًا ومفتشًا عن ذلك وبالتالي على الإنسان أن يطلب فهم الاعلان في سعي مستمر وبدون ملل وذلك واضح تمامًا في أعمال الآباء وكيف كان لجهادهم المستمر مع الحقيقة أن عرفوا بعضها وستعلن لكل مَن يطلبها كما طلبها هؤلاء.

 

الحقيقة عند الآباء:

الحقيقة التي تكلم عنها الآباء كإجلاء وتوضيح للإعلان الإلهي:

بعد كل ما ذكرناه هذا نطرح السؤال التالي:

ما هو اللاهوت الذي قدمه الآباء؟ أو ما هى الحقيقة التي عبر عنها الآباء وقدموها كنتيجة للفهم الأصيل للحقيقة التي جاء بها الإنجيل والتقليد؟

في البداية نريد أن نوضح أنه طالما هو فهم للحقيقة فما قدمه الآباء ليس هو حقيقة جديدة. فالقديس إيريناؤس يذكر مؤكدًا أن الأب اللاهوتي لم يأت بمسيح جديد ولا بإله آخر ولكنه يدخل بعمق إلى هذه الحقائق الإلهية الموجودة، والعمق هنا بكل أبعاده سواء النظري في البحث والتعمق أو بحياته فيعيش العمق. فكل مَن عاش العمق بدموع وأنين ومعاناة مرة صنع طرقًا جديدة لم تكن جديدة لم تكن مسلوكة من قبل وهذا بالفعل ما حققه الآباء في تعمقهم. معطين إجابات وحلولاً للمشاكل التي كانت، وهذه الإجابات هى توضيح وتفسير للحقائق الموجودة، كما قلنا.

والحقيقة التي نحن بصددها الآن لا يتم الاعلان عنها ومعرفتها بمحاولات الإنسان الفردية فقط بل بمساعدة التدخل الإلهي. فالحقيقة التي نحن بصددها الآن يتم الاعلان عنها في كثير من الأحيان عن طريق مساعدة الروح القدس العامل في الآباء والمعلّمين والمشترك معهم في الاعلان عن هذه الحقيقة.

وعندما لا يتدخل الروح القدس في الاعلان عن الحقيقة الغير واضحة يكون التوضيح غير مقنع، والتفسير يكون خطرًا.

بل بالعكس بدلاً من أن يكون تفسيرًا وتوضيحًا لشئ غير واضح فإنه يزيده تعقيدًا ويؤدي إلى هرطقات حيث يكون منبعها الخيال عند هؤلاء الذين ظنوا ويظنون إلى يومنا هذا أنهم آباء ومعلّمين أن الروح القدس يقودهم في أمور ومواضيع ومشاكل الإنسان العصري، فيضعون رؤيتهم ويجدون حلولاً ليست لها علاقة إطلاقًا بالحق وبدلاً من أن يقودوا الإنسان إلى معرفة الحق، يضللوه بضلالهم البعيد كل البعد عن روح الله، هذا ينطبق سواء على مشاكل الإنسان أو تعاليم الكنيسة العقائدية.

فعلى سبيل المثال نجد موضوع العلاقة بين الآب والابن والذي كان مشكلة خطيرة وضخمة في القرن الرابع وتعبت منه الكنيسة تقريبًا قرنين من الزمان وهى تبحث في ذلك الموضوع الذي لم يكن واضحًا تمامًا لا في الكتاب المقدس ولا في التقليد ولكن بعمل الروح القدس مع آباء الكنيسة ومعلّميها وجدت الكنيسة حلاً لتلك المشكلة التي أضرتها كثيرًا وأرهقتها.

وبواسطة التعبير الآبائي اليوناني “أوموسيوس” الذي يعني “الواحد في الجوهر” أو المساوي في الجوهر” خرجت الكنيسة من هذه المشكلة.

إن ما قدمه الآباء للمؤمنين وللبشرية شئ عظيم له لمعانه ونوره كنتيجة للشركة مع نور الروح القدس[9].

وحسب تعبير القديس أثناسيوس الكبير[10] أن الله أعلن عن نفسه لبعض المؤمنين اللاهوتيين الذين عندهم، أو أعطيت لهم موهبة فهم الاعلان، حيث إنهم أمناء من كل جهة.

 

العطاء الذي قدمه الأب والمعلّم هو تفسير وتوضيح وليس تعديل أو معرفة عقلية إجتهادية:

في كل مسيرة الكنيسة فإن الأب والمعلّم دائمًا ـ بواسطة استنارة الروح القدس ـ يقدم شئ أكثر مما هو موجود لتوضيح الحقيقة، حيث إن أساسهم في ذلك ومرجعهم هو الكتاب المقدس وبالتالي مع الوقت تكونت النواة اللاهوتية الآبائية والتي كان التاريخ والفلسفة أيضًا من مراجعها.

هذه النواة اللاهوتية التي كونها الآباء والمعلّمون والتي توضح الحقيقة في اتساعها. هل تعني يا ترى تعديلاً للإعلان الإلهي؟ أم هى شئ آخر؟

وبتوضيح أكثر: هل الآباء قاموا بتعديل ما أخذوه من المسيح رب المجد ومن الآباء الرسل؟ بالطبع لا!

كل ما هو موجود في الكنيسة كحقيقة هو أصيل وحقيقي ولا يقبل تعديلا أو تصحيحًا لآنه صحيح في أصالته. إن كل تعليم معلن هو عمل الله لأجل خلاص الإنسان، والذي هو أصيل في كل العصور من القرن الأول الميلادي حينما أعلن، وحتى يومنا هذا. لأنه إذا كانت التقدمة اللاهوتية التي قدمها الآباء هي تعديل لمسيرة الإعلان الإلهي، لكان هذا دليًلا واضحًا على أن عمل الآباء هو رفض وإنكار للكنيسة وليس مكمًلا لها. إن تعاليم الآباء في الكنيسة هي إضافة خبرتهم الإلهية للحقيقة التي هي حصيلة استنارتهم بالروح القدس[11]، إلى الحقيقة.

إن الروح القدس هو الذي يعطي الكلمة التي تكلم بها الآباء وهو الروح القدس نفسه الذي انسكب على تلاميذ يوم تكوين الكنيسة “يوم الخمسين” والذي كان وسيكون،وينسكب ويعلن لكل إنسان ينسكب بإيمان وإخلاص وبروح التواضع والانتباه لعمل الروح القدس الذي لا يحجز نفسه عن الأمناء.

إن الكنيسة بواسطة آبائها ومعلّميها الموهوبين من الروح القدس لمعرفة[12]وتمييز الحقيقة التي يعيشونها كخبرة حية، تنمو وتتقدم، وهذا في حد ذاته ربح عظيم للكنيسة. إن الحقيقة ليست هى في زيادة ولا نقصان ولكن هى متطابقة مع الحقيقة الإلهية[13] أى أن الإنسان تتسع خبرته في فهمها.

في كثير من الأحيان يحدث ليس في موضوع الحقيقة وكيف قدمها الآباء في كتاباتهم، وهل هى حقائق أخرى بخلاف الحقيقة الإلهية أم هى نفسها؟ وإن كانت هى نفسها فماذا قدم الآباء؟

كل هذه التساؤلات تعطى للقارئ فرصة للبحث ونحن قد أجبنا على بعضها. ويأتي القديس باسيليوس الكبير يقول[14].

” لا تضع في الكنيسة قوانين تؤهلنا إلى مزيد من الحقائق ولا عقائد جديدة، وإنما هو مزيد من التمثل بالآباء الرسل الذين شرحوا الحقيقة.

 

الآباء والكتاب المقدس:

إن التعاليم التي قدمها آباء الكنيسة ومعلّميها الذين كانت لهم خبرة ومعرفة بالحقيقة لم يكن لها طابع الإنفصالية أو الآراء البعيدة عن الواقع، بل كانت حياة معاشة وتعاليم وفقًا لتعاليم الكتاب المقدس ولهذا فإن كل ما قدمه هؤلاء للمؤمنين، والذي صار فيما بعد تقليدًا لها، له نفس الخط والتعاليم الواردة في الكتاب المقدس. إن فكر الآباء وتعاليمهم نابع ومؤسس على تعاليم الكتاب المقدس وذلك لأن عندهم الاقتناع التام بأن الكتاب هو موحى به من الله ويعبر عن الحقيقة ” الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح ” (2تيمو16:3).

لقد وجدوا في الكتاب المقدس أنه يعبر عن الحق وليس هو الحق لأن الحق الإلهي لا يستطيع كتاب أو كتب أن تحتويه لأن الحق هو الله.

إن الآباء أدركوا بوعي هذه الحقيقة وهى أن نصوص الكتاب هى نور من الرموز المستخدمة للتعبير عن الحقيقة الإلهية. أو بمعنى آخر: فقد رأى الآباء أن العناية الإلهية قد استخدمت كلمات وتعبيرات كرموز بواسطة الإنسان لتعبّر عن الخلاص الذي أعده الله للبشرية. إن آباء الكنيسة ومعلّميها أكدوا في كتاباتهم العديدة أن كلمات الكتاب المقدس سواء في ذاتها أو في معناها تخفي ورائها معاني كثيرة جدًا تحتاج إلى الكثير في فهمها.

الآباء في كتاباتهم عن الحقيقة قد قاموا بتوضيح الكثير من كلمات وتعبيرات الكتاب والتي كانت صعبة في فهمها، فالحقائق التي كتبوا عنها وتكلموا وعاشوها هى مرتبطة تمامًا بالكتاب، هذا إذًا لم تقل إنها هى نفسها وأن الجديد الذي جاءوا به هو تفسير ما هو مخفي وراء الكلمات والتعبيرات ورموز الكتاب المقدس.

والآباء في مجموعهم قد وضعوا معيارًا للكلمات التي تكلموا بها ومدى أصالة ما كتبوه وما سيكتب فيما بعد ومطابقته لما كتب في الكتاب المقدس وأن المعيار الذي وضعوه هو الفاصل بين الردئ والأصيل فيما كتب، وهل كل جديد يكتب هو أصيل مستضيئ بالنور الإلهي؟!

وعلى العكس من ذلك كان الهراطقة الذين لهم خطهم البعيد عن الحقيقة الأصلية. فقد استخدموا خيالهم في تفسير وتوضيح المكتوب بعيدًا كل البعد عن نور الروح القدس[15]. بنوا وصنعوا آراءهم بأفكار مظلمة بعيدة عن الحقيقة.

وعندما يتكلم الآباء ع عمل الروح القدس في توضيح ما هو صعب أو إضافة ما هو جديد بالطبع هذا لا يلغي إطلاقًا الفكر الإنساني أو بتعبير أدق لا يلغي العمل الإنساني في الشرح والتفسير فالروح[16] فقط يرشد ويقود. فمن أعمال الروح القدس أن يوضح ويساعد الإنسان أن يقبل الحقائق التي لم يكن يعرف عنها شئ أو يعرف عنها القليل جدًا.

إن كل تعاليم سواء عقائدية أو غيرها لا تقدم للإنسان شئ يجعله يتقدم في طريق المعرفة الأصيلة للحقيقة، تعد تعاليم فاسدة ضد الكنيسة ومن الضرورى أن نوضح أنه على الرغم من أن تعاليم الآباء والقديسين والمعلّمين في الكنيسة الأولى والتي لها مكانتها التي لا تقل إطلاقًا في قيمتها عن قيمة الكتاب المقدس، وفي نفس الوقت ليست هى تكملة له، وإنما هى مواضيع قد تكون مؤقتة أو مستمرة، لبعض احتياجات المؤمنين والتي لم تكن واضحة في الكتاب المقدس وأيضًا بعض المشكلات التي أُثيرت سواء من المؤمنين أو من الهراطقة الذين أرادوا أن يضروا الكنيسة بأفكارهم المضللة وإصرارهم عليها. ومن بين هذه المواضيع:

  • بتولية مريم والدة الإله.
  • طبيعة المسيح.
  • ألوهية الابن.
  • ألوهية الروح القدس.
  • انبثاق الروح القدس.
  • احترام وتكريم القديسين.
  • تكريم الأيقونات المقدسة.

ومن خلال هذه المواضيع والمشكلات وغيرها استطاع آباء الكنيسة ومعلّميها مع عمل الروح القدس فيهم أن يقوموا بالشرح والتوضيح لها حيث عاشوا هذه الحقائق في أصالة تامة فكان التعبير والشرح أصيل خالي من السلبيات.

 

الكنيسة الأرثوذكسية وأصالة أبنائها:

الكنيسة قبلت حضور الآباء في أحضانها وعاشت بهم حيث كان لهم الطريق الأرثوذكسي الأصيل. كان في وعى الكنيسة أن آبائها ومعلّميها كانوا استمرارًا وامتدادًا للرسل.

إن الروح القدس الذي أنار[17] الرسل وأرشدهم في طريق خلاص المؤمنين. أرشد[18] أيضًا الآباء في طريقهم.

طالما أن الآباء هم امتداد واستمرار الرسل فبالتالي فإن أعمالهم أصيلة لها كل الاحترام والتقدير من الكنيسة لأنهم في الحقيقة حجارة أساسية ملتصقين وملتحمين بحجر الزاوية المسيح.

إن الثقة الكاملة من الكنيسة في الآباء أدى إلى التقدير والاحترام للاهوتهم المعبر عن أصالة الكنيسة.

إن الدعامتين الأساسيتين اللتين اعتمد عليهما الآباءء في كل أعمالهم التي يعتمد عليها اليوم كل لاهوتي أصيل يطلب خلاص المؤمنين ويشرح لهم اللاهوت سواء النظري أو العملي هما الكتاب المقدس[19] والتقليد[20] لأن في الحقيقة بدون هذين لا تستطيع الكنيسة أن تحيا.

هل كل ما يكتبه الأب أو المعلّم سواء في شرحه لبعض المواضيع اللاهوتية أو الآراء التي يقمها للكنيسة تعد صحيحة خالية من الأخطاء والعيوب والانحرافات؟ هل يا ترى كل ما يكتبه الأب أيًا كان يدخل تحت التقليد الكنسي؟ هل يا ترى الآباء لم يخطئوا؟

والمشكلة تزداد تعقيدًا حينما يطرح سؤال آخر، نحن نعرف أن الآباء أكملوا ما بدأ به المسيح والرسل فهل أكملوا بأخطاء أم هم أيضًا كانت لهم العصمة من الخطأ؟

 

هل الآباء كانت لهم العصمة من الخطأ أم أخطأوا؟

نحن نذكر أو نصيغ هنا عنصرين من خلالهم تدور الإجابة أو بعض الإجابة:

1 ـ أن الآباء صاغوا لاهوتهم بواسطة استنارة الروح القدس.

2 ـ أن الآباء نعم أخطأوا وكانت لهم أخطاؤهم الخاصةوليست العقيدية.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف نطابق العنصرين معًا؟

إن حقيقة استنارة الروح القدس للآباء هو شئ لا يقبل النقاش، فبالحقيقة تكلم الآباء بالروح القدس وكان من نتيجة ذلك أن الكنيسة أخذت تعاليمهم الصحيحة وأدخلتها على التقليد كمكمل له لأن هذه التعاليم كانت متفقة تمامًا مع الكتاب المقدس والتقليد حيث كانت المجامع المسكونية التي أفرزته ونقحته وتأكدت من أنه خال من كل انحراف أو خطأ.

وكان حرص الكنيسة على فحص أعمال الآباء لأنها كانت تعلم تمامًا أنه توجد بعض الأخطاء التي سقط فيها بعض منهم. والكنيسة تدرك أن هذه الأخطاء ترجع إلى ضعف الطبيعة الإنسانية في شرح وتفسير الحقائق الإلهية.

الآباء في أخطائهم التي وقعوا فيها لم تكن في مواضيع كانت الكنيسة في حاجة ملحة إليها ولا في موضوعات خاصة بخلاص الإنسان، لأن هذه المواضيع لم يعد للرأي الشخصي مجالاً للحوار فيها بل قاد[21]. فالكنيسة دائمًا يقظة في كل خطواتها ونظرتها الشاملة للأمور فلا تقلل من قيمة الأب الذي في طريقه (يخطئ) ولا تزيد قداسة الأب الذي (لا يخطئ) وإنما هى تعلم تمامًا ما هو الإنسان، والذي يهم الكنيسة في هذا المجال هو ألا يستمر الأب في خطاه أو بمعنى آخر ألا يستمر في توسيع الخطأ. نحن ننظر إلى نهاية سيرتهم ونتمثل بهم، ولاسيما في حالة القداسة التي وصلوا لها بفعل عمل النعمة الإلهية وجهادهم المستمر.

 

الدقة والتدقيق والتنوع والتميز التي كانت عند الآباء:

وهنا أيضًا نشير إلى آباء الكنيسة التالين لا يأخذون ما كتبه الآباء السابقين على ما هو عليه بدون نقاش وبحث بل فاحصين كل شئ بالتدقيق. إن كل أب من آباء الكنيسة يمثل ينبوع يعطي في كل اتجاه. فهم قد شربوا وتغذوا من أمهم الكنيسة وعاشوا الإنجيل وتعلموا وعرفوا التقليد فكانت خلاصتهم الروحية واحدة وجوهر الحياة الروحية واحد عندهم، ولكن سنجد أن كل أب منهم له مميزات محددة ورأي قد لا نراه عند غيره وهناك أمورًا كثيرة لعبت دورًا في ذلك.

وليس مجالنا هنا أن نحصرها، مركزين فقط على أن العصر الذي عاش فيه كل أب يختلف عن الآخر والمشاكل التي واجهت الكنيسة وقتها تختلف عن غيرها. فنرى أنه كل واحد منهم قد انفرد بشئ مختلف، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أثناسيوس وموضوع “مساواة الابن للآب في الجوهر” (أوموسيوس) وكيرلس وموضوع طبيعة المسيح، غريغوريوس وموضوع انبثاق الروح القدس من الآب.

حيث إن انفراد الأب وتخصصه وتركيزه على هذا الموضوع بالذات جاء نتيجة أزمة ومشكلة كبيرة كانت في عصره ولم يوجد وقتها حل، ولم يأت الحل سريعًا لهؤلاء بل كان صراعهم المستمر مع الحقيققة وانسكابهم بدموع حقيقية أمام الله أعطيت لهم الحقيقة التي استطاعوا بها أن يخلصوا الكنيسة من الأزمات التي مرت بها وتقديم الطريق السليم للخلاص للمؤمنين.

وقد كانت الكنيسة مضطربة وقت إثارة هذه المشاكل والتي لم يكن أمامها حلاً واضحًا. واهتمامها كان كامنًا في ألا يضيع خلاص بعض المؤمنين وبالطبع كان هذا يتوقف على مدى حدة المشكلة. فنجد أن موضوع الأزمة الذي ظهر في القرن الرابع بعد المسح تقريبًا والخاص بالثالوث كان موضوعًا خطيرًا فقد أراد المؤمنين أن يتأكدوا من ألوهية الروح القدس لأنه إن لم تكن هناك ألوهية للكلمة فلا خلاص للإنسان مع المسيح وبالتالي فلا خلاص للبشرية وهنا يصير واضحًا كم كانت الحاجة ضرورية في كل مرة تنشأ مشكلة في الكنيسة أن يجد آباءها ومعلميها لها حًلا[22].

 

الآباء والخبرة:

1ـ المرحلة الأولى:

مما لا شك فيه أن الآباء في بحثهم عن الحقيقة الإلهية بكل أبعادها وأعماقها كان الهدف هو أن يعيشوا هذه الحقيقة لأنفسهم أو بمعنى آخر أنهم أرادوا أن يكونوا على يقين تام أنهم يتبعون الحقيقة وليست خرافات[23]، فهم لم يأخذوا الأمور على ما هي علية بل فتشوا عن الحقيقة التي هي حقيقة أصلية ووجدوا في النهاية أنهم بالفعل لم يعبدوا خيالات أو خرافات وإنما يعبدون الإله الحقيقي.

 

2ـ المرحلة الثانية:

وهي أن هذه الخبرة الإلهية التي عاشوها مع الحقيقة تصير رصيدًا للكنيسة وللمؤمنين فبالرغم من أن الخبرة كانت شخصية إلا أن الآباء عرفوا حقيقة أهمية ما عرفوه حتى ولو كان على المستوى الشخصي فبعضهم (بعض الآباء والمعلمين) صاغوا خبرتهم الشخصية في كتابتهم وهم يعلمون أنها ستكون ينبوعًا ورصيدًا سوف تستخدمها الكنيسة على مر العصور.

 

3ـ المرحلة الثالثة:

وهي قيام الآباء والمعلمين بصياغة هذه الخبرة بطريقة يستطيع عن طريقها القارئ أن يستوعب هذه الخبرة. وهنا تظهر خطوط الآباء في التعليم ومكانة كل منهم في اللاهوت وعلى الرغم من أنهم يلتقون ويتفقون في المواضيع الكبيرة إلا أننا نجد أن لكل منهم خطه الواضح والمتميز عن الآخر وذلك نتيجة للاختلاف في خبراتهم وثقافتهم واستيعابهم لبعض هذه الحقائق.

 

الآباء والتعبيرات اللاهوتية الجديدة:

تظهر نقطة أخرى وهى أهمية إدخال الآباء الإصطلاحات الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل. فخبرتهم أعطتهم قوة التعبير التي ولدت لنا كلمات لاهوتية لم تكن موجودة من قبل في القاموس أو في عالم اللغة، وعلى الرغم من أنهم استخدموا كل اللغات سواء الفلسفية، السياسية، المدنية، الفنية، الاقتصادية إلاّ أنهم أنتجوا تعبيرات لاهوتية جديدة، هذا بالطبع لأنهم لم يتركوا مجالاً لم يعرفوه فقد عرفوا كل لغات عصرهم وكل التيارات المحيطة بهم وكان ذلك نتيجة وعيهم بأن المسيحي الحقيقي يجب أن يعلم بكل ما يحيط به في كل اتجاه وعرفوا أنه من الخطورة أن يعلم بدون أن يعرف ما يجري بجانبه لئلا تصير تعاليمه غير نافعة لأنها ستكون بعيدة عن عصره ومشاكله.

ونحن نعلم أن بعض الآباء وصلوا في ثقافاتهم إلى حد بعيد جدًا فقد درس بعضهم كل أنواع الفلسفة التي كانت موجودة في عصرهم وتأثروا بها تأثيرًا إيجابيًا ولم ينحرفوا إطلاقًا في فكرهم بل سعدهم ذلك بالإضافة إلى دراسة الأدب والقانون والشعر والتاريخ ساعدهم على الارتفاع بمستوى الإنسان الذي أرادوا أن يقدموا له يسوعًا مكتملاً وليس ناقصًا، المسيح الكلمة الإله المتجسد فقد اهتم الآباء بكل شئ ولم يحتقروا شئ على الإطلاق بل قدسوا كل شئ أو بالأحرى وجدوا أن كل شئ مقدسًا بعيدًا عن أى انحراف نحن نظنه.

بالتالي فقد وجدنا في الآباء من هو أديب ومن هو شاعر ومن هو فنان ومن هو كاتب ومن هو فيلسوف[24].

وهنا نطرح السؤال:

نحن نعلم تمامًا أن معظم[25] الآباء درسوا باستفاضة الأدباء والفلاسفة اليونانيين وتأثروا بهم إما بقليل أو بكثير، فما الفرق إذًا بين أعمال الأدباء وأعمال هؤلاء الفلاسفة ..؟ فإذا قلنا وهذا صحيح تمامًا أن هؤلاء الفلاسفة وفلسفتهم قد خدمت الإنسان قديمًا وتخدمه وستخدمه غدًا لأن الفلسفة كما تعلم هى أيضًا غذاء نافع للإنسان.

 

الفرق بين عمل الآباء وعمل الفلاسفة:

ويمكن هنا في كلمات بسيطة على سبيل المثال وليس الحصر أن نذكر بعض الفروق بينهم تاركين للقارئ فرصة البحث والدراسة مع التفكير في بقية الاختلافات بين عمل الآباء وعمل الفلاسفة.

 

+ إن الآباء يقومون بتفسير وتوضيح التقليد:

هذا بناء على أسس وقواعد محددة ومعينة بواسطة الاعلان المعلن عنه في الكتاب المقدس، حيث إن عندهم “الحقيقة” ـ كلمة الله ـ المعلن عنها والتي تشكل عندهم مادة موجودة. أما الفلاسفة فليس عندهم حقيقة معلن عنها بل هم بنفسهم يبحثون عن الحقيقة وقد يدونها وقد لا يجدونها.

ومما لا شك فيه أن الآباء حاملين ومعبرين عن الحقيقة الواردة في الكتاب المقدس كما في التقليد. ولم يكن هذا عمملاً سهلاً بل أن اكتشاف الاعلان الإلهي هذا كلف الآباء والمعلّمين دموع وجهاد كما صارع يعقوب مع الله حتى طلوع الفجر.

وهذا يظهر عمل الآباء في هذا المجال على النحو التالي:

 

التعبير عن الحقيقة الإلهية وكشفها للإنسان المعاصر:

الذي يعاني من بعض المشاكل التي في كثير من الأحيان تكون مدمرة وخطيرة مؤكدين لإنسان العصر أن يسوع المسيح هو المنتصر على كل روح مدمر وهو المحتضن لخائفيه ومنجيهم مسيجًا حولهم بسياج حبه وإذا قمنا بدراسة موضوع محدد عند بعض الآباء تجدهم قد أعطوا اعتبارًا لكل ظروف عصرهم مؤكدين على ما يجب أن يعمله ويتبعه الإنسان ليخوض بسلام معركته مع الزمن.

الدخول نحو عمق الحقيقة:

والدخول نحو العمق ليس من السهل بل يحتاج إلى إنسان عرف كيف يضع كل شئ جانبًا مُضحيًا (بكل شئ) لأجل معرفة الله والشركة العميقة معه، إذ نجد أن معظم آباء الكنيسة ومعلّميها عاشوا ودخلوا الأعماق فكانت حياتهم وكتاباتهم معبرة عن ذلك.

وإذ نجد أيضًا أن الفلاسفة يطلبون الحقيقة بكل أعماقها وأبعادها مفتشين عنها في كل مكان ولكن الطريقة في البحث وما يقدم للإنسان هو من نوع آخر يختلف كثيرًا مع ما يقدمه الآباء والمعلّمين حتى ولو التقوا في بعض الأحيان في بعض الموضوعات.

فالفلاسفة يقدمون الحقيقة ويوضحونها بناء على مقاييس عقلية بحتة فكل ما لا يخضع للعقل فليس من الحقيقة مؤكدين على أن العقل هو الأساس والحاكم في كل شئ وهنا تختلف الطريقة والمعيار وبالتالي تختلف النتيجة.

الفلسفة لا تحتاج أن يعيش صاحبها الحقيقة ليخرجها وإنما عليه فقط أن يدركها بعقله، مختلفين مع الآباء والمعلّمين الذين عاشوا الحقيقة في أعماقهم وفي قلوبهم وعقولهم وأرواحهم فخرجت الحقيقة لأناس مكتملين ناضجين من كل النواحي عقليًا، نفسيًا وروحيًا.

الفيلسوف ليس عنده تقليد ولا ماضي فهو لا يعتمد على أحد قبله في الاكتشاف والبحث وراء الحقيقة بل يقوم بنفسه بإظهارها وقد يكون مختلف تمامًا من سبقوه وبأدلة وبراهين أخرى.

أما الأب والمعلّم فهو يعتمد اعتمادًا كليًا على الكتاب المقدس والتقليد، اللذان بدونهما لا يمكن أن يقدم لاهوت وقد يختلف أحد الآباء مع الآخر في بعض النقاط ولكن الانطلاقة واحدة والأساس وحجر الزاوية واحد.

 

+ الآباء والمجامع الكنسية:

هل يا ترى آباء الكنيسة ومعلميها لعبوا دورًا مهمًا في المجامع المقدسة وساهموا فيها بقوة؟ مما لا شك فيه أن عمل الآباء والمعلّمين وجد سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في المجامع سواء مسكونية أو محلية، ولكن غير واضح تمامًا فقد يكون أحد الآباء عضوا في المجمع أو قد لا يكون عضوًا. فنجد أنه في المجمع المسكوني الأول قد لعب القديس أثناسيوس الكبير دورًا أساسيًا ومهمًا بل كان له أهمية قصوى وذلك دون أن يكون عضوًا في المجلس المكون للمجمع. كما نجد في المجمع المسكوني الثاني أن أثناسيوس الكبير كان أن انتقل في حين قد تغيب القديس غريغوريوس اللاهوتي ورغم ذلك نجد أن قرارات المجمع[26] وتوصياته كانت معتمدة أساسًا بل كليًا على تعاليم هذين الرجلين.

كما أنه في المجمع المسكوني الثالث نجد القديس العظيم كيرلس الأسكندري كان عضوًا ورئيسًا له وهو معروف بدوره اللاهوتي البارز فيه.

إذًا فتعليم المجامع لا يمككن أن يعتبر بأى حال من الأحوال أنه تعليم منفصل عن تعاليم الآباء وسوف لا نبالغ إذا قلنا إنه هو نفسه تعاليم الآباء ومعلّمي الكنيسة.

 

+ كيفية فهم وتفسير كتابات الآباء:

عند الدخول إلى ينابيع كتابات آبائنا نجد أننا بصدد أمور صعبة في تذوقها من ناحية وصعبة في التعبير عنها والاقتراب منها من ناحية أخرى وهذا يرجع في البداية إلى أننا بصدد أمور إلهية وخبرات شخصية عاشت الحقيقة. ولكن بالنسبة للإنسان الذي له خبرة مع الروح القدس وحياة أمينة جادة في جهاده لمعرفة الحقيقة فإن تعاليم الآباء لا تكون صعبة عليه.

وعلى الرغم من أن الآباء عاشوا في العالم وتعاملوا بكل ما فيه واستخدموه على أكمل وجه إلاّ أن تعاليمهم وكتاباتهم كانت شئ مختلف عن مما في العالم أو له طابعه الخاص يصعب التعبير عنه لأنه يعبر عن الحقيقة الإلهية التي شاركوها وتعاملوا معها وعاشوها وعاشوا لها.

ومما لا شك فيه أن المؤمنين الذين لهم شركة وذاقوا الحقيقة يعرفون ويشعرون بمدى ما يتمتع به الآباء من جاذبية وملء وكيف أن بعضهم قد وصل إلى القداسة الكاملة والعشرة الحية مع الله حتى ولو أنهم في بعض اللحظات في حياتهم رأوا الله الكلمة في داخلهم وتكلموا معه.

ولكي يستطيع الإنسان أن يفهم ويفسر ما كتبه الآباء ليس من واجبه فقط أن يعرف كل ما دار وكان في عصرهم من فلسفة واجتماع وتاريخ وحضارة وغيرها لأننا إذا توقفنا عند هذا الحد لكانت شخصية الأب والمعلّم شخصية لا تختلف عن مجرد شاعر أو مؤرخ أو فيلسوف أو رجل اجتماع فقط وإنما لكي يستطيع الدارس أو المهتم بالأمر (الباحث) أن يعرف ما كتبه الآباء ويفهمه ويفسره فعليه بالإضافة لكل ما سبق والذي يمثل فقط جانب المعرفة النظرية لابد وأن تكون له شركة حقيقية مع الأب والمعلّم والتي هى بالضرورة شركة حقيقية مع الروح القدس.

وبالتالي فعلى الباحث أن يحيا شركة حقيقية مع الأب والمعلّم وبالتالي يستطيع أن يفهم ويفسر كل ما كتبه وبدون هذه الشركة فلا فهم حقيقي وتفسير للآباء.

 

+ الهدف من دراسة الآباء:

وهنا يطرح السؤال نفسه:

ما هى القيمة الحقيقية لدراسة الآباء (آبائنا ومعلّمينا)؟

ـ وتأتي في المقدمة أهمية معرفة كيف كان فكر وروح الآباء الذي هو فكرنا وروحنا أو ماذا يجب أن نكون عليه.

ـ معرفة كيف استطاعوا أن يحموا الكنيسة من كل تعليم خارج التعاليم الصحيحة.

ـ معرفة كيف عاش الآباء الحقيقة بكل أبعادها، عاشوها في عصرهم ولم ينسوا أو يتناسوا شيئًا فيها.

ـ وبالرغم من أهمية كل ذلك لكن يأتي الأهم والهدف الأساسي من دراسة الآباء وهو ليس فقط أن نتعلم ونعرف ما عمله الآباء والمعلّمون وعرفوه ولكن لندخل بهم ومعهم إلى الأعماق بالروح القدس الذي دخلوه من الباب الضيق بالصلاة، الذي أدخلهم إلى حظيرة أولاد الله القديسين بالحقيقة، لنعرف بهم ومعهم كيف كانت الحقيقة صعبة ليعرفوها بكل أبعادها. فقد عرفوها وعاشوها بآلام كثيرة وجهاد مرير وكيف كانت قلوبهم تدق بقوة كأجراس الكنائس في البرية عندما كانوا يتقدمون ويتكلمون عن الرب يسوع في كنيسته المقدسة.

ـ ونتعرف عليهم لنعيش معهم في جهادهم وآلامهم وأحزانهم وأفراحهم وكيف كان إيمانهم المطلق في الروح القدس الذي عرفوه عاملاً بقوة فيهم.

ـ لنعرف معنى اللاهوت الحقيقي ونستمد منهم قوة العمل والسر والبحث المستمر في كل ما يقدم إلينا من تعاليم حتى ولو كانت من كبار اللاهوتيين بكل أشكالهم لئلا تكون تعاليم ليس لها أساس من الحقيقة بل غريبة[27].

فنطلب من كل آبائنا القديسين والآباء الذين غادروا الجسد، نطلب منهم أن يساعدونا بصلواتهم وتشفعاتهم أن نكمل خلاصنا نحن أيضًا ونلتقي معهم عند الآب.

القديس باسيليوس الكبير – حياته، رهبنته، قوانينه – د. عصام سامي زكي

القديس غريغوريوس اللاهوتي (النزينزي) – حياته وأعماله وعصره

القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

 

 

الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير ـ غريغوريوس اللاهوتي ـ يوحنا ذهبي الفم) مقدمة عن حياتهم وتعاليمهم والأوضاع التاريخية والكنسية - د. عصام سامي زكي
الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير ـ غريغوريوس اللاهوتي ـ يوحنا ذهبي الفم) مقدمة عن حياتهم وتعاليمهم والأوضاع التاريخية والكنسية – د. عصام سامي زكي

 

 

 

[1] الكنيسة أخذت هذه التسميات أو الألقاب لبعض الأشخاص من المعلّم بولس الرسول حيث اقتدت به لأنه كان أبًا روحيًا أنجب لها أولادًا في المسيح وكمعلّم هذبهم فيه (1كو14:4ـ16).

[2] القديس يوحنا ذهبي الفم في مجموعة مني Migne للآباء باليونانية مجلد 50 صفحة 154.

[3] القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات مجموعة ميني مجلد 36.

[4] القديس كيرلس الأسكندري مجموعة ميني مجلد 74 صفحة 176.

[5] “كل الحقيقة” هنا معناها أنه في كل عصر نحتاج إلى طريقة تفكير مقتادة بالروح القدس لنجد حلول لمشاكل الإنسان المتطورة وكيفية قيادته إلى الخلاص المعلن عنه في الإنجيل. وأيضًا “كل الحقيقة” المقصود بها التفتيش والتنقيب مع عمل الروح القدس عن بعض الصعوبات والتي لم يكن لها حل لولا تدخل الروح المعزي الذي قال عنه المسيح لتلاميذه أنه سيخبركم بكل شئ.

[6] توجد عقائد هامة في الكنيسة بالرغم من أنه لم يشار إليها بنص صريح واضح في نصوص كتب العهد الجديد مثل “طبيعة المسيح” أو “أوموسيوس” = المساواة في الجوهر أو “الوحدة في الجوهر” وغيرها إلاّ أنها تفهم من المحتووى اللاهوتي من معنى نصوص الكتاب المقدس ومن تفسير الآباء الذين قادهم الروح لحل مثل هذه الصعوبات.

[7] انظر ذهبي الفم في تفسيره عن أعمال الرسل الاصحاح الأول: 2.

[8] انظر القديس غريغوريوس، المقال 31 الباترولوجيا 36ـ161.

[9] انظر القديس غريغوريوس اللاهوتي، باترولوجيا 36؟

[10] انظر “القديس أثناسيوس الكبير والمجامع” تحت بند 40.

[11] يذكر غريغوريوس النزينزي في كتابه ، عن الروح الذي ينير الآباء والمعلمين في خبرتهم الإلهية في البحث عن الحقيقة فيقول في إحدى مقالاته “فليأت الروح القدس إليّ لأستطيع أن أعطي كلمة”. أو ترجمة أخرى “إن لم يعمل الروح القدس فيّ لا أستطيع أن أعطي كلمة”.

[12] يقول أستاذ العقيدة والدفاع بابا بترو Papa Petro بجامعة أثينا: إن ” فهم آباء الكنيسة للإله كان نتاج شركة حية مع عمل الله في تاريخ الاعلان الإلهي، وأن تفسيرهم لبعض المواضيع هو بالضبط شرح لهذه الشركة ” اعلان الله ومعرفته، ص41.

[13] هذا ليس معناه أن الحقيقة الإلهية معلنة وسهلة الفهم بدون مشاكل لاهوتية ولكن على مر العصور في القرون الأولى وجدت مشاكل كانت صعبة الحل وضاع للأسف ضحيتها الكثيرون، واحتاجت إلى الفهم الجيد للاعلان لاكتشاف معنى الحقيقة لبعض الأمور التي لم تكن واضحة. ولكن لأن آباء الكنيسة كانت لهم خبرة معها أى حياة القداسة التي عاشوها مع الحق، سمحت لهم في توسيع خبرتهم لفهم الحقيقة فاستطاعوا أن يجدوا حلولاً لهذه الصعوببات.

[14] انظر القديس باسيليوس الكبير في رسالته 223ـ225 إلى أستايوس.

[15] في هذا الصدد يقول ق. غريغوريوس الثيؤلوغوس” إن كل ما يكتب بواسطة الروح القدس محتوى وشامل الحقيقة وأن ما يكتب بدون الروح القدس فلا حقيقة فيه لأنه خالي من الأداة السليمة في التعبير، أى الروح القدس. (الباترولوجيا الجزء رقم 21 )

[16] يؤكد مكسيموس المعترف في بعض مقالاته أن مركز الإنسان هو قلبه الذي يعلن له فيه الروح القدس عن الحقيقة.

[17] انظر القديس أثناسيوس الكبير باترولوجيا الفصل الرابع تحت رقم 18.

[18] انظر الأستاذ: كرميريس أستاذ العقيدة في كتابه اعترافات رقم 12 صفحة 75. فيقول ” .. في سنوات الرسل كان المعلّم والقائد هو الروح القدس فجاء بعدهم الآباء الذي تعامل معهم الروح القدس بنفس القوة .. الخ “.

[19] الكتاب المقدس: هو كلمات الوحي الإلأهي والتي تكون العمود الفقري وحجر الزاوية والذي بدونه لا يمكن أن نتكلم عن أرثوذكسية ولا عن مسيحية.

[20] التقليد: نعني به كتابات الآباء، والذي لم يبدأ بها الآباء وإنما بدأه السيد المسيح والرسل ومن الجدير بالذكر هنا أن الكنيسة لم تخلق من عدم وإنما وجدت في مناخ يؤكد وجود التقليد الذي عاشه بالأخص الرسل مستوحينه من المسيح ثم حدث أن الآباء فسروه ووضحوه.

[21] إن اللاهوتي الأصيل لا يتكلم عن اللاهوتيات من نفسه ولأجل نفسه وإنما يتكلم من النعمة التي أعطيت له من الكنيسة ولأجل الكنيسة، يتكلم ويكتب اللاهوتيات طالما أن الكنيسة تعيش في شركة مع الإله المعلن عن نفسه. وبالتالي فإن التقدمة التي يقدمها الأب أو المعلم أو اللاهوتي الأصيل سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هى تفسير وتوضيح للكتاب المقدس الموحى به من الله. (انظر الأستاذ/ بابا بترو في كتاب الاعلان الإلهي ـ طبعة أثينا 1969 ص10).

[22] والمقصود بالحل هنا الحقيقة الأصلية في كل أبعادها ، والتي تحتاج إلى خبرة حية مع الروح القدس.

[23] لأننا لم نتبع خرافات مصنعة إذ عرفنا كم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه بل قد كنا معاينين عظمته” (2بط16:1).

[24] يجب على كل معلّم في الكنيسة اليوم أن يحرص على معرفة كل ما يدور في العلوم الأخرى مثل الأدب والفن والقانون والتاريخ والسياسة وإلاّ أعددنا إنسانًا ناقصًا.

[25] هناك بعض الآباء رفضوا تمامًا كل نوع من أنواع العلوم الأخرى والتي لها علاقة بالفكر مثل علوم الفلسفة وذلك خوفًا من الفلسفة وغيرها التي تضر المؤمن والتي تخفي ورائها الكثير من الأمور التي لها علاقة بالروح والنفس الإنسانية ولذلك اعتبروا أن أى إشارة إلى مثل هذه العلوم مما لا شك فيه سيؤثر على خلاص المؤمن، وفي الحقيقة أن هؤلاء الآباء والمعلّمون الذين رفضوا العلوم الأخرى هم قليلون، وهذا ليس معناه أن هؤلاء الآباء لم يقوموا بدراسة هذه الأنواع من العلوم بل درسوها وعرفوها ولكنهم رفضوها تمامًا وكان خوفهم الأكبر أن تشد هذه الفلسفات المؤمنين واضعين أمامهم أمثال من قرءوا بعض الفلسفات بطريقة خاطئة حيث قادتهم إلى القيام بالهرطقات التي حرمتهم من الخلاص.

[26] وهذا معناه أن الحلول والإجابات على المشاكل التي طرحت في بعض المجامع لم تكن مقتادة بالروح القدس في نفس لحظة انعقاد المجمع وفي نفس المكان كما يقول بعض الباحثين بل هى إجابات وحلول كان بعضها موجود من قبل في كتابات وتعاليم الآباء وكان عمل الروح القدس وقتها (في المجمع) هو اختيار التعاليم الصحيحة والتي تخص المشكلة المحددة ليعتمدها المجمع ويصدق عليها لتصير عقيدة الكنيسة كلها.

[27] من الصعب جدًا ومن المحزن على الإنسان أن يقبل ما يقدم إليه بدون أن يعرف جذوره، فبدراسة آبائنا ومعلمينا وبجانبهم ستعرف كنيستنا الواحدة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية.

 

الأقمار الثلاثة (باسيليوس الكبير ـ غريغوريوس اللاهوتي ـ يوحنا ذهبي الفم) مقدمة عن حياتهم وتعاليمهم والأوضاع التاريخية والكنسية – د. عصام سامي زكي