عام

معرفة الثالوث القدوس إشراقة نعمة – وما معنى مولود ومنبثق !

في الواقع الروحي اللاهوتي، أن كل ما كُتب وقيل عن الثالوث القدوس، هو مجرد إشراقات من النعمة تُستعلن في لغتنا البشرية المحدودة للتعبير عن علاقتنا الاختبارية بشخصه القدوس، لذلك لم يُكتب أو يقال كل شيء عن الثالوث بوضوح شديد ومطلق من جهة أعماق طبيعته، أي من جهة كيانه الخاص في المطلق، أو من جهة ذاته في مُطلق معرفته، لأن ستظل معرفتنا محدودة وقاصرة من جهة أننا لازلنا في هذا الجسد الضعيف، وحسب عقلنا المحدود في الإدراك، لأن الله يستحيل إدراكه في كمال ذاته من جهة معرفتنا الشخصية به لأننا لا نستطيع أن نفحص أعماقه ونبحر في اتساع شخصيته، فنحن نؤمن ونصدق ما أُعلن لنا بالروح في قلوبنا سراً كفعل نعمة موهوب لنا من الله، وكل الأفعال التي تصلنا من الإعلانات الإلهية تخص العلاقة التي بيننا وبينه من جهة الشركة…

ومن جهة موضوع الولادة والانبثاق هو ما أُعلن لنا من خلال الكتاب المقدس وذلك لكي لا يحدث خلط بين الأقانيم، وندخل سراً في معرفة الله القدوس الحي والمُحيي بالروح القدس الذي يُعلمنا كل شيء ويُذكرنا بكلام المسيح الرب، بالرغم من أن كل التعبيرات التي وصلتنا تُعبر عن علاقة جوهرية بين الأقانيم لا نفهمها في مطلقها، بل نفهمها بطريقة ما، وذلك حسب الإدراك الروحي لكل واحد فينا وما ناله من نعمة، [ الذي وحدهُ له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه ] (1تيموثاونس 6: 16)، [ الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر ] (يوحنا 1: 18)، [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس 4: 6)…

عموماً استخدام كلمة مولود ومنبثق يلزمنا أولاًً اننا نعلم أن كلتا الكلمتين تصفان العلاقة بين الأقانيم الثلاثة ولا تصف عمليات بيولوجية أو فيزيوكيميائية لأن الله القدوس الحي منزّه أصلاً عن هذه العمليات التي تأتي للذهن فور سماعها بدون وعي وإدراك عميق للحق حسب إعلان الله في قلبنا بالروح القدس نفسه، لأن حينما نسمع أي صفة أو كلام عن الله يتبادر لذهننا فور سماعها بما يتناسب وما ينطبق على البشر، ويأتي في الذهن فوراً المعنى القاموسي للكلمة وحسب ثقافة كل واحد فينا ومعرفته الشخصية وما تربى عليه، غير عالمين أنها قيلت وكُتبت لتقرب لنا الصورة التي لن تكون في كمالها المُطلق، لأن الكمال يُعلن لنا منه إشراقات نورانية حسب قامة كل واحد فينا ومدى انفتاحه على الله على الأخص في الصلاة، ويتم إعلانها بالسرّ في داخل القلب، فنؤمن بها ونفرح ونُسرّ جداً، لأن معرفة الله التي تدخلنا في شركة معه تشع فرح خاص يملأ حياتنا بهجة، ولكننا – مع ذلك – لا نستطيع أن نُعبر عنها في كمالها المطلق الإلهي لأنه فائق وأعظم من كل إدراكاتنا وطاقتنا…

والمقصود من جهة الخبرة في حياتنا أن كل شيء كامل بالثالوث، أن كل شيء من الآب بالابن في الروح القدس [ لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به ] (1كورنثوس 8: 6)، [ لأن به (المسيح الرب) لنا كلينا قدوماً في روح واحد (الروح القدس) إلى الآب ] (أفسس 2: 18) ((كل شيء من الآب بالابن في الروح القدس))

  • فالابن خرج من عند الآب:

– [ فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله ] (يوحنا 8: 42)
– [ لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم إني من عند الله (الآب) خرجت ] (يوحنا 16: 27)
– [ لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقيناً إني خرجت من عندك ] (يوحنا 17: 8)

وفي هذه الأيات نرى شخص ربنا يسوع استعمل فعل ” خرج ” لوصف حقيقة صدوره من جوهر الآب أقنومياً كما يوضح إرساليته من جهة التجسد، وهذا الفعل يقابه باليونانية εξηλθον والذي تمت ترجمته للغة الإنكليزية بفعل Come out from وللفرنسية بفعل sortir. وهذا كله يعني خروجاً قام الآباء القديسون بتوضيحه أنه مثل خروج [ النور من النور ] بمعنى عدم انقسام وعدم انفصال، لأن الآب نور فالابن نور، ولكنه نور غير منفصل ولا متصل مجرد اتصال، بل نور من نفس ذات جوهر النور عينه، نور من نور. إله حق من إله حق، مساوي له في الجوهر مساواة مُطلقة، وهذا التفسير الآبائي له ما يسنده في الكتاب المقدس كقول الرب يسوع لفيلبس [ من رآني فقد رأى الآب ] و[ أنا في الآب والآب فيّ ] (يوحنا 14: 9 – 11) وأيضاً يقول الرسول: [ الذي هو (شخص الكلمة) صورة الله غير المنظور ] (كولوسي 1: 15)، [ الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة (أو يسرق أو يغتصب) أن يكون معادلاً للّه ] (فيلبي 2: 6)، أي أنه لم يختلس أو يدَّعي أن يكون مساوي لله، لأنه فعلاً خارج من الآب كخروج النور من النور، أو ولادة النور من النور، والولادة هنا ليست بشرية بل مستمرة إلى الدهر، نور من نور، يعني نور صادر باستمرار وتواصل من نفس ذات جوهر النور الواحد عينه ومساوي له بكل ما في الكلمة من معنى المساواة، وهو نور مستمر في الخروج بدوام، لأن النور حي فعال بيولد نور باستمرار بلا توقف، لأن لو توقف أصبح ليس نور…

عموماً انبثاق الروح القدس من الآب هو خروج الفيض من منبعه ومصدره الذاتي، أي شخص الآب. أما ولادة الابن من الآب هو أيضاً خروج، ولكن خروج كل الملء من منبعه الذاتي أي مصدره، وهو شخص الآب الذي هو النبع، فانبثاق الروح القدس من الآب هو انبثاق لشركة، لأن الفيض شركة بين النبع والملء الذي في المصب، فالنبع هو الآب، والملء الذي يملأ الكل في الكل هو الابن الحبيب [ الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل ] (أفسس 4: 10) [ (الكنيسة) التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل ] (أفسس 1: 23) . فليس الفيض هو الملء، وليس خروج الفيض هو قبول كل الملء.

باختصار شديد لكي لا أُطيل في الموضوع، الانبثاق هو الاستعلان الشخصي للطبيعة الروحية التي للألوهة. والولادة هي الاستعلان الشخصي لقبول كل ملء الألوهة، فالانبثاق هو هوية أقنوم الروح القدس كفيض. الولادة هي هوية أقنوم الابن كملء، والولادة ليست مجرد خروج عادي، ولكنها خروج كل الملء الذي لايُنتقص قط، فهي خروج الكل منطوقاً في الابن. والانبثاق ليس مجرد خروج عادي، ولكنه خروج الكل كشركة بين الآب والابن، لأن الروح القدس هو روح الآب وروح الابن بآن واحد، ومن هنا تظهر وحدة الثالوث القدوس، مثل الدائرة، ولكنها دائرة غير منغلقه أو ضيقه، بل متسعه جداً فوق ما نتصور أو نظن، ومن هذا الاتساع الفائق والغير مُدرك حدثت شركة عجيبة غريبة عن الإنسانية، وهو دخول الإنسان في حياة الشركة الإلهية كالتدبير بالابن الوحيد الجنس الذي اتخذ جسم بشريتنا ليوحدنا بشخصه ليدخلنا لدائرة المجد الإلهي الفائق، لذلك وهبنا روح الشركة الروح القدس الرب المُحيي حسب وعد الآب، الذي كان يستحيل أن نناله بدون تجسد الابن الوحيد، لأنه هو روح التبني الذي به نصرخ أبا أيها الآب، لأننا صرنا ابناء لله في الابن الوحيد…

واعلموا يا إخوتي علم اليقين أن أي شرح للثالوث القدوس من جهة ذاته بدون إعلان الشركة ودخولنا فيها، هو تزييف، واعتقاد الإنسان أنه يعرف عن شخص الله وطبيعة وهو لم يدخل في هذه الشركة، فهو كاذب وقد زيف التعليم دون أن يدري، لأن الله لا يُعرف إلا بإعلان ذاته لنا في شركة معه، لذلك قال الرسول يوحنا في رسالته الأولى: (الحياة أُظهرت.. وقد رأينا ونشهد.. الذي رأيناه وسمعناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة نُخبركم به لكي تكون لكم شركة معنا)، لذلك فأن كل من يدَّعي معرفة الله وهو ليس في شركة معه لا تصدقوه ولا تأخذوا منه تعليماً، حتى لو كان صحيح، لأن الله لا يقصد أن نملأ عقولنا بمعلومات عنه، لأنها لن تنفع حياتنا ولا أبديتنا، لأن قصده من معرفته أن يكون لنا شركه معه، لذلك اتحد بنا ليس فكرياً، بل اتحد بنا اتحاد حقيقي لنكون واحداً معه، ويُقيم شركة معنا وندخل داخل الله فتكون أبديتنا مضمونه، لأننا صرنا أبناء وليس عبيد: 

  • [ لا أعود أُسميكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي ] (يوحنا 15: 15)
  • [ لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع ] (غلاطية 3: 26)
  • [ ثم بما إنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب ] (غلاطية 4: 6)