إلحاد

نقد مختصر لكتاب د.ستينجر : الله الفرضية الفاشلة

نقد مختصر لكتاب د.ستينجر : الله الفرضية الفاشلة

نقد مختصر لكتاب د.ستينجر : الله الفرضية الفاشلة

نقد مختصر لكتاب د.ستينجر : الله الفرضية الفاشلة
نقد مختصر لكتاب د.ستينجر : الله الفرضية الفاشلة

 

 

هذا نقد مختصر لكتاب د.ستينجر “الله ,الفرضية الفاشلة” , بقلم أحد علماء الفيزياء إدكار أندروز في كتابه “من خلق الله؟”

المرجع : من خلق الله؟ البحث في نظرية كل شيء –إدكار أندروز ,ترجمة ومراجعة :هدى بهيج سامي ر.مورغان, مركز مورغان للنشر والإعلام –ط1 (2014),صـ69-82

 

باحثون وأفكار مغلوطة 

“لقد طارد داروين الله وأخرجه من الوساوس القديمة لعمل الأحياء , وهرع بحثاً عن الأمان في حُجر الفيزياء .فأُخبرنا أن قوانين وثوابت الكون شديدة الصلاح بحيث إنها من المستحيل أن تكون حقيقية :فالنظام قد تناغم بشكل حاذق لكي يسمح بالتطور الذي أنتج الحياة .كان الأمرُ يحتاجُ إلى فيزيائي جيد لكي يُظهر لنا الخطأ ….لكن فيكتور ستينجر دفع بحشدٍ من القوارض النشطة أسفل آخر ثقب ترباس رئيسي ,وهكذا لم يجد الله ملجأ يحتمي به”.

ريتشارد داوكنز ,في مدح الله على الغلاف الخلفي لكتاب The failed hypothesis,بقلم فيكتور ستينجر.

 

 

في الفصل السادس سنتمكن من السيطرة على المهمة الخطرة الخاصة بتعريف “الله”.لكن دعونا أولاً أن نقوم بتغيير ممتع ,بالحديث عن القوارض والمغالطات .القوارض هم اختراع خيالي لريتشارد داوكينز في المقطع سالف الذكر .لكن المغالطات تأتي من فكتور ستينجر ,مؤلف كتاب

God: the failed hypothesis: how science shows that God does not exist [1]

 

دعني أوضح أمراً ما –هو أنني لم أؤلف كتابي هذا رداً على شخص آخر . فبينما الكُتب المؤلفة للرد على كُتب أُخرى لها وظيفة مُهمة ,فقد كنت أشعر دائماً أنها ترد مؤلفيها على أعقابهم . فالفرضية القوية ,مهما كانت صارخة,تبدو دائماً أنها تربح فرضيتها النقيضة المدروسة –ربما لأن التأكيد الايجابي تكون له “جاذبية جنسية” أعظم من الرد السلبي.ومع ذلك لئلا يتم اتهامي بتجاهل القضية المضادة لفرضيتي ,فسأقوم باستثناء ,وسأخصص هذا الفصل للرد على تأكيد فيكتور ستينجر بأن العلم يثبت عدم وجود الله. حتى ريتشارد داوكينز لم يذهب إلى مثل هذا الأمر –وشعر أنه مجبر على جمع كل أنواع الحجج الأخلاقية ,والفلسفية ,والتاريخية ,والاجتماعية في سعيه لإثبات أن الله مجرد “وهم”. فلماذا كان عليه أن يفعل ذلك إذا كان يعتقد أن العلم يمكنه القيام بهذه المهمة الهدامة بمفرده تماماً؟

 

تسلق جبال إفرست

قبل أن نبحث بالتفصيل افتراض د.ستينجر ,يجب ذكر بعض المُلاحظات القليلة العامة .لقد أشرنا بالفعل في الفصل السابق إلى أن عالم الحفريات ,ستيفن جي جولد ,الذي كان له وزنه في شرح العلوم لجماهير العامة ,استبعد فكرة أن العلم “يظهر أن الله غير موجود”-أو أن العلم يمكنه القيام بذلك على الإطلاق ,وكان جولد لا أدرياً يميل إلى الإلحاد .وأنني أشعر أن د.ستينجر ربما يكون مثل رجل يتسلق قمة جبال إفرست .-بشجاعة لكن بمفرده نوعاً ما .والحقيقة أنه حتى الأكاديمية الأمريكية الوطنية للعلوم ذات المقام الرفيع قد سجلت هذا التصريح التالي :”العلمُ هو وسيلة للمعرفة عن العالم الطبيعي.وهو قاصر على تفسير العالم الطبيعي من خلال الأسباب الطبيعية.لذلك لا يمكن للعلم أن يقول أي شيء عما هو فوق طبيعي .فمسألة وجود الله أو عدم وجوده هي أمر يقف العلم تجاهه على الحياد “[2].ولا بدّ أن ستينجر يختلف مع هذا التصريح ,ولكن اختلافه هنا هو مع المجتمع العلمي بأكمله, أكثر منه مع أولئك الذين يؤمنون بالله.

لذلك,مرة أخرى,إذا كان العلم يثبت عدم وجود الله ,فكيف لم يتمكن معظم العلماء الرواد على مدى المئتي العام الماضية من ملاحظة ذلك أبداً؟ يتراوح هؤلاء العلماء ما بين مسيحيين يؤمنون بالكتاب المقدس –مثل مايكل فارادي (1791-1867),وجيمس كليرك ماكسويل (1831-1879),وأرنو بينزياس (قبل 1933)-وحتى عدد لا حصر له من العلماء الذين يؤيدون مفهوم ما من التسامي .ومن ضمن هؤلاء الأخيرين كان ألبرت اينشتاين (1879-1955) الذي رغم رفضه لفكرة وجود إله شخصي ,ويمكن وصفه بأنه من القائلين بوحدة الوجود ,إلا أنه يشكو قائلاً,”بالنظر إلى مثل هذا التجانس والانسجام الموجود في الكون ,الذي يمكنني أنا بعقلي البشري المحدود أن أدركه ,لا يزال يوجد أناس يقولون إنه لا يوجد إله .لكن ما يغضبني حقاً هو أنهم يقتبسون من كلامي لتدعيم آرائهم هذه”[3]

 

جيمس جول (1818-1889),الذي طرح أول قانون للديناميكا الحرارية (عن حفظ الطاقة) وقام بإسهامات مهمة في النظرية الحركية للغازات ,لم يكن لديه شك في هذا الأمر :”من الواضح أن التعرف على القوانين الطبيعية لا يعني أقل من التعرف على فكر الله الذي يتم التعبير عنه فيها”.

كما أن ستيفن هاوكينج قبل (قبل 1942),في فصله الأخير من كتاب A brief history of time,يستخدم كلمة الله ثماني مرات في أربع صفحات من النص .وبينما لا يعلن عن نفسه بأنه يؤيد مسألة وجود الله ,فإنه يعترف بوضوح بإمكانية هذا الأمر ,وفي كل مرة يستخدم اسم الله بطريقة جادة.

ويعلن مارتن ريس (الذي أصبح رئيساً للجمعية الملكية عام 2005),”دعون أقول إنني لا أرى أي تعارض بين العلم والدين “.ويضيف,”إنني أذهب إلى الكنيسة مثل الكثيرين غيري من العلماء ,كما أشترك مع أكثر الأشخاص تديناً في الشعور بالغموض والرهبة من الكون ,وأريد أن أشارك في الطقوس والممارسات الدينية لأنها شيء يمكن لكل البشر أن يشتركوا فيه “[4].ليس الهدف هو أن مارتن ريس يذهب إلى الكنيسة , أو حتى أنه يؤمن بالله ,بل المقصود هو أنه لا يرى تعارضاً بين العلم والإيمان .ومثلُ هذا الصراع كان لا بُدّ من وجوده لو كان العلم يثبت عدم وجود الله .الحقيقة هي أن ستينجر لا يبذل إلا محاولات ضئيلة لإثبات أن الله غير موجود ,إلا أنّ جدله الفعلي هو أن العلم لا يستطع أن يثبت أن الله موجود –وهذا أمر مختلف تماماً .فيبدو أن هناك خلطاً واضحاً في ذهنه بين هذين الزعمين.

 

المغالطة الأولى: كل الفرضيات علمية

يبدأ د.ستينجر فرضية كتابه بما يبدو للوهلة الأولى أمر واضح بشكل يثير للإعجاب .فيقول , “سأبني تحليلي على الجدل بأن الله يجب أن يكون قابل للفحص بواسطة الوسائل العلمية ,بسبب حقيقة أنه من المفترض أن يلعب مثل هذا الدور المحوري في تسيير الكون وحياة البشر .إن النماذج العلمية الموجودة لا يوجد بها مكان يشمل الله كمكوّن ,لكي نتمكن من وصف ملاحظاتنا عنه لذلك فإذا كان الله موجوداً فلا بدّ أن يظهر في مكان ما داخل فجوات أو أخطاء النماذج العلمية.”[5]

ويقول أيضاً :”بقدر ما يمكننا أن نفهم من خلال المعرفة العلمية الحالية ,يمكن وصف الكون الذي نلاحظه بحواسنا وبالأدوات العلمية من ناحية المادة والعمليات المادية وحدها.”[6]

ومع ذلك, يقول مرة أخرى, “فرضية هذا الكتاب هي أن الفرضية فوق الطبيعية بوجود الله هي قابلة للفحص والاختبار ,وقابلة للتحقق من صحتها أو بطلانها بواسطة الوسائل العلمية المؤكدة”.[7]

لكن الوضوح الظاهر  لهذه العبارات وهمي , وهذا لأن هناك انتقالات ماكرة بين هذه التصريحات الثلاثة .فهو يوحي بالتالي بأن الله يجب أن يكون قابلاً للفحص والتحقق: (1) بواسطة “النماذج” العلمية ؛ (2) بواسطة المقاييس العلمية ,أي بواسطة “حواسنا وأدواتنا العلمية ” ؛ و (3) بواسطة “وسائلنا ” العلمية. هذه ثلاثة مزاعم مختلفة تماماً- مرتبطة نسبياً بالنماذج ,والمقاييس ,والوسائل – وبالانتقال بسرعة بين هذه وهو يطوّر جدله , يقوم د.ستينجر (ربما عن غير قصد) بخداع القارئ الغافل .في الأوساط الأقل احتراماً ,يطلق على هذا خدعة البطاقات الثلاثة.

ولكنه قد يعترض بالطبع بأنه يتبنى ببساطة كل عناصر العلم في تحليله , لكن هذا لا يكون صحيحاً إذا كانت النماذج والمقاييس والوسائل هي جميعها اعتبارات مستثناة من الله.وعندها سنصل إلى نفس النتيجة التي وصلت إليها الأكاديمية الأمريكية للعلوم –وهي أن العلم ليس لديه ما يقوله عن الله .ومع ذلك ,تماماً كما هو الحال في خدعة البطاقات الثلاثة ,حيث تكون هناك بطاقة واحدة هي المميزة ,هكذا أيضاً نجد في جدل ستينجر أن وسائل العلم تختلف عن نماذجه ومقاييسه .فوسائل العلم , كما يؤكد , تسمح لله بالدخول إلى ردهاته المقدسة , بينما نماذجه ومقاييسه تستبعده.

وهذا يجعله يكسب الأمر من ناحيتين ؛فالله يجب ان يكون قابلاً للفحص بواسطة العلم بسبب وسائله , ولكنه يفشل بفضل نماذجه ومقاييسه .أبعد من أن يكون الله هو الذي يسعى عن عمد لطلب ملجأ في جحر العلم ,فإن ستينجر نفسه(يتبع داوكينز) هو الذي يحاول أن يقحم الله في حفرة العلم منهجياً .ثم يقوم بعد ذلك بإغلاق كل المخارج الأخرى , ويقوم ببحث دقيق في الحفرة , وعندما لا يتمكن من العثور على الإله ,يعلن أنه غير موجود .لكن لو تكبد د.ستينجر عناء أن ينظر فوق كتفه قليلاً , ربما تمكن من رؤية صاحب الأرض (الذي يُدعى الله) يقف هناك.

دعونا نعود إلى تصريحات ستينجر الثلاثة .الأول , أبعد من أن يكون دليلاً على عدم وجود الله , يقول ببساطة إن العلماء اليوم يختارون ألا يذكروا الله  عندما يبنون نماذج علمية للكون المادي. وهذا أمر لا يثير الدهشة ,لأن الله ليس كياناً مادياً خاضعاً لبنية النموذج . إن النموذج الحسابي للنظام الشّمسي لا يذكر , ومع ذلك , عندما جوهانز كيبلر (1571-1630) القوانين الحسابية لحركة الكواكب, يقال أنه صرخ :”آه يا إلهي ,إنني أفكر مثلك!”. لا يوجد يمثل الله في معادلات كيبلر , لكن هذا لم يوقفه أن ينسب القوانين نفسها إلى الفكر الإلهي[8] . فكّر معي في ذلك , لا تحوي قوانين كيبلر أية رموز “للحب” أو حتى “للكراهية” , لكن ذلك لا يعني أن الحب والكراهية غير موجودين.

أما تصريح ستينجر الثاني , فهو لا يرتبط بالنماذج العلمية , بل بالمقاييس أو البيانات العلمية .فهو يقول أن حواسنا المادية , حتى بمساعدة الأدوات العلمية , هي غير قادرة على رؤية الله أو تفحصه – مما يعني ضمنياً أنه إذا كان الله لا يمكن الكشف عنه أو فحصه فهو بذلك غير موجود. لكن لماذا يجب على حواسنا المادية أن تكون قادرة على رؤية الله . إذا كان يسوع قد أعلن ,”الله روح , والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا “؟[9] فحواسنا المادية الخمس , مهما كانت مزودة بالوسائل العلمية ,تظل مادية- مهيأة لاكتشاف المواد والعمليات المادية ,وليس الروحية. فعندما نتخلى عن وجود كينونات روحية لأنها لا تظهر على شاشات راداراتنا ,فإن هذا يشبه إنكار وجود الجمال, لأنه لا يوجد شيء بهذا الوصف ينتج بالتحليل الكيميائي لماسة مقطوعة .يعلن الرسول بولس أنه “أَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌو وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ”[10] هذه مفاهيم مجردة وتجارب ذاتية . يمكننا أن نميّز آثار هذه المفاهيم على السلوك البشري , لكن المفاهيم الروحية نفسها لا يمكن الوصول إليها لا بحواسنا ولا بأدواتنا العلمية, ولكنها حقيقية دون أدنى شك.

 

في النقطة (3) من فرضيته ,ينقل د.ستينجر قائمتي المرمى مرة أخرى .فبينما كان الزعم (1) تحدث عن النماذج العلمية, والزعم (2) يتحدث عن المقاييس ,فإن الزعم (3) يتحدث بالكامل عن الوسائل العلمية .وهو لا يعني بكلمة “وسائل” استخدام الميكروسكوب ,أو التيليسكوب ,أو مفتتات الذرة ,بل يعني المنهجية التي ناقشناها في الفصل السابق ,التي تستتبع الملاحظة ,والفرضية ,والاختبار –والتي تقود إما إلى التحقق من صحة الأمر أو إثبات خطئه .

إلا أن الفارق بين المقاييس (أو البيانات) العلمية وبين منهجية العلم هو أمر مهم .يعنّف ستينجر بشدة الأكاديمية الأمريكية للعلوم نفسها بسبب ذكرها أن”العلم …مقصور على تفسير العالم الطبيعي من خلال العلل الطبيعية .العلم لا يمكنه أن يقول شيئاً بخصوص ما هو فوق طبيعي.[11]”من الواضح إذاً أن الاكاديمية الوطنية للعلوم تتحدث هنا عن مكتشفات أو بيانات العلم- مشيرة إلى أنها ترتبط فقط بالعالم الطبيعي .إلا أن ستينجر يختلف معها في ذلك , فيزعم في التصريح (2) أن البيانات العلمية يجب أن تكشف عن الله لو كان موجوداً .لكنه بعد ذلك في بقية الكتاب ينقل أرضية مزاعمه إلى التصريح (3) ,أي إلى منهجية العلم التي يمكن تطبيقها على الله.

والآن ,كما رأينا في الفصل الرابع عندما ناقشنا فرضية “بريدي المفقود” , هذه المنهجية مقصورة بالكامل على العلم ,ولكنها مكملة لعمليات تفكيرنا المنطقية .إن فرضياتي الثلاث الخاصة ببريدي المفقود لم تكن فرضيات “علمية” ,كما أن نتائجي يصعب أن تكون مقبولة كبيانات علمية – لو فقط أن الخلل في وصول بريد صباح أحد الأيام لم يكن إحصائياً .لكن ولا واحدة من هذه الحقائق تبطل من صلاحية الفرضيات أو تجعل نتائجها غير صحيحة.

إن مغالطة ستينجر الأولى مكشوفة الآن أمام أعيننا , فقد بدأ (بشكل صحيح تماماً)  بالقول إن وجود الله يمكن التعامل معه باستخدام منهج الفرضية .ثم قام بعد ذلك بتصنيف هذا المنهج بأنه “علمي” لأنه يستخدم بصفة عامة بواسطة العلم – متناسياً أنه أيضاً منهجية تنطبق على الحياة بصفة عامة.وهكذا بزعمه أن كل فرضية هي “علمية” ,أمكنه أن يؤكد أن فرضية وجود الله لا بدّ وأن تكون فرضية علمية. أخيراً يستنتج أن الله غير موجود لأنه لا يمكن أن يوجد بين البيانات العلمية التي يتم جمعها بالميكروسكوب أو التيليسكوب أو مفتتات الذرة.

دعونا نلخص ذلك مرة أخرى .تسير سلسلة جدل ستينجر كآلاتي:

  • المنهج الافتراضي ينطبق على الله
  • المنهج الافتراضي هو جزء لا يتجزأ من العلم.
  • لذلك فكل الفرضيات هي فرضيات علمية
  • لذلك ففرضية وجود الله هي فرضية علمية
  • وبالتالي ففرضية وجود الله يمكن فحصها بواسطة التجارب العلمية
  • البيانات التي يتم جمعها بواسطة التجارب العلمية لا تكشف عن وجود الله
  • وبالتالي الله غير موجود.

 

التصريحات المغلوطة أعلاه مكتوبة بالخط الثقيل المائل . وفيما بعد سوف أناقش أيضاً بتفصيل أكثر التصريح السادس في علاقته بقوانين الطبيعة ,لكن في الوقت الحالي ,فإن أربعة تصريحات مغلوطة في فرضية تكفي لكي نستمر في الجدل.

عندما يختبر مؤمن مسيحي (والذي قد يتصادف أن يكون عالماً ) “محبة الله في قلبه”[12] ,فإنه لا يقوم بعمل بحث علمي عنه ويقدمه إلى مجلة الفيزياء التطبيقية ,أو إلى محاضر الجمعية الملكية .وهذا لأن اختباره ببساطة لا يشكّل بيانات علمية .لكن عقله المدرّب علمياً قد يقوم بالفعل بعملية جدل افتراضي – ويستنتج منها أن الله حقيقي وواقعي.

 

المغالطة الثانية: خصومي جهلاء

متى يمكن أن نطلق على خيال المآتة أنها باطلة أو مغالطة ؟ الإجابة :عندما يعتقد الباني أن خيال المآتة هذا إنسان حقيقي .عندما يكون مذنباً بالخداع أكثر منه بالمغالطة .يمكننا أن نقول أن د.ستينجر هو دون كيشوت الإلحاد,فيقوم بحماسة (وربما بسذاجة)بمحاربة طواحين الهواء وامتطاء خيال المآتة .فيما يلي بعض الأمثلة القليلة على ذلك:

إن سجل الحفريات,ووجود أنواع انتقالية,والملاحظة الفعلية للتطور في المعمل ,تبطل فرضية وجود الله الذي خلق “أنواعاً” مستقلة ومنفصلة من أشكال الحياة في وقت ما من التاريخ ,ثم تركها من دون تغيير منذ ذلك الحين[13].

بترك القضايا الخلافية للأنواع الانتقالية ,وتحديد نوع “التطور” الذي يمكن ملاحظته في المعمل ,فإن خيال مآتة ستينجر هنا هو الزعم بأن المسيحيين يؤمنون بأن الأنواع مخلوقة في سفر التكوين : (أ) كانت أنواعاً كما يتم تعريفها اليوم ؛ و (ب) بأنها ظلت غير متغيرة منذ ذلك الوقت. لكن حتى بين أكثر المتحمسين لنظرية الخلق , لا أعرف شخصاً يعتنق أيةً من هاتين النظرتين .ففي كتابه الذي ألفته عام 1978 بعنوان From nothing to nature[14],افترضت مثلاً أن كل أنواع ذوي الناب (الذئب الكلب ,الثعلب ,وغيرها )ربما تكون قد انحدرت من نوع واحد مذكور في الكتاب المقدس .كما أشرت أيضاً إلى أنه بتتبع كل أجناس البشر حتى نصل إلى الزوج الأصلي الأول ,نجد أن الكتاب المقدس نفسه يظهر تغييرات وتنوعات عظيمة يمكن أن تحدث داخل النوع بمرور الزمن إن ما ينكره أنصار الخلق ليس حدوث طفرات وانتقاء طبيعي , ولا قدرتها على توليد التغيير ,لكن القوة المطلقة لمثل هذه العمليات العشوائية التصادفية على تصنيع الحياة الزاخرة لكوكب الأرض ,بداية بنوع الحساء البدائي ,أو الشرارة الابتدائية للحياة.

لكن عندما يأتي الأمر إلى صنع خيال مآتة ,من الصعب التغلب على تصريح د.ستينجر الشامل على صفحة 48,الذي يقول الآتي :

قبل عصر العلم , كان الاعتقاد الديني مبنياً على إلايمان , والتقليد الثقافي , وعلى الثقة في الحق المعلن في الكتب المقدسة وفي تعاليم القديسين والقديسات الذي اختارهم الله ,لكن إذا بدأ في إضعاف هذه المعتقدات بإظهار أن الكثير من التعاليم التقليدية كانت خاطئة , مثل القائلة بأن الأرض مسطحة وأنها تستقر في مركز سماء النجوم والكواكب ,بدأ الناس في النظر إلى العلم نفسه بحثاً عن دليل لوجود كائن متسامٍ ,لا يعتمد على أي افتراض من الحق الحرفي للكتاب المقدس أو الإعلان الإلهي .

هذه الفرضية لتاريخ الفكر الغربي موجزة بصورة تستحق الثناء ,لكنها كذلك خاطئة بالكامل.

أولاً ولم يتعرض الاعتقاد الديني إلى التغيير منذ حلول “عصر العلم” :فهو لا يزال مبنياً على الإيمان والتقليد والإعلان,الأمور التي تحتفظ جميعها بصلاحيتها وصحتها القوية حتى يومنا هذا .ثانياً ,لقد أثبت العلم عدم تأثيره في إضعاف بشكل ملحوظ في إضعاف “هذه المعتقدات” لأسباب مذكورة بالفعل في كتابات ستيفن جي جولد والأكاديمية الوطنية للعلوم .على العكس من ذلك , تظل هذه المعتقدات عناصر راسخة في الحضارة البشرية(وإلا فلماذا شعر ستينجر بالحاجة إلى تأليف هذا الكتاب).ثالثاً ,”التعاليم التقليدية” الوحيدة التي تقول إن الأرض مسطحة وأنها “تستقر في مركز سماء النجوم والكواكب ” كانت تعاليم الصين القديمة – فعلوم الفلك الغريبة والشرق أوسطية لم تضم هذين العنصرين أبداً.

رابعاً ,هل كان المتدينون يؤمنون حقاً بأن الأرض مسطحة قبل حلول عصر العلم ؟ لم يحدث ذلك منذ عرض أرسطو الدليل على كروية الأرض عام 330 ق.م.,[15]عندما لاحظ أن المسافرين جنوباً يرون نجوماً جنوبية ترتفع لأعلى فوق الأفق[16] .كما أشار أيضاً إلى أن ظل الأرض على القمر دائماً ما يكون دائرياً ,وأن الأرض الكروية وحدها التي يمكن أن تلقي بظل دائري على كل المراحل القمرية .بل أنه في عام 240 ق.م ., قام ايراتوستينس بحساب قطر الأرض الكروية[17] .ففي دراسته بعنوان The reckoning of time ,فسّر “بيدي” (672-735) الزمن المتغير لضوء النهار  من حيث “كروية الأرض” ,وقال, “لأنه ليس دون سبب يقال كرة الأرض” على صفحات الكتب المقدسة والأعمال الأدبية العادية .فهي في الحقيقة موضوعة مثل كرة في منتصف الكون كله “[18].وأي شيء كتبه “بيدي” كان يتطلب قراءة الكهنة في أيامه.

صحيح أن الدارسين في العصور الوسطى عادوا إلى الزعم بمعتقد أن الأرض مسطحة ,لكن جيفري روسيل (أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا,سانتا باربارا ) يبرهن في كتابه ,Inventing the flat earth :colombus and modern historians ,أن نظرية الأرض المسطحة ليست أكثر من مجرد خرافة تم استخدامها لتشويه سمعة الحضارة الأوروبية السابقة للحداثة.

أما مركزية الأرض فهي أمر مختلف . فكما يشير الاقتباس من بيدي, د.ستينجر محق في أن يقول أن القدماء كانوا يعتقدون بأن الأرض هي مركز الكون.لكن هاهي الحقيقة التي هدمت بيته الورقي – وهي أن هذا النظام القائل بمركزية الأرض كان نتاج ,ليس الإيمان الديني,بل العلم اليوناني! فقد علّم أناكسيمندر (القرن السادس ق.م) أن الأرض عبارة عن اسطوانة موضوعة في مركز الكون . وقد جادل الفيثاغوريون بشأن مركزية الأرض , معتقدين أنها تتحرك حول نار غير مرئية ,لكن افلاطون (القرن الخامس ق.م) كان يعتقد أن الأرض هي جسم كروي ثابت في محور الكون وأن النجوم والكواكب تدور حولها. إلا أن علم الفلك اليوناني في النهاية استقر على مركزية الأرض “النظام البطلمي”-الذي افترضه كلوديوس بطليموس خلال القرن الثاني الميلادي ,وقبله الجميع دون استثناء حتى “الثورة الكوبرنيقية” في القرن السادس عشر ,عندما استقرت مركزية الأرض أخيراً . لكن عندها كان العنوان :”علم القرن السادس عشر يبطل علم القرن الثاني !” ألا يشبه هذا أيضاً العنوان :”علم القرن السادس عشر يبطل المعتقدات الدينية!”

في 175 ,يكتب ستينجر هذه العبارة غير المعقولة :”في كل أنحاء الكتاب المقدس ,يشار إلى الكون بأنه “سماء ” موضوعة فوق أرض مسطحة لا تتحرك .” بل أنه أيضاً يقدم شواهد كتابية في محاولة لإثبات وجهة نظره ,زاعماً أنه قد رجع إلى ترجمة كل من “كينج جيمس والنسخة القياسية المنقحة”.وربما كان يجب عليه أيضاً أن يرجع إلى المعجم العبري ,لأنه بنى قضيته على فهم خاطئ تماماً للكلمتين العبريتين المذكورتين في العهد القديم .الكلمة الأولى التي شوّه معناها هي السماء (firmament), وهي تعبير عام يعني “مدى واسع ” أو قبة زرقاء (بالعبرية raqia).وتكوين 1 لا يستخدم هذه الكلمة ليعني بها “الكون” ,بل فقط “السماء”- أي القبة الزرقاء الواسعة حيث تطير الطيور (ع20), والتي تفصل المياه التي تحت السماء عن السحاب (المياه التي فوق السماء؛الأعداد 6-8).لذلك عندما يصف تكوين 1 الشمس والقمر باعتبارهما نورَين في كبد السماء “فإنه يستخدم مجرد تعبير ظواهري –بأن هذين الجسمين مرئيان في السماء

(نفس الأمر ينطبق على الأعداد الثلاثة الأخرى في الكتاب المقدس التي تستخدم كلمة “سماء” كمكان للنجوم)

منذ عام 1957 ,قدم السير باتريك مور سلسلته الطويلة من البرامج في البي بي سي عن علم الفلك الشعبي بعنوان The sky at night.لكن لم يعترض أحد أبداً بأن البرنامج يجب أن يطلق عليه The universe at night- أو أن مور يعلّم أن الطيور والنجوم تعيش بنفس الفضاء الكوني .فمعظم الناس لديهم الفطرة السليمة لكي يدركوا أن التعبيرات الظواهرية ملائمة بالنسبة لبرنامج علمي شعبي , وأن الكون مرئي هو ما نراه عندما ننظر إلى السماء .

الكلمة الثانية التي لم يتحقق ستينجر من معناها بشكل سليم هي كلمة “circle”.فهو يذكر اشعياء 22:40 حيث يقول أن الأرض هي “دائرة”(أو كرة في الترجمة العربية).لاحظ أن “الدائرة مسطحة”(ص189,الملاحظة الثانية).لكن الحقيقة أن هذه الآية لا تقول ذلك على الإطلاق – إنها تقول إن الله جالس على “كرة الأرض”.مما يعني أن الأرض لها “دائرة”.وليس أنها عبارة عن “دائرة”. يذكّرنا ستينجر أن الدائرة مسطحة,لكنه يحذف ذكر أن لها أيضاً ثقباً في المنتصف (فاحذر من المكان الذي ستقف فيه!).إني أشك أن اشعياء كان سيرى غرابة  في دعوة الأرض دائرة (أو كرة)بينما كان في استطاعته أن يدعوها قرصاً (لو كان يؤمن حقاً أن الأرض مسطحة).

ومع ذلك, على الرغم من أن هذا يظهر طريقة ستينجر المستهترة في فهمه للكلمات ,فإن مشكلته الحقيقية هي أن الكلمة العبرية chug-المترجمة في الانجليزية “circle” أو “circuit” في كتبنا المقدسة الانجليزية –يمكن أن تعني “دائرة ,قوس ,قبة السماء , أو نطاق” .مثل الكلمة المبهمة round , التي يمكن ان تستخدم للإشارة إلى كل من الأجسام ذات البُعدين أو ذات الثلاثة أبعاد.وفي الأغلب كان أشعياء يعني “قبة السماء” وكان يشير بها ليس إلى الكرة الأرضية بل إلى السماء.فلو كان لدى د.ستينجر الصبر لكي يقرأ العدد بأكمله لكان قد عرف أن الله الذي يجلس على قبة السماء في الكرة الأرضية (بمعنى أنه أعلى من السماء ) هو أيضاً الذي “ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن” .فنحن نقرأ هنا لغة شعرية ظواهرية .وليس علوم اليونان القديمة!

إن أي انسان يجهل الكتاب المقدس , عندما يقرأ كتاب ستينجر سيستنتج أن الكتاب المقدس يعلّم أن “الأرض مسطحة وتقع في مركز سماء من النجوم والكواكب” . لكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة . كما لو أن ستينجر ينجب طفلاً يتيماً (من العلم اليوناني النابع من الأساطير الصينية),ويرفضه ,ثم يتركه على عتبة الكتاب المقدس بريء تماماً من مثل هذه التعاليم – فهو لا يناقش في أي مكان منه شكل الأرض أو يزعم أنها توجد في مركز الكون. بل هو يصف مرات كثيرة الكون كما تتم ملاحظته من الأرض (ألا نفعل جميعنا ذلك؟) , ولكنه يفعل ذلك دون إشارة إلى وجهة النظر الخاصة بمركزية الأرضية.

 

 

المغالطة الثالثة: البساطة تلد التعقيد

 

الفصل الذي عنونه د.ستينجر “وهم التصميم” , يشبه كثيراً كتب ديكنز –أقصد بذلك كتاب The old curiosity shop.فهو يخصص النصف الأول من فصل واحد في استبعاد الخلق , والتصميم العاقل الذكي للكون , والتعقيد غير القابل للاختزال , ومعلومات الوسائط ,بل وحتى التعريف السليم للعلم.فكيف استطاع أن يغطي كل هذه الموضوعات في ثلاث عشرة صفحة فقط؟ تم هذا بقيامه بعمل تأكيدات بدلاً من تطوير نقاشه الجدلي .فهو يعلن ببساطة أن كل خصومه (ومعظم أصدقائه) على خطأ , بينما يقوم بنقل قرائه كقطع الشطرنج إلى كتابات أخرى لكي يجد البراهين التي تُبنى عليها مزاعمه.بالطبع, لا أحد أن يغطي كل الأسس في كتاب واحد , لكي تذكّر أن هذا الكتاب المحدد يزعم أنه يثبت عدم وجود الله .لذلك فمن حقنا أن نرى أدلة وإثباتات وليس تأكيدات.

إن أقرب ما يصل إليه ستينجر من نقاش معقول على هذه الصفحات يرتبط بجدل مايكل بيها حول “التعقيد غير قابل للاختزال”, والذي بموجبه لا تستطيع الأنظمة البيولوجية معقدة الوظيفة أن تتطور بواسطة الانتقاء الطبيعي .يدعونا “بيها” لأن نفكر في مصيدة فئران تقليدية. فلكي تقوم المصيدة بأداء وظيفتها ,يجب أن تحوي مجموعة منتقاة من المكونات غير القابلة للاختزال –أي قاعدة ,وزنبرك,و”مطرقة”, وذراع حاجز , ونظام للإفراج عن الصيد . فلو فقدت أيّة من هذه المكونات , أو حتى لم تتلائم مع بقية المكونات الأخرى, لن تعمل مصيدة الفئران بشكل سليم.يشبه هذا الكثير من الأنظمة البيولوجية –فلكي تعمل وتفيد مالكها ,تحتاج إلى وجود وتفاعل العديد من المكونات التي لا يمكن الاستغناء عنها أو اختزالها .فهل يمكن لمثل هذا النظام أن يُبنى,قليلاً قليلاً ,تحت تأثير الانتقاء الطبيعي؟ كلا,يقول “بيها”,لأن الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يعمل في نظام بيولوجي يؤدي وظيفة لا ترتبط بالبقاء –لأنه في هذه الحالة لا يتم “انتقاؤه”. فمصيدة الفئران التي لها قاعدة , ومطرقة ونظام للإفراج عن الصيد , ولكن ليس بها بعد زنبرك , لا يمكن أن تعمل , وليس لها  قيمة بالنسبة لمالك مخزن الحبوب.

شاهدت ذات مرة حيوان القاقم يطارد أرنباً ويقتله – وهذا هو نفس نوع ” الضغط الانتقائي” الذي (بحسب مبادئ داروين) يجب أن يسبب نشوء قبيلة من الأرانب المتفوقة التي تستطيع أن تهرب من القاقم .لا توجد مشكلة في ذلك .لكن الانتقاء الطبيعي لن يقوم أبداً بمنح الكرنب سرعة التفاف تكفي لكي تجعله يهرب من الأرانب التي تلتهمه ,لأن الكرنب لا يمكنه أن يتحرك في المقام الأول .

 

فالانتقاء الطبيعي يمكنه أن يعمل فقط عن طريق الحفاظ على أو “انتقاء” تحسينات طارئة أو غير متوقعة في بعض النواحي الوظيفية للكائن الحي .فمثلاً ,إذا ساعدت طفرات عشوائية بعض الأرانب على الجري أسرع من غيرها , فإن هذه الأرانب ستنال فرصة أفضل في البقاء وبذلك تزيد فرصتها في التوالد.إذاً فالوحدة الوراثية(الجينة) للأرنب السريع يمكنها بذلك أن تنتشر عبر مستعمرة الأرانب كلها وتصبح سائدة .لكن على العكس , الطفرة العشوائية التي أنتجت كرنباً بحركة سريعة منعكسة لن تكون خاضعة للانتقاء الطبيعي لأن هذه الخاصية الجديدة لن يكون لها قيمة وظيفية في الخضروات الثابتة .فالأنظمة الوظيفية وحدها (أي تلك التي تؤثر على البقاء وأو التوالد ) هي التي يمكن تعديلها بواسطة الانتقاء الطبيعي.

ما يهدف إليه “”بيها” هو أن الأنظمة البيولوجية المعقدة لا يمكن أن تتطور خطوة بعد خطوة ,كما علّم ذلك أتباع الداروينية الجديدة ,لأنه إلى أن تصبح أنظمة وظيفية فإنها لا تؤدي أي غرض,ولا يمكن للانتقاء الطبيعي أن يسري عليها . وبالسؤال عن كيفية نشوء نظام معقد غير قابل للاختزال ,فإننا لا نسأل كيف يمكن أن تتطور الأرانب السريعة من غيرها من الحيوانات الراكضة , بل عن كيفية نمو أرجل الكرنب.

وهكذا يتلخّص دحض ستينجر لجدل بيها حول التعقيد غير القابل للاختزال ,لكي يؤكد أن الأجزاء المكونة للأنظمة البيولوجية التي يوضح بها بيها قضيته ,تخدم أغراضاً لا تختص بذلك (يقدم فرانسيس كولينز نفس التفسير في The language of God)[19].فإذا كانت كل الأجزاء موجودة بالفعل في الكائن الحي ,فكل ما عليها فعله هو أن تتحد معاً لخلق كيان جديد عامل .فهل يمكن للأنظمة المعقدة غير القابلة للاختزال – مثل النظام الذي يدفع السوط البكتيري ,ذا المحرك الخارجي , متعدد المكونات ,كيمائي الوقود ,-هل يمكن أن ينشأ عشوائياً؟!

ليس هذا جدلاً على الإطلاق ! يبدو أن ستينجر لم يشترِ أبداً شقة معبأة بالأثاث. يمكنني أن أؤكد له عن اختبار شخصي أن وجود كل المكونات معاً في مكان واحد وتحريكها عشوائياً ممن غير المرجح على الإطلاق أن يجمع أو يركب أي شيء يمكن أن يعمل .فكل مكوّن معبأ مهيأ بالفعل خصيصاً لكي يناسب “التصميم الكبير”, ولكن لا يزال الأمر يتطلب أدوات وتعليمات ذكاء لتجميع هذه القطع لتصل إلى كيان عامل .وتذكّر أن الانتقاء الطبيعي لا يمكنه أن يصلح ,لأنه لا يسري إلا على نظام عامل بالفعل.

أو فكّر في ذلك .قام السير فريد هويل ,عالم الفيزياء الفلكية, بربط فرص نشوء الحياة بشكل عشوائي( من السلائف الجزيئية الموجودة)باحتمالية أن تقوم زوبعة في ساحة للخردة بتجميع طائرة بوينج 747[20].كان جدله هذا سهلاً للغاية ,لكن دعوني على الأقل استعير هذا القياس . حتى لو كانت كل المكونات موجودة ولكنها كانت منشغلة بالقيان بأدوار مختلفة ,فإن احتمالية أن يتم تجميع وتركيب نظام بيولوجي معقد غير قابل للاختزال بشكل عشوائي ,يمكن مقارنتها بفرصة نجاح الزوبعة في تركيب طائرة بوينج 747. كل قطع المكونات موجودة بالفعل ,لكن الأمر يتطلب شيئاً أكثر ذكاءً من الزوبعة لكي يتم تجميع هذه القطع معاً بشكل سليم . وإذا لم تنطوِ هذه العملية التجميعية على غاية أو هدف, فلماذا تحدث على الإطلاق؟

يؤكد د. ستينجر أن تجميع الأنظمة البيولوجية المعقدة لنفسها هو أمر شائع – ثم يقوم بعد ذلك بهدم قضيته بأن يذكر ,كدليله الوحيد , الأنماط المتكررة الموجودة بكثرة في الطبيعة أو التي تولدها أجهزة الكمبيوتر .يعتمد الأمر بالطبع على ما تعنيه بكلمة”معقد” ,لكني أعتقد أن معظم الناس يتفقون على أن الأنماط المتكررة هي شيء بسيط , وليس معقداً – لأن مثل هذه الأنماط يمكن إنتاجها بتطبيق قواني بسيطة . فيمكنني أن أوجّه جهاز الكمبيوتر لكي يكرر, بعدد لا حصر له ,الثلاثة حروف الأبجدية الأولى ,وسيقوم بكل بساطة بإنتاج نموذج متكرر لطيف على الشاشة ,ولا يحتاج الأمر إلا إلى ابسط التعليمات لتحقيق ذلك. لكني إذا طلبت من الكمبيوتر أن ينهي هذا الفصل نيابة عني , بينما أقول أنا بتناول الغداء , فستكون تلك المهمة شديدة التعقيد للغاية حتى يتعامل معها .فجوهر التعقيد لا يكمن في الأنماط والنماذج المتكررة , بل في الطريقة التي ينحرف بها النظام عن مثل هذه النماذج .لنأخذ مثالاً آخر , الموجات الكهربائية البسيطة هي أنماط متكررة من الصعود والهبوط والتي يمكن نقلها كموجات الراديو .لكني إذا أردت تلك الإشارة الإذاعية أن تحمل معلومات معقدة-أغنية مثلاً-فلا بدّ أن أعدّل أو أحرّف تلك الموجات بطريقة معقدة غير متكررة .بمعنى أن المعلومات يمكن فقط إرسالها باستخدام تلك الموجات بواسطة أن يتم فرض , على تلك البساطة , سلسلة شديدة التعقيد من الانخفاضات والتغييرات التي تشفّر صوت الموسيقى.

ملحوظة أخيرة , ألا تتناقض فكرة د.ستينجر ,بأن البساطة تلد التعقيد ,ألا تتناقض تماماً مع جدل ريتشارد داوكينز بأن الله إذ خلق كوناً شديد التعقيد, لا بدّ وأن  يكون هو أكثر تعقيداً منه , وبالتالي يكون وجوده أكثر استحالة (انظر الفصل 1)؟ أما بحسب ستينجر فإن الإله البسيط (وبذلك ذو احتمالية عالية) يمكنه أن يخلق عالماً معقداً .لكن على أية حال ,لم يكن التوافق والاتساق هدفاً أساسياً من أهداف الإلحاد!

 

مغالطات كثيرة

على الرغم من أننا بالكاد في منتصف عرض ستينجر , فإننا نحتاج أن نتركه عند هذه النقطة في الوقت الحالي .

المراجع كما وردت في الكتاب.

 

[1]Stenger ,God the failed hypothesis

[2] كالمرجع السابق,ص.28

[3]ألبرت اينشتاين بحسب شهادة الأمير هامبرتس من لوينستين ؛كما تم الاقتباس بواسطة رونالد دبليو كلارك, Einstein :The Life and Times (World Publishing company ,New York,19710,p.425)

[4] Martin Rees ,interviewed in the Sunday Times (London),18 Dec.2005

[5] Stenger ,God the failed hypothesis,p.13

[6]كالمرجع السابق ,ص.16

[7]كالمرجع السابق ,ص.29

[8] Johannes Kepler, Gesammelte Werke,ed.Max Caspar (Munich:C.H. Beck ,1937-38),vol.6,p,223

[9]يوحنا 24:4

[10]غلاطية 22:5-23

[11] Stenger ,God the failed hypothesis,p.28

[12]رومية 5:5

[13] Stenger ,God the failed hypothesis,pp.51-52

[14]Edgar Andrews, From nothing to nature (Evangelical Press, Darlington,1978),p.51

[15] Didier De Fontaine, “Flat worlds :today and in antiquity “.Memorie della Societa Astronomica italiana, special issue (2002) 1(3):257-62

[16]Anaximander, Fairbanks(editor and translator), Arthur, “Fragments and commentary “,The Hanover Historical Texts Project, http://history.hanover.edutextspresocanaximan.htm(plut.,strom.2,Dox.579)

[17] Aristotle,De caelo,297b31-298a10

[18]The venerable Bede ,De temorum ratione,32

[19]Francis Collins, The language of God (Simon&Schuster,London,2007),p.192

[20]Fred Hoyle, The intelligent Universe (Michael Joseph ,London ,1983),pp.18-19