آبائيات

القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

المحتوى

القديس يوحنا ذهبي الفم - حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي
القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

مقدمة عامة

مشاكل وأزمات عصر القديس يوحنا ذهبي الفم

1 ـ عظمة القديس يوحنا ذهبي الفم وعطاؤه بمعزل عن مختلف المدرس اللاهوتية:

إن المفسر واللاهوتي الكبير يوحنا الذي برز على مر العصور وسيطرت أفكاره بين المسيحيين ولقب بلقب “ذهبي الفم”، قد نشأ وتعلم اللاهوت في أنطاكية بسوريا، وتابع تعليمه العالي في القسطنطينية، وتوفي في “كومانا” في البنط. لقد كان يوحنا رجلاً ذو إرادة قوية وثقافة واسعة جدً، وكان أيضًا خطيبًا برعًا وموهوبًا، ومتمكنًا من اللغة اليونانية بلهجتها الأتيكية التي كانت لغة الثقافة والعلوم في ذلك العصر، فأغناها بمعارفه من أجل منفعة المؤمنين. لقد كان أيضًا ناسكًا عظيم الشأن فخدم الكنيسة كراعٍ ومعلّم.

وبينما عاش في العاصمة إقليم سورية من العالم الروماني، في خضم نزاعات التفسير اللاهوتي والنزاعات العرقية والاجتماعية، إلاّ أنه استطاع أن يتجاوز كل أنواع التطرف، وأن يكون مستقيم الرأي، وأن يصبح ملعمًا “مسكونيًا” لم يستطع أحد أبدا تلطيخ اسمه وتشويه سمعته. ولم يستطع الباحثون أبدا أن يصنفوا القديس يوحنا ذهبي الفم ضمن مدارس أو تيارات معينة، كما لم يستطيعوا أيضًا أن يثبتوا عدم اهتمامه بالمشاكل اللاهوتية الكبيرة التي شغلت عصره.

لقد كان قديسًا عظيمًا ومستنيرًا بشكل أكبر بكثير من أن يخضع لمدارس أو تيارات. وكان أداة الله ذات الضمير الحيّ، تلك الأداة التي لا تسكت على المشاكل اللاهوتية. وهكذا كان يختار المدارس ولا يتبعها، بينما سلك الطريق الروحي للقديس أثناسيوس الكبير والآباء الكبادوكيين من ناحية المصطلحات التي استخدمها. فقد تبنى بشكل تام التقليد الكنسي بكامله. وهكذا بصلواته وببحثه الدائم تلقى النعمة الإلهية الغنية بالخبرات الروحية لكي يقوم بشكل صحيح بتفسير النصوص المقدسة.

وفي نصوص القديس يوحنا ذهبي الفم وروح تعاليمه يوجد لاهوت كل آباء ومعلّمي الكنيسة الأولين. وتتصف كتاباته بالانتخاب الصحيح للأفكار والشجاعة في تقديم ووضع التعابير. لقد كتب جزءًا من نصوصه اللاهوتية في نفس الفترة التي كتب فيها القديس غريغوريوس اللاهوتي (390م). والقديس غريغوريوس النيسي (حوالي 394م)، لكن نصوصه كانت أقل عمقًا من الناحية اللاهوتية ـ النظرية، وبالتالي فهى أكثر ملاءمة من الناحية الرعوية.

عن كتاباته حول جميع المواضيع اللاهوتية تدل عن فهم واسع، فهو يفسر نصوص وأسفار الكتاب المقدس بدقة متناهية ومنطق واسع الآفاق وحجج قوية. ولذلك حازت نصوصه على إقبال كبير من القراء وتم نسخها مرارًا، مما أدى إلى حفظ عدد ضخم من كتاباته المتعلقة بمختلف المواضيع.

إن ما كان يتصف به القديس يوحنا ذهبي الفم من طبع صارم من جهة، وحبه لخدمة الغير من جهة ثانية، والعلوم التي حصل عليها من المدارس والأديرة، بالإضافة إلى طبعه السوري الذي يتصف بالبساطة والروح العملية وحب التنسك وبلاغة الخطابة، قد أثرت بشكل عميق على نشاطه وعلى النصوص التي كتبها. وهكذا فقد كان يعمل بصرامة، وكان يرفع صوت الخف عاليًا، إلاّ أنه كان حساسًا وسهل المعاملة مع الآخرين.

إن شروحه وتفسيراته كانت تهدف إلى بناء روح وشخصية المؤمنين بشكل راسخ، لكنه هو شخصيًا لم يكن متزمتًا ومتمسكًا بشكل سلبي بالنواحي الأخلاقية (moraliste). لقد أصبح بالنسبة للمؤمنين اللاهوتي العملي والحياة اليومية، فمدح حياة النسك، وكان يحن دائمًا للخبرة التي عاشها كناسك لفترة ست سنوات، لكنه تيقن في نفسه أن الإرادة الإلهية قد دعته للخدمة الرعوية في الكنيسة.

كان متمكنًا من فن الخطابة، وكان يحب هذا الفن، إلاّ أنه عمل على تبسيطه وأعطى قوة لمضمونه في تعاليمه من خلال حرارة خبرته الروحية. اجتذب اهتمام معاصريه الذي كان متركزًا على بلاغة الألفاظ والشكل الأنيق في فن الخطابة، وجعلهم يهتمون بحقيقة المضمون، التي يمكن التعبير عنها أيضًا بواسطة هذا الفن.

 

القديس يوحنا ذهبي الفم - حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي
القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

2 ـ تعرض الأرثوذكسية للإضطهاد:

تعتبر كتابات القديس يوحنا ذهبي الفم من أهم المصادر التاريخية التي تزودنا بالمعلومات عن الأوضاع الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية التي كانت سائدة في أكبر مدينة في الإمبراطورية الرومانية بعد روما، وهى مدينة أنطاكية. فعندما بدأت أهمية مدينة الأسكندرية بالتراجع من الناحية الثقافية والسياسية، بقيت أنطاكية أهم مركز ثقافي وحضاري في الشرق، والسد المنيع للإمبراطورية الرومانية ضد هجمات الفرس. وقد وصل تعداد سكانها إلى عدة مئات من الآلاف، حيث إن عدد الرجال الأحرار فقط قد وصل إلى 200.000 رجل. وإلى هؤلاء يجب أن نضيف النساء والأطفال والعبيد.

وكان الإمبراطور كونستانتيوس (337ـ361)، والإمبراطور جوليان (361ـ363)، والإمبراطور جوفيان (363ـ364)، والإمبراطور فالين (364ـ378) قد نقلوا عدة مرات مركز حكمهم إلى أنطاكية من أجل مواجهة خطر الفرس. وإذا استثنينا الإمبراطور جوفيان الذي كان متعاطفًا مع الأرثوذكسية، والإمبراطور جوليان الذي حارب كل المسيحيين بشكل غير مباشر، فإن الإمبراطورين الآخرين اضطهدوا الأرثوذكسيين بشكل مباشر إرضاءً منهم لأتباع البدعة الآريوسية.

فقد عاش الأرثوذكسيون في أنطاكية ـ كما في الأماكن الأخرى ـ في ظل جو من الملاحقة والخوف، الذي وصل إلى ذروته في عهد الإمبراطور جوليان عندما اتخذ من أنطاكية مركزًا له. فقد قام لمرات عديدة بالتضحية للآلهة الوثنية (انظر PG 50, 556C) كما حاول ممارسة التنسك وتقليد أشكال الطقوس الكنسية (حيث تناول خلالها القربان من كأس)، وهكذا كانت أوضاع المسيحيين صعبة جدًا.

ولذلك فقد اضطر عدد كبير من المسيحيين تحت هذه الظروف الصعبة، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى التخلي عن الدين المسيحي والعودة إلى الوثنية بالرغم من أن الديانة الرومانية القديمة لم تعد تحظى باهتمام حتى أهل أنطاكية الذين كانوا من أصل أممي، وهذا الأمر بالذات كان يثير حنق الإمبراطور جوليان.

وعندما كان القديس يوحنا ذهبي الفم لايزال فتى صغير السن عاش تجربة صعبة من التجارب التي مرت بها الكنيسة. ففي عام 362 أمر الإمبراطور جوليان بإبعاد جثمان القديس الشهيد “بابيلاس” وتدمير كنيسته في أنطاكية، بحجة أن تلك الكنيسة كانت تثير غضب الإله “أبولون” الذي كان معبده قريبًا منها (PG 50, 558). ولكن بعد أيام قليلة شبت النار في معبد أبولون، فاتهم الإمبراطور جوليان المسيحيين ظلمًا بأنهم السبب. ولمعاقبتهم على ذلك أصدر قرارًا بإغلاق الكنائس، لكن هذا القرار لم يُنفّذ بشكل كامل.

أما الإمبراطور كونستانتيوس فقد صادر الكنائس من الأرثوذكسيين وأعطاها لأتباع آريوس. وفي عام 362 لم يكن لدى الأرثوذكسيين ـ وعلى رأسهم آنذاك أسقف أنطاكية ملاتيوس ـ سوى كنيسة واحدة وهى كنيسة الرسل القديسين التي كانت توجد في المدينة القديمة. وفي العام ذاته وهب أسقف أنطاكية “أوزويوس” الذي كان من أتباع بدعة آريوس احدى الكنائس إلى الأسقف المنشق “باولينوس” مما يدل على السلطة الواسعة التي كان يتمتع با أتباع بدعة آريوس. وفي عهد الإمبراطور فالين (364ـ378) تعرض الأرثوذكسيون إلى اضطهاد شديد، وبشكل خاص عندما نقل الإمبراطور مركز حكمه إلى أنطاكية.

فقد أيد فالين أتباع آريوس بشكل مباشر، واليهود والوثنيين بشكل غير مباشر، لكنه لاحق الأرثوذكسيين وحرمهم حتى من أصغر الكنائس. وكانوا مضطرين لإجراء صلواتهم داخل المنازل في الريف، وفي الكهوف، وعلى ضفاف نهر العاصي. وقد كشف بعض أفراد الطبقة المقربة من الإمبراطور مكان تجمع الأرثوذكسيين لكي يقبض عليهم ويعاقبهم.

وبعد موت فالين عام 378 عاد أسقف أنطاكية ملاتيوس من منفاه لكنه لم يستطع تسلم كنائس المدينة التي كانت في يد الأسقف باولينوس إلاّ بحلول عام 380.

 

3 ـ الظروف الدينية والاجتماعية في أنطاكية:

كانت مدينة أنطاكية منذ ما قبل القرن الرابع الميلادي مركزًا حضاريًا كبيرًا تجتمع فيه مختلف الأجناس والشعوب والحضارات والأديان. في تلك المدينة ولد القديس يوحنا ذهبي الفم، ونشأ نشأته الروحية، وتعلم، وكتب قسمًا هامًا من أعماله. لقد كانت الحياة الاجتماعية والدينية في المندينة تشكل خليطًا مليئًا بالتناقضات التي ولّدت الأزمات في العديد من الأحيان.

فالمجتمع الأنطاكي كان يتألف من يونانيين، وسكان ينتمون لشعوب شرقية، وسوريين، ورومانيين، ويهود. وكان هؤلاء جميعهم يمارسون التجارة والطقوس الدينية المختلفة ويشاركون في الحياة السياسية ويدرسون في الجامعات، وكانوا بشكل عام يمارسون نشاطاتهم بدرجة كبيرة من الحرية. لقد كان التعليم متقدمًا لدرجة أن أنطاكية كانت تعتبر “أثينا الشرق”، وكانت مركز فن الخطابة في الشرق حيث كانت فيها مدرسة كبيرة للخطابة أسسها السفسطائي الشهير “ليبانيوس”.

وفي أنطاكية أصبح فن الخطابة فنًا مثاليًا وصفة قياسية مطلقة للإنسان المثقف. لقد كان المثقفون من أهل أنطاكية من المسيحيين والوثنيين يتابعون الخطباء ويتمتعون بفنهم، وكانوا يمارسون نقدًا عالي المستوى على أعمالهم الناجحة أو الفاشلة.

ولكن بالرغم من هذا المستوى الثقافي الرفيع، فقد كان معظم سكان المدينة والمناطق المحيطة بها أمييم، وكانوا يتكلمون اللغة السريانية واللهجات المحلية. وكان هناك تناقض كبير في توزيع الثروات، فقد كان هناك عدد قليل من الأغنياء بينمااا الغالبية الساحقة من الشعب كانت تعيش في ظروف الفقر. ومما يدعو للاستغراب أن المسيحيين الذين كانوا يشكلون نصف عدد السكان تقريبًا، كانوا أوفر حالاً وأغنى من الباقين، وذلك وفقًا لما ذكره القديس ذهبي الفففم في أعماله.

لكن المسيحيين كانوا يتأثرون بالجو المحيط بهم بشكل كبير، حتى أن العديد منهم كانوا يشاركون في الأعياد والمناسبات الدينية لليهود. بينما كانوا يتابعون أيضًا الأعياد والمناسبات الدينية للوثنيين. إذًا فقد كانوا يفتقرون لذلك الحس الذي يعطى للكنيسة صفة الححقيقة الوحيدة والمطلقة. لم يكن لديهم الإدراك أن أخلاق الكنيسة تختلف عن الأخلاق اليهودية من جهة، وتختلف أيضًا عن المنظومة الاجتماعية والدينية للوثنيين التي كانت تتسامح مع الإباحية الأخلاقية.

إن هذه الأوضاع التي كانت تتصف بها حياة المسيحيين في أنطاكية قد أثارت قلقًا شديدًا لدى القديس يوحنا ذهبي الفم، ودفعته لمحاربة الوثنيين واليهود من أجل مساعدة المسيحيين ليتفهموا أن الحقيقة موجودة في الدين المسيحي فقط، وأن هناك حاجة للمسيحيين في أن يعيدوا النظر في أخلاقهم وأن يونوا أسسًا أخلاقية جديدة في مدينتهم، التي كانت لانزال تتميز بميزات المدينة الوثنية، بمسارحها وحلبات السباق فيها وحماماتها العامة، وأنواع اللهو التي كان من الصعب على المسيحيين من سكانها التخلي عنها. لقد كان هذا الجو العام يشكل ضغطًا كبيرًا على المسيحيين، وصفة القديس يوحنا ذهبي الفم بأن مقاومته تضاهي الاستشهاد (PG 62, 412).

4 ـ تطور النظام الرهباني:

في الوقت ذاته، انتشرت الأديرة ومراكز التنسك في سوريا تحت تأثير الأفكار الشرقية (rigorismus)، وبشكل خاص تأثير الجماعات الدينية الذين يدعون “أبناء وبنات العهد”، ونساك منطقة ما بين النهرين. وكان يعيش في الكهوف على مقربة من مدينة أنطاكية وعلى ضفاف نهر العاصي، عدد كبير من النساك منفردين بشكل جماعات في أديرة.

ولقد ظهرت الحياة في الأديرة خلال العقد الرابع من القرن الرابع، وذلك في أديرة صغيرة بدائية في قمة “جبل بركات” ومنطقة جندريس وتل عادة. ولم يتبع أفراد تلك الأديرة قوانين ونظمًا محددة مثلما كان يتبع القديس “باخوم” (346) في مصر، أو القديس باسيليوس الكبير (37779) في كبادوكية والبنط وأرمينيا الصغرى. لقد كانت حياة الرهبنة في أنطاكية تتمتع بدرجة كبيرة من الحرية، ولكن كان دائمًا بين الرهبان واحد يتزعم الباقين ويقوم بتوجيههم.

وكان هؤلاء النساك يتمتعون بخصائل ونعم إلهية عظيمة تدهش المسيحيين من سكان المدن وتسترعى اهتمامهم واحترامهم. كما كان الرهبان يتلقون زيارات من الغرباء ليساعدوهم على تقوية إيمانهم بالمخلّص وكلما كان بعض هؤلاء النساك مثل “مقدونيوس” و “يوليانوس سابا” الملقب “بالأميّ” (377) يزورون أنطاكية، كان سكانها يستقبلونهم بحفاوة وتكريم يزيدان التكريم والحفاوة بالملوك (PG 62, 153).

لكن هذا التكريم البالغ الذي كان يلقاه النساك كانت له ردود فعل من قبل المسيحيين الأغنياء لأن أبناءهم كانوا في معظم الأحيان يتأثرون بهؤلاء النساك فيتركون حياة البذخ والرفاهية والمجون في أنطاكية ويذهبون معهم ليعيشوا حياة الرهبنة والتعبد بهدف الوصول إلى الكمال الروحي.

لكن عدم وجود قوانين ونظم صارمة في مجتمعات الرهبنة تلك، أدى في العديد من الأحيان إلى انحراف بعض النساك عن التعاليم المسيحية الأصيلة، فنذكر مثلاً “الميساليانيين” الذين تم اعتبارهم منشقين. ولكن على أية حال فإن الرهبنة والتنسك قد أصبحت ظاهرة منتشرة وفرضت نفسها بشكل أصبح فيه الرهبان في الأديرة أو في الصوامع المنفردة يستقبلون الشباب ويعلمونهم تعاليم الكنيسة، والحياة الروحية الأصيلة أيضًا.

هذا وقد اشتهر “ذيوذوروس الطرسوسي” (392) لتعاليمه ولمدرسته. فقد كان ناسكًا صارمًا ومعلّمًا حكيمًا فأطلق بحق على مدرسته الواقعة خارج أنطاكية اسم “الصومعة”. وفي تلك المدرسة تعلم القديس يوحنا ذهبي الفم و “ثيوذوروس الموبسوئستي” وغيرهما الكثيرون، علوم اللاهوت والتفسير وقواعد التنسك. ومن الواضح أن القليلين من النساك والرهبان كانوا يقومون بالتعليم بسبب جهل معظمهم للغة اليونانية، والدليل على ذلك أن الصلوات كانت تجرى في بعض الأديرة باللغتين اليونانية والسريانية.

هذا وقد ازدادت محبة المسيحيين وكل سكان أنطاكية بشكل عام، وعظم احترامهم للرهبان والنساك بعد تحطيم النصب والتماثيل الملكية من قبل الجموع الثائرة في المدينة عام 387، حيث أُقيمت المحاكم وتم إعدام الثوار من قبل مرسلي الإمبراطور ثيوذوسيوس. ففي تلك الأثناء ترك العديد من الرهبان أديرتهم وصوامعهم التي عاشوا فيها لعشرات السنين وذهبوا إلى أنطاكية ليترجوا القضاة والحكام بالرأفة والعطف على الثوار الأنطاكيين. وكان الكثيرون منهم في العديد من الأحيان يقدمون أنفسهم للإعدام بدلاً من أرباب الأسر المحكومين.

وقد أعلن القديس يوحنا ذهبي الفم بنفسه مرة ومعه عدد كبير من الرهبان، وبكل شجاعة، إلى ممثلي السلطة، أن من يريد الإساءة إلى أحد من سكان أنطاكية سيمر أولاً فوق جثته. إن كل هذه الأحداث قد رفعت الرهبنة في عيون السكان الذين رأوا في الوقت ذاته أن الفلاسفة والخطباء وكهنة المعابد الوثنية واليهود قد تركوا المدينة لينجوا بأنفسهم (PG 49, 173-174).

5 ـ الأوضاع الكنسية واللاهوتية:

لقد كانت الأسكندرية في القرن الرابع أهم مركز للأ{ثوذكسية حتى عام 373 بفضل وجود القديس أثناسيوس الكبير، إلاّ أن أنطاكية أصبحت أكبر مركز في الشرق للتفاعلات الكنسية واللاهوتية. لقد كان للتقليد الأنطاكي القديم قطبان مختلفان الأول هو القطب الأرثوذكسي الأصيل الذي أنشأه ويمثله القديس “أغناطيوس ثيوفوروس” (توفى عام 107 أو 117)، والقطب الثاني وهو قطب منشق عن الأرثوذكسية مثله “ثيوفيلوس الأنطاكي” في القرن الثاني (188) ومثله خلال القرن الثالث “بولس الساموساتي” (272).

وفي أوائل القرن الرابع أصبح “لوقيانوس” بشكل أو بآخر أحد أكبر مؤيدي البدعة الآريوسيية. وفي عام 324 أيد أوستاثيوس الأنطاكي” اللاهوتع الأرثوذكسي ونظم في أسقفيته مجمعًا تم خلاله الإعداد للمجمع المسكوني الأول في نيقية (325).

لكن الأحداث التي تلت ذلك دمرت كل العمل الذي قام به أوستاثيوس الذي كان يؤيد خط أثناسيوس الكبير. فقد سيطر أتباع آريوس واحتلوا الكنائس ونفوا أوستاثيوس (328) وعقدوا مجمامع عديدة بهدف تشويه الإيمان الأرثوذكسي الذي ثبته مجمع نيقية (341ـ344). ولكن في عام 360 اعتلى عرش الأسقفية الأنطاكية من جديد أسقف أرثوذكسي وهو الأسقف “ملاتيوس”، لكنه بعد فترة قليلة من تنصيبه نفى وقضى نصف فترة خدمته في الأسقفية في المنفى، وتوفى عام 381.

ولكن في تلك الأثناء نشأت حركة انشقاق في أنطاكية عرفت باسم “انشقاق أنطاكية”، وذلك بسبب كون القس باولينوس كان يدّعي أنه يمثل بأصالة التقليد الذي تركه أوستاثيوس. لكن أتباع أوستاثيوس كانوا أرثوذكسيين أما باولينوس فقد كان حتى وفاته (388) يؤيد أن الجوهر والأقنوم متطابقان. وكان يعجز عن فهم المعنى اللاهوتي للمصطلح: “جوهر واحد وثلاثة أقانيم” وفقًا لتعاليم الآباء الكبادوك، وكما قبلته الكنيسة عام 380.

وهكذا بعد عام 362، عندما رُسم باولينوس أسقفًا بشكل غير قانوني، كان يوجد في إنطالية التي يسيطر عليها أتباع آريوس كنيستان أرثوذكسيتان فقط، الأولى التي كان يشرف عليها ملاتيوس المنفي وكان يمثله “فلابيانوس” وتبعه يوحنا ذهبي الفم، والثانية كان يشرف عليها باولينوس الذي كانت لديه رعية قليلة تتبعه. لكن أتباع آريوس كانوا مسيطرين على المدينة وكانوا منشقين في ثلاث طوائف “الغير متشابهين”، و “المتشابهين”، و “المتشابهين في الجوهر”. كما نشط أتباع “أبوليناريوس” الذين كان يتزعمهم “فيتاليوس” الذي أنشأ مدرسة في أنطاكية. هذا وكانت تعاليم أبوليناريوس منذ عام 375 قد انتشرت انتشارًا واسعًا في أنطاكية.

لقد ولّدت هذه الإنشقاقات والخلافات والبدع حزنًا كبيرًا لدى القديس يوحنا ذهبي الفم، ذلك لأن الكثير من المؤمنين لم يكن بمقدورهم إدراك الاختلاف وكان كل واحد من أتباع احدى الطوائف يصلي في كنيسة تابعة للطائفة الأخرى. وقد وصلت تلك البدع والهرطقات إلى ذروتها في فترة شباب القديس يوحنا ذهبي الفم.

لقد مارس أتباع آريوس ضغطًا هائلاً على المجتممع الأنطاكي، ولكن كان من السهل تمييزهم عن الأرثوذكسيين. وعلى العكس من ذلك فإن أتباع أبوليناريوس كانوا يدعون بشكل مغالط للحقيقة أنهم يؤمنون بقرارات المجمع المسكوني الأول، فسببوا بلبلة وارتباكًا لدى المؤمنين. والأسوأ من ذلك أن بعض الأرثوذكسيين حاولوا الرد على ادعاءات أتباع أبوليناريوس فأعطوا أهمية عظمى للطبيعة البشرية ليسوع المسيح فتكلموا خطأ على ابنين اثنين في شخص المسيح، مما يجعل من المستحيل أن تتحد الطبيعتان في شخصه.

وتلك الآراء نصادفها في نصوص “ذيوذوروس الطرسوسي” الذي كان ممثلاً لملاتيوس ومعلّمًا ليوحنا ذهبي الفم وغيرهم من لاهوتي أنطاكية المعروفين، وصاحب مدرسة التفسير الأنطاكي. إن هذه الآراء قد تطورت فيما بعد وقادت لنشوء بدعة “نسطورويوس” الذي لم يكن يستطيع إدراك مفهوم الاتحاد بين الطبيعتين البشرية والإلهية في شخص المسيح، الذي هو اتحاد لا انصهار فيه ولا انقسام ولا تحول. إن هذا الخروج عن المفاهيم النظرية اللاهوتية قد حدث في البيئة الروحية التي نشأ وعاش فيها القديس يوحنا ذهبي الفم.

وفي هذه البيئة قام ذيوذوروس بتشكيل أسس التفسير الأنطاكي بشكل تام وهو التفسير المعروف باسم المنهج “التاريخي ـ الكتابي”، وهو منهج يتصف بالمواقف الأخلاقية المتطرفة، فمهّد الطريق لنشوء البدعة النسطورية، ورفض المنهج الرمزي allegoric لمدرسة الأسكندرية.

ولكي نكون صورة متكاملة عن المسيحية في أنطاكية يجب أن نذكر أنه في عام 379 وبعد مرور ثمانية أشهر على عودة ملاتيوس من المنفى، عقد فيها مجمع للأساقفة الأرثوذكسيين في الشرق. وتم في هذا المجمع التأكيد على لاهوت الآباء الكبادوك والتحضير للمجمع المسكوني الثاني الذي عقد في القسطنطينية عام 381.

وكما حدث في المجمع الأنطاكي عام 324 حيث فتح الباب أما قبول مصطلح “المساوي في الجوهر” ورفض تعاليم آريوس، كذلك فإنه في مجمع عام 379 الذي عقد أيضًا في أنطاكية فتح الباب أما قبول التعاليم اللاهوتية للقديس أثناسيوس الكبير ورفض تعاليم أونوميوس وأبوليناريوس وماركيلوس. وفي خضم هذه الزوبعة الكبيرة كان على القديسس يوحنا ذهبي الفم أن يحافظ على إيمانه ثابتًا، وأن ينتج عمله العظيم مستخدمًا العناصر الإيجابية فقط من المحيط الذي عاش فيه، أى لاهوت القديس أثناسيوس الكبير، وأفكار الآباء الكبادوك، بالإضافة طبعًا إلى خبراته الشخصية.

 

القديس يوحنا ذهبي الفم - حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي
القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

حياة وأعمال القديس يوحنا ذهبي الفم

أ ـ في أنطاكية

1 ـ مصادر المعلومات الرئيسية عن حياة القديس يوحنا ذهبي الفم:

إن أهم المصادر التي تزودنا بالمعلومات القيمة عن حياة القديس يوحنا ذهبي الفم هى أعماله التي تركها لنا، بالإضافة إلى النصوص القديمة التالية:

+ بالاديوس هيلينوبوليس: حوار تاريخي حول حياة وسيرة يوحنا ذهبي الفم (PG 47, 5-82).

+ سقراط: التاريخ الكنسي، 2:6ـ22 و 25:7 و 35 (PG 67, 661-729, 793, 536).

Sosomenus Kirchengeschichte: J. Bidez, Berlin 1960, p. 349-388.

Theodoret Kirchengeschichte: L. Parmentier, Leipzig 1911, p. 328-339.

Zosime, Histoire Nouvelle: F. Paschoud, Paris 1971.

+ بسوذومارتيريوس الأنطاكي YEUDO – MARTURIOU ANTIOCEIAS) : ممديح ليوحنا ذهبي الفم (pg 47, XLIII-LII).

+ ثيوذوروس التريميثوندي: حول حياة وسيرة يوحنا ذهبي الفم (PG 47, LI-XXXVIII)

Savillius Chrysostomi Opera Omnia, VIII, p. 157-265.

Halkin Douze récits byzantins sur S. Jean Chrysostome, Bruxelles 1977.

Van Ommeslaeghe, ” Que vaut Le témoignage de Pallade sur Le process de S. Jean Chrysostome”?: AB 95 (1977) 389-313.

وفيما بعد ظهر عدد كبير من النصوص (60 نص تقريبًا) على شكل مديح وسير لحياته وصف لعجائبه ولصعوبات المنفى ووصف لعملية نقل رفاة القديس وقصائد مديح له (BHG II Vo. 870-881 z)

 

2 ـ السنوات الأولى من حياته، وتعلمه للعلوم الكلاسيكية:

إذا قبلنا بصحة المعلومات التي نقلها لنا أول كاتب لسيرة حياة القديس يوحنا ذهبي الفم، وهو بالاديوس هيلينوبوليس، فإن القديس قد ولد في أنطاكية عام 354. ولكن أبحاثًا أخرى أظهرت خلال السنوات الأخيرة أن القديس قد ولد عام 349 أو 350، وهذا ما نؤيده نحن أيضًا.

لقد كان والده “سيكوندوس” قائدًا للجيش الروماني في سوريا، وكان مركزه في أنطاكية. والاسم Secundus يدل على أصله اللاتيني ولكنه بالتأكيد أصل بعيد لأن عائلته في أنطاكية كانت عائلة غنية تنتمي إلى طبقة النبلاء في المدينة وبالتالي فإن تلك العائلة كانت متوطنة في أنطاكية لفترة زمنية طويلة.

لقد توفى سيكوندوس عندما كان ابنه يوحنا طفلاً صغيرًا، وكانت أمه “أنثوسا” في سن العشرين من عمرها. وعلى أغلب الاحتمالات كان ليوحنا أخت تكبره ماتت هى أيضًا في سن الطفولة. وكانت أمه امرأة مسيحية مؤمنة، فنذرت نفسها لتربية ابنها الصغير يوحنا، فلم تبخل على صرف قسم كبير من ثروتها لتعليم ابنها.

ربما تعلّم القديس يوحنا ذهبي الفم أول العلوم التي تعلمها من أمه، بينما تابع تحصيله العلمي العالي متتلمذًا على يد المعلّم الكبير “ليبانيوس” (393) حتى سن الثامنة عشر، وكذلك على يد الفيلسوف “أنذراغاثيوس” (سوزمينوس: تاريخ الكنيسة 2:8، 5).

لقد درس القديس ذهبي الفم خلال تلك الفترة العلوم والثقافة الهلنستية واليونانية الكلاسيكية وتمكن منها بحيث اعتُبر أحسن خطيب في عصره، لكنه استخدم علمه ومواهبه في مجال آخر. فقد كانت العلوم التي تعلمها تهدف لإعداده ليكون محاميًا ومعلّمًا لفن الخطابة، ويظهر أنه عمل في هاتين المهنتين لفترة قصيرة. ويذكر الكاتب “سقراط” الذي كتب سيرة القديس ذهبي الفم أن القديس كان يستعد للخدمة في مجال القضاء (سقراط: تاريخ الكنيسة 3:6).

 

3 ـ اهتمامه بالكتب المقدسة:

عندما بلغ القديس يوحنا ذهبي الفم الثامنة عشرة من عمره تأكد له عدم فائدة الحياة المادية ووجه اهتمامه إلى الكتب المقدسة التي كانت تعلمه إياها أمه أنثوسا. ولسنا نعرف الكثير عن الظروف التي بدأ فيها دراسته في “الصومعة” الشهيرة التي أسسها العالم الكبير “ذيوذوروس” الذي أصبح فيما بعد أسقفًا في مدينة “طرسوس”، ومعاونه “كارتيريوس”. لقد كانت تلك الصومعة مدرسة للرهبان تدرس تفسير الكتاب المقدس بشكل خاص، والإيمان الكنسي واللاهوت بشكل عام (سوزومينوس: تاريخ الكنيسة 2:8، 5ـ6).

وفي تلك المدرسة درس يوحنا الشاب إلى جانب عدد من ملائه أمثال “ثيوذوروس” الذي أصبح فيما بعد أسقفًا لمدينة “موبسوئيستيا” (توفى 428)، وكذلك “ماكسيموس” الذي أصبح أسقف مدينة “سلوقيا” بمنطقة “إيساورية”، وغيرهمما. لقد كان تلميذًا متفوقًا وبدأ في تلك الفترة بكتابة أول كتبه. ويظهر أن القديس يوحنا ذهبي الفم لم يكن مقتنعًا بتفسير ذيوذوروس الذي كان زعيمًا للمدرسة الأنطاكية للمنهج التفسيري.

نال القديس يوحنا ذهبي الفم سر المعمودية عام 368، وكانت العلوم التي تعلمها على يد ذيوذوروس قد ساعدته في الابتعاد عن البدع التي كانت سائدة في ذلك العصر، كما ساهمت في ذلك أيضًا التربية المسيحية القويمة التي تربى بها على يد والدته. فبقى ملتزمًا بالتعاليم الكنسية الأرثوذكسية لكنيسة أنطاكية التي كان أسقفها ملاتيوس منفيًا لفترة طويلة (361ـ362، 364ـ367، 369ـ378) بسبب إيمانه الأرثوذكسي.

رُسم القديس ذهبي الفم عام 371 “قارئًا” للكتب المقدسة، وخدم كمعلم وراعٍ في الكنيسة. وكان “القارئ” في ذلك العصر يمارس الخدمة ولم يكن مجرد مرتل وقارئ بل كان يقوم بتفسير نصوص الكتاب المقدس. وكذلك فإن مصطلح “قراءة الكتاب المقدس” كان يعني تفسيره ودراسته (ذهبي الفم: “إلى العبرانيين”، خطاب 4″8 PG 63, 75).

القديس يوحنا ذهبي الفم - حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي
القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

4 ـ تركه لأنطاكية ليصبح راهبًا:

لم يواصل القديس يوحنا ذهبي الفم عمله كمعلّم لأنه ترك أنطاكية عام 372 بعد وفاة والدته أنثوسا، وتوجه إلى منطقة “سيلبيوس” الجبلية القريبة من المدينة ليصبح ناسكًا، وتتلمذ على يد واحد من النساك السوريين. وكان قبل ذلك بكثير قد عبر عن رغبته ليصبح راهبًا. وربما كان ذلك مرتبطًا بعدم اقتناعه بتعاليم ذيوذوروس وبمنهجه التفسيري.

لكنه لم يحقق رغبته تلك في ذلك الوقت إرضاءً منه لأمه التي رجته بأن لا يتركها قبل وفاتها. وكان من المعلوم في أنطاكية أن أنثوسا قد ضحت بحياتها وشبابها من أجل ابنها يوحنا، وعاشت حياة مسيحية فاضلة إلى درجة أن ليبانيوس المشهور كان قد ذكر عنها بإعجاب كبير قائلاً: ” هذه هى المرأة التي تمثل النساء المسيحيات” (PG 48, 601).

لقد تعلم الخطيب البارع يوحنا على يد الناسك السوري الشيخ لمدرة أربع سنوات (بلاديوس هيلينوبوليس: حوار حول سيرة ذهبي الفم 5 PG 47, 18).

ولم يكن الدير الذي تعلم فيه القديس ذهبي الفم ديرًا منظمًا، وإنما كان عبارة عن مكان كان يعيش فيه ثلاثة أو أربعة من النساك. وخلال فترة السنوات الأربع التي مارس فيها يوحنا حياة الرهبنة القاسية تجاوز كل الرهبان وطالب بتطبيق نظام أكثر قسوة وصرامة على نفسه.

وهكذا لجأ إلى مغارة صغيرة في ذلك الجبل تدعى “مغارة حبيب النجار” وعاش حياة رهبانية شديدة القسوة، وكان يدرس الكتاب المقدس ويصلي طوال الساعات الأربع والعشرين من كل يوم، ماعدا فترة قصيرة لم يكن ينام فيها بل كان يستند إلى صخرة ليستريح. وبقى في تلك المغارة لمدة سنتين، إلى حد أن قسوة حياته والبرد الشديد قد أدى به إلى الإصابة بمرض خطير في كليتيه، مما اضطره للعودة إلى أنطاكية في أواخخر عام 378 أو أوائل 379 (PG 47, 18)

 

5 ـ مرضه وعودته إلى أنطاكية ورسمه كاهنًا:

في تلك الفترة، وبعد موت الإمبراطور فالين (أغسطس ـ آب 378) عاد الأسقف ملاتيوس من المنفى. وكان هذا الأسقف يعرف القديس يوحنا ذهبي الفم ويقدره. وبعد شفاء الأخير من مرضه سلمه مهمة التعليم في الكنيسة، ثم رسمه شماسًا عام 380 أو 381. وفي عام 385 أو 386 رسمه خلف ملاتيوس الأسقف فلابيانوس أسقفًا. وطوال تلك الفترة عمل يوحنا على التعليم والوعظ.

لقد بدأ القديس يوحنا ذهبي الفم كتابة أعماله منذ انتهائه من دراسته لعلوم الفلسفة وفن الخطابة وبشكل خاص في فترة تتلمذه على يد ذيوذوروس. وواصل كتابته بشكل مكثف عندما عاد من مغارة “حبيب النجار” وكتب بغزارة أكبر منذ عام 381، بالرغم من أنه أصدر أغلب كتاباته في وقت متأخر عن ذلك التاريخ.

ولسنا نعرف الكثير عن الفترة حتى عام 386 حيث أصبح كاهنًا إذ كانت قد عهدت إليه مهام أخرى في الكنيسة، ولكن التفاصيل الكثيرة المذكورة في أعماله عن العمل الرعوي والإنساني لكنيسة أنطاكية تدلنا على أنه كان يشارك في هذا العمل.

6 ـ كاهن ومفسر وراع:

وقد نشط ككاهن في الكتابة والفكر اللاهوتي، حيث كتب بشكل خاص “خطاباته” الشهيرة ونصوص أخرى تتضمن عناصر “رواقية”. وهكذا لم يطور منهجه التفسيري ويثقف المؤمنين بالعلوم اللاهوتية فقط، إنما حارب أتباع “آريوس”، وأتباع “أونوميوس”، والوثنيين (في شخص الإمبراطور جوليان)، واليهود، الذين كانوا يضايقون المسيحيين ويضغطون عليهم للمشاركة في طقوسهم، والأغنياء الذين كانوا يستغلون الفقراء. وأهل أنطاكية الذين كانوا مسئولين عن الظلم الاجتماعي، والحياة الإباحية المليئة بالعروض والعادات اوثنية.

وكراع محب ومخلص لرعيته كان يهتم بكل المشاكل التي يواجهها المسيحيون في أنطاكية، وكان ينصحهم ويقف دائمًا إلى جانبهم. وقد اكتسب شهرة الراعي والخطيب والحامي لأهل أنطاكية، فوصلت شهرته هذه إلى ذروتها عام 387 عندما اندلعت ثورة في المدينة ضد الإمبراطور (وأفراد عائلته) حيث قام أهل أنطاكية بتحطيم التماثيل والأصنام وأضرموا النار في المباني الرسمية والقصر الملكي.

في ذلك الحين لعب القديس يوحنا ذهبي الفم دورًا أساسيًا في حماية السكان من غضب رجال الإمبراطور الذين كانت لديهم الأوامر بقتل عدد كبير من السكان وتدمير قسم من المدينة. وهكذا قتل بالفعل عدد كبير من الشخصيات الكبيرة بالمدينة وصودرت أملاكهم، وأصاب السكان الخوف والهلع لدرجة أن عددًا كبيرًا من الأغنياء تركوا أملاكهم وقصورهم في المدينة وسكنوا في الكهوف المنتشرة في الجبال المحيطة بالمدينة. أما الغالبية الباقية من السكان الذين لم يستطيعوا الفرار بأنفسهم فقد سيقوا إلى السجون وعُذبوا وأُعدموا.

وفي هذه الأوقات العصيبة ترك الرهبان والنساك أديرتهم وصوامعهم وحضروا إلى أنطاكية ورجوا القضاة والحكام للرأفة بسكان المدينة، ووقفوا بين القضاة والمحوم عليهم وصرحوا قائلين إنه إذا كان الإمبراطور يريد حقًا قتل هؤلاء فإنهم يقدمون أنفسهم للإعدام من أجل إطلاق سراح المسجونين من أرباب العائلات. وكان القديس يوحنا ذهبي الفم بين هؤلاء النساك والرهبان، وكان بشجاعة يطالب القضاة والحام بالرأفة والرحمة وقدم نفسه من أجل خلاص أهل أنطاكية (PG 49, 172-175).

وفي الوقت ذاته كان يعزى الأنطاكيين ويقوي أنفسهم وينفخ الشجاعة في صدورهم، ولكنه وبخهم على أعمال الشغب والعنف عديمة الفائدة التي قاموا بها. وبسبب تلك الأحداث خطب ونشر 21 خطابًا من خطاباته الشهيرة المعروفة باسم “خطابات عن التماثيل”، وقد كتب ونشر حتى العام 397 عددًا كبيرًا من كتاباته.

 

ب ـ في القسطنطينية

1 ـ نشاطه الواسع النطاق في الكنيسة واعتلائه للعرش البطريركي في القسطنطينية:

في بداية عام 390 لمع نجم الكاهن الأنطاكي “يوحنا” فأطلق عليه الناس صفة “ذهبي الفم” ولكن دون أن تصبح هذه الصفة لقبًا له. وفي تلك الفترة توفى القديس باسيليوس الكبير (379) والقديس غريغوريوس اللاهوتي (390) اللذان كانا من أهم الشخصيات وألمع العقول اللاهوتية والكنسية. وبقى القديس غريغوريوس النيس وحده لكن نشاطه الكنسي واللاهوتي توقف وتوفى عام (394). وهكذا بقى نجم لامع واحد فقط وهو الكاهن يوحنا في أنطاكية، وإليه لجأ المسئولون السياسيون والكنسيون عندما توفى بطريرك القسطنطينية “نكتاريوس” في 27 سبتمبر 397.

وبعد وقت قصير من ذلك تسلم المسئول عن المساكن الملكية “أوتروبيوس” منصب القنصل عام 399 وأقنع الإمبراطور الشاب “أركاديوس” (395ـ408) بالاهتمام بيوحنا الأنطاكي، أى أن يعمل على نقله من المدينة دون أن يسبب ذلك ردود فعل لدى مؤيديه. ويخبرنا الكاتب “سوزومينوس” أن الشعب والاكليروس في القسطنطينية قد صوتوا لصالح يوحنا ذهبي الفم لكي يعتلي العرش البطريركي فيا. وهكذا أعطى الإمبراطور التعليمات اللازمة لإحضاره إلى المدينة (تاريخ الكنيسة 2:8، 13).

وهكذا تم إحضار يوحنا بلاحيلة إلى القسطنطينية، حيث قام حاكم الإقليم الشرقي “أستيريوس” بأمر من الإمبراطور بإخراج يوحنا من أنطاكية إلى منطقة “رومانيسيا”. وهناك أخذه رسل الإمبراطور وجنود الحرس الإمبراطوري وقادوه إلى القسطنطينية. وقاموا بعد ذلك بإعلامه بسبب إحضاره بهذه الطريقة ثم تم رسمه أسقفًا على القسطنطينية من قبل أسقف الأسكندرية “ثيوفيلوي” في 15 ديسمبر 397، وذلك بالرغم من ردود الفعل العنيفة من البعض الذين كانوا يطمعون بعرش الأسقفية في القسطنطينية (PG 47, 19 & PG 67, 1517)

وقد نشأت صعوبات عديدة، إذ أن عرش القسطنطينية (روما الجديدة) قبل ذلك الحين بست عشرة سنة قد أصبح بقرار من المجمع المسكوني الثاني (381) في المرتبة الأولى بعد روما القديمة. وكان أسقف الأسكندرية الذي كانت أسقفيته تسبق القسطنطينية بالمرتبة حتى ذلك قد قبل على مضض بأولوية القسطنطينية هذه طالما أن ذلك قد حدث بقرار من المجمع المسكوني، لكنه على الأقل كان يريد تعيين أسقف فيها من اختياره الشخصي، وكان قد اختار بالتحديد كاهنًا يدعى “إزيدوروس”، لكنه لم ينجح في رسمه أسقفًا، وتراجع أمام الأمر الواقع. وقد كتب المؤرخ سقراط أن حفل التنصيب قد جرى في 27 فبراير من عام 398 (PG 67, 664B).

 

2 ـ النشاط الروحي ليوحنا ذهبي الفم، ودوره كضانع للسلام في القسطنطينية:

إن أول ما سعى إليه يوحنا ذهبي الفم كأسقف للعاصمة الكبرى للدولة الرومانية الشرقية كان التنمية الروحية للمؤمنين وإحلال السلام بين الكنائس. فبدأ بتنظيم المواعظ، وحاول أن يكون هو بحياته الرهبانية مثالاً لحياة التقشف، وحارب كل المظاهر التي لا تليق بالكهنة والرهبان. وهكذا فإن المواعظ التي خفت كثيرًا في عهد نكتاريوس عادت لتسمع بقوة من جديد، وبدأ المؤمنون يستمعون ويتعظون وكبر اهتمامهم وإعجابهم برئيس الأساقفة الجديد، وزاد إقبالهم على الكنائس وعظم اهتمامهم بالفقراء وكثرت المؤسسات الخيرية وعظم نشاطها.

ولما كان رئيس الأساقفة يعيش حياة متقشفة، فقد قام بإبعاد كل المفروشات النفيسة من الأسقفية وبيعها لدعم المؤسسات الخيرية القديمة والجديدة، كما أوقف كل الاحتفالات المكلفة وكل مظاهر البذخ التي تجري عادة في الأسقفية. كل ذلك كان سببًا للبعض للإعجاب به وتعظيم شأنه، لكنه كان سببًا للبعض الآخر للاستياء منه والابتعاد عنه. وقد استاء البعض منه لأنهم كانوا يظنون أن المظهر الخارججي هو الذي يعطي الجلال لرئيس الأساقفة أما البعض الآخر فقد استاء بسبب الملاحظات التي كان يوجهها إليهم بسبب طريقة حياتهم المترفة.

لقد جاءت ردود الفعل الأولى من الكهنة الذين طلب منهم يوحنا ذهبي الفم، ليس فقط أن يتجنبوا الفضائح وأن يعيشوا حياة صارمة وفاضلة، بل أنه قام بحرمان البعض منهم من الكهنوت، وفرض النظام على الرهبان الذين كان البعض منهم يستغلون بساطة المؤمنين فيعيشون متطفلين على الأغنياء منهم.

بالإضافة إلى نشاطه الروحي، قام يوحنا ذهبي الفم بصنع السلام، وذلك بأول رسالتين كتبهما في القسطنطينية ولكن تلك الرسالتين لم تحفظا للأسقف. الرسالة الأولى كانت موجهة إلى أسقف الأسكندرية “ثيوفيلوس”، والرسالة الثانية موجهة إلى أسقف روما “إينوسينتوس” (سوزومينوس: تاريخ الكنيسة 3:8).

ولم يكن الهدف من هاتين الرسالتين أن يعلن لهما رسميًا عن رسمه أسقفًا على القسطنطينية، ولكن لكي يتم إيجاد حل للإنشقاق الحادث في أنطاكية وذلك عن طريق اعتراف أسقف روما بأسقف أنطاكية “فلابيانوس”. ومن أجل ذلك طلب ذهبي الفم من ثيوفيلوس التوسط لدى أسقف روما إينوسينتوس.

 

3 ـ نشوء وازدياد موجة الاستياء ضد ذهبي الفم:

إزدادت المشاكل التي واجهها القديس ذهبي الفم ونشأ جو معارض له بسبب مهاجمته للأغنياء وأصحاب النفوذ في مواعظه، واتهامهم بالطمع والطغيان. وهكذا فقد كرر سياسته التي اتبعها في أنطاكية حيث عارض عروض التسلية التي تقود إلى الابتعاد عن الفضيلة، كالمسرح الذي يقدم العروض والعادات الوثنية، والرهان على سباق الخيل، كما هاجم الأغنياء لأنهم يبالغون في عرض غناهم وثرواتهم، والنساءء المتقدمات في السن للواتي يبالغن في التجمل والتزين، والمسئولين الكبار للغرور الذي أصابهم.

وكان نتيجة ذلك أن رجال ونساء البلاط الملكي وخاصة الإمبراطورة “أوذوكسيا”، وكذلك القنصل “أوتروبيوس” قد اعتبروا أن القديس يوحنا ذهبي الفم كان يقصدهم في مواعظه. ولكن القديس بالطبع كان يتكلم في مواعظه بشكل عام ولم يكن يقصد أشخاصًا معينين. إلاّ أن أصحاب الشر استغلوا ذلك وفسروا أقواله بأنها تخص هؤلاء من أجل الإضرار به.

وبالرغم من أن القديس ذهبي الفم كان يعتبر أنطاكية أكثر تقدمًا وتطورًا من القسطنطينية، إلاّ أنه أحب رعيته الجديدة محبة كبيرة، وتقرب كثيرًا من المؤمنين من أهل القسطنطينية (PG 48, 795).

لكن مشاعر المحبة لدى رئيس الأساقفة تجاه رعيته من جهة، وإعجاب المؤمنين به وتقديرهم له كقديس، لم يخفف من وطأة الكراهية التي كان يشعر بها الأقوياء وأصحاب النفوذ تجاه ذهبي الفم الذي كان ينتقدهم باستمرار. فحاول هؤلاء إحداث جو سلبي تجاهه، وهكذا فإن أى سبب سيكون بمثابة الشرارة التي تشعل النار ضده. وبالطبع فقد كان هناك الكثيرون ممن كانوا يطمعون بكرسي أسقفية القسطنطينية.

وكان أوتروبيوس كما ذكرنا قد عمل من أجل رسم الأنطاكي المشهور يوحنا ذهبي الفم أسقفًا للقسطنطينية. وكان الأخير رغيبًا عن المدينة ولم يكن يعرف الظروف التي كانت تسود عاصمة الدولة الرومانية الشرقية. وقد سعى البعض إلى الإضرار بيوحنا ففسروا تدخله في شئون الأسقفيات الأخرى بأنها خروج عن النظام الكنسي ومحبة منه للسلطة، دون أن يذكروا حقيقة أسباب تدخله هذا.

وهكذا خسر القديس يوحنا ذهبي الفم خلال فترة قصيرة أكثر مؤيديه بسبب هؤلاء الذين يحاربونه. والأسوأ من ذلك أن أشد المؤيدين له تولوا إلى ألد أعدائه. ولقد تأثر المؤرخ سقراط الذي كتب عن أحداث الفترة 306 ـ 439، والمؤرخ سوزومينوس الذي كتب عن أحداث الفترة 324 ـ 439، بجو العداء الذي انتشر في القسطنطينية ضد يوحنا ذهبي الفم، فكان وصفهما للوقائع متحيزًَا ضده فوصفا صرامته بأنها قسوة، وتقشفه أسلوبًا مظلمًا وسواديًا في الحياة، وجديته حدة وتوترًا.

أما بالاديوس هيلينوبوليس الذي كتب “الحوار” المشهور، كان من المعجبين بالقديس يوحنا ذهبي الفم، لكنه لم يكن يعرف جيدًا الأحداث التي كانت دائرة في القسطنطينية، ولم يكن وصفه للأحداث تفصيليًا بالقدر الكافي.

لقد كان هناك كاتب مجهول كتب سيرة حياة القديس ذهبي الفم، وهو على علم واسع بتفاصيل تلك الأحداث، وكتب كتابه هذا بعد وفاة القديس، ووقع عليه بالاسم المستعار “مارتيريوس الأنطاكي”. وقد أثبتت الأبحاث أن ذلك النص صحيح وعلى قدر كبير من الأمانة (F. van Ommeslaeghe). وقد كتب هذا النص على أغلب الاحتمالات بهدف إحياء ذكرى ذهبي الفم كقديس وشهيد.

 

4 ـ أهم المعارضين لذهبي الفم:

كان “أوتروبيوس” هو الذي أحضر القديس يوحنا ذهبي الفم إلى القسطنطينية وفرضه عليها. وقد نجح في عام 398 بقرار إمبراطوري بإغلاق كل المعابد الوثنية في غزة (ماعدا معبد “زيوس مارنا”). إلاّ أن أوتروبيوس اتخذ فيما بعد موقفًصا معاديًا لذهبي الفم، وألغى القانون المتعلق بحرمة الكنائس المسيحية بالرغم من معارضة القديس لذلك. لكن عمله هذا انقلب ضده، فقد حدث أنه عندما أصبح قنصلاً (399)، قام زعيم الغوط “غايناس” بمحاربته.

وكان غايناس قد طالب الإمبراطور “أركاديوس” بإبعاد أوتروبيوس عن منصبه مقابل وقف هجمات الغوط على الإمبراطورية، فقبل الإمبراطور بهذا لاتفاق. وعند ذلك دخل أوتروبيوس إلى كنيسة القديس “صوفيا” في القسطنطينية هربا من غايناس وعانق المائدة المقدسة طالبًا اللجوء في حرم الكنيسة واحتمائه فيها، لكنه نسى أنه كان قبل سنة من ذلك قد ألغى حرمة الكنائس.

وقد حاول أعداؤه وجمع غفير من الشعب الغاضب إخراجه وقتله، إلاّ أن القديس يوحنا ذهبي الفم بشهامته المعروفة تدخل ووقف بينه وبين الجموع الغاضبة وحماه منها، وألقى في هذه المناسبة طابه المشهور “إلى أوتروبيوس”. وبعد ذلك نُفى أوتروبيوس، وأُعدم فيما بعد في “خالكيذون”.

لقد كان الوضع السياسي والعسكري في الإمبراطورية الرومانية الشرقية وفي العاصمة بذاتها عام 400 مأساويًا. فقد كان يسيطر عليها الغوط بزعامة غايناس الذي اضطر الإمبراطور أركاديوس إلى تعيينه قائدًا للجيش.

وكان يتمركز في المدينة 35000 جنديًا غوطيًا مع عائلاتهم. وطالب هؤلاء بأن يتم إعطاؤهم احدى كنائس يوحنا ذهبي الفم ذلك بشكل قاطع بحضور الإمبراطور والقائد غايناس، عارضًا قانون الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير الذي كان يسمح لأصحاب البدع بأن تكون لهم كنائس أينما يريدون ولكن خارج أسوار المدينة (سوزومينوس: تاريخ الكنيسة 4:8، 6ـ9).

لقد أعطى القديس يوحنا ذهبي الفم كنيسة للغوط الأرثوذكسيين لإجراء الصلاة بلغتهم. وقد عمل على إعادة الغوط الآخرين إلى بوتقة الأرثوذكسية، فأحضر لهم كهنة أرثوذكسيين يجيدون لغتهم ليعلموهم أصول الإيمان الأرثوذكسي الصحيح. وعندما أراد غايناس ذهبي الفم إلى مركز قيادة جيش غايناس خارج القسطنطينية، وأقنعه بإعادة النظر في قراره وأن ينفيهم بدلاً من قتلهم.

وقد استغل أعداؤه هذا الحدث ليتهموه بأنه يتعاون بشكل سري مع الغوط ضد مصالح الكنيسة والإمبراطورية. هذا وقد اضطر غايناس في ناية الأمر تحت ضغط الشعب والجيش الإمبراطوري للإنسحاب من القسطنطينية في ليلة 11ـ12 يوليو من عام 400 حيث لقى الكثير من الغوط حتفهم أثناء ذلك الانسحاب. وفي أواخر العام نفسه قتل غايناس على يد ملك الهون “أولذيس” بالقرب من نهر الدانوب.

لقد ازدادت المعارضة ضد القديس يوحنا ذهبي الفم لأنه لم يتوقف عن الوعظ وعن نشاطه لتنظيم الكنيسة، وعن تدخله لتحسين الأوضاع في أسقفيات الشرق. وكما ذكرنا فقد كان في القسطنطينية عدد كبير من الأساقفة الذين كانوا يجيدون فن الكلام مثل “سيبيريانوس” و “أكاكيوس” وهما أسقفان من سوريا، و “انطيوخوس” وهو أسقف من فينيقية. لقد كان الأول مقربًا من الإمبراطورة “أوذوكسيا”، أما الثاني فقد غضب لأن القديس ذهبي الفم لم يقم باستضافته وإكرامه بالدرجة التي تليق به كما ادعى.

والثالث الذي كان يطلق عليه البعض أيضًا لقب “ذهبي الفم” كان يصعب عليه وجود “ذهبي الفم الحقيقي” على عرش أسقفية القسطنطينية. لقد كان هناك أيضًا راهب سوري يدعى “اسحق” كان قد جمع حوله الكهنة المستائين من ذهبي الفم أو المعاقبين منه. لكن الوضع بشكل عام كان تحت السيطرة حتى فترة عيد الفصح من عام 401، إذ أن المعارضين لذهبي الفم كانوا ينشطون فقط من وراء الكواليس.

 

5 ـ التدخل في مشاكل الأسقفيات في أسيا الصغرى وبشكل خاص في أسقفية أفسس:

لقد زادت حدة الأوضاع بسبب الاضطرابات التي حدثت في أفسس، وبسبب غياب ذهبي الفم عن القسطنطينية لمدة ثلاثة أشهر. لقد أثار “أوسيبيوس” أسقف “فالنتينوبوليس” مسألة أفسس في القسطنطينية في ربيع عام 400 واتهم في كتاب خطي أسقف أفسس “انطونينوس” بلارشوة والاستغلال المادي للنعمة الإلهية. وقد اضطر ذهبي الفم تحت ضغط أوسيبيوس إلى النظر في تلك القضية.

وقد حاول ذهبي الفم إقناع هيئة الاتهام بإعادة النظؤ في الاتهام. لكن أوسيبيوس أظهر نص الاتهام الموقع ليس فقط من قبل الأساقفة بل من جمع غفير من المؤمنين. وعند ذلك فقط تراجع ذهبي الفم عن موقفه وبموافقة عشرين أسقفًا من “طراقيا” وأسيا الصغرى ومصر وسكيثيا. لقد كان من المفروض أن ينظر ذهبي الفم في قضية الأسقف الذي لم يكن تابعًا لسلطة كنيسة القسطنطينية، وخاصةً أن حدود سلطة الكنائس لم تكن محددة بشكل واضح.

لقد كان القديس يوحنا ذهبي الفم يعمل بشعور عالٍ من المسئولية في المناطق التي خضعت في النهاية إلى سلطة كنيسة القسطنطينية، فأرسل الإرساليات وأنفق الأموال وكان لذلك نتائج حسنة. لقد كان ذهبي الفم مترددًا حول هذا الموضوع العالق ولكن حضور بقية الأساقفة وإخضاع مختلف أسقفيات أسيا الصغرى لسلطة كنيسة القسطنطينية، والتخوف من تعاظم المشاكل أدى إلى عقد مجمع كنسي لحل تلك المشكلة.

وقد عقد المجمع في الفترة مايو ـ يونيو من عام 400 وتقرر النظر في المسألة فورًا من قبل ثلاثة أساقفة (PG 47, 48-49). وصدر القرار بحرمان أنطونينوس من سر القربان المقدس وإباعده عن الكنيسة. هذا وقد توفى أنطونينوس في خريف العام نفسه.

لكن المشاكل لم تنته. فقد دعى ذهبي الفم من قبل بعض أساقفة المنطقة للسفر إلى أفسس. فذهب إليها في يناير من عام 401. ودعا هناك لعقد مجمع محلي ورسم شماسًا تابعًا له اسمه “هيراكليذيس” أسقفًا، وقام بتنظيم شئون الكنيسة هناك، وحرم ستة أساقفة من الخدمة في لكنيسة بموافقة 79 أسقفًا من المشاركين في المجمع.

وعندما عاد إلى القسطنطينية بعد فترة وجيزة من عيد الفصح (14 ابريل) اضطر إلى حرمان عدد آخر من الأساقفة من الكهنوت. وقد وصف أعداؤه وعدد كبير من الباحثين أعماله تلك بأنها تدخل في شئون كنيسة أخرى وهى أعمال تعارض القوانين الكنسية، وقد أدى ذلك إلى زيادة الاستياء العام ضده.

 

6 ـ كرم الأرملة، وإيزابل، وملجأ البرص:

لقد حدث خلال الفترة 401 ـ 402 حدثان أديا إلى زيادة حدة التوتر في علاقة القديس يوحنا ذهبي الفم مع أصحاب النفوذ. الحدث الأول يتعلق بالإمبراطورة أوذوكسيا التي استولت على كرم تتملكه امرأة أرملة استنادًا إلى قانون عرفي قديم. وكانت الأرملة تكسب رزقها من هذا الكرم ولكن الإمبراطورة رفضت إعادته إليها. فطلبت الأرملة مساعدة القديس يوحنا ذهبي الفم الذي تدخل لدى الإمبراطورة مرات عديدة لأجل هذا الموضوع مما أثار غضبها.

وقد ساعد في زيادة غضبها ما كان يدسه لها الأسقف سيبيريانوس من أقوال ضد ذهب يالفم، بالرغم من أن الأخير كان يثق به، وقد عينه مديرًا لشئون كنيسة القسطنطينية خلال فترة غيابه في أسيا الصغرى. ولكن ذهبي الفم اكتشف ما كان يدور من وراء ظهره وقرر إبعاد سيبيريانوس ونصحه للعودة إلى بلده في سورية (Grumel, No. 24).

والحدث الثاني الذي سبب ردود فعل من قبل أصحاب الأراضي الأغنياء هو أن ذهبي الفم قد بدأ بإنشاء ملجأ للبرص خارج المدينة لمن أصيب بهذا المرض الذي كان يسمى في ذلك العهد “المرض المقدس”. لقد كان هذا الملجأ مشروعًا مقدسًا، ولكنه بالضرورة قد أثر على قيمة الأراضي التي كانت تجاوره. وكانت تلك الأراضي ملكًا لأصحاب املاك أغنياء رأوا مصالحهم قد تأثرت بشكل سلبي من هذا المشروع فأصبحوا هم أيضًا من عداد أعداء يوحنا ذهبي الفم.

وهكذا فقد أعد أعداء ذهبي الفم فخًا له، فادعوا أنه وصف الإمبراطورة بأنها “إيزابل” بسبب موضوع كرم الأرملة. ومن المعروف أن النبي إيليا قد وبخ إيزابل لأنها أقنعت زوجها بقتل أحد مالكي الكروم ليأخذ كرمه (2مل20). والنتيجة هى أن إيزابل قد وقعت فريسة للكلاب كما تنبأ لها النبي إيليا (الملوك الرابع 30:9ـ37).

لقد كان وصف الإمبراطورة أوذوكسيا بأنها إيزابل يشكل جريمة بحقها. فواجه القديس يوحنا ذهبي الفم المحكمة التي حكمت عليه بتهمة الخيانة العظمى. وهذا ما ذكره المؤرخ بالاديوس دون أن يؤكد هذا الحدث (PG 47, 30).

ومن الممكن أن يكون القديس يوحنا ذهبي الفم قد أشار مرة في احدى خطبه إلى إيزابل، ولكنه ليس هناك ما يؤكد أنه قد ربط إياها بموضوع الإمبراطورة أوذكسيا. كما أنه لم يأتِ على ذكر إيزابل في أى نص من النصوص التي كتبها. ونذكر هنا أن بالاديوس قد أشار إلى أن ذهبي الفم قد اتهم بأنه دعا الإمبراطورة إيزابل لكنه لم يذكر السبب واعتبر أن هذا الاتهام مغرض.

 

7 ـ خطاب مزيف: ” هيروديا تغضب ثانية ”:

لقد زادت شهية أعداء ذهبي الفم على تزوير أقواله في حادثة أوذوكسيا حتى أنه ظهرت العديد من النصوص والخطابات التي نسبت إليه دون أن تكون له أية علاقة بها. وفي إشارة المؤرخ سقراط (تاريخ الكنيسة 18:6) إلى حادث إقامة تمثال فضي للإمبراطورة أوذوكسيا بالقرب من كنيسة القديسة “صوفيا” عام 400 وإجراء احتفالات تكريمًا لها، ومدى رد الفعل الذي بدر عن ذهبي الفم تجاه ذلك، وقد نسب المؤرخ إلى القدديس قوله للعبارات التالية في احدى خطاباته: “هيروديا تغضب ثانية، غنها تقلق مرة أخرى، وتطالب برأس يوحنا مرة أخرى” (PG 59, 485-490).

ويذكر سوومينوس هذه العبارت أيضًا بتغيير طفيف (تاريخ الكنيسة 20:8، 3) ويربطها برد فعل القديس على الاحتفالات المقامة تكريمًا لأوذوكسيا، ويقول إن هذه الاحتفالات قد تحولت إلى “إهانة للكنيسة”. وهكذا لم يكن من الصعب على الجميع أن يقتنعوا أن هذه الأقوال كانت موجهة إلى الإمبراطورة، التي كان ذهبي الفم بالتالي قد شبهها بهيروديا، وهذا الأمر بالنسبة لذلك العصر كان يشكل إهانة كبيرة للإمبراطورة وخيانة عظمى.

ونلاحظ أن أول المؤرخين الذين كتبوا عن أحداث القديس ذهبي الفم (407 ـ 408) وهما بالاديوس، وبسودومارتيريوس الأنطاكي، لم يشيرا البتة إلى هذا الحدث ولم يكونا على علم بذلك الخطاب. لقد ذكر بالاديوس أن التهمة التي وجهت إلى القديس كانت تهمة الخيانة العظمى، لكنه لم يذكر شيئًا يتعلق بهيروديا. وقد نقل الحدث في النصوص الكنسية التي كتبت في فترة بعد سقراط وسوزومينوس الذين كتبوا أعمالهم قبل عام 450 بفترة قصيرة.

هذا ولم يبق لدينا الآن أى خطاب لذهبي الفم يبدأ بالعبارات التي ذكرناها. ولكن هناك خطاب آخر يبدأ فعلاً كذلك ويذكر أيضًا إيزابل التي لم تكن لها أية علاقة بهيروديا (PG 59, 458-490). وهذا الخطاب يجمع الباحثون على كونه خطابًا مزيفًا (CPG II 4570). إذًا من الواضح أن الخطاب الذي يبدأ بالعبارة “هيروديا تغضب ثانية .. ” هو خطاب ملفق من أجل إسناد تهممة الخيانة العظمى ولإثارة غضب أوذوكسيا.

 

8 ـ ”الاخوة الطوال”:

خلال النصف الثاني من عام 401 غضب أسقف الأسكندرية ثيوفيلوس من رهبان منطقة “نترية” وبشكل خاص رهبان الصوامع الذين يلقبون باسم “الاخوة الطوال”، وذلك بسبب لجوء الكاهن الشيخ “إيزيدوروس” الذي كان يلاحقه ثيوفيلوس إلى صوامعهم. وكان سبب ملاحقته إياه أن إيزيدوروس قد أنفق مبالغ طائلة من الهبات المقدمة إلى الكنيسة من أجل مساعدة الفقراء تلبية لإرادة أصحاب تلك الهبات، ولم يترك شيئًا للإنفاق على مشاريع بناء الكنائس (بالاديوس: حوار 6 PG 47, 22-23).

وقد حاكم الرهبان في محاكمة غير قانونية ولاحقهم وطردهم من صوامعهم وقتل الكثيرين منهم مستخدمًا لذلك رجالاً مأجورين من أتباعه. وقد لجأ هؤلاء أولاً إلى أورشليم، وفيما بعد أى حوالي عام 402 لجأوا إلى القسطنطينية طالبين الحماية من القديس يوحنا ذهبي الفم. وهذا الأخير عندما رأى خمسين راهبًا من الشيوخ والنساك ساجدين أمامه تأثر كثيرًا وذرف الدموع (PG 47, 23-24).

ولما كان ذهبي الفم يعرف النظم الكنسية جيدًا ويعلم طبع ثيوفيلوس القاسي، أعطى للرهبان ملجأ واستضافهم، لكنه لم يسمح لهم بإجراء القداس الكنسي طالما أنهم قد حُكم عليهم من قبل سلطة كنسية أخرى. وكذلك قام بالاستفسار عنهم من المغتربين من الأسكندرية، فكانت كل المعلومات التي حصل عليها حسنة وإيجابية. وهكذا نصح الرهبان بأن يلوذوا الصمت، وكتب على الفور رسالة إلى ثيوفيلوس مليئة بمشاعر المحبة والتواضع، وترجاه فيها أن يعطف على الرهبان (بلاديوس: حوار 7 PG 47, 35).

ولم يأبه ثيوفيلوس برجاء ذهبي الفم، وأرسل رهبانًا من أتباعه يعرفون القوانين الكنسية جسدًا، ليدافعوا عن وجهة نظره، ولكي يقوموا بإظهار الرهبان “الطوال” بمظهر ذوي الذنب العظيم أمام المسئولين في بلاط الإمبراطور.

لكن ذهبي الفم كتب إلى ثيوفيلوس مرة أخرى ليطلعه على كل التفاصيل وطلب منه رأيه خطيًا، لأن الرهبان الطوال قد شعروا بالخيبة بعد التطورات الأخيرة فكتبوا منشورًا لأن الرهبان الطوال قد شعروا بلخيبة بعد التطورات الأخيرة فكتبوا منشورًا شرحوا فيه وضعهم بلهجة قاسية ووزعوه في كل مكان وأعطوه نسخة منه، بالرغم من أنه نصحهم بأن لا يفعلوا أفعالاً كهذه.

وقد أدى العطف الكبير الذي أظهره ذهبي الفم تجاه “الاخوان الطوال” إلى زيادة غضب ثيوفيلوس الذي اعتبر أن أسقف القسطنطينية يطالبه في الرسالة الثانية بأن يعترف بذنبه، ولذلك أجابه بلهجة غاضبة قائلاً: ” أعتقد أنك لا تجهل ما أمرت به قوانين مجمع نيقية … ولكنك إن كنت تجهل ذلك بالفعل، فاعلم كيف هى الأمور واترك الذّم الموجه ضدي، لأنه إذا وجب أن يُحكم عليّ، فليُحكم عليّ من قبل المصريين وليس من قبلك انت الذي تبعد عني مسيرة خمسة وسبعين يومًا”.

وهكذا اشتد توتر الأزمة بين أسقفي الأسكندرية والقسطنطينية، ولم يكن الخلاف بينهما مجرد خلاف في وجهات النظر فقط، بل كان سببه أيضًا الشعور بالاستياء لدى ثيوفيلوس، بسبب فقدان كنيسة الأسكندرية للمرتبة الأولى بين الكنائس، واحتلال كنيسة القسطنطينية لتلك المرتبة إثر قرار المجمع المسكوني الثاني (381).

وأدى هذا الجواب القاسي من قبل ثيوفيلوس، إلى توسيع شق لخلاف بين الاخوة الطوال ومبعوثي ثيوفيلوس في حضرة ذهبي الفم الذي لم يستطع التوفيق بين الطرفين. كما أدى أيضًا إلى توقف ذهبي الفم عن حمايته للاخوة الطوال، لكنه لم يطردهم من القسطنطينية. وعند ذلك عرض الاخوة الطوال أمرهم على الإمبراطورة أوذوكسيا في كتاب خطي مطول طالبوا فيه بأن ينظر حاكم مدينة القسطنطينية في أمرهم، كما طلبوا أن ينظر أسقف المدينة يوحنا ذهبي الفم في أمر ثيوفيلوس (PG 47, 26).

وقبلت الإمبراطورة مطلبهم هذا، وكان على ثيوفيلوس أن يمثل أمام ذهبي الفم في القسطنطينية شاء أم أبى ذلك.

 

9 ـ ثيوفيلوس يلجأ إلى إبيفانيوس لتغيير الجو العام لمصلحته:

حاول ثيوفيلوس في تلك الأثناء بكل الوسائل أن يغير الجو العام الذي تشكل ضده، فنشر إشاعة أن ذهبي الفم كانت لديه اتصالات كنسية مع الاخوة الطوال الذين كانوا من أصحاب النزعة “الأوريجينية”. ولكي ينجح في تحقيق هدفه قام بإقناع أسقف مدينة “سالامينا” بقبرص “إبيفانيوس” المعروف بمعاداته للأوريجينية، بأنه شخصيًا قد تخلى عن نزعته الأوريجينية السابقة ويجب عليهما معًا الآن أن يجاهدا ضد الاخوة الطوال وذهبي الفم (سوزومينوس: تاريخ الكنيسة 14:8، 1ـ4).

وهكذا استعد إبيفانيوس للرحيل إلى القسطنطينية لمواجهة أتباع “أوريجينيس” وليدافع عن ثيوفيلوس، ولكن تمت محاكمة الرهبان الذين أوفدهم ثيوفيلوس من قبل محكمة مدنية، ووضعوا في السجن مؤقتًا إلى حين وصول ثيوفيلوس (402ـ403). لكن هؤلاء الرهبان في محاولة منهم للتخلص من الاتهامات الموجهة ضدهم، ألقوا كل المسئولية على ثيوفيلوس فيما يتعلق بالتهم الموجهة إلى الاخوة الطوال، وصرحوا أنهم كانوا ينفذون أوامر ثيوفيلوس. وهكذا حكم عليهم بتهمة نشر الإشاعات الكاذبة ضد الاخوة الطوال.

في تلك الأثناء وصل إبيفانيوس إلى القسطنطينية في مارس من عام 403، ورفض قبول تكريم واستشافة ذهبي الفم له ورفض مقابلته ومشاركته سر القربان المقدس. وكان فعله هذا يشكل إهانة لأسقف القسطنطينية وخروجًا على القوانين الكنسية. وكان عذره في ذلك أنه اقتنع بصحة كل الاتهامات الموجهة ضد ذهبي الفم، إلى درجة أنه اعتبره من أتباع البدع.

عند ذلك اضطر ذهبي الفم أن يتخذ موقفًا صارمًا تجاه إبيفانيوس. لكن إبيفانيوس بعد أن اطلع على التفسيرات التي قدمها له الاخوة الطوال، تبيّن له أنهم لم يكونوا أبدًا من أتباع أوريجينيس، وأدرك أنه وقع في مصيدة ثيوفيلوس وكان يخدم مخططاته دون علمه. وهكذا غادر أثناء الرحلة وقبل وصوله إلى الجزيرة.

 

10 ـ ثيوفيلوس يصل إلى القسطنطينية:

تجاهل ثيوفيلوس ذهبي الفم وعمل على تغيير الجو العام وتوجيهه ضده. وفي تلك الأثناء كان أعداء ذهبي الفم يتابعون تلك الأحداث، فكانوا يتشجعون بذلك وتزيد أعمالهم العدوانية ضده. ووصلوا إلى درجة قولهم أن ذهبي الفم كانيستخدم ترياقًا سحريًا ليجتذب إعجاب المؤمنين. ولما تصاعدت الشائعات ضد ذهبي الفم، اقتنع الإمبراطور أركاديوس للدعوة لعقد مجمع كنسي على مستوى عالٍ عام 403 حيث سيقوم ثيوفيلوس بغياب ذهبي الفم بشرح موقفه تجاه الاخوة الطوال.

وصل ثيوفيلوس إلى خالكيذون في شهر أغسطس من عام 403 وبرفقته 36 أسقفًا من أعوانه بكنيسة الأسكندرية. وقد سافر برًا بهدف إٌناع الأساقفة الذين زارهم في طريقه بوجهة نظره. وكذلك أرسل أعوانه إلى أنطاكية ليبحثوا عن ماضي ذهبي الفم والخطايا التي ربما كان قد ارتكبها، لكن بحثهم هذا لم يكن مثمرًا.

ولم يكن الكثير من المؤمنين مقتنعين أبدًا بالإتهامات الموجهة إلى القديس يوحنا ذهبي الفم. ولذلك فعندما وصل ثيوفيلوس إلى ميناء القسطنطينية قادمًا من خالكيذون، لم يذهب أحد من السكان لاستقباله، بل كان في استقباله فقط نخبة من بحارة سفن الأسكندرية الذين أحضروا لهذا الغرض. وقد نزل ثيوفيلوس ضيفًا على امرأة مسنة من أغنياء المدينة اسمها “أوغرافيا” كانت مستاءة من انتقاد ذهبي الفم للنساء العجائز اللواتي يقمن بتجميل أنفسهن.

وبقى ثيوفيلوس لدى تلك المرأة ثلاثة أسابيع دون أن يقبل بلقاء ذهبي الفم. لكنه التقى بالأسقف سيبيريانوس وبقية الأساقفة الذين حرمهم ذهبي الفم من الكهنوت وبقية أعداء القديس. وقد ساعد هؤلاء ثيوفيلوس بإقناع الإمبراطور بلقائه لوحده ودون أن يدلي بأقواله فيما يتعلق بالاتهامات الموجهة له من قبل الاخوة الطوال والشيخ إيزيدوروس. ومن المحتمل أن يكون ثيوفيلوس قد التقى بالإمبراطورة أوذوكسيا واتفق معها على خلع ذهبي الفم عن كرسي كنيسة القسطنطينية (PG 47, 8-9).

وسكن ثيوفيلوس فيما بعد في الشاطئ الأسيوي من القسطنطينية في منطقة دريس بالقرب من خالكيذون. وكان القنصل “روفينوس” فيما مضى قد بنى هناك قصرًا كانت توجد في حديقته كنيسة للقديسين بطرس وبولس ودير صغير. هناك تم التحضير لإيجاد الشهود وترتيب الاتهامات الموجهة إلى ذهبي الفم، حيث إن شماسين اثنين كان قد عزلهما ذهبي الفم، الأول لتهمة القتل والثاني لتهمة الزنى، قد أعدا الاتهامات (PG 47, 27).

 

ج ـ ذهبي الفم يواجه الحكم عليه الذي أعد من قبل

1 ـ مجمع دريس:

في سبتمبر 403 كان كل شئ معدًا لعقد مجمع دريس حيث اجتمع هناك 36 أسقفًا من المقربين من ثيوفيلوس. وأقنع هؤلاء الإمبراطور أركاديوس بإرسال رسول إلى ذهبي الفم لاستدعائه للمثول أمام المجمع المذكور. ولك يكن ذهبي الفم يعلم مضمون الاتهامات الموجهة إليه من قبل ثيوفيلوس، وأصر على مبعوثيه بأن يقوموا بإعلامه سبب محاربته إياه (PG 47,9).

وعندما علم ذهبي الفم أن ثيوفيلوس يعد لعقد مجمع لأساقفة من أقاليم أخرى أغلبهم من مصر، بالإضافة إلى بعض الأساقفة المعزولين، عند ذلك دعا أساقفة من أصدقائه بلغ عددهم حوالي الأربعين أسقفًا إلى مركز أسقفيته (PG 47,27).

ولم يكن ذهبي الفم يعترف بشرعية مجمع دريس لأنه وفقًَا لقوانين الكنيسة لم يكن باستطاعة ثيوفيلوس محاكمة أسقف ينتمي إلى كنيسة أخرى. وكذلك فإن ثيوفيلوس لم يكن باستطاعته أن يحكم في القضية لأنه لم يكن قد صدر بعد الحكم في القضية التي اتهمه فيها الاخوة الطوال. كما أن حكمه ما كان من الممكن أن يكون نزيهًا لأنه كان معروفًا لعدائه تجاه ذهبي الفم، وبالتالي وجب أن يتم استثناؤه من بين القضاة.

وهذا ما ادعى به ذهبي الفم عندما تم استدعاؤه للمثول أمام المجمع أربع مرات متتالية، وصرح أنه مستعد للمثول للمحاكمة من قبل ألف ومئة أسقف، ويكفي أن يتم استثناء أعدائه أمثال ثيوفيلوس وسيبيريانوس، وأن يعلم مضمون محضر الاتهام (PG47,9).

لقد استطاع ثيوفيلوس بحنكته أن يقنع رئيس الشماسين لدى ذهبي الفم بالوقوف إلى جانبه. وقد أرسله إلى الكنائس والمجامع فاستطاع بشتى الوسائل تحريض الكهنة ورجال الدين ضد ذهبي الفم. وهكذا ظهر أن المجمع الذي دعا إلى عقده ثيوفيلوس في دريس كان أعضاؤه أكثر عددًا من المجمع الذي عقده ذهبي الفم.

وفي دريس تم تحضير 46 اتهامًا ضد ذهبي الفم، وكانت هذه الاتهامات تتعلق بشخصية ذهبي الفم سريعة الغضب حسب ما ادعى، وبتدخله غير المشروع في شئون كنائس أسيا الصغرى وبمدافعته عن الاخوة الطوال. وقد انتشرت الاشاعة أنه قد تقرر في مجمع دريس قطع رأس يوحنا ذهبي الفم.

 

2 ـ استعداد ذهبي الفم للاستشهاد يؤثر في الأساقفة:

لقد كان الأساقفة المحيطون بذهبي الفم في الأسقفية يعرفون تفاصيل الأوضاع ولذلك لم يكونوا يعلمون ماذا سيفعلون. إذ أن ثيوفيلوس الذي كانت تثقله الاتهامات استطاع أن يجعل الأقوياء يقفون إلى جانبه وضد ذهبي الفم. وبالتالي فهو يستطيع أن يفعل المزيد ضد جميع باقي الأساقفة. وعند ذلك خطب فيهم ذهبي الفم وعبر بهدوء عن مشاعره. وأعلن عما يجب أن يفعله هو شخصيًا، والأساقفة الذين وقفوا إلى جانبه. وطلب من الجميع أن يصلوا إلى الله، وأن لا يتخلى أحد عن أسقفيته بسبب ذهبي الفم.

لقد كان ذههبي الفم مستعدًا لجميع الاحتمالات، وشعر أنه يسير في درب التضحية، وأنه يقترب من نهاية حياته التي كانت مليئة بالأحزان. لقد كان يعلم أن الشيطان يحضر له المكائد وطلب من الجميع أن يتذكروه في صلواتهم.

لقد تأثر الأساقفة لدى سماعهم كلمة ذهبي الفم هذه، وذرفوا الدموع. لكنه شجعهم قائلاً إن الكثير من الأنبياء العظام قد قتلوا، وتم قطع رؤوس العديد من الرسل، كما تعذب الكثيرون الآخرون من أجل إيمانهم. وعند ذلك قال له أسقف أفاميا “أوليسيوس”: ” لكي نحتفظ بأسقفياتنا سوف نضطر أن نشارك في القداس الإلهي مع أساقفة ثيوفيلوس وأن نوقع على القرارات التي سيتخذونها “. وعند ذلك أجاب ذهبي الفم قائلاً: ” شاركوهم في القداس الإلهي لكي تتجنبوا وقوع انشقاق في الكنيسة، ولكن لا توقعوا على قراراتهم. ذلك لأني لم أفعل شيئًا يستحق عزلي (PG 47, 27-28).

 

3 ـ دعوة ذهبي الفم لمحاكمته في دريس وجوابه:

في الوقت الذي جرت فيه تلك الأحداث وصل إلى القسطنطينية أسقفان قادمين من دريس، وقد أرسلهما ثيوفيلوس الذي تصالح مع الاخوة الطوال وشملهم في مجمعه. وقد استقبل ذهبي الفم هذين الأسقفين الذين سلماه الدعوة للحضور للمحاكمة أمام ثيوفيلوس والأساقفة الذين معه في دريس (PG 47, 9-10, 27-29).

فصرح ذهبي الفم أنه في حال حضور الأساقفة ثيوفيلوس وأكاكيوس وسيبيريانوس وأنطيوخوس في دريس بصفتهم حكامًا فإنه في تلك الحالة لن يحضر إلى دريس. أما إذا كانوا من هيئة الاتهام فقط فإنه مستعد أن يرد على اتهاماتهم. ولذلك طالب بأن تتم محاكمته من قبل مجمع كبير حتى ولو كان مجمعًا مسكونيًا.

 

4 ـ أعداء ذهبي الفم يتسرعون، وأحكامهم مقررة مسبقًا:

لم تكن في نية ثيوفيلوس وأعوانه أن يناقشوا الأمر أو أن ينتظروا كثيرًا، فقد ذكر بالاديوس أن النظر في الاتهامات وكل الاجراءات التي استلزمها المجمع قد استغرقت يومًا واحدًا فقط. فقد كان قرار حرمان ذهبي الفم من الكهنوت قرارًا تم اتخاذه مسبقًا، ودون انتظار سماع أقواله. لقد كان الجميع متأكدين أنه على الأغلب لن يحضر للإدلاء بأقواله.

وبالفعل فإن ردود الفعل الأولى من قبل ذهبي الفم قد دلت على أنه ما كان ليقبل المثول أمام مجمع غير قانوني لأساقفة أثقلتهم الاتهامات الموجهة ضدهم لأعمال يعاقب عليها القانون. وقد ظهر استعجال أعدائه للحكم عليه من المعاملة التي لاقاها ثلاثة من مبعوثيه من الأساقفة إليهم، حيث ضربوا الأول منهم، ومزقوا ثياب الآخر، ووضعوا رقبة الثالث في طوق حديدي. لقد كان ثيوفيلوس وأعوانه يفضلون أن لا يمثل ذهبي الفم أمام المجمع، لكي يصدروا عليه حكمهم بسهولة.

 

5 ـ إصدار الحكم بالخيانة العظمى:

في أواخر شهر سبتمبر حكم على ذهبي الفم بالرحمان من الكهنوت. وقد وقّع 45 أسقفًا على الحكم الصادر وطلبوا نفيه. وكان سبب هذا الحكم أنه رفض المثول أمام مجمع دريس. لكن ذلك كله لم يرض ثيوفيلوس وأكاكيوس وسيبيريانوس وأنطيوخوس، فاتهموا ذهبي الفم بجريمة الخيانة العظمى، وعرضوا إشارته إلى إيزابل كإهانة للإمبراطورة، وكانت تلك جريمة يعاقب عليها بالموت. ولكن وجب أن يقرر الإمبراطور بنفسه إصدار هذا الحكم، ولذلك تمت إحالة ذهبي الفم للمثول أمام الإمبراطور. لكن الإمبراطور اكتفى بنفي ذهبي الفم.

 

6 ـ سجل الاتهام:

لقد تم اعداد سجل الاتهام خلال انعقاد مجمع دريس، ويتألأف من أربعة مجموعات من النصوص، وكان المؤرخ الوحيد الذي أشار إليها هو فوتيوس (PG 103, 105-113). وهذه الاتهامات هى:

أ ـ اتهامات عامة بلغ عددها 13 اتهامًا.

ب ـ 29 اتهامًا أعدها الشماس الأول لذهبي الفم.

ج ـ ثلاثة اتهامات أعدها راهب يدعى “يوحنا”.

د ـ 17 اتهام أعدها “إيساكيوس”. ويضضيف فوتيوس أيضًا ثلاثة نصوص تتعلق أيضًا بالاتهامات وهى لكل من “جيرونديوس” و “فافستينوس” و “يوحنا”، إذ أن هؤلاء الثلاثة قد صرحوا أن ذهبي الفم قد حرمهم من الكهنوت ظلمًا.

إن الاستعجال في المجمع لكي تم اتخاذ قرار بإدانة ذهبي الفم يدل على عدم وجود شهود ذوي مصداقية، والتخوف من حدوث تغيير في الرأي العام لصالح ذهبي الفم، وقناعة داخلية لدى المجتمعين بأنهم يخالفون القانون. وقد ذكر فوتيوس أن أعداء ذهبي الفم الذين حضروا ذلك المجمع كانوا يشكلون في الوقت ذاته هيئة المدعين وشهود الاتهام.

 

لقد بلغ عدد الاتهامات 62 اتهامًا وهى باختصار:

  • + أنه ظلم وشتم وضرب ووشه سمعة الكهنة لأسباب تافهة أو حتى بدون سبب.
  • + باع لمصلحته الشخصية مرمًا وتحفًا موهومبة إلى كنيسة القديسة “أناستاسيا”.
  • + قام برسم عبيد ومحكومين أساقفة دون أخذ رأي الاكليروس، وقد رسمهم خارج مذبح الكنيسة.
  • + تدخل في شئون الكنائس الأخرى.
  • + لقد كان يدخل إلى الكنيسة ويخرج منها دون أن يصلي.
  • + لقد كان يستقبل النساء على انفراد ودون حضور شخص ثالث.
  • + لقد كان يأكل وحده وبشكل مخالف للتعاليم المسيحية.
  • + لم يكن يجري كشفًا على دخل الكنيسة.
  • + كان يجعل من نفسه متهمًا للآخرين وقاضيًا عليهم وشاهدًا ضدهم.
  • + لم يكن يحب استضافة أحد.
  • + كان يسمح للناس أن يخطئوا مرارًا وتكرارًا ويعدهم بمغفرة خطاياهم.
  • + حرض الشعب على الثورة ضد المجمع.
  • + كان يلّم أن المسيح لم يستجب لصلواته لأنه لم يكن يصلي بشكل صحيح.
  • + كان يحترم بشكل خاص اليونانيين والوثنيين.
  • + استقبل أتباع أوريجينيس، واتبع هو شخصيًا تعاليم أوريجينيس.

وقد ذكر المؤرخ فوتيوس أن الاتهامات الوحيدة التي تم النظر بها خلال المجمع هى عقابه لبعض الكهنة وموضع بيع المرمر والتحف وأن المسيح لم يستجب لصلواته، ومسألة تدخله في شئون الكنائس الأخرى. وبعد ذلك صدر قرار المجمع بحرمانه من الكهنوت، وتم اعلام الإمبراطور خطيًا بأنه يجب أن يقرر في مسألة تهمة الخيانة العظمى الموجهة لذهبي الفم.

وبعد ذلك اهتم ثيوفيلوس شخصيًا في إعادة الكهنة الذين عاقبهم ذهبي الفم وحرمهم من الكهنوت إلى مناصبهم ودرجاتهم الكهنوتية السابقة.

 

7 ـ نفى ذهبي الفم لأول مرة واستدعاؤه إلى القسطنطينية:

لقد ثار الشعب فور سماعه لقرار المجمع وعلت صيحات الاحتجاج ضد ثيوفيلوس وسيبيريانوس وكذلك ضد الإمبراطور. لقد ذكر المؤرخ سوزومينوس أن “ذهبي الفم خاف من أن يُتهم أيضًا بأنه يعادي الإمبراطور، ولكي لا يتسبب في المزيد من المشاكل في صفوف الشعب، انتظر إلى أن يتفرق الشعب، وفي اليوم الثالث خرج سرًا من الكنيسة”.

وهذا يدل على أنه بقى في كل هذه الفترة في الكنيسة مع الشعب. ولكن ذهبي الفم قد ذكر في رسالته التي وجهها إلى إينوسينتوس (PG 47, 9) أنه قد تم جلبه في المساء بالقوة من قبل ممثل الإمبراطور إلى السفينة التي ستقوده إلى “برينيتوس” في “بيثينيا” وأن الشعب قد سار وراءه وهو يحتج ويعبر عن أسفه.

إن الوصف الذي يصفه لنا ذهبي الفم للأحداث كما وقعت هو وصف دقيق بلطبع، ولكنه لا يتعارض بالضرورة مع وصف سوزومينوس. فعندما تفرق الشعب ظهرًا خرج يوحنا من الكنيسة سرًا وذهب إلى مكان ما، وعند المساء عندما كان متوجهًا إلى السفينة التي كانت ستنقله إلى منفاه برفقة رجال الإمبراطور، سمع الشعب بذلك فخرج وتبعه إلى السفينة.

أبحرت السفينة بذهبي الفم ليلاً ووصلت إلى برينيتوس. لكنه لم يبق هناك لمدة طويلة. فقد كانت الإمبراطورة امرأة كثيرة التشاؤم ويظهر أنها خافت من حدث ما كهزة أرضية خفيفة أو حلم مزعج أو غير ذلك، لذلك أقنعت زوجها الإمبراطور بإعادة ذهبي الفم إلى القسطنطينية. ولكن السبب الأساسي لتغيير رأيها كان الضغط الذي مارسه الشعب لإعادة ذهبي الفم من المنفى.

8 ـ بقاء ذهبي الفم خارج القسطنطينية وإحضاره إلى العرش:

عندما عاد ذهبي الفم من المنفى سكن في احدى الضواحي خارج القسطنطينية منتظرًا تنفيذ أحد الشروط التي كان قد وضعها لعودته، وهو عقد مجمع لإعادة النظر في الموضوع من أساسه، وأن يتم إلغاء قرار المجمع الذي حكم بحرمانه من الكهنوت.

وخلال فترة بقائه خارج القسطنطينية حدثت أحداث دامية فيها حيث أن أعداءه الذين يقودهم “إيساكيوس” عندما رأوا أن الجو العام قد انقلب ضدهم ولصالح ذهبي الفم، احتلوا الكنائس ومنعوا المؤمنين من الدخول إليا. عند ذلك قام مؤيدو ذهبي الفم بالاشتباك معهم وكانت تلك الاشتباكات دامية مما أدى إلى تدخل الجيش لإعادة الأمن إلى المدينة. وقد اضطر ذهبي الفم بسبب الأحداث الدامية إلى الدخول إلى القسطنطينية لتهدئة الأوضاع قادمًا برفقة 30 أسقف. لكنه استمر في ممارسة الضغط من أجل عقد مجمع لإعادة النظر في قضيته.

لقد استقبل الشعب ذهبي الفم استقبالاً حارًا، وخطب القديس في اليوم التالي أمام الشعب من منبر كنيسة القديسة صوفيا (PG 51, 443-446).

 

9 ـ ثيوفيلوس والأساقفة المقربون إليه يتركون القسطنطينية:

بعد التطورات الأخيرة وجد الأساقفة الذين أدانوا ذهبي الفم أنفسهم في موقف صعب للغايةز لقد ندد الشعب بهم بشدة مما اضطرهم لترك القسطنطينية. وقد لازم ثيوفيلوس منزله خوفًا من الشعب ثم غادر المدينة سرًا على متن سفينة في جنح الظلام، برفقة كل الأساقفة الذين جبلهم معه من مصر.

من جهة أخرى وافق الإمبراطور أخيرًا على مطلب ذهبي الفم وأرسل رسائل إلى الأساقفة يدعوهم فيها لعقد مجمع جديد يعيد النظر في القضية من أساسها. وهكذا فإن الأساقفة الذين بقوا في القسطنطينية كانوا الأساقفة الذين أيدوا ذهبي الفم منذ البداية، أما الأساقفة الذين اتخذوا موقفًا معاديًا له غادروا المدينة وعادوا إلى مواطنهم.

 

10 ـ تحديد سلطات ذهبي الفم في الأسقفية:

لقد هدأت الأمور في القسطنطينية بعد كل ما حدث، ولكن هذا الهدوء لم يكن إلاّ هدوءًا مؤقتًا. فقد عاد الأغنياء والأقوياء من سكان المدينة من جديد للوقوف بمواقف معادية للقديس يوحنا ذهبي الفم بسبب نشاطه الخيري ومواعظه التي ينتقدهم فيها، وبشكل خاص بسبب موضوع ملجأ البررص. وهكذا في الفترة الوجيزة التي سبقت عيد الفصح لعام 404 أصدر الإمبراطور قرارًا بتحريض من أعداء ذهبي الفم يتعلق بالحد من سلطات القديس في الأسقفية ومنعه من إقامة الصلوات والشعائر الدينية.

ويذكر المؤرخ سوزومينوس أنه قبل صدور ذلك القرار قد حدثت أحداث أخرى بسبب التمثال الفضي للإمبراطورة أوذوكسيا. لقد كان هذا التمثال منصوبًا مقابل كنيسة القديسة صوفيا، وكانت تجرى احتفالات صاخبة بالقرب من موقع التمثال مما كان يعرقل إقامة الصلوات في الكنيسة. ومن المحتمل أن ذهبي الفم قد ذكر شيئًا يتعلق بذلك، وقام أعداؤه باستغلال أقواله وتحويرها لإثارة غضب الإمبراطورة عليه. والجدير بالذكر أن سوزومينوس قد أشار إلى أن الإمبراطور لم يحضر القداس الإلهي الذي أقامه ذهبي الفم في عيد الميلاد بسبب إهانته للإمبراطورة حسب الادعاءات التي سبق وذكرناها.

لقد كان ذهبي الفم مصممًا على الادلاء بأقواله أمام الإمبراطور ليشرح موقفه إلاّ أن أعداؤه تخوفوا من نتيجة ذلك وعملوا على تهدئة الأوضاع ونسيان القضية. لكنهم كانوا مصممين على إبعاده فعرضوا اتهامًا آخر وهو أنه عاد ليمارس مهامه في الكنيسة بالرغم من حرمانه من صفته الكهنوتية وبدون إعادة رد الاعتبار إليه من قبل مجمع كنسي جديد. وقد تبنى هؤلاء رأي ثيوفيلوس الذي طالب من مكان وجوده في الأسكندرية بأن تتم إدانة ذهب يالفم اعتمادًا على البند 4 من قرارات مجمع أنطاكية الذي عقد عام 341.

وهذا البند يحكم بالنفي النهائي لأى كاهن تم حرمانه من الصفة الكهنوتية إذا عاد لممارسة الواجبات الكهنوتية بدون قرار من مجمع كنسي يسمح له بذلك من جديد. لكن مؤيدي ذهبي الفم دافعوا عنه لدى الإمبراطور قائلين ان هذا البند تم وضعه من قبل أصحاب البدع بهدف القضاء على القديس أثناسيوس الكبير، وأنه أُلغى لاحقًا في مجمع “سرديك” عام 343 وقد تدخل أسقف اللاذقية “إلبيذيوس” لتهدئة الأمور بين الفئتين إلى حين البت في هذا الخلاف.

لكن أعداء ذهبي الفم ومن بينهم “سيبيريانوس” و “أكاكيوس” و “أنطيوخوس” عملوا باستمرار ومن وراء الستار من أججل نفيه، واستطاعوا فيما بعد أن يقنعوا الإمبراطور بأن يحد من نشاط ذهبي الفم، فطلب الإمبراطور منه بأن يترك الكنيسة. لكن ذهبي الفم أجابه: ” أنا بتدبير من المخلّص دخلت هذه الكنيسة بهدف العناية من أجل خلاص هذا الشعب، ولا أستطيع أن أتركها. ولكن إذا كنت أنت تريد ذلك فأخرجني منها بالقوة، لكي يكون سلطانك حجة لي”.

عند ذلك تدخل الأساقفة الأربعون من أصدقاء ذهبي الفم وترجوا الإمبراطور أركاديوس والإمبراطورة أوذوكسيا وهم يذرفون الدموع من أجل تدارك الأمور وتجنب حدوث الأسوأ. ولكن محاولتهم هذه باءت بالفشل.

 

11 ـ الاشتباكات الدامية في فصح عام 404:

لقد تخوف القديس ذهبي الفم من ردود فعل الشعب خلال هذه المواجهة التي احتدمت بينه وبين الإمبراطور، ولذلك لازم مقر الأسقفية ولم يبرحه. هذا ولم يعبر مؤيدوه من الكهنة والشعب عن احتجاجهم، وإنما كان هناك اتفاق بينهم، فتجمعوا في كنائس معينة مساء يوم السبت العظيم قبل عيد الفصح من أجل إجراء قداس عيد القيامة والمعمودية الجماعية كما كانت العادة تجري في ذلك الزمان.

فعلم أعداؤه بذلك وأقنعوا السلطات بإرسال الجنود لتريق المصلين. فهجم الجنود بأسلحتهم على الشعب داخل الكنائس وضربوا وجرحوا الكهنة وجموع الناس العزل من شيوخ ونساء وأطفال وحطموا الأواني المقدسة وسفوا دماء الأبرياء. وتبع ذلك عمليات القبض على الكهنة وتم إلقاؤهم في السجن وتمت ملاحقة العديد من أفراد الشعب من مؤيدي ذهبي الفم.

 

12 ـ محاولتان لاغتيال ذهبي الفم:

تعرض القديس ذهبي الفم لمحاولتي اغتيال حدثتا بعد فترة قصيرة من عيد الفصح، الأولى أشار إليها المؤرخ سوزومينوس حيث قام شخص بالهجوم على القديس، لكن بعض الناس من الجمع قد انتبهوا إليه وأمسكوا به وسلموه إلى السلطات. لكن ذهبي الفم تدخل لدى السلطات وعمل على إطلاق سراحه. وفي المحاولة الأخرى كان ذهبي الفم موجودًا في مقر الأسقفية، فدخل إليه شخص حاملاً سيفًا، وكان هذا القاتل المأجور عبدًا للكاهن “إلبيذيوس” وهو واحد من أعداء ذهبي الفم المعروفين.

وقد حاول الكثيرون إيقافه لكنه قتل كل من وقف في طريقه. ولما وجد نفسه في موقف صعب حاول الهروب، إلاّ أن شخصًا من الجموع المحتشدة حاول الإمساك به فقتله. وتم القبض عليه في نهاية الأمر وقيد إلى الإمبراطور، لكن عقوبته كانت عقوبة رمزية فقط. وبعد تلك المحاولتين الفاشلتين لاغتيال ذهبي الفم شكل المؤمنون جماعات لحمايته وحراسته بشكل متواصل.

 

13 ـ ذهبي الفم يطلب من أساقفة إيطاليا عقد مجمع كبير للبحث في الأحداث الأخيرة:

لقد أثرت أحداث عيد الفصح بذهبي الفم وجعلته يقتنع أنه لا فائدة من انتظار الإمبراطور لعقد مجمع كنسي. ولذلك قرر أن يكتب رسالة إلى أساقفة إيطاليا، ويعرض عليهم كل الأحداث منذ وصول ثيوفيلوس إلى القسطنطينية وحتى الأحداث الدامية التي جرت خلال عيد الفصح، ويطلب منهم المساعدة من أجل عقد مجمع كنسي.

وقد وجه الرسلة إلى أسقف روما “إينوسينتوس” وأسقف ميلانو “فينيريوس” وأسقف أسيليا “خروماتيوس”. وقد أيد إينوسينتوس ذهبي الفم وأجرى محاولات لدعوة إلى عقد مجمع في ثيسالونيكي لكن دون نتيجة.

 

د ـ المنفى والنهاية

1 ـ القرار بنفي ذهبي الفم:

لقد أدت هذه الأحداث كلها بذهبي الفم إلى البقاء داخل مسكنه لا يغادره ولا يظهر أمام الناس طوال شهرين. لكن أعداءه أصروا على نفيه وأضافوا إلى حججهم احتمال حدوث أحداث شغب جديدة فأقنعموا الإمبراطور أن الهدوء سيحل في صفوف الشعب فقط إذا تم نفي ذهبي الفم. وهكذا أرسل الإمبراطور أركاديوس رسولاً له إلى ذهبي الفم في مساء يوم 20 يونيو ليأمره بمغادرة القسطنطينية وترك الكنيسة، وفي حال معارضته سيتم تنفيذ هذه الأوامر بالقوة.

ودع ذهبي الفم مؤيديه والمقربين إليه والدموع قد ملأت عينيه ونصحهم بإطاعة الأسقف الذي سيحل محله لكي يتم تجنب حدوث انشقاق في الكنيسة. لكن الشعب تجمع غاضبًا أمام مقر الأسقفية وكان كل شئ يحذر بحدوث قلاقل، لذلك خرج ذهبي الفم خفية وسلم نفسه إلى رجال الحرس الإمبراطوري.

 

2 ـ أحداث الشغب والحريق الذي تلا خروج ذهبي الفم إلى المنفى:

لم يبق موضوع خروج ذهب يالفم من القسطنطينية سرًا على الشعب الذي بدأ يبحث عنه فلا يجده. وتجمع حشد من المؤمنين حول وداخل الكنيسة التي كان من المفترض أن يكون القديس موجودًا فيها. هذا ولم يكن بين الجموع أصدقاء ذهبي الفم ومؤيديه فقط بل اندس أعداؤه أيضًا بين الجموع. وتدخلت قوات الحرس الإمبراطوري لتدارك الأمور فأغلقت أبواب الكنيسة، فحدثت اشتباكات واندلعت النار في الكنيسة وأحرقتهها بالكامل وانتقلت إلى المباني المجاورة. وقد اتهم أعداء ذهبي الفم مؤيديه بأنهم أشعلوا النار في الكنيسة انتقامًا منهم لملاحقة السلطات له.

أما مؤيدو ذهبي الفم فقد اتهموا أعداءه بأنهم هم الذين أشعلوا النار ليلقوا التهمة عليهم ويدجوا حجة لملاحقتهم وملاحقة ذهبي الفم. ومن الصعب هنا أن نعرف أى جهة كانت على حق ولكن على الأغلب فإن النار قد اندلعت بالصدفة خلال الاشتباكات التي حدثت في الكنيسة.

 

3 ـ ملاحقة مؤيدي ذهبي الفم في القسطنطينية:

وصل ذهبي الفم على متن مركب صغير إلى “نيقيا” في “بيثينيا” وانتظر فيها أمر الإمبراطور الذي سيحدد فيه مكان منفاه. وقد قرر الإمبراطور نفيه إلى مدينة “كوكوسوس” بأرمينيا في أسيا الصغرى، وه مدينة تقع بالقرب من مدينة أضنة. وفي تلك الأثناء واجه مؤيدو ذهبي الفم من الكهنة والشعب ملاحقة السلطات وعمليات الاعتقال والسجن. وقد خلف الأسقف “أ{ساكيوس” ذهبي الفم على عرش أسقفية القسطنطينية. إلاّ أن فترة بقاء أرساكيوس على عرش الأسقفية لم تطل وخلفه في عام 406 الأسقف “أتيكوس” الذي كان عدوًا لدودًا لذهبي الفم.

 

4 ـ رحلة شاقة إلى المنفى:

لقد تلقينا المعلومات عن رحلة ذهبي الفم من نيقيا إلى كوكوسوس مما ورد في الرسائل التي أرسلها القديس إلى شمامسة في القسطنطينية تدعى “أوليمبياذا” (PG 52, 549-623) وذلك في الفترة 404ـ407.

في نيقيا أمضى ذهبي الفم وقته مركزًا اهتمامه ببعثات التبشير في فينيقيا وبلاد العرب وقبرص وبلاد فارس. وهذا النشاط يفترض أن القديس كان يتمتع بشئ من الحرية.

ولما توجه القديس إلى منفاه اتبع الطريق الرومانية التي تبدأ من نيقيا شرقًا لتعبر أسيا الصغرى وتمر في أنقرة وتستمر إلى قيصرية وتصل فيما بعد إلى كوكوسوس.

لقد عاش القديس وهو يسير على دربه هذا لحظات مليئة بالسعادة وأخرى مليئة بالآلام. ففي العديد من المناطق خرج الكهنة والشعب لاستقباله استقبال الأبطال والشهداء والقديسين. ولكنه كلما ابتعد عن ساحل البحر كلما صارت رحلته أشد صعوبة بسبب التعب من السير على الأقدام والأحوال الجوية القاسية ما بين برد قارس وحر شديد.

ولما وصل إلى أنقرة قابله أسقفها “ليونديوس” بعداوة، وكذلك في قيصرية حيث لم يأت أسقفها “فاريتريوس” لمقابلته. لكن لحسن الحظ أتى العديد من الكهنة وأبناء الشعب ولاقوه بحفاوة ومحبة. لكن حالته الصحية كانت سيئة جدًا من عذاب الرحلة والأمراض التي أصيب بها والحمى الشديدة. لكن الأطباء اعتنوا به واكتسبببب قواه من جديد.

وبالرغم من ذلك بقيت حالة ذهبي الفم الصحية رديئة، ولما كان موجودًا في تلك الحالة تعرض أيضًا لهجمات اللصوص وكان الخطر الذي يتهدد به عظيمًا، وكذلك فقد تعرض أيضًا لتهديدات مجموعة من الرهبان الذين أنذروه بأنه إذا لم يغادر المنطقة سيواجه خطر الموت. وعند ذلك غادر قيصرية محمولاً على فراش بسبب مرضه الشديد، لكنه لم يتحمل السفر وبقى في منطقة تبعد خمسة أميال عن قيصرية.

هذا ولم يكتف فاريتريوس بهذا فأرسل أعوانه الذين دخلوا ليلاً إلى مضجع ذهبي الفم وأجبروه على الرحيل في تلك الاسعة متذرعين بخطر قدوم جماعة من اللصوص الذين أرادوا قتله. وهكذا قرر ذهبي الفم الرحيل بالرغم من حالته الصحية الرديئة، بعد أن فهم ألاعيب فاريتريوس.

 

5 ـ الوصول إلى كوكوسوس:

كان الدرب الذي سار عليه ذهبي الفم نحو مدينة كوكوسوس شاقًا وعسيرًا في منطقة جبال طوروس الوعرة، ووصل إلى المدينة في 20 سبتمبر. وقد ذكر القديس في الرسالة 234 أن تلك الرحلة قد استغرقت 70 يومًا.

لقد اعتنى أهل كوكوسوس بذهبي الفم عناية فائقة، وقدم له أحد ملاك الأراضي ـ ويدعى “ذيوسكوروس” ـ منزلاً ليقيم فيه. وقد شعر القديس هنا براحة تامة حتى أنه ذكر في احدى رسائله أنه يفضل ألف منفى كهذا على الرحلة التي قام بها، وذلك لأنه كانت تجري محاولات في القسطنطينية لتغيير مكان منفاه (Pg 52, 611-612). وفي ذلك الوقت وصلت إلى كوكوسوس الشماسة “سابينياني” التي كانت واحدة من أقربائه، فساعدته كثيرًا.

لقد ترتبت على ذهبي الفم هنا واجبات عديدة، حيث كان يزوره العديد من الكهنة وأبناء الشعب من مختلف الأماكن وحتى من أنطاكية. لقد كان يتابع نشاطات التبشير ويساعد كل من كان ملاحقًا ويعطي النصائح لمعاونيه. وقد كان أصدقاؤه يرسلون له المال الذي يحتاج إليه في عمله هذا، ومن بين هؤلاء الشماسة أوليمبياذا.

ولكن عندما حل الشتاء ثانية اشتدت به الأمراض من جديد. وفي أوائل عام 406 اضطر إلى الانتقال إلى مدينة “آرابيسوس” التي تبعد 4 كيلومترات عن كوكوسوس هربًا من هجوم اللصوص. وهناك كان يفتقد لوجود الأدوية الضرورية. لكنه لم يتوقف عن الكتابة إلى أسقف روما إينوسينتوس وبقية أساقفة المدن الغربية من أجل عقد مجمع كنسي.

وتجدر الإشارة إلى أنه خلال فترة نفيه أى منذ وصوله إلى نيقيا وحتى صيف عام 407، قد كتب 240 رسالة من أجل إعطاء النصائح والإرشادات لمختلف الأشخاص ولكي يخفف من آلام العديدين الآخرين. وكان في مساعدته للآخرين يجد قوة كبيرة وتعزيات ليست بقليلة وكتب أيضًا في كوكوسوس كتابين حول مصائب وعذاب البشر، وذكر أن البشر يجب ألا يفقدوا ثقتهم وإيمانهم بالرب محب البشر وإنما أن يواجهوا كل الشدائد كتجارب يسمح بها الله يكون الهدف منها الربح المعنوي والروحي (PG 52, 460-528).

 

6 ـ منفاه الجديد في ”بتيوندا” بالقفقاس:

لم يهدأ أعداء ذهبي الفم وخاصةً هؤلاء الموجودين في القسطنطينية. فقد كان الاحترام والتكريم الذي يلقاه من الشعب والكهنة من الشرق والغرب عظيمًا، وبشكل خاص من أنطاكية. وكانت شهرته تزداد يومًا بعد يوم، وكان لايزال مصرًا على عقد مجمع كنسي للنظر في قضيته.

وكان الكثيرون من أصدقائه يرفضون تناول القربان المقدس من خلفائه أرساكيوس وأتيكوس بالرغم من الأمر الذي أمرهم ذهبي الفم به قبل مغادرته إلى المنفى، وبالرغم من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون إليه بسبب موقفهم هذاز ولهذا السبب أصدر الإمبراطور أركاديوس أمرًا في العام 404 يجبر الجميع على تناول القربان المقدس من خليفة ذهبي الفم، وكذلك من ثيوفيلوس ومن أساقفة أنطاكية “بورفيريوس”.

وفي روما أيضًا استمر الأسقف إينوسينتوس في إصراره على عقد مجمع جديد لإعادة النظر في قرارات مجمع دريس. لكن أعداء ذهبي الفم والإمبراطور أركاديوس ـ بالرغم من وفاة الإمبراطورة أوذوكسيا التي كانت تضغط عليه باستمرار ـ كانوا يخافون من نتائج مجمع كهذا. لذلك قرر الإمبراطور بعد سماعه لنصائح أعداء ذهبيالفم بأن يغير مكان منفاه، وأن يرسله إلى مكان نائي يصعب الوصول إليه.

وهكذا تم إرساله إلى بتيوندا وهى بلد سكانها من البربر تقع على سفح جبل اقفقاس على الاسحل الشرقي من البحر الأسود (سوزومينوس: “تاريخ الكنيسة” 28:8، 6). هناك كان من العسير على أصدقائه أن يحضروا إليه، وكذلك فإن أعداءه كانوا يتمنون وفاته متأثرًا إما بصعوبات الرحلة التي تبلغ مسافتها 1500 كيلومتر تقريبًا، أو بظروف الحياة القاسية والبدائية في منفاه الجديد.

لقد وصلت الأوامر إلى كوكوسوس في صيف عام 407 وبدأت الرحلة في 25 أغسطس، حيث رافق القديس جنديان حارسان له. وكان أحد الحراس يعامل ذهبي الفم معاملة قاسية جدًا حيث إنه في حال وفاته أثناء الرحلة فإن أجره سيكون أكبر بكثير. وليست هناك معلومات متوفرة لدينا عن تفاصيل الرحلة لأن القديس لم يكن قادرًا على كتابة رسالة أثناء سيره إلى المنفى الجديد، وحتى لو أنه قد كتب رسالة ما فإنها قد ضاعت على الأغلب. ولذلك فإن المصادر الوحيدة التي تتكلم عن فترة الأيام العشرين الأخيرة من حياته هى ما كتبه المؤرخون وبشكل خاص بالاديوس (PG 47, 38-39).

 

7 ـ وفاة القديس العظيم:

وجب أن يتبع ذهبي الفم الطريق الروماني المعروف، لكن يظهر أنه لم يتوجه إلى قيصرية وإنما سار على الدرب الأقصر عبر مدينة “سيفاستيا” و “كومانا” و “أماسيا”، فوصل إلى “شمشوندا” على البحر الأسود، ومن هناك كان سيركب السفينة متوجهًا إلى بتيوندا.

لم يواجه القديس فقط مصاعب الطريق وحالته الصحية المتردية، بل تقلبات الطقس أيضًا وكان يتوجب عليه السير على الأقدام لمسافة عشرين كيلومترًا يوميًا، في ظروف الحر الشديد أو المطر الغزير. لقد أدى ذلك إلى إصابته بالحمى ورفض الجنود السماح له بالتوقف ليستريح ويتعافى في أى مكان. وفي نهاية المطاف وصل إلى “دازمونة” وتجاوز الجنود مدينة كومانا لاختصار الطريق ولكي لا يتركوا له المجال للاستراحة.

وأخيرًا توجهوا به باتجاه الشرق وباتوا في كنيسة القديس “باسيليسكوس”. وكان هذا القديس أسقفًا على تلك المنطقة واستشهد عام 311 في عهد الإمبراطور “مكسيميانوس” وقد كرمه أهالي المنطقة وبنوا تلك الكنيسة وسموها باسمه.

لقد كانت الحالة الصحية لذهبي الفم متردية جدًا، فحاول أن ينام لكن القديس باسيليسكوس ظهر له وخاطبه قائلاً: ” تشجع أيها الأخ يوحنا لأنك ستكون موجودًا معي غدًا “(PG 47, 38) .

وفي صباح اليوم التالي لم تكن لدى القديس القوة للنهوض والسير على أقدامه، فرجا الحارسين بعدم الانطلاق، أو أن ينتظراه حتى الساعة الخامسة، ولكنهما لم يأبها برجائه. فجراه بالقوة خارج الكنيسة وأجبراه على السير. وبعد مسافة خمسة كيلومترات تقريبًا من الكنيسة اقتنع الجنديان أن القديس لم يكن قادرًا على المشي وأنه قد اقترب من نهايته. فعادا به إلى كنيسة القديس باسيليسكوس وهو مرتكز عليهما.

طلب القديس من كاهن الكنيسة رداءً جديدًا ليلبسه ووزع القليل مما يملكه على الحاضرين وتناول القربان المقدس وصلى أمام الجميع للمرة الأخيرة بصلاته المعتادة، فقال “المجد لله من أجل كل شئ”، وأضاف قائلاً: ” آمين” ومد رجليه يوم 14 سبتمبر 407. ولقد هز نبأ وفاة القديسس أرجاء العالم كله ما عدا أعدائه الذين سروا لوفاته. وقد تجمع كثير من المؤمنين والرهبان ودفنوه في كنيسة القديس باسيليسكوس.

 

8 ـ رد الاعتبار التدريجي للقديس ذهبي الفم:

لقد استطاع أعداء القديس ذهبي الفم منذ عام 403 أن يجتذبوا إليهم العديد من الأساقفة. وتجدر الإشارة إلى أن كلا من بطريركية القسطنطينية وأنطاكية والأسكندرية كان يتزعمها أساقفة معادون لذهبي الفم. وقد تأثر العديد من أساقفة الغرب أيضًا بالجو المعادي لذهبي الفم بالرغم من أنه كان يحظى على قدر كبير من الاحترام والتقدير في أوساط الكنيسة الغربية.

ونذكر من هؤلاء اللاهوتي المشهور في الغرب “أوغسطين إيبونا” الذي كان قد سبق له واعترف بتقديره واحترامه لذهبي الفم، لكنه لم يكن يذكره في القداس الإلهي.

لكن الأسقف إينوسينتوس الذي كان يقف دائمًا موقفًا مؤيدًَا لذهبي الفم، رفض الاتصال والمشاركة في الأسرار المقدسة مع كل أسقف ممن لم يكونوا يذكرون ذهبي الفم في القداس الإلهي. وقد أدى ذلك إلى انقسام حقيقي في صفوف الكنيسة كانت له أبعاد أثرت على الشعب أيضًا. فقد كانت ردود الفعل الشعبية كبيرة ومارس أهالي القسطنطينية وعدد كبير من كهنتها ضغوطًا كبيرة على السلطة الكنسية لإدراج اسم ذهبي الفم في قائمة الأساقفة الذين يذكر اسمهم في القداس الإلهي.

وفي عام 418 وجه أسقف القسطنطينية “أتيكوس” الذي كان معروفًا لعداوته تجاه ذهبي الفم، رسالة إلى أسقف الأسكندرية “كيرلس” تكشف عن مدى تعقيد الأوضاع آنذاك. لقد طلب أتيكوس من كيرلس أن يدرج اسم ذهبي الفم في قائمة الأساقفة الذين يذكر اسمهم في القداس الإلهي، وذلك ليس لتطبيق قوانين الكنيسة وإنما كتدبير من أجل أن يحل السلام في الكنائس.

واترف أنه اضطر إلى إدراج اسم ذهبي الفم في القوائم المقدسة لتجنب الانقسام الذي بدأ يحدث في صفوف شعب القسطنطينية، إذ أن مؤيدي ذهبي الفم كانوا يقيمون الصلوات خارج أسوار المدينة (PG 77, 348-349).

وتجدر الاشارة إلى أن أتيكوس قد اقتنع بإدراج اسم ذهبي الفم في القوائم المقدسة عندما حدث في فترة قبل عام 418 بقليل أن زار أسقف أنطاكية “ألكساندروس” القسطنطينية وأخبر الشعب من منبر الكنيسة أنه قد أدرج اسم يوحنا ذهبي الفم في القوائم الممقدسة مما أدى إلى توتر كبير في صفوف الشعب. ولذلك اضطر أتيكوس أن يقوم هو أيضًا بإدراج اسم ذهبي الفم في القوائم المقدسة لكنيسة القسطنطينية.

وفي عام 418 ارتقى الأسقف “ثيوذوتوس” على عرش الكنيسة الأنطاكية واضطر هو أيضًا تحت ضغط شعبي كبير للاعتراف بذهبي الفم، وكذلك فإن أسقف الأسكندرية كيرلس الذي كان قريبًا لثيوفيلوس وخلفا له فقد اضطر هو أيضًا إلى الاعتراف بذهبي الفم. وهكذا نلاحظ أن أسقف أنطاكية ألكساندروس هو الوحيد الذي اعترف بذهبي الفم عن اقتناع شخصي، وأما بقية الأساقفة فقد اضطروا للاعتراف به تحت ضغط شعبي.

وفي عام 428 حدد ” نسطوريوس” تاريخ 27 سبتمبر من كل سنة لتكريم ذكرى القديس ذهبي الفم. لكن أسقف القسطنطينية “بروكلوس” هو الذي رد الاعتبار لذهبي الفم بشكل كامل، فقد طلب من الإمبراطور ثيوذوسيوس الثاني أن يتم نقل رفاة القديس ذهبي الفم من كنيسة القديس باسيليسكوس إلى القسطنطينية. وقد تم جلب الرفاة في 27 يناير 438 إلى كنيسة الرسل القديسين في القسطنطينية ضمن احتفال مهيب شارك فيه الآلاف من الشعب والكهنة (سقراط: “تاريخ الكنيسة” 7ـ25).

ومنذ ذلك الحين تكرم الكنيسة ذكر القديس يوحنا ذهبي الفم في 13 نوفمبر وفي 27 يناير من كل سنة.

القديس يوحنا ذهبي الفم - حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي
القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

القديس يوحنا ذهبي الفم – حياته وعظاته وأعماله وعصره – د. عصام سامي زكي

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !