عام

تابع دراسة في الذبائح (11) ذبيحة الصليب في ضوء ذبائح العهد القديم.

دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس
الذبيحة טֶבַח– ط ب ح ؛ θυσίας σΦάζω
Sacrifice 166 – Sacrifices 142 – Sacrificing 12

[ الجزء 11 ] 4 – ذبيحة الصليب في ضوء ذبائح العهد القديم
للرجوع للجزء العاشر أضغط هنا.

أولاً: مقدمــــــــــــــــة

سنقوم في هذا الجزء بتوضيح عمل ذبيحة المسيح !!!

وينبغي أن نعلم أنهُ لم يكن ممكناً بأي حال من الأحوال أن يوفي العهد القديم أو يُغطي ويوضح عمل ذبيحة المسيح يسوع بنوعٍ واحد من الذبائح، أو في طقس واحد من الطقوس المتعددة التي نراها فيه، وعلى الأخص في سفر اللاويين !

فذبيحة الصليب، ذبيحة فريدة من نوعها، وفي إمكانيتها، لأنها متسعة جداً، لأن الذبيح هو ابن الله القدوس الحي، فكيف ممكن أن يُحد في ذبيحة أو طقس !!!



عموماً نرى في سفر اللاويين 5 أنواع من الذبائح والتقْدِمات، كل منها يُعلن عن جانب أو جوانب معينة من جوانب الصليب ويشرحها بدقة، ومع هذا يُمكننا أن نقول بأن هذه الأنواع جميعها بطقوسها الطويلة والدقيقة والمتباينة، قد عجزت عن كشف كل أسرار الصليب لنا بكل أعماقه وأبعاده المتسعة جداً…

وقد قدم لنا العهد القديم – بترتيب وتنظيم إلهي فائق – رموزاً وتشبيهات وأحداث كثيرة جداُ عَبّر الأجيال، لعلها تدخل بنا إلى أعماق جديدة لهذا السر العظيم والفائق لمداركنا، وهو سرّ الصليب المُحيي.

ويقول القديس أفرام السرياني: [ السرّ الذي كان الخلاص مزمعاً به ( أي يدل عليه )، وهو هرق دم الإله المتجسد الذي هو وحده إنسان بلا عيب، بلا خطية، سبق بذلك عليه وأُشار إليه برموز وأمثال، حتى إذا جاء الخلاص الحقيقي بالذبيحة التي تقدر على خلاص الخطاة، يعلم كل من يؤمن أن إليها كانت الإشارة والرموز ] ( عن تفسير سفر الأحبار ( اللاويين ) منسوب إلى القديس أفرام السرياني في المخطوطين : الماروني هونت 112 في مكتبة أكسفورد، والسرياني اليعقوبي 7/1 في مكتبة الشرفة )

عموماً الذبائح والتقدمات المذكورة في سفر اللاويين فهي :

1 – ذبيحة المحرقة [ إصحاح 1 ]
2 – تقدمة القربان [ إصحاح 2 ]
3 – ذبيحة السلامة [ إصحاح 3 ]
4 – ذبيحة الخطية [ إصحاح 4، إصحاح 5: 1 – 13 ]
5 – ذبيحة الإثم [ إصحاح 5 : 14 إلى إصحاح 6 : 7 ]

ولابد من أن ننتبه لبعض الأشياء قبل أن نتحدث في أنواع الذبيحة ونربطها بصليب ربنا يسوع لنفهم ونستوعب سر عمل الله المتسع، أي نفهم سر خلاصنا وندخل إليه لنعيشه ونحياه كخبرة في حياتنا اليومية المُعاشة، لأنه ينبغي أن ننتبه لهذا الموضوع جداً، لأن حينما شرعت في كتابته لم أقصد أن أكتب معلومات لمحبي المعرفة بالشيء أو مجرد بحث جديد، ولكني كتبت الترتيب الإلهي لأكشف عن مقاصد الله المُعلنة في كلمته التي تعلمنا طريق الخلاص لنسير فيه، ويبدأ السير الحقيقي في طريق خلاصنا بمعرفته بدقة حسب التعليم الإلهي، وحينما نعرفه ونفهم مقاصد الله نبدأ السير فيه ونعي ما صنع ربنا يسوع لنا فنستفيد من ذبيحته ولاتكون لنا معلومة إنما قوة حياة نحياها، فنفرح بالخلاص العظيم الذي صنعه لنا ليكون لنا شركة معه وحياة أبدية لا تزول …

[أ] – الذبيحة كهبة :

أولاً لابد أن ندرك أن الذبيحة، هي هبة لا رجعة فيها، وذلك لأنها تُذبح كما قلنا سابقاً [ وهذا يتضح لمن تابع الموضوع منذ بدايته ]، فهي تُقدم لله بكمال الوعي والإدراك، بحرية واختيار، بكمال الإرادة الحرة، بمعنى أن حينما تُقدم الذبيحة فمقدمها له الحرية أن يقدم أو لا يُقدم، إنما بفرح محبة الله يقدم – بحرية إرادته واختياره – ذبيحة صحيحة، كاملة بلا عيب، كهبة مستحيل أن يفكر أن يردها أو يتراجع عن تقديمها، بل يقدمها لتُذبح فلا تُرد، وهي فيها إجلال وشكر مع طاعة واضحة، طاعة واعية جداً لمشيئة الله، وتعرف مسرته …

وهذه الهبة حينما تُقدم بهذا المعنى، تُنشئ مسرة داخلية في النفس، لذلك كانت ذبيحة المحرقة حينما تقدم تُذبح وتحرق بالتمام، فيشتمها الله للرضا والمسرة …



وحينما نبحث عن ما يَسُرَّ الله، نجد أن كل سروره في سماع صوته أي الطاعة، لذلك تعتبر أول ذبيحة تُقدم لله هي المحرقة، التي تدل على الطاعة الكاملة لله ( كما سوف نرى في شرح ذبيحة المحرقة بكل تفاصيلها وبدقة ): ” بذبيحة و تقدمة لم تسر أذني فتحت محرقة و ذبيحة خطية لم تطلب، حينئذ قلت هانذا جئت بدرج الكتاب مكتوب عني: أن افعل مشيئتك يا الهي سررت وشريعتك في وسط أحشائي ” ( مز40: 6 – 8 )



ولننتبه للكلام هنا بدقة شديدة لأنه في منتهى الأهمية القصوى، فآدم لم يسقط سقوطاً عادياً في مجرد فعل خطية كما يظن الكثيرين فيركزون على ارتكاب الخطية كفعل، بل أنه في الحقيقة سقط بالعصيان، وذلك حينما خالف وصية الله ولم يستمع لصوت الرب الذي نبهه لطريق الموت، وطلب منه أن يختار الحياة، فلم يسمع آدم وخالف الوصية فدخل في الموت من بعد أن كان حياً وهذا ما أخذناه بالتالي من آدم أي الموت وليس فعل الخطية في ذاته، وهكذا من بعده ظل الإنسان يعصى الله ولا يتمم مشيئته ولا إرادته إذ قد تعرى من النعمة التي كانت تحفظه في انسجام مع الله بالحب والإيمان الحي أي الثقة الشديدة فيه، وإلي اليوم – رغم أننا في العهد الجديد – لا زال الإنسان لا يسمع صوت الله ويطيع وصاياه أو حتى على الأقل يعلن احتياجه الروحي إليه، ويطلب مشيئته، ويرجع للرب ويتوب توبة حقيقية : [ ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيدا للطاعة، أنتم عبيد للذي تطيعونه: إما للخطية للموت أو للطاعة للبر (رو 6 : 16) ]، وهنا نلاحظ أن الرسول لم يتكلم عن نوع الخطية، بل مشكلة أثر الخطية وهو الموت، وهذا هو فعل الخطية في الإنسان على مر التاريخ كله إذ اجتاز الموت لجميع الناس حتى الذين لو لم يُخطئوا على شبه تعدي آدم، لأن المشكلة ليست في عمل خطية محددة بل الموت، لأن الإنسان اصبح عبد لمن يُطيعه…



وبكون الإنسان أصبح غير قادر أن يُرضي الله لأن أذنه لم تُفتح – بسبب قساوة القلب نتيجة العصيان الدائم – فلم يتعرف على صوت الله ولا مشيئته، لذلك لم يعد بقادر أن يقدم طاعة؛ لذلك أتى رب المجد يسوع لابساً جسم بشريتنا ليعطي لنا قوة الطاعة بتقديم ذاته ذبيحة محرقة، فتنسم أبوه الصالح عند المساء [ وقت صلبه وموته ] رائحة سرور ورضا: [ لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بإطاعةالواحد سيجعل الكثيرون أبراراً (رو5: 19) ]



ومن هنا نقدر أن نفهم كل كلام الرب يسوع الذي قاله – وتعثر فيه الكثيرين – في جثسيماني، وعن أنه ينبغي أن يتمم مشيئة الآب ويتمم عمله، وأن يشرب الكأس، وبخاصة الكلام الذي يظنه الناس أنه كان صراعاً مع الآب في قبول الكأس أو رفضها، مع أنه يكشف حال البشرية ويفضح عدم طاعتها، ويظهر طاعته الكاملة لمشيئة الآب وتتميم عمله بوضوح، وذلك ليكون ظاهر لنا، ويكون هذا هو لسان حالنا فيه، حينما نستفيد من ذبيحته وندخل في سر تجسده باتحادنا به كما أعطانا، فتُقبل تقدمة أنفسنا فيه وتظهر طاعتنا به لمشيئة الآب، فنصير فيه رائحة مسرة في ذبيحته الخاصة لأجلنا [ كما سوف نرى بأكثر دقة ووضوح ]

[ب] ترتيب الذبائح وارتباطها معاً:

جاء ترتيب الذبائح والتقدمات عجيباً ودقيقاً جداً في ترتيبه، فقد بدأ بذبيحة المحرقة، وانتهى بذبيحة الإثم، الأمر اللائق من جهة نظرة الآب للذبيحة، وليس من جهة نظرة الإنسان.



فالمؤمن في لقاءه مع المسيح المصلوب، يراه أولاً كذبيحة أثم وذبيحة خطية، إذ يرى فيه: كلمة الله المتجسد وقد حمل أوجاعه وآثامه، ليدخل في شركة مع الله المحب الذي رُفض وطُرح أمام الله بسبب خطاياه التي فصلته عن نبع الحب الحقيقي وصار له شدة وضيق واحتمال كأس غضب قد امتلأ بسبب آثامه وتعدية على وصية المحب الذي وهبه الحياة: [ شدة و ضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر اليهودي أولاً ثم اليوناني ] (رو2: 9)



ومن خلال هذه النظرة – أي رؤية الصليب غطى كل آثامه وخطاياه – يتلمس في الصليب ذبيحة سلامة وشكر، فيقدم حياته في المسيح يسوع المصلوب، حياة شاكرة عوض طبيعته الجاحدة التي صارت بسبب السقوط وحب الشهوة والانحصار في الذات عوض الله الحي..

كما أنه يرى أيضاً [ في الصليب ] تقدمة قربان فيه ينعم بحياة الشركة في المسيح يسوع المصلوب، وأخيراً يُدرك الصليب كذبيحة محرقة، إذ يكتشف فيه طاعة الابن الوحيد للآب حتى الموت، موت الصليب، مقدماً هو أيضاً حياته ذبيحة طاعة ومحرقة حب لله في ابنه الوحيد ..



وهذا هو ترتيب الذبائح والتقدمات من خلال انتفاعنا كمؤمنين، أما الآب فيتطلع إلى الصليب – أن صح التعبير – أولاً: كمحرقة طاعة، يشتم فيه رائحة ابنه الحبيب كرائحة مسرة، إذ قد صار محرقة حب كامل في طاعة منقطعة النظير حتى الموت [ وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ] (في2: 8)، وينتهي بالنظر إليه كحامل لخطايانا وآثامنا، ليعبر بنا إلى الآب ويرفع عنا كل شدة وضيق وإحساس الغضب من جزاء خطايانا التي صارت فاصل بيننا وبين الله: [ بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع ] إش59: 2) & [ خطاياكم منعت الخير عنكم ] (أر5: 25)

_____ملحوظة مهمة للغاية_____

بالطبع، ليس معنى الكلام أننا نُميز بين جانب أو آخر في نظر الله الآب، أو حتى المؤمن، إذ هي جوانب متكاملة غير منفصلة عن بعضها البعض، لأن ربنا يسوع قدم ذاته ذبيحة واحدة غير منقسمة قط، بل قدمها مرة واحدة كامله متكاملة…



ولكن كل ما نريد أن نوضحه، أن الصليب يُعلن – في نظر الآب – بأكثر بهاء، لا في انتزاع آثامنا وخطايانا، بقدر ما نحمل في أنفسنا طبيعة المصلوب (أرجو التدقيق في العبارات والمعاني وان لا يظن أحد اني أتكلم عن مماثلة طبيعته – كعادة من يحور كلماتي لمعاني أخرى لا توجد فيه)، فنصير فيه محرقة طاعة وحب، نصير لهيب نار لا ينقطع، بحملنا ما للابن من طاعة حتى الموت، بحب بلا نهاية، لذلك يقول الرسول: [ فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله ( أي الصورة الظاهرة التي تكشف وتستعلن الله في كماله، أو كيان الله نفسه ) لم يحسب خُلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه ( أفرغ نفسه من مجده، تجرد من مجده البهي ) آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس، وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع ( صار يطيع ) حتى الموت، موت الصليب ( كذبيحة محرقة للطاعة ) ] ( في2: 5 – 8 )

وباختصار شديد يُمكننا أن نقول بأن الله الآب يشتم رائحة المسيح فينا خلال الصليب هكذا:

1 – محرقة الحب الكامل والطاعة له في ابنه الحبيب [ ذبيحة محرقة ]

2 – شركة الحياة معه في ابنه الوحيد الجنس [ تقدمة القربان ]

3 – حياة السلام الداخلي والشكر الدائم [ ذبيحة السلامة ]

4 – التمتع بالغسل المستمر من خطايانا اليومية العامة وضعفاتنا الخاصة التي لا تنتهي [ ذبيحة الخطية ]

5 – الخلاص من كل إثم نرتكبه في المقدسات أو ما يخص الله [ ذبيحة الإثم ]

وسوف نشرح بالطبع كل هذا بدقة شديدة وعلى قدر الطاقة وعلى قدر ما يكشف الله لنا من سر عمله العظيم، وذلك في الأجزاء القادمة…

 

_______________
 

وفي الجزء القادم سنتكلم عن
[جـ] الذبائح الدموية والتقْدِمَات الطعامية
ومعنى الدم ومعنى كل المصطلحات التي تدل عليه في العهدين