أبحاث

إتـباع المسيح – إنجيل لوقا 9 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

إتـباع المسيح – إنجيل لوقا 9 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

إتـباع المسيح – إنجيل لوقا 9 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

إتـباع المسيح – إنجيل لوقا 9 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
إتـباع المسيح – إنجيل لوقا 9 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو23:9ـ26): ” وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهذَا يَسْتَحِي ابْنُ الإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ الآبِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ “.

إن قادة الجيوش الأقوياء يستحثون جنودهم المدربين على أعمال الشجاعة، ليس فقط بأن يَعِدوهم بكرامات النصر، بل بأن يخبروهم بحقيقة أن التألم يجلب لهم المجد، ويكسبهم كل مديح، لأنه من المستحيل على أولئك الذين يريدون أن يربحوا الشهرة في المعركة أن لا يتحملوا الجروح أحيانًا من أعدائهم، ولكن تألمهم ليس بلا مكافأة. ونحن نرى ربنا يسوع المسيح يستخدم الأفكار نفسها تقريبًا في الحديث الذي  كانت مناسبته كالآتي:

          فقبْل هذا الكلام مباشرة كان قد أظهر للتلاميذ أنه ينبغي له أن يحتمل مغامرات اليهود الشريرة، وأنهم سيهزأون به، ويتفلون في وجهه، ويقتلونه، وفى اليوم الثالث يقوم ثانية. لذلك فلكي يمنعهم من أن يتخيلوا أنه من أجل حياة العالم، سيحتمل هو نفسه استهزاء أولئك القتلة وأعمالهم الوحشية الأخرى التي أصابوه بها، بينما يتاح لهم أن يعيشوا بهدوء، وأن يتحاشوا التألم لأجل تقواهم ـ دون أن يكون عليهم لوم في ذلك، وأن يتحاشوا أن يحتملوا الموت نفسه في الجسد إن أتى عليهم، وأنهم لن يلحقهم أي عار إن فعلوا ذلك، فلكي يمنعهم من هذا التخيل فهو يشهد بالضرورة أن أولئك الذين سيحسبون أهلاً للمجد الذي يعطيه هو، ينبغي أن يصِلوا إليه بأعمال شجاعة مناسبة، قائلاً: ” من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني“.

          وهنا أيضًا، ينبغي أن ندهش من محبة المسيح مخلِّصنا جميعًا نحو العالم، لأنه لم يقبل فقط أن يتألم وأن يحتمل عارًا عظيمًا، ويضع نفسه حتى إلى الصليب والموت لأجلنا، لكنه يرفع تابعيه المختارين أيضًا إلى نفس هذه الرغبة الممتازة، أولئك الذين كانوا سيصيرون معلِّمين للناس في كل مكان، ويشغلون وضع القادة لشعوبهم الذين يوكَّلون إلى عنايتهم. لأن أولئك الذين يقامون على خدمة عظيمة يجب أن يكونوا بالفعل شجعانًا وباسلين تمامًا، متسلحين بعقل غير متزعزع وشجاعة غير مغلوبة، وذلك لكي لا يخافوا الصعوبات، وحتى إن أتاهم الموت فإنهم يسخرون من رعبه، ويلاشون كل خوف. وذلك الذي  يتصرف هكذا، فإنه ينكر نفسه، إذ أنه يتخلى عن حياته الزمنية ويحسب اهتماماتها غير مستحقة لأي اعتبار، وذلك بقدر اختياره لأن يتألم لأجل الغبطة والمحبة التي في المسيح.

          هكذا يتبع الإنسان المسيح، لأن صحبة الرسل القديسين كما لو كانت تضع أمامنا، بواسطة قيثارة المرنم، صارخًا إلى المسيح مخلِّص الجميع: ” من أجلك نُمات كل يوم، قد حُسبنا مثل غنم للذبح” (مز22:3س). فهم في هذا أيضًا مثل عمانوئيل، ” الذي  من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي” (عب2:12).

لذلك فإن أولئك الذين كانوا سيصيرون معلمين لكل الذين تحت الشمس، كانوا مرتفعين فوق الجبن وفوق حب العالم الدنيء، واضعين أمامهم كواجب عليهم أن يتألموا لأجل محبة المسيح. وهو نفسه علَّمنا ما هي ميَّزة رسله الذين يحبونه، إذ قال لبطرس المبارك: ” يا سمعان بن يونا، أتحبني؟ ارع خرافي، ارع غنمي” (يو15:21) ” هو الراعي الصالح بذل نفسه عن الخراف” (يو11:10) فهو لم يكن أجيرًا، بل بالحري أولئك الذين خلصوا هم خاصَّته، وقد رأى الذئب مقبلاً، فلم يحاول أن يهرب، فهو لم يحتقر القطيع، بل بالعكس سلم نفسه ليمزقه الذئب لكي يحررنا ويخلصنا لأننا ” بجراحاته شفينا، وهو مجروح لأجل معاصينا” (إش5:53). لذلك، فأولئك الذين يتبعونه، ويرغبون بإخلاص أن يكونوا مثله والذين يقامون على قطعانه الناطقة، فينبغي أن يجتازوا أتعابًا مماثلة. لأن وحوشًا شرسة كثيرة تحيط بهم، وحوشًا عنيفة حقودة، وهم يذبحون بقسوة، ويسرعون بالنفوس إلى هوة الهلاك. لأن الأكثر علمًا ومهارة بين الوثنيين يملكون فصاحة عظيمة، ويُزيِّنون تعليمهم الزائف بلغة جذابة، وهكذا يخدعون بعض البسطاء ويجعلونهم راغبين في المشاركة في مرضهم، ويبتعدون عن الله الذي هو فوق الكل ليعبدوا آلهة بدلاً منه وهم ليسوا بالحقيقة آلهة. هؤلاء أثاروا اضطهادات لا تُحتمل على الرسل القديسين، وكانوا يعرضونهم للأخطار مرة بعد أخرى. لأن بولس المبارك يتذكر الآلام التي أصابته في أيقونية ولسترة، وفى أفسس ودمشق. فإنه مرة يقول: ” في دمشق والي الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكني. فتدليت من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه” (2كو32:11، 33). وفى مرة أخرى يقول: ” إسكندر الحداد أظهر لي شرورًا كثيرة” (2تى14:4). فبماذا يشهد هذا الكارز الكبير، هذا البطل الشجاع الباسل، الذي ازدرى بأعظم الأخطار في كل مكان؟ إنه يقول: ” لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (فى21:1). وأيضًا ” مع المسيح صُلبت، فلست أحيا أنا بعد، بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن في الجسد، أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي” (غل20:2).

          ولكن عنف اليهود كان ينفجر كثيرًا ضد الرسل الآخرين أيضًا، حيث اضطهدوهم، واستدعوهم أمام مجامعهم وجلدوهم بقسوة، وأمروهم أن يصمتوا، ويكفوا عن كرازتهم المقدسة، قائلين لهم: ” أما أوصيناكم وصية أن لا تُعلِّموا بهذا الاسم؟ أي اسم المسيح،  مخلِّصنا جميعًا ـ وها أنتم قد ملأتم أورشليم بتعليمكم” (أع28:5). ولكن بعد أن احتمل التلاميذ اتهامهم العنيف، بسبب محبتهم الراسخة للمسيح، فإنهم خرجوا ” فرحين لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه” (أع41:5). ولكن لو أنهم كانوا جبناء وأذلاء، ويخافون من التهديدات، ويرتعبون من خوف الموت، فكيف كانوا يثبتون؟ أو كيف كانوا يقدمون أولئك الذين دعوا بواسطتهم، كثمار لله؟ لأن بولس الحكيم أيضًا، الذي لم تستطع أي صعوبة أن تغلبه، حينما كان في طريقه إلى أورشليم، وجاء النبي أغابوس وأخذ منطقته، ربط رجلي نفسه، وقال: ” الرجل الذي له هذه المنطقة هكذا سيربطه اليهود في أورشليم“، فأجاب بولس ” ماذا تفعلون تبكون وتكسرون قلبي لأني مستعد ليس أن أُربط فقط بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع المسيح” (أع11:21، 13).

          لذلك كم هو رائع، أن يوصيهم أن يتغلبوا برجولة على كل اضطهاد، وأن يجتازوا التجارب بجسارة، مؤكدًا لهم بيقين أنهم إذ يكونون غيورين هكذا لأجله، فإنهم يصيرون أصدقاء، ويشتركون في مجده. لذلك فإن كان إنسان ما مستعدًا أن يحتمل مخاوف الموت ويزدرى بها، فهل لو ضيَّع نفسه ورحل، أفلا يبقى له شيء مذخرًا له، لأنه فيما هو يضيع حياته، فإنه يجدها بنوع خاص، بينما لو وجد حياته فإنه يجلب الهلاك لنفسه. لذلك، فأي خوف يمكن أن يشعر به القديسون، إن كان ما كان يبدو قبلاً أنه صعب، يتضح أنه مفرح لهم بالحري أن يتحملوه، بينما الحياة العزيزة على الناس، لكونها خالية من الألم، فإنها تنحدر بهم إلى الهلاك وإلى فخ الجحيم، كما يقول الكتاب.

          ولكنه يوضح لنا، أن التفوُّق في محبة المسيح هو أفضل جدًّا بما لا يُقاس فوق أُبَّهة العالم ولذته، وذلك بقوله: ” لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها؟” لأنه حين ينظر الإنسان بشكل رئيسي إلى لذة ومكسب اللحظة الحاضرة، وبسبب هذا يتحاشى الألم راغبًا أن يحيا في متعة، فإنه حتى إن كان له غنى وممتلكات وفيرة، فماذا ينتفع بها حينما يكون قد خسر نفسه؟ ” الكنوز لا تنفع الأشرار” (أم2:10س).

          فإن ” هيئة هذا العالم تزول” (1كو31:7)، ” ومثل ظلال تزول كل تلك اللذات” (حكمة9:5س)، والثروات تهرب من الذين يملكونها، ” أما البـِر فيُنجِّي من الموت” (أم2:10).

          وأكثر من ذلك، فلكي يضع أمامنا بوضوح المكافأة لاستعدادنا للتعب والألم، يقول: ” لأن من استحى بي وبكلامي، فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده ومجد أبيه وملائكته القديسين“. إنه يحقق بهذه الكلمات، كثير مما هو نافع وضروري معًا. لأنه، أولاً، يبين أن أولئك الذين لا يستحون[1]به وبكلامه يلزم تمامًا وبالضرورة أن ينالوا المكافأة التي يستحقونها، وأي شيء يمكن أن يعطينا فرحًا مثل هذا؟ لأنه إن كان هناك بعض الناس الذين يشعر أمامهم الديَّان بالتوقير باعتبارهم مستحقين بسبب طاعتهم، لمكافأة وكرامات وإكليل بسبب محبتهم وولائهم له، والكرامات التي ربحوها بشجاعتهم، فكيف لا نقول نحن إن الذين وصلوا إلى مثل هذه البركات الممتازة، سيعيشون بالتأكيد من الآن في تمجيد وتكريم بلا نهاية.

ولكنه بعد ذلك، يُولِّد فيهم الخوف أيضًا، وذلك بقوله إنه سينزل من السماء، ليس في اتضاعه ومذلته السابقة، مثلنا، ولكن في مجد أبيه، أي في مجد إلهي فائق، والملائكة القديسون يحيطون به.

          إذًا، فكم هو بائس جدًّا ومدمر أن يكون الإنسان مدانًا بالجبن والتراخي حينما ينزل الديان من الأعالي، والرتب الملائكية واقفة بجانبه. ولكن كم هو عظيم ومبارك التذوُّق المُسبَق للغبطة النهائية، أى أن يستطيع الإنسان أن يبتهج بالأعمال التي تمت فعلاً، وينتظر المكافأة عن الأتعاب الماضية. لأن مثل هؤلاء سوف يُمدحون، إذ يقول لهم المسيح بنفسه: ” تعالوا يا مبارَكي أبى رثوا الملك المُعد لكم منذ تأسيس العالم” (متى34:25).

          ليتنا نُحسب نحن أيضًا أهلاً لهذه المكافآت بالنعمة ومحبة البشر التي للمسيح مخلِّصنا جميعًا، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

[1] هنا يفهم القديس كيرلس كلمة “يستحي” بمعنى حسن، ويترجمها بمعنى “يشعرون بالتوقير لـ”

إتـباع المسيح – إنجيل لوقا 9 ج4 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)