عام

تابع دراسة عن التقليد – كيف نفهم الكتاب المقدس (3) ما هو التقليد !

تابع دراسة عن التقليد الكنسي
الكتاب المقدس والتقليد – الجزء الثالث
للعودة للجزء الثاني أضغط هنا.

أولاً: ما هو التقليــــــــــــــد


  • أولاً: ما هو التقليــــــــــد

 

(1) مقدمــــــــــة

 

معنى كلمة تقليد في أصولها اليونانية تأتي بمعنى: يُسلِّم، يدفع إلى، يبذل، يستودع، والكلمة في اختصاصها تُفيد على وجه الدقة تسليم التعليم، أو تمرير التعليم من المُعلِّم إلى التلميذ، وهي كمصطلح مسيحي تخص تسليم التعليم المقدس حسب الإيمان المستقيم في سرّ التقوى بحسب إعلان الروح القدس، كما خطه الله بحسب التدبير، وهذا كله تحت مُسمى التراث المسيحي الحي النابض بالروح القدس، روح الحياة الرب المُحيي…

 

وعموماً وجود تراث ما هو إلا حقيقة مشتركة بين كل الجماعات البشرية التي لها تاريخ حضاري، والتي تحقق ارتباطها بالأفكار والعادات والقوانين التي تُظهر قوة حضارتها، فلا حضارة بدون تراث قوي يُظهرها تنتقل من جيل لجيل يأخذها ويطورها ويُقننها، إذ أنه يستفيد منها كخبرة سُلِّمَت له، ثم بدوره يضبطها حسب تطور المجتمع الذي يعيش فيه لتتناسب مع تجديده ونموه، ويُضيف عليها بالتالي – ما يوسعها ليضمن ثبوتها محافظاً على التراث الذي سُلم له بكل دقة وتدقيق، فهو يطور بدون ان يلغي أو ينقض ما استلمه…

 

وفي الأمور الدينية خاصة يتم تسليم المعتقدات والطقوس وصيغ الصلوات والألحان والترانيم… الخ، بعناية وتدقيق فائق. وفي كل الجماعات التي كانت تُحيط قديماً بشعب إسرائيل، يندمج التراث الديني فيها في مجموعة تقاليد بشرية تتألف منها حضارة تلك الشعوب…

 

ومع ذلك المعنى للكلمة فإن في عصرنا الحاضر نُستخدم كلمة “تراث” بمعنيين مختلفين: المعنى الأول: [ يعني مضموناً ما، منقولاً من عهد إلى عهد (مثال ذلك: تراث مصر الثقافي) ]، والمعنى الثاني: [ طريقة نقل تتميز بوسائلها الثابتة، ولا تلعب فيها الكتابة إلا دوراً ثانوياً، بل وربما تكون معدومة ]، وهذان المعنيان لكلمة تراث هما معنيان يكملان بعضهما البعض، يعني قد نجدهما يحملان المعنى العامل لكلمة تراث أو التقليد…

 

على أن التراث الخاص بوحي الكتاب المقدس، إذا ما قارنَّاه بهذا الواقع العام للكلمة، فهو يُقدَّم في وقت واحد، بعض الأمور الشبيهة وبعض الأمور الخاصة للغاية، ونجد أن الكتابة لم تكن في الأساس وفي البداية ليست هي الأساس في التقليد المسيحي الحي، بل الأساس في التقليد الإلهام بوحي الروح القدس، يعني الإلهام والوحي يسبقان عادة الكتابة، لذلك التقليد المسيحي لا يتعارف عليه بمجرد الكتابة بدون إعلان الروح وإلهامه، حتى للقارئ أو الباحث، لأن أي باحث أو قارئ للتقليد لن يستطيع أن يفهمه فهماً صحيحاً إلا لو امتلئ بنفس ذات الروح ودخل في حالة الإعلان الإلهي بالروح القدس…

 

(2) العهد القديم: أولاً: نقل وديعة مُقدسة

 

ليس من شك أن هُناك تسليم وديعة مُقدسة في العهد القديم، وبالتالي تراث في إسرائيل، أي في عهد الشريعة، وتشمل هذه الوديعة، طبقاً لنظام شعب الله في ذلك الزمان، كل مظاهر الحياة، بحيث تتضمن ذكريات التاريخ والمعتقدات الناشئة عنها، وصيغ الصلاة ونصائح الحكمة التي تُنظم الحياة العملية، كما أنها تتضمن الطقوس وشعائر العبادة وتمتد إلى العادات والتشريع والقوانين… الخ.

 

ونقل هذا التراث وامتداده، أي تسليمه، من جيل لجيل، هو الذي يُعطي شعب إسرائيل طابعه الخاص، ويضمن استمراريته الروحية، منذ عصر الآباء حتى أعتاب العهد الجديد، وهذا التراث هو وديعة مقدسة، ليس لأنه مجرد تراث الأجيال السابقة فحسب، كما هو الحال في جميع التقاليد البشرية والتي تختلف من حضارة لأخرى، بل لها طابعها الخاص والمتميز عن أي حضارة أخرى، لأن لها أصل إلهي، إذ أن مصدر هذا التقليد أي التراث، هو الوحي الذي يأتي بإلهام وحكمة سماوية من عند أبي الأنوار، ولكنه يخط خبرة تُرى وتُلمس في الواقع العملي المُعاش في شعب إسرائيل، لأن الله ليس إله الكلام، بل هو إله الفعل والعمل، لأن الله يتكلم بوعد يلتزم بان يُحققه مهما ما حدث في الزمن أو التاريخ، قد يتأخر في التنفيذ حسب زمان الإنسان وإدراكه، ولكنه حتماً يتم تحقيقه حسب قصده الذي رسمه، أي حسب التدبير…

 

عموماً استندت كل المعتقدات عن شعب الله في العهد القديم، على الوحي الذي أعطاه الله لبني إسرائيل بواسطة مُرسليه من الأنبياء أو القادة المُلهمين، كما ارتكزت الشرائع والقوانين الذي ينتظم تحتها كل الرسوم الوضعية المُعلنة باسم الله الحي بواسطة المُعينين كمؤتمنين على تتميم مقاصده، لأن الله يُعلن قصده لمن يختارهم ليكونوا هم الوسطاء بينه وبين الشعب مُعلنين له القصد الإلهي ليسيروا حسب ما يتفق مع أوامره ووصاياه لتحقيق الغاية من اختيارهم ليكونوا شعباً مقدساً له يعلن من خلاله اسمه وسط جميع الشعوب ويحقق مقاصده عن طريقهم…

 

ومع أن هذه العناصر المستندة على الوحي والمستمدة منه، لا تنفي بالطبع وجود تشابه إلى حدٍ كبير بينها وبين بعض العناصر الأكثر قِدماً موجوده في الأوساط الشرقية القديمة، الذي أُعطى شبهها لشعب إسرائيل ولكنها بروح مُغايره لما قد تتطبع به الشعوب المختلفة، لأن ما يُعطيه الوحي حتى لو تشابه مع بعض القوانين والوصايا الوضعية عند باقي الشعوب، ولكنه هنا يجعلها ذات طابع مُقدس خاص للغاية لأن من خلاله يُعلن الله ويكشف عن طبيعته، لأن باقي الشعوب بسبب ملامح الله التي توجد فيهم كبشر، وذلك حسب نعمة الخلق، وضعوا قوانين إنسانية قد يُطابق بعضها إعلانات الله لشعب إسرائيل، ولكنها لضبط المجتمع وليس بغرض إعلان الله ومعرفة طبيعته، والدخول معه في علاقة عهد ….

 

عموماً بعد إظهار علاقة التراث (التقليد) بالوحي، الذي يُعطيه أصالته ويؤكد سلطانه، نستطيع القول أن تُراث شعب إسرائيل يتميز بصفتين متكاملتين، أولاً من جهة ثباته، إذ قد تحددت عناصره الأساسية، فيما يتعلق بالعقيدة، والشرائع، والعبادة، والسلوك، وثانياً، من جهة الاستمرار النمو، فنرى أن الوحي نفسه يتدرج بشعب إسرائيل من فهوم لمفهوم ويتوسع في كل الإعلانات الإلهية، وذلك طبقاً لحاجات زمانهم وظروفهم الواقعية وحسب قدراتهم في الاستيعاب، مثلما يُربى الطفل وكلما ينمو يأخذ أكثر ويعرف ما هو أعمق بسبب أن إدراكه يتوسع حسب ما تعلم وعاش خبرات في حياته، ويتبع هذا التدرج والنمو سير الأحداث والتاريخ، فيدخلهم من خبرة لخبرة، ويجعل التقليد حي قائم مثل البناء، بوضع حجر على حجر وطابق فوق طابق، إلى أن يُكتمل البناء وتتم كل مقاصد الله في التاريخ، لذلك نرى أن الوحي وعمل الله عموماً لم يخضع لمصادفات التطور الثقافي كما يحدث في التقاليد الدينية الأُخرى، حيث تسود ظاهرة التوفيق بين شتى المذاهب أحياناً (syncretism). وهذا بالطبع دليل قوي على أصالة التقليد الحي المُلهم بالروح عند شعب إسرائيل كما هو ظاهر في العهد القديم…

 

ثانياً: طريقة النقل

 

عادة التراث لم يكن في الأصل مكتوباً ولم يكن هناك كلمة مُسجلة تُسمى التقليد أو عادات الشعوب، فلم يكن في الأصل والأساس الاعتماد الرئيسي إلا على الكلمة المنطوقة، ولم يكن عند مُحبي الله الذين لهم علاقة قوية ووطيده به استطاعة كتابة أحاسيسهم أو خبراتهم مع الله، ولكنهم كانوا عادة يرووها بأفواههم مباشرة لأبنائهم وذويهم، فعادة الآباء والأمهات في الشرق القديم (ولا زال لهذا اليوم) هو أن يقصوا على أبنائهم أخبار آبائهم وأجدادهم من أعمالهم وبطولاتهم وخبراتهم التي استلموها منهم بالسمع وأحياناً برؤية الأحداث نفسها بسبب قرابتهم وقربهم منهم، وهذا يشمل كل الآباء القدماء في الكتاب المقدس منذ بداية ظهور آدم إلى ظهور موسى كاتب التوراة، وبالطبع هذه عادة لا تقتصر على العبرانيون أي شعب إسرائيل فقط، لأن كل شعب من الشعوب بل وكل جماعة، عند المصريين كما البابليين وكل شعب وكل جماعة في كل مكان في بقاع العالم القديم كله…

 

ورواية القصص – قديماً – لم تكن فقط لمجرد التسلية مثل اليوم، بل كانت في الأساس تهدف إلى حفظ ثقافة الشعب، وإتاحة الفرصة لمعرفة من هم وكيف اختلفوا عن جيرانهم وما هو تميزهم عن الآخرين، ومع الترحال الذي كان منتشراً في هذه الأيام انتقلت قصص كل شعب وتراثه وثقافته للشعوب المجاورة بسبب ترحال التجار أو البعض لأي سبب ان كان، والذين كانوا بدورهم يتحدثون عن شعبهم المُميز وثقافتهم المختلفة عن باقي الشعوب… وهكذا تناقلت الأخبار وانتقلت الثقافات من شعب إلى شعب ومن جماعة لأخرى…

 

وعلينا أن نعرف أنه لم تكن القصص هي الأسلوب الوحيد الذي من خلاله يتم تسليم ثقافة الشعب للأجيال المتعاقبة أو نقلها للشعوب المجاورة، بل كانت هناك أساليب أدبية مختلفة مثل الأمثال (كما هي معروفة لدينا اليوم باسم الأمثال الشعبية والتي هي موجوده عند كل شعب من الشعوب حسب ثقافته وتراثه)، والصلوات والقصائد الغنائية، والأغاني العامة، والقوانين، والشرائع، والأعراف، والقصص التي تشرح أسباب تسمية الأشخاص أو الأماكن المختلفة… الخ.

 

هذا هو التقليد الشفهي الذي ينتقل من جيل لجيل، ويظهر فيه خبرات الأولين التي يسلمونها بدورهم لأبنائهم في كل جيل، وبالطبع عند كل الذين لهم علاقة حية مع الله، تميزوا في أنهم استودعوا خبرات حقيقية عاشوها لأولادهم، لكي بدورهم يحفظوها في قلوبهم كخبرة يستفادوا منها ثم يبنوا عليها خبراتهم الخاصة مع الله فيحملون خبرة على خبرة، وتُصبح تراث غني يزيد في اتساعه ليُسلم للأجيال المتلاحقة ويستمر في التوسع والانتشار، إلى أن ظهرت الكتابة، وأتى موسى هذا الي دبر له الله أن يتعلم كل حكمة المصريين ويدخل مدارسهم التي تخص الأمراء ليدرس فيها أصول الكتابة لكي يسجل لنا الأسفار الأولى أي التوراة …

 

1 – أساليب أدبية وتأثير البيئة عليها:

 

عموماً – كما رأينا – ليتم نقل هذه الوديعة عند شعب العبرانيين، أي التراث أو التقليد، لا بد من استعمال بعض الأساليب الأدبية من قصص وشرائع وأحكام وأناشيد وطقوس… الخ، وحيث أن العُرف هو الذي يُحدد هذه الأساليب، لذلك فهي تُعتبر من هذا الوجه تقليدية.

 

إلا أن الجزء الكبر منها يُشبه الأنواع الأدبية المُستخدمة عند حضارات الشعوب المجاورة (كنعان، ما بين النهرين، مصر). ومع ذلك فلتقليد بني إسرائيل التعليمي ما يميزه عن باقي الشعوب، لأنه يحمل في طياته خبرات واقعيه مع الله الحي الذي يُعلن ويُظهر ذاته بطرق مختلفة ومتنوعة، هذه التي نراها واضحة لو تجولنا في العهد القديم كله…

 

فالكتاب المقدس يستعمل أسلوب خاص في معالجة بعض المواضيع العامة، كالشرائع أو القوانين والنبوات، كما أن له ذخيرة أصيلة من التعابير والصور التي يلجأ إليها كل الكتبة المُلهمين من الله، وذلك بدرجات متفاوتة وقوالب مُحببة تُلائم الرسالة التي ينبغي لهم أن ينقلوها من الله للشعب الذي اختاره ليُظهر فيه شخصه، ومن هُنا، تبدو ضرورة دراسة هذه الأنواع الأدبية بدقة لفهم التراث نفسه، من حيث أنها تُساعد على فهم عمقه والغرض منه بطريقة حية، لأن التراث المُعبَّر عنه بالتقليد، له قاعدة وأساس يهدف للبناء، إذ أن قاعدته وأساسه هو الله الحي، والهدف منه هو إعلان مشيئة الله وإرادته بغرض الوصول للحياة مع الله في شركة تتم بإيمان حي عامل بالمحبة…

 

وتساعد هذه الدراسة في التعرف على القنوات التي بها يتم نقل التراث خلال الأجيال. ففي الواقع تتأثر هذه الأساليب بالبيئة التي ينتشر بينها هذا التراث، وبالوظائف التي يقوم بها في حياة شعب الله، من تعاليم الكهنة حُرَّاس الشريعة والقائمين على شعائر العبادة بكل دقة ومهابة، ومن كرازة الأنبياء ومن حكمة الشيوخ والكتبة… الخ، فلكل بيئة تقاليد تخصها، وقوالبها الأدبية المُحببة، ومع ذلك، يُمكن أن نُلاحظ الكثير من التداخل فيما بينها بسبب الصلات بين مختلف البيئات والحرص على الوحدة الأساسية للتراث الإسرائيلي نفسه.

 

وبمعنى أبسط، لو نلاحظ التدرج في حياة إسرائيل واكتسابه الخبرات بكل ما مر به من رحلات واستقرار في أزمنة مختلفة في العهد القديم، سنجده اكتسب بعضاً من تراث الشعوب من جهة الموسيقى والأشعار وخلافه، وقد مد يده الله وسط كل هذا لا لكي يلغيه ولكنه اعطاه امتداد روحي لاهوتي حي، ليكون شعبه ممثلاً لكل الشعوب ويأخذ منهم ما هو صالح ليتم روحنته ويُقدم لله الحي، وحتى الصناعات والأدوات التي أخذها في رحلاته استخدمها في النهاية ليكون شعب جامع لكل الحضارات المختلفة، واستطاع بكل هذه الخبرات ان يبني مدن ضخمة ويتفوق على باقي الشعوب لأن الله معه، وبكل الأدوات التي اكتسبها ثبت تراثه واستطاع أن يُسلم تقاليده من جيل لجيل بقوة أكثر من أي شعب آخر الذي نجده اندثر تراثه واصبح ماضي وانتهى، وفي الحاضر مجرد آثار …

 

عموماً ما يهمنا الآن هو أن نعرف أن مواد التراث قد انتقلت في البداية بطريقة شفهية، تحت أشكال تتلاءم مع نوع هذا النقل: [ قصص أحداث دينية قد ترتبط معظمها بمزارات مقدسة، أو أعياد، أو أماكن محددة، صيغ تشريعية، طقوس خاصة أو عامة، أناشيد، نماذج صلاة، خُطب كهنوتية أو نبوية، حكم وأقوال مأثورة… الخ ]، وأخيراً، في إطار هذا التقليد الشفهي، تنشأ نصوص مكتوبة مقتبسة منه في معظمها، وطبعاً لا يُقتبس منها لمجرد الاقتباس، بل يُكتب منها ويدوَّن حسب إلهام الروح عينه الذي أعطاها: [ لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أُناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ] (2بطرس 1: 21)

 

وعلى هذا النحو يتبلور التراث، في كُتب مقدسة لها أهميتها عند كل من يريد ان يحيا لله ويعبده بإخلاص إيمان ومحبة حقيقية، ولأنها قد وُضِعَت بإلهام من الروح القدس، فهي تُقدِّم لشعب الله قاعدة إلهية حية لسلوكه وحياته ليكون إيمانه صحيحاً وحياته في شركة مع الله الحي الذي يُعلن له ذاته في حياته الشخصية والعامة مع باقي الشعب المختار…

__________يتبــــــــــــــع__________

في الجزء الرابع سنتكلم عن التقليد في العهد الجديد