آبائياتأبحاث

المقالة11 ج4 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة11 ج4 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة11 ج4 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

المقالة11 ج4 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم
المقالة11 ج4 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

 

السجود والعبادة بالروح والحق

تابع المقالة الحادية عشر

“عن الكهنوت، وإن الكهنوت بحسب الناموس كان ظلاً للكهنوت بحسب المسيح”

 

بلاديوس: بأية طريقة؟

كيرلس: توقف موسى في اليوم الثامن عن ممارسة رتبته الكهنوتية. وإنْ كان هرون قد بدأ الخدمة بالتأكيد، إلاَّ أنَّ موسى لم يصمت، بالرغم من أنَّ هارون أخذ على عاتقه واجبات الكهنوت. لأنَّ زمن كهنوت المسيح يُعتبر ـ قانونيًا ـ هو زمن ما بعد الناموس، أي ما يُرمز إليه باليوم الثامن الذي بمقتضاه صارت قيامة المسيح وبداية العهد الجديد وفق المكتوب: ” إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَة ” (2كو5: 17)، فبظهور المسيح في اليوم الثامن انتهت أعمال موسى. لأننا لا نعبد بعدُ برموزٍ وظلال. لكن التربية من خلال الناموس لم تتوقف، لأنَّ الناموس هو روحيٌ للروحيين، وهو يكرز دائمًا بسر المسيح.

 

إذن، وعد موسى بأنهم سيرون مجد الرب في اليوم الثامن. بمعنى أنَّ الناموس قد أعلن زمن قدوم الرب على الأرض. ويعطي أيضًا أمرًا آخرًا، أنْ يقدم هرون أولاً ذبيحة لأجل ذاته ثم ذبيحة لكل الشعب. هذا الأمر يعتبر مثالاً للأمور الخاصة بنا، وتُعلِن بوضوح ونقاء أنَّ الذين أُختيروا للكهنوت وقبلوا التطهير بالإيمان، يجب بسهولة أنْ يكونوا قديسين وأطهار، أمَّا بخصوص كيف ستصبح الآن طريقة التقديم، فسوف نوضح هذا الأمر بقدر المستطاع.

 

          إذن، فقد ذُبح الثور من أجل تطهير القائمين على الخدمة الكهنوتية، وسُكب دمه على المذبح المقدس، والأحشاء قُدِّمت كرائحة بخور، وحُرقت بقية الذبيحة بالنيران. وقُدِِّم الكبش أيضًا ذبيحة محرقة وفق الناموس. أمَّا الذبيحة التي قُدِّمت من أجل الشعب للتطهير فكانت تيسًا، كلاً من العجل والخروف كانا ذبيحة محرقة، بينما الكبش والثور ذبيحة شكر عن الخلاص (أى ذبيحة سلامة). قُدِّم أيضًا على المذبح دقيقٌ مقدار قبضة اليد على جانب المذبح. ثم قال: ” ثُمَّ رَفَعَ هَارُونُ يَدَهُ نَحْوَ الشَّعْبِ وَبَارَكَهُمْ، وَانْحَدَرَ مِنْ عَمَلِ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ وَالْمُحْرَقَةِ وَذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ. وَدَخَلَ مُوسَى وَهَارُونُ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، ثُمَّ خَرَجَا وَبَارَكَا الشَّعْبَ، فَتَرَاءَى مَجْدُ الرَّبِّ لِكُلِّ الشَّعْبِ 24 وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَحْرَقَتْ عَلَى الْمَذْبَحِ الْمُحْرَقَةَ وَالشَّحْمَ. فَرَأَى جَمِيعُ الشَّعْبِ وَهَتَفُوا وَسَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِم ْ” (لا9: 22 ـ 24).

بلاديوس: ما الذي لديك لتقوله عن هذه الأمور؟

كيرلس: حسنًا، لقد ظهر مجد الرب في اليوم الثامن، بمعنى أن الابن، مجد الله الآب قد ظهر. لأنه هكذا دعاه حين قال لموسى:      ” حَيٌّ أَنَا فَتُمْلأُ كُلُّ الأَرْضِ مِنْ مَجْدِ الرَّبِّ ” (عد14: 21). هذا هو نفسه المذبوح لأجلنا، قد برهن لنا على أننا مقدسين، كأنه حررنا بذبيحة الثور من الخطية غافرًا لنا ما ارتكبناه، غاسلاً إيانا من دنس الإدانة، إنه مثل كبش الملء الذي انبعثت منه رائحةً دهنيةً كريمةً، وهو صار لنا ذبيحة خلاص مقدِّسًا إيانا بدم نفسه. وهو صار دقيقًا ملتوتًا بزيت مقدِّمًا حياته المقدسة، أي ذاته لأجلنا إلى الله الآب.

بلاديوس: إنني أفهم ما تقوله.

كيرلس: أعتقد أنَّ تقديم الذبيحة لأجل هرون ولأجل الشعب يشير ـ جيدًا ـ إلى تكريس القديسين لله. والآن حيث أظهَرَ عمانوئيل ذاته بوضوح، وبواسطته دُعينا إلى القداسة، فنحن مقبولون وقديسون وصرنا كرائحة ذكية مقدَّمة إلى الآب. لاحظ أنني قلت للتو إنَّ رسامة الكهنة قد تُممت وفقًا للناموس، وكانوا بواسطته هو نفسه (أي بواسطة المسيح) وبطرقٍ كثيرة مقدسين. لقد سُلِّم ـ مثل الثور ـ إلى النيران خارج المحلة من أجل غفران الخطايا، ذبحوه مثل الكبش الذي صار ذبيحة محرقة وقُسِّم بالكامل لأجل كل واحد وللجميع، وقدَّسهم ماسحًا إياهم بدمه مثل الكبش أثناء ذبيحة الشكر لأجل الخلاص. وأخيرًا عندما أتى اليوم الثامن والذي فيه لمع بالأكثر مجد المسيح حيث بَطُل الموت وأُبيد الفساد، قدَّم الكهنة والشعوب الثمار إلى الله مكرمين إياه ليس بتقدمات وثنية، بل جاعلين ذواتهم ذبيحة رائحة ذكية، إذ لا يُسّر رب الكل بتقدمات خارجية مثل إسرائيل الجسدي. لأنَّ بهذه الذبائح المقدسة نُقدِّس نفوسنا روحيًا ونقدمها إلى الله مائتين عن العالم وعن السلوك الجسدي متحملين إماتة الأهواء ونحن مصلوبون مع المسيح. وهكذا ننتقل إلى الحياة المقدسة وغير الملومة ونحيا وفق إرادته. مثل هذا الأمر كتبه بولس الرسول قائلاً: ” حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا ” (2كو4: 10). وفي موضع آخر قال: ” إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضًا مَعَهُ ” (2تيمو2: 12). لو تمثلنا بموته وآلامه كما هو مكتوب (انظر رو8: 29)، سنصير شركاء قيامته ومجده.

          هكذا مات المسيح لأجلنا خارج المحلة ـ كما كتب بولس الطوباوي (انظر عب13: 12). إذن، دعنا نخرج نحن حاملين عاره خارج المحلة مذبوحين بنفس الطريقة مثل الثور ونصير محرقة مثل الكبش وسوف ينبعث منا تعليم المسيح كرائحة ذكية إلى الله.

 

          وهذه الذبائح المقدسة كانت تُقدَّم لأجل هارون والذين معه وكل الذين انحدروا منه، بينما كان التيس (ذكر الماعز) هو ذبيحة عن الخطية لأجل الشعب.

 

ولكن ما هو السبب في تقديم الثور ذبيحة عن الخطية لأجل تطهير الكهنة؟ الأمور الخاصة بالكهنة ومنها تقدمات الذبائح والتطهير والتقديس تحتل المكانة الأولى. فالثور هو أكبر جسمًا من التيس، ويشير بذلك إلى عظمة الأمور الروحية.

 

الثور وكبش المحرقة يشيران إلى قوة وعنفوان المؤمنين المقدسين في اسم المسيح. كذلك الثور والكبش يشيران إلى الصبر وشدة الاحتمال، وكذلك إلى ثمار الوداعة، فالثور هو مثال للصبر بينما الكبش مثال للقوة.

 

والدقيق الملتوت بالزيت يُظهر بوضوح وبطريقة رمزية بهاء رجاء الحياة وفق روح المسيح. لأننا لا ينبغي أنْ نحزن أو نبكي في حضرة المسيح، بل نكون مبتهجين وسعداء. لأنَّ هذا ما أراد أنْ يعلنه المرنم بنصيحته حين قال: ” هَلُمَّ نُرَنِّمُ لِلرَّبِّ، نَهْتِفُ لِصَخْرَةِ خَلاَصِنَا” (مز95: 1).

 

          هكذا ينبعث من مجد المسيح نوره النقي واللامع، وسوف يقبل بفرح عظيم ثمار القديسين مثلما نزل الله بكل مجده مثل نار وأكل الذبائح. إنَّ طعامه ولذته هو نجاح أولئك الذين تقدَّسوا بالإيمان حينذاك (أي في العهد القديم) أرسل الله شعلة نار لتسقط فوق الذبائح المشقوقة وتلمس التقدمات، وذلك لأنَّ العنصر الإلهي يحضر دائمًا على شكل طبيعة النار. أمَّا الآن حيث نُقدِّم الذبيحة العقلية لا يلمس تقدماتنا على شكل نارٍ، لكنه يعمل بالروح القدس ويظهر المسيح حيًا لأولئك الذين يريدون أن يصيروا شركاؤه. ونحن نقبل هذا الأمر كحقيقة.

بلاديوس: أنت تتحدث بالصواب.

كيرلس: وعندما يرفع هارون يديه يتبارك الشعب. ولاحظ كيف يفرد هارون يديه ويضعها لتكون على الشعب. وهذا يعني أنَّ هارون الحقيقي بارك الجميع كهنةً وشعبًا، صغارًا وكبارًا وفق المكتوب[1]  واضعًا يديه فوقهم. إن وضع الأيدي يمثل علامةً واضحةً تشير إلى حلول الروح القدس علينا. ولا يوجد وضع الأيدي (وحلول الروح القدس) قبل كهنوت هارون. لأنه وفق كلام يوحنا: ” لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ ” (يو7: 39).

بلاديوس: كلامك مقنع.

كيرلس: وقد حدد أيضًا الطريقة التي بها يجب أنْ يصلي الكهنة مستخدمًا في كلامه طريقة متماشية مع نبوّات مسبقة عن آلام المسيح، قائلاً: ” كَلِّمْ هَارُونَ وَبَنِيهِ قَائِلاً: هكَذَا تُبَارِكُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلِينَ لَهُمْ: يُبَارِكُكَ الرَّبُّ وَيَحْرُسُكَ. يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَرْحَمُكَ. يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَلَيْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاَمًا. فَيَجْعَلُونَ اسْمِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا أُبَارِكُهُمْ ” (عد6: 23 ـ 27).

 

          إذن، فقد أمر أولئك الذين نالوا رتبة الكهنوت أنْ يباركوا الشعب، لكنه أراد أنْ يبعدهم بطريقةٍ مناسبةٍ عن الأفكار الباطلة مُظهرًا لهم أنه يباركهم ليس بيد بشرية، بل يباركهم بنفسه وذلك وفق المكتوب:  ” كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ ” (يع1: 17)، بمعنى أنَّ المسيح هو طريق البركة، وهو مُعطي الخيرات السماوية، والكل من أبينا (الله) يُمنح بواسطته ومنه. أيضًا بولس الرسول يقول: ” نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ” (رو1: 7).

          إذن، فنحن نتبارك في اسم الله، لكن كيف يمكن لطريقة إعطاء البركة هذه أنْ تكون مناسبة؟ سنتحقق من ذلك بطريقة جميلة، إذ مكتوب أنَّ الكاهن الذي يصلي يجب أنْ يضيف قائلاً: ” يُبَارِكُكَ الرَّبُّ وَيَحْرُسُكَ. يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَرْحَمُكَ. يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَلَيْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاَمًا ” (عد6: 24 ـ 26).

          حسنًا، البركة تصون وتُبطل اللعنة وتُعيد تشكيل المخطئ حتى يستطيع أنْ يكون محل ثناء ومدح من المسيح. وبولس الرسول يشهد بذلك عندما كتب: ” مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ ” (أف1: 3 ـ 5).

          أرأيت كيف أنَّ الإنسان الذي طُرد بسبب عصيانه، صار مقبولاً بالتبني عندما نال البركة من خلال المسيح بشركة الروح القدس الذي سمح أنْ ينسكب بغنىً علينا، والذي لم يمنحه للقديسين جزئيًا، بل وضعه داخلنا بكل كماله.

إنَّ ظهور وجه الله علينا، يجلب لنا الرحمة، إذ أننا بمعرفة الله سوف نشترك في الحياة الأبدية. لأنَّ هذا ما قاله المخلِّص إلى الله الآب السماوي: ” هذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ ” (يو17: 3).

فالابنُ، وهو وجه الله الآب الذي ظهر لنا، ولا يمكن أنْ يكون لدينا أي تردد تجاه هذه الحقيقة؛ لأنه هو ختمه ورسم جوهره، وبواسطته وفيه نحصل على معرفة الآب. وبهذه المعرفة يأتي إلينا، لذا يجب أنْ نكون رُحماء؛ لأننا خلصنا بالإيمان وليس من أعمال البر التي نفعلها، لكن بسبب رحمته العظيمة (انظر تي3: 5) ألقينا عن كاهلنا الفساد وأخذنا شكلاً جديدًا مناسبًا لحياة المسيح الجديدة، بسبب رحمة الله.

ولو نقلنا مفهوم حديثنا إلى اليهود، سنتحقق أنهم قبلوا الرحمة الحقيقية عندما أشرق وحيد الجنس عليهم. بمعنى أنَّ الناموس الدائن ضغط عليهم كحمل ثقيل لا يُحمل، إذ عاقب الذين أخطأوا بدون رحمة، لكنهم رُحموا بأعمال النعمة المخلصة، وبالكاد نال البعض منهم هذه النعمة بواسطة المسيح الذي انتظروا مجيئه بشغف مترقبين رؤيته صارخين إلى إله الجميع: ” يَا اَللهُ أَرْجِعْنَا، وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ ” (مز80: 3).

          هكذا رُحمنا كلنا بظهور المسيح. وبالتأكيد، ظهور وجه الله يحمل سلامًا، ذلك السلام الذي يمنحه ويعطيه المسيح لأولئك الذين يؤمنون به. لأنه يقول ” سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ ” (يو14: 27). وعندما رفَّعَ الآبُ الابنَ وأعطاه اسمًا فوق كل اسم (انظر في2: 9) قائلاً له: ” اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي ” (مز110: 1). عندئذٍ أبطل العداوة التي فصلتنا عنه، فاتحدنا فيما بيننا ووجدنا السلام باختيارنا مرة أخرى، إذ قبلنا وصاياه وسلكنا حسب الروح، وبواسطته وبه صرنا شركاء الطبيعة الإلهية (2بط1: 4)، وفي هذه الوحدة ربطنا المسيح. لأنه قال مرة للآب: ” لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا ” (يو17: 21). وبحسب الكتاب ” فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ، لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ ” (1كو10: 17). وكون أنَّ الله الآب يرفع وجهه، أي يمجِّد الابن ونقبل نحن غنى السلام شاخصين نحوه، فهذا ما يوضحه هو نفسه قائلاً:   ” وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ ” (يو12: 32).

بلاديوس: أنت تفكر بالصواب. ” لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ ” (أف2: 18).

كيرلس: هذا ما يقوله لنا الناموس عن الكهنة وعن رسامتهم. يجب على الجنس اللاوى أنْ يتقدس جيدًا وطالما تقدّس بالطرق الواجبة، عندئذٍ يأخذ على عاتقه القيام بالخدمة الكهنوتية التي كُلِّف بها. حقًا يقول في سفر العدد الآتي: ” خُذِ اللاَّوِيِّينَ مِنْ بَيْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَطَهِّرْهُمْ. وَهكَذَا تَفْعَلُ لَهُمْ لِتَطْهِيرِهِمِ: انْضِحْ عَلَيْهِمْ مَاءَ الْخَطِيَّةِ، وَلْيُمِرُّوا مُوسَى عَلَى كُلِّ بَشَرِهِمْ، وَيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ فَيَتَطَهَّرُوا. ثُمَّ يَأْخُذُوا ثَوْرًا ابْنَ بَقَرٍ وَتَقْدِمَتَهُ دَقِيقًا مَلْتُوتًا بِزَيْتٍ. وَثَوْرًا آخَرَ ابْنَ بَقَرٍ تَأْخُذُ لِذَبِيحَةِ خَطِيَّةٍ. فَتُقَدِّمُ اللاَّوِيِّينَ أَمَامَ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، وَتَجْمَعُ كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتُقَدِّمُ اللاَّوِيِّينَ أَمَامَ الرَّبِّ، فَيَضَعُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى اللاَّوِيِّينَ. وَيُرَدِّدُ هَارُونُ اللاَّوِيِّينَ تَرْدِيدًا أَمَامَ الرَّبِّ مِنْ عِنْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُونَ لِيَخْدِمُوا خِدْمَةَ الرَّبِّ. ثُمَّ يَضَعُ اللاَّوِيُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى رَأْسَيِ الثَّوْرَيْنِ، فَتُقَرِّبُ الْوَاحِدَ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، وَالآخَرَ مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ، لِلتَّكْفِيرِ عَنِ اللاَّوِيِّينَ. فَتُوقِفُ اللاَّوِيِّينَ أَمَامَ هَارُونَ وَبَنِيهِ وَتُرَدِّدُهُمْ تَرْدِيدًا لِلرَّبِّ. وَتُفْرِزُ اللاَّوِيِّينَ مِنْ بَيْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ اللاَّوِيُّونَ لِي. وَبَعْدَ ذلِكَ يَأْتِي اللاَّوِيُّونَ لِيَخْدِمُوا خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ فَتُطَهِّرُهُمْ وَتُرَدِّدُهُمْ تَرْدِيدًا ” (عد8: 6 ـ 15).

بلاديوس: الآن فلتوضح لنا جيدًا كيف نفهم طريقة التطهير التي طُبقت على اللاويين.

كيرلس: يا بلاديوس إنها طريقة سرّية وتشير أيضًا إلى المسيح. لأنَّ هذا هو تطهيرنا واغتسالنا من أي دنس، وواهب القداسة يقول: “انضح عليهم ماء للتطهير”. هذا بالتأكيد يعلنه بولس الحكيم قائلاً:    ” لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ، يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، 14 فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ” (عب9: 13 ـ 14)، وحديث الرسول ينطق بالحق؛ لأنه إذا كانت هناك فائدة من الأمثلة والظلال، ويمكنها أنْ تخلِّص (أي تقدس إلى طهارة الجسد)، فكيف لا يفعل الحق ما هو أفضل، أي دم المسيح؟!

          إذن، فماء التطهير الممزوج برماد العجلة يشير إشارةً واضحةً لما يُقال عن موت المسيح، مثلما يصير لنا نحن أنفسنا هذا الأمر بالإيمان أثناء المعمودية المقدسة (أي الموت). لأنه، كما قال أيضًا بولس الرسول نفسه: ” فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ  ” (رو6: 4). وأيضًا في موضع آخر قال: ” حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ ” (2كو4: 10 ـ 11). هذا يعني أنْ يكون المرءُ ميتًا عن العالم ويخضع لإماتة المسيح ويحيا مرة أخرى حياة المسيح. إذن، فرماد العجلة مختلط بالماء، يشير إلى إماتة المسيح التي تتحقق في المعمودية المقدسة.

          يوصي بأنه ـ في هذه الإماتة ـ يجب أنْ يشترك فيها كل الذين ينتمون إلى رتبة كهنوت لاوي، وعليهم أنْ يرفضوا ـ بمفهوم الظلال أيضًا ـ أي نوع من الدنس الجسدي. هذا نراه بوضوح شديد في قص الشعر من كل الجسم. لأن ” كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ ” (عب4: 12)، ذلك السيف الذي يطرح حركات الغرائز التي للجسد من داخلنا، يطرحها عن العقل مثل الأدناس التي تأتي من الشعر والأظافر. هذا الأمر يدعوه الكتاب المقدس ناموس الخطية الذي قد سكن في أعضائنا الجسدية ويتمرد على ناموس ذهننا (انظر رو7: 23). ومثل السيف لا يطرح الشعر تمامًا من الجذور، لكن يقطعه مباشرةً حين ينبت مرةً ثانيةً، هكذا كلمة الله داخلنا، لا تقتطع من الجذر حركة الشهوة الغريزية (لأنَّ القداسة التامة تُحفظ للدهر الآتي)، لكن بالحري تميتها بمجرد أنْ تنبت مرةً أخرى وتبدأ ترتفع داخلنا لتوقظ ناموس الجسد الذي يتوحش في أعضائنا.

          هكذا نزعُ الشعرِ يشيرُ إلى نظافة الذهن، والذي يتمم هذا في داخلنا كلمة الله الفعالة والحادة. كما أنَّ غسلُ الملابسِ يشير إلى طريقة الحياة الخارجية البهيّة والأصيلة. لأنه وفق المكتوب ” مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ ” (رو12: 17). والمسيح نفسه يقول أيضًا: ” فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ” (مت5: 16).

          إذن، من الحتمي أنْ يحاط الكهنة والقديسون الحقيقيون الأطهار داخليًا وخارجيًا بإماتة المسيح، ويتَّحدون معه بالمعمودية المقدسة.

بلاديوس: أنت تتحدث بالصواب.

كيرلس: لقد قال إنَّ الذبيحة التي تُقدَّم لأجلهم يجب أنْ تتكون من ثورين أحدهما ناضجٌ والآخر ابنُ سنةٍ، أي ليِّنًا وطريًا وصغيرًا. الناضج سيكون ثورًا للمحرقة ويقدَّم مع دقيق ملتوت بزيت، والثاني يقدَّم كذبيحة عن الخطية التي فعلوها وسيُحرق خارج الخيمة. لأنه هكذا تكتمل تقدمة الذبائح عن الخطايا.

وبالاثنين أيضًا يُرمز إلى المسيح كليّ القداسة بثور المحرقة، لكي يشتم الله رائحته الذكية لأجلنا مقدِّمًا إلى القديسين النعمة وفرح حياة الرجاء. لأنه مع الثور يُقدَّم دقيقٌ ملتوتٌ بزيت، الأمر الذي سيتبعه على أية حال أولئك الذين أحبوا الحياة بحسب المسيح. كذلك قُدِّم المسيح كثورٍ يُحرق في النار لأجل خطايانا، إذ مكتوب: ” وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا ” (إش53: 5).

ولاحظ إنَّ الثور الناضج يصير ذبيحة محرقة، بينما الثاني ابن سنة يُذبح من أجل الخطايا. هكذا بالاثنين ـ بطريقة روحية ـ تضع في عقلك الواحد، من جهة كمال الفضائل وذهنيًا الأكثر ذكاءً، ومن جهة ثانية الذي ذُبح ببساطته وطهارته. لأنه يقول: ” وَأَنَا كَخَرُوفِ دَاجِنٍ يُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ ” (إر11: 19). أما أنَّ الجنس الكهنوتي يُقدَّم تكريسًا إلى الله لأجل الكل ومن الكل، فهذا ما نراه في وضع الأيدي عند الإسرائيليين. لأنه يقول ” فَيَضَعُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى اللاَّوِيِّينَ ” (عد8: 10).

          وهذا الأمر يفعلونه ليس بالتأكيد من أجل أنْ يباركونهم لكن بوضع الأيدي يعلنون أنَّ الله هو الذي يرفع خطايانا، وهو الذي قدَّم نفسه ذبيحةً لأجلنا ” إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ ” (كو2: 14)، أي كما أنَّ اللاويين يضعون أيديهم فوق رؤوس الذبائح لأجلهم كرمز للمسيح من خلال الذبائح التي تُذبح لأجل الشعب، هكذا يجب أن تدرك المعنى اللاهوتي لرسامة اللاويين الذين أُختيروا من جميع الشعب. أى أن الشعب كله بمجموعهم قد وضعوا اللاويينَ بدلاً من ذواتهم كمختارين لخدمة الله، ووضعوا أيديهم فوقهم. ومن وقتها صار طقس وضع الأيدي موجودًا. أما الآن حينما الأمور سارت إلى الأفضل، فقد مُنح للجمع (أي للشعب) ـ بطريقةٍ فائقةٍ ـ فرصةَ ترشيح أولئك الذين يدعون من المسيح إلى الخدمة المقدسة قائلين لهم أثناء الإجتماع الكنسي “إنهم مستحقون”. وهذا الأمر (أي الرسامة للخدمة المقدسة) يتم أمام الجمع الكنسي مثلما حدث للأقدمين عندما وُضعت الأيادي على اللاويين بالقرب من الخيمة المقدسة.

ولذلك، يكون واضحٌ جدًا إنَّ الرسامة إنْ لم تتم في الكنيسة وبحضور الشعب تكون مخالفة لإرادة الله وخارج القوانين المقدسة. وبمجرد تتميم الرسامة يبدأ اللاويون إتمام واجبات الخدمة.

[1]  انظر مز 114: 20 ـ 21

 

المقالة11 ج4 – السجود والعبادة بالروح والحق ج6 – ق. كيرلس الاسكنري – د. جورج عوض إبراهيم

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)