كتب

حصرياً كتاب: الرؤية المسيحية للإنسان (الانثربولوجيا المسيحية) للدكتور عدنان طرابلسي

من هو عدنان طرابلسي:

ولد في العام 1960 في حمص، سورية. تخرج من كلية الطب جامعة دمشق العام 1983. اختص في أمراض الأطفال في مشفى الأطفال جامعة دمشق العام 1986، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة فتابع اختصاصه وحاز على شهادتي البورد الأمريكية في طب الأطفال و الأمراض الإنتانية عند الأطفال من جامعة سينسيناتي الأمريكية. مقيم في الولايات المتحدة متزوج و له ولدان.

بدأ نشاطه اللاهوتي بمقالة في جريدة (حمص) و (الكلمة) ثم أنشأ و هو في مشفى الأطفال كتاب (الرؤية الأرثوذكسية للإنسان: الإنثروبولوجية الصوفية). و تلا ذلك كتاب (وسقط أدم : لاهوت الأقمصة الجلدية). ثم ترجم كتاب (فن الصلاة) و (شرح الذهبي الفم لإنجيل القديس متى) (أربعة أجزاء)، (المزامير الروحية) للقديس أفرام السوري ووضع كتاب (الحوار المسكوني بين الكنائس). له عدة كراسات و مقالات و محاضرات منها : (العنصرة ، شخص يسوع المسيح ، ميمر في بشارة التجلي، الإنسان في التدبير الإلهي و في رقاد السيدة.

 

حصرياً كتاب: الرؤية المسيحية للإنسان (الانثربولوجيا المسيحية) للدكتور عدنان طرابلسي

 

Free Download

 

الإنسان روحا وجسدا . الإنسان شخص. الإنسان على صورة الله ومثاله .الإنسان كاهنا وخالق ثاني .

 

ان موضوع الانثربولوجيا المسيحية ( دراسة علم الإنسان) هو موضوع الصورة والمثال، وهو علم واسع في الدراسات اللاهوتية ولا يزال حتى هذه الساعة يكتشف في صورة الله في الإنسان جوانب حياتية جديدة تكشف لنا عن عالم جديد وجميل وفريد في نوعه .

        إذا فما هي طبيعة الإنسان ؟ هل هو مخلوق الأرضي الذي ينتمي الى جنس الحيوان، وتحكمه دوافع الحيوان وميوله وإن كان أرقى قليلا من الحيوانات الراقية ؟ أم هو ذلك المخلوق المتسامي في فكره، المتطلع الى الكمال، المشتاق الى السموّ والرفعة والخير والفضيلة ؟.

 الإنسان:روحا وجسدا.

          الرؤية المسيحية للإنسان تفرّدت عن كل ما سبقها وما تلاها من نظريات حول الإنسان روحا وجسدا، عقلا وذهنا . واستعان الآباء لتوضيح هذه الرؤية بعقيدة التجسد الإلهي وعقيدة الثالوث القدوس .

        فصرنا نفهم الله من خلال الإنسان، ونفهم الإنسان من وراء فهمنا لله . هذا مع العلم أن الاستعانة بتكوين الانسان هي استعانة نسبية لتوفير إمكانية فهم ما، إلا ان الله يفوق مفاهيمنا بما لا يقاس .

الله خلق الانسان روحا وجسدا . فهو خالق الروح وخالق الجسد . خلقهما معا في علاقة محبة وألفة وتعاضد رغم وجود العديد من الفروق بينهما .

ولم  يخلقهما إلا على صورته ومثاله . والله كائن شخصي والإنسان كائن شخصي، وليس بطبيعة عمياء ( لا شخص لها ) كالحيوان أو النبات أو الجماد . فالصورة الإلهية موجودة في الروح وفي الجسد أيضا كما يقول غريغوريوس بالاماس . فالجسد أيضا مطبوع بطابع صورة الله، ومختوم بروحه القدوس لأنه من صنعه الله .

ولان علاقة الجسد مع الروح علاقة مصيرية وثيقة ليست عابرة ولا مؤقتة، فالروح تمتلك بالطبيعة علاقة محبة مع جسدها الموجودة فيه والذي لا تريد أبدا أن تفارقه، إلا إذا أرغمت على ذلك يقول يوحنا الدمشقي . يقول فلاديمير لوسكي إن شخصنا هو صورة الله فينا . أي ان شخص الإنسان هو صورة شخص يسوع .

وهذا يلتقي مع بالاماس بأن صورة تشمل الجسد أيضا، لأن الشخص يحوي الجسد المتحد مع الروح . فالله خلق جسدنا بصورة خاصة فريدة يكون معها قابلا لأن يكون وروحنا متحدين في شخصنا الذي هو صورة الله . يقول جوستينيان: ” لقد صنع الله الجسد، وخلق النفس بالوقت نفسه، مشكلا بذلك إنسانا كاملا: إذ إن الجسد بغير نفس ليس إنسانا، ولا النفس بغير جسد أنسانا”. ويقول القديس يوحنا الدمشقي:” لقد شكّلت النفس والجسد في وقت واحد وليس بالبداية أحدهما دون الآخر كمل يفترض بذلك أوريجنس بغير حكمة “. إذا لا توجد نقطة اتصال معينة بين الروح والجسد.

 فالروح لا تستقر في مكان معين ومحدود دفي الجسد، وإنما ترتبط بكل جزء منه، وتتصل بكل الجسد بطريقة ما غير قابلة للوصف، وبصورة روحية . يقول القديس باسيليوس الكبير: “كل الخليقة كانت لأجل النفس ( الروح): الناموس النبؤات، الأناجيل قد أعطيت لأجل النفس .. ولأجل خلاصها جاء ابن الله نفسه الى الأرض وصار إنسانا .. وتألم وصلب ” . أما القديس غريغوريوس بالاماس فقال: ” النفس هي في كل مكان في الجسد الذي خلقت منه . لا كأن لها مكانا أو انه قد احتواها، بل كممسكة بالجسد معا ومعطية حياه له . 

 الإنسان شخص:

             الإنسان مخلوق على صورة الله . وإله الوحي المسيحي هو الثالوث القدوس. فالإنسان هو صورة الثالوث . فالإنسان إذا وحده شخص دون سواه من الكائنات. لأنه وحده مخلوق على صورة الله . الإنسان تعبير محدود عن الله غير المحدود . لذلك يقول فلاديمير لوسكي:” إن صورة الله في الإنسان تشير الى كل شيء يمّيز الإنسان عن الحيوان، والتي تجعله:” شخصيا” بكل معنى الكلمة، عاملا مناقبيا، قادرا على التمييز بين الحق والباطل، شخصا روحيا مزوّدا بحرية داخلية ” .

        ” الإنسان هو كائن شخصي مثل الله، وليس بطبيعة عمياء. هذا هو طابع الصورة الالهية فيه . علاقته المطلقة كشخص مع إله شخصي يجب أن تسمح له بـ” شخصنة ” العالم . ولم يعد الإنسان يخلص عبر الكون، بل الكون عبر الإنسان . لان الإنسان هو أقنوم الكون كله، الذي يشترك في طبيعته . والأرض تجد معناها الشخصي، الاقنومي في الإنسان . الإنسان هو للكون رجاء نيل النعمة والاتحاد مع الله ” ( اسبيرو جبور:  سر التدبير الإلهي ) .

        طابع الصورة الإلهية عند الإنسان هو أن الإنسان شخص مخلوق على صورة يسوع الشخص الإلهي، الرب يسوع هذا النموذج الذي تم خلق الإنسان على موجبه . أي خلق الله الإنسان على موجب ما سيكون عليه ناسوت يسوع أثناء التجسد الإلهي . لذلك يقول القديس مكسيموس المعترف عن الإنسان: ” الإله الحقيقي ” . وإنه في نفحة الله لصنع الإنسان هو الأقنوم المخلوق على صورة الأقانيم الإلهية . وإن الإنسان ” شخص مؤلف “. فهو أقنوم أرضي للكلمة السماوي الذي به كان كل شيء .

        لذا، وإن كان الإنسان أقنوما مخلوقا – روحا وجسدا – على صورة أقنوم يسوع، فهناك اختلافات بينهما . فالإنسان أقنوم بشري مخلوق، ويسوع أقنوم إلهي غير مخلوق . الإنسان أقنوم فيه طبيعة واحدة مؤلفة من اتحاد جوهرين مختلفين هما الروح والجسد اتحادا مفروضا من قبل الخالق . أما يسوع فأقنوم في طبيعتين – إلهية وبشرية – متحدتين بملء حرية الله واختياره .

        غير إن اتحاد الروح مع الجسد في الشخص البشري لا يشبه اتحاد الطبيعتين البشرية والإلهية في شخص يسوع . يذكر القديس غريغوريوس بالاماس ثلاثة أنواع من الاتحادات . 1- الاتحاد الجوهري ( اتحاد الاقانيم الإلهية الثلاثة في الجوهري الإلهي الواحد ) . 2- الاتحاد الاقنومي ( اتحاد طبيعتي المسيح في أقنوم واحد ) . 3- الاتحاد بحسب القوى، اتحادنا بالقوى الإلهية، بالنعمة المؤلِّهة مع الله ( تأله الإنسان ) .

الإنسان: على صورة الله ومثاله:

             شاء الله ان يخلق الإنسان بدافع محبته وصلاحه وأيضا أراد ان يكون الإنسان كائنا عاملا، حرا، حكيما، صالحا، ممجدا، باختصار أراده إلها صغيرا مخلوقا، وإنسانا متألِها، لذلك خلقه على صورته ومثاله .

آباء الكنيسة متفقون على وجود علاقة ما، بين الإنسان والله، على ضوء حقيقة خلق الإنسان على صورة الله ومثاله . لهذا ينطلق القديس غريغوريوس النيصصي مما كشفه الوحي الإلهي لنا عن الله، ومنه يصل الى إكتشاف ما هو في الإنسان، الى الصورة الالهية المطبوع بها . وهذا الأسلوب اللاهوتي لمعرفة الإنسان ( الانثربولوجيا ) .

        هل الصورة الالهية في الإنسان تشمل كل الإنسان – الروح والجسد – كما يعتقد القديس ايريناوس والنيصصي وبالاماس ؟ إذ يقول هؤلاء الآباء : ليس فقط الروح ولكن أيضا الجسد يشترك في الصورة الالهية في الإنسان . لأنه بجملته مخلوق على صورة الله، إن يسوع هو النموذج الذي خلق عليه شخص الإنسان، ولا تجزئة في كيانه الداخلي . كل الإنسان يتجه نحو كل الله ، لأنه كل الصورة التي خلق على نموذجها .

        الله يطلب من الإنسان ان يصبح متأّلها، مشاركا في حياة الله . وبالتالي يمتد التجديد الى كامل الإنسان: ” هوذا الكل قد صار جديدا ” ( كورنثوس الثانية:5 – 17 ) . الله لا يطلب من أن أكرس له جزءا من ذاتي أو أجزاء من حياتي . هو يريدني بكليتي، هو لم يبخل عليّ بشيء . لقد أخلى ذاته إخلاء كاملا، وأطاع حتى الموت، لذلك نسمعه يطلب القلب: ” يا يني أعطني قلبك ” لان القلب هو مركز كل كيان الإنسان .

        لذلك الإنسان كائن يحمل في داخله نعمة إلهية، من روح الله وهذه النعمة هي التي تدفعه للمشاركة، لا مع الله فقط، بل مع الملائكة، ومع أخيه الإنسان . الإنسان خلق كي يشارك الله في حياته الالهية كي يصبح ” شريكا للطبيعة الالهية ” ( بطرس الثانية: 1 – 4 ) . خلق الإنسان كي يصير إلها بالنعمة الالهية، لا بالجهد البشري وحده . الله صالح وأراد أن يشاركه الإنسان هذا الصلاح . وهو لم يخلقه إلا لأنه صالح .

إذا، الإنسان مدعو ليعيد وحدة الطبيعتين بالنعمة، في شخصه المخلوق ليصبح ” إلها مخلوق، وإلها بالنعمة ” عكس المسيح الذي هو شخص ألهي قد ضم إليه طبيعة بشرية .

        الإنسان كما يقول القديس باسيليوس الكبير: هو خليقة نالت أمرا لتصبح إلها.

الله لم يخلق الإنسان كي يموت، كي يفنى، بل أراده كائنا يحيا الى الأبد مثل الله، كي يشاركه حياته الالهية . فالإنسان لا ينتهي بموته الجسدي، ولا يفنى ولا يزول . إنه خليقة خلقت لتبقى وتحيا الى الأبد . فان كان الإنسان ذا بداية، لأنه مخلوق، فهو بلا نهاية .

     الإنسان: كاهنا، وخالق ثاني

             أن الطبيعة تسبح الله بحسب المزامير “سبحوا الرب يا جميع الكواكب والنور” (مز 3:148)، بالطبع ليست الطبيعة بحد ذاتها التي لا تفسر فيها تسبح الرب، ولكن عبر الإنسان. عندما تدفع الطبيعة الجميلة والعجيبة الإنسان إلى التعجب وتسبيح الله، تقوده الى معرفة الله. لأن الطبيعة الجامدة لا تسبح ولا تمجد ولا تترجى. هكذا عندما تتم الطبيعة رسالتها هذه تشكل وتنظم نحو الله تسبيحاً. 

الإنسان أيضاً كتاج للطبيعة وكأكمل عنصر فيها يصلها بواسطته وعبره مع الله، وهذا الدور أشبه بكهنوت ويشبه الإنسان بكاهن للطبيعة. أيضاً الإنسان سر كائن مركب ومزدوج في طبيعته هو الوحيد من كل الخليقة الذي بعقلانيته يستطيع أن يأتي مع الله في علاقة ويسبحه ويحتل هكذا محل كاهن للطبيعة. هذه الإمكانية الكهنوتية للإنسان نابعة من طبيعته المركبة من عنصرين، الروحي والجسدي.

        فيستطيع بطبيعته الروحية أن يصل العالم المادي بالله، وهذا ما يميزه عن الكائنات والخلائق الأخرى اللاعقلانية. ونتيجة دور الإنسان هذا تقع مسؤولية فصل العالم المادي أو فصله عن الله على عاتق الإنسان، حياة الإنسان الأخلاقية. فحسن أو سوء استخدامه الحر لعقلانيته يحدد صلة الطبيعة بالله.

هكذا الإنسان إذا نظرنا إليه بحد ذاته ولوحده يمكن أن نرى علاقته مع الخليقة “كوسط” بمعنى ومتوسط يملك خواص مشيئتين، بالعمق لكن وبمنظور اسختولوجي هو “واصل” بين الله والعالم. دور الإنسان هذا، بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم، يرفع الإنسان من مستوى الخليقة إلى مستوى خالق ثاني مع الله.

        إذا كان الخلق كعمل إبراز من العدم إلى الوجود هو عمل الله، فإن حدث رفع الخليقة المادية إلى مستوى العلاقة الروحية مع الله هو عمل الإنسان. تصعيد الخليقة المادية إلى مملكة روحية كان هدف الله من عمل الخلق اسختولوجياً.

 في العمق هناك عمل خلق ثاني. ليس من العدم، لأنه ليس إبراز مادة وجوهر، ولكن خلق مملكة وملكوت له من المادة، هذا الخلق الثاني هو عمل الإنسان. “أنا أوجدت وعملت المادة، فحسّن أنت منحى الحياة”، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن فم الله. قديسنا هذا يشبه لنا الله الخالق بـ”أب حنون رسام” يوّد ويرغب ليس فقط أن يحب هو عمل الرسم وإنما أن “يعلم طفله ويجعله يتقن هذا الفن”

     إذا أن الإنسان هو ابن لله، هذا ما يوحي به الكتاب المقدس في عهديه:” أليس لجميعنا أب واحد؟  (ملاخي 2- 1. ) ” أنت يارب أبونا ونحن عمل يديك” ( اشعياء64 – 7 )” اختارنا الله قبل إنشاء العالم . وقدّر لنا أن يتبنّانا بيسوع المسيح ” (أفسس1: 3- 5) فيكون يسوع ” بكرا لإخوة كثيرين ” ( رومية 8 – 29)، ويكشف لنا ” أن أبانا واحد في السماء، ونحن جمعيا إخوة ” ( متى 23: 9 – 1. ) 

 لذلك الإنسان مخلوق فلا بد ان يكون له خالقا، وجوده ليس من ذاته ولكن من الله، لذا الإنسان يعتمد على الله خالقه وصانعه فيما هو عليه وفيما يمكن ان يكون عليه. هذا هو الجواب الذي تقدمه المسيحية لترد على كبرياء الإنسان وغرور النظريات التي تمجد قدرة الإنسان واستقلاليته وتعتبره قادرا على كل الأمور .