آبائيات

خضوع الابن للآب – ق. غريغوريوس النيسى – د. سعيد حكيم يعقوب

خضوع الابن للآب - ق. غريغوريوس النيسى - د. سعيد حكيم يعقوب

خضوع الابن للآب – ق. غريغوريوس النيسى – د. سعيد حكيم يعقوب

 

خضوع الابن للآب - ق. غريغوريوس النيسى - د. سعيد حكيم يعقوب
خضوع الابن للآب – ق. غريغوريوس النيسى – د. سعيد حكيم يعقوب

 

”خضوع الابن للآب”

(1كو28:15)       

(شرح المعنى الصحيح للآية)

للقديس غريغوريوس النيسى

ترجمة: د. سعيد حكيم يعقوب

 

”خضوع الابن للآب”

(1كو28:15)

 

(شرح المعنى الصحيح للآية )

 

          جميع ” كلام الرب كلام نقى” كما يقول النبى[1]. وعندما يكون العقل نقيًا من كل فكر هرطوقى، مثلما تتنقى الفضة بالنار، تكون له هذه النقاوة إنعكاسًا لكلام الرب النقى وتشرق الحقيقة داخله إشراقة طبيعية. وعلى أية حال أعتقد أنه ينبغى أن نُظهر تعاليم القديس بولس بإشراقها الكامل ونقاوتها، فهو قد أدرك الأسرار الخفيّة، وتكلّم المسيح فيه. لقد علّم بتلك الأمور التي كان من الطبيعى أن يعرفها ذاك الذي تعلّم من هذا المعلّم، أى الكلمة الذي كان يقوده ويعلّمه. إن الخبثاء الغاشين يحاولون أن يجعلوا الفضة الإلهية بلا نفع، ويطفئوا وهج الكلمة الإلهية عن طريق مزجها بمعانى هرطوقية ومزّيفة، ويحرّفون المعانى السرية التي تكلّم بها الرسول بولس، فهم إما لا يفهمونها، وإما أنهم يشرحونها بحسب رؤيتهم بشكل مُزّيف، لكى يصيروا مدافعين عن شرورهم، ثم يدّعون أن الكلمة الرسولية التي تقول: ” فحينئذٍ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل” تتفق مع رؤيتهم، وذلك لكى يُجردوا الابن الوحيد الجنس من مجده. لأن تعبير كلمة “الخضوع”، بحسب فكرهم، يُظهر نوعًا من العبودية فى استكانة وخنوع، ولهذا كما يبدو لى أننا نحتاج أن نفحص هذا الكلام بالتدقيق، حتى أقدِّم الفضة الرسولية نقية وحقيقية، وغير مزّيفة، بل وخالية من كل معنى دنس وهرطوقى.

          لقد تأكدت من خلال قراءة الكتاب المقدس، أن لهذه التعبير أهمية كبيرة ولا يُعبّر عن معنى واحد في كل الأحوال، لكنه تارة يعنى شيئًا، وتارة أخرى يعنى شيئًا آخر. على سبيل المثال يقول الكتاب: ” والعبيد أن يخضعوا لسادتهم[2]. وبالنسبة للطبيعة غير العاقلة، فقد وضعها الله تحت سلطان الإنسان، يقول عنها النبى: “جعلت كل شئ تحت قدميه[3]. ومن جهة هؤلاء الذين خضعوا في الحروب يقول ” نُخضع الشعوب تحتنا والأمم تحت أقدامنا[4]. وأيضًا عندما أشار إلى أولئك الذين خَلصوا بالمعرفة يقول: “الذى يُخضِع الشعوب”[5] كمن يتكلّم من نحو الله. وما نفحصه يتفق كما هو واضح مع ما ورد بالمزمور الثانى والستون ” انتظرت نفسى (الرب) من قِبله خلاصى[6]. وبالإضافة إلى كل هذا، نجد أن أعدائنا يشيرون إلى ما جاء بالرسالة إلى كورنثوس: ” فحينئذٍ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل“. ولأن هذه الكلمة تُستخدم بمعانى كثيرة، من المفيد أن نفصل كل معنى على حده، لكى نفهم المعنى الذي يقصده الرسول بولس في كلامه عندما يتكلّم عن “الخضوع”.

          لقد قلنا إنه في حالة أولئك الذين خضعوا بالقوة للمنتصرين في فترات الحروب، إن معنى “الخضوع” هنا يعلن عن خضوع لا إرادى وإجبارى للمنتصرين، وهذا يعنى لو أن الأسرى اكتسبوا قوة ما تعطيهم رجاءً فى أن  يتفوقوا على أعدائهم، فإنهم سوف يثورون مرة أخرى ضد المحتلين، مُعتبرين أن الخضوع للأعداء هو هوان وخزى. أيضًا الكائنات غير العاقلة تخضع للكائنات العاقلة بطريقة أخرى، إذ أن طبيعة الكائنات غير العاقلة خالية من الصلاح الأعظم أى العقل. وكون أن هناك خضوع من جانب من هو أقل فهذا يعتبر أمرًا تتميز به الطبيعة. وكل من هم يخضعون بنير العبودية لأسباب قانونية، حتى لو كان لهم نفس الكرامة في الطبيعة، فإنهم لا يستطيعون أن يقاوموا القانون، ولذلك فإنهم يقبلون وضع الخاضعين، مُجبرين على الخضوع للضرورة التي لا مفر منها. إلاّ أن هدف خضوعنا نحن والذى نقدمه لله، هو الخلاص كما تُعلّمنا النبوة التي تقول: ” إنما الله انتظرت نفسى. من قبله خلاصى[7].

          إذًا عندما يستشهد خصومنا بكلام الرسول بولس الذي يقول إن الابن سيخضع للآب، فستكون النتيجة الطبيعية وفقًا للمعنى الدقيق لهذا الكلام، هى أن نسألهم عن معنى الخضوع الذي يرونه ويعتقدون أنه ينبغى أن يُنسب للابن الوحيد الجنس من خلال هذه الآية (1كو28:15). ولكنهم من الواضح لن يستطيعوا أن يقولوا بخضوع الابن من خلال أى شرح لهذه الكلمات. لأنه لم يكن هو عدو خضع عن طريق الحرب حتى يكون له رجاء التخلّص من الأَسر والثورة ضد المحتل، ولا بحسب الرؤية الخاصة بالحيوانات غير العاقلة والتي بسبب غياب العقل، تكون مُلزمة بحسب طبيعتها بالخضوع، مثلما تخضع الخراف والأبقار للإنسان. ولا هو مثل العبيد الذين يُشترون، أو مثل العبيد الذين يعملون في البيوت والذين يخضعون بحكم القانون وينتظرون عطف ورضا أسيادهم لكى يُحررونهم من نير العبودية، بل ولا بهدف الخلاص أيضًا يمكن أن يقول أحد إن الابن الوحيد الجنس يخضع للآب، لأنه لا يصح من أجل هذا الهدف أن يكون مثل البشر يترجى ويطلب خلاصه من الله. لأن بالنسبة للطبيعة الإنسانية المتغيّرة التي تصل إلى الصلاح بإشتراكها في الصلاح الإلهى، فإن الخضوع لله هو أمر ضرورى، لأن من هنا يأتى إشتراكنا في الصلاح، لكن لا مكان للخضوع بالنسبة للقوة غير المتغيّرة وغير المتحولة، إذًا ما قصدنا هو تحديد المعنى الكامل للصلاح، أى الصلاح المطلق، الذي لا يفنى، المطوب، الدائم إلى الأبد، هذا الذي لا يمكن أن يصير أفضل ولا أن يصير أسوأ. لأنه من جهة الصلاح لا يقبل الإضافة وليس فيه توجه نحو الأسوأ. فذاك الذي يُعطى الخلاص للآخرين لا يحتاج لمَن يُخلّصه.

          إذًا ما هى الفحوى الدقيقة التي يدّعون بحسب منطقهم نسبتها إلى معنى الخضوع، كل ما فحصناه لا يمكن أن يُقال تحديدًا على الابن الوحيد الجنس. ولو إحتاج  الأمر (لتوضيح) سأضيف لما قلناه نوعًا آخر للخضوع هذا الذي ذُكر في إنجيل لوقا أنه ” جاء إلى الناصرة وكان خاضعًا لهما[8]. وذلك حتى سن الثانية عشر، لكن ولا هذا أيضًا من المناسب أن يُقال عن الابن المولود قبل كل الدهور، الإله الحق من الإله الحق. أما هنا على الأرض فقد جُرّب في كل شئ مثل البشر وهو بلا خطية[9]، وقَبِل أن يعبر في كل مراحل عمرنا. وكما أنه صار طفلاً وأكل الطعام الخاص بالطفل، زبد وعسل، هكذا فعندما صار شابًا لم يهمل السلوك اللائق والمناسب لهذا السن، بأن يصير مثالاً للخضوع في هذه الحياة. لأنه بالنسبة للآخرين يكون الذهن غير كامل في مثل هذه الأمور، والشباب يحتاج أن يُقاد إلى الأفضل عن طريق الإقتداء بالمثال الأكمل، ولهذا السبب فإن (يسوع) ابن الاثنى عشر عامًا خضع لأمه. إن من الصواب بالنسبة لمن يكتمل وهو يتقدم في النعمة بصفة دائمة أن يقبل “الخضوع” ليكون مثالاً له فى طريق الصلاح. أما بالنسبة لذاك الذي هو على الدوام كامل في كل صلاح، والذي من غير الممكن أن يقبل في ذاته تقدمًا ولا تراجعًا، لأن طبيعته لا تعرف النقص أو العجز، فإن أولئك الذين يتكلّمون بعدم تبصر لن يستطيعوا أن يذكروا سببًا يدعوه للخضوع. أى أنه وهو في الجسد وهو مختلط بالناس قد شرّع الخضوع من خلال سلوكه وهو في مرحلة الطفولة حتى يقتدى به الأحداث، وهذا صار واضحًا من حيث إنه لم يهتم فيما بعد بسلطة أمه وذلك عندما وصل سن البلوغ. لأنها عندما حثته أن يُظهر قوته في عرس قانا الجليل، ويكمّل مائدة العرس الغنية، بتوفير الخمر الذي كان قد فرغ، من المؤكد أنه لم يرفض أن يُقدم الخدمة لهؤلاء الذين ترجوه، ولكنه لم يقبل نصيحة أمه، لأنها (أى النصيحة) لم تأتِ في الوقت المناسب، قائلاً: “ما لى ولك يا إمرأة[10]. وكأنه أراد أن يقول هل تريدين أن توجهينى وأنا فى مثل هذا السن؟ ألّم يحن الوقت الذي يُمنح فيه المرء قيادة وحرية ذاتية؟

          فإذا كان بحسب حياته الجسدية، قد رفض الخضوع لأمه في هذه المرحلة المناسبة من العمر، فإنه لا يمكن لأحد أن يتكلّم عن الخضوع في حياة ذاك الذي يسود على العالم بقوة غير محدودة. إن من خصائص الحياة الإلهية الطوباوية احتفاظها بهويتها التي لا تقبل أى تحلّل أو تحوّل. إذًا طالما أن الكلمة الذي هو من البدء الابن الوحيد الجنس، بعيد عن كل تقدم أو تحوّل، فكيف يمكن لهذا الخضوع غير الموجود الآن أن يكون موجودًا فيما بعد، لأن الرسول لم يكتب أن الابن كان خاضعًا على الدوام للآب، لكن سيخضع عند الإكتمال النهائى لكل شئ. لكن إن كان الخضوع هو أمر حسن ويحق أن يُقال عن الله، فكيف غاب هذا الأمر الحسن عن الله في هذه الحياة الحاضرة؟ لأنه على كل حال هو حسن للاثنين، للابن الذي يخضع وللآب الذي يقبل خضوع الابن. وبناء على ذلك فإن هذا الأمر الحسن في هذا الزمن الحاضر يغيب عن الآب وعن الابن، وهذا “الخضوع” الذي لم يكن لدى الآب ولا لدى الابن منذ الأزل، سيتحقق حين تكتمل الأزمنة، فيخضع الابن كإنسان وهو يأخذ بهذا “الخضوع” إضافة وزيادة لمجده، وهى إضافة لم تكن له حتى ذلك الحين. فهل يمكن أن يكون هناك خضوع في وقت ما، ولا يوجد خضوع في وقت آخر؟ فالخضوع الذي يصير فيما بعد، وليس موجودًا الآن، هو خاص بالطبيعة المتغيّرة[11]. إذًا إن كان الخضوع هو أمر حسن، فيجب أن نثق أن هذا الأمر الحسن هو في الله الآن (أى في الزمن الحاضر)، أما إن كان الخضوع هو أمر غير لائق بالله، فإنه لن يكون موجودًا لا الآن ولا مستقبلاً. لكن الرسول بولس يقول إن الابن سيخضع، وليس أنه خاضع الآن.

          إذًا هل هذا الكلام (عن الخضوع) له هدف آخر، ومعنى آخر بعيد عن سفسطات الهراطقة؟ نعم. إذًا ما هو هذا الكلام؟ ربما يستطيع أحد أن يفهم المعنى أفضل إذا ربط بين كل ما كُتب في هذا الجزء. فهو يوجه إنتقادًا إلى أهل كورنثوس، الذين قبلوا الإيمان بالرب، لكنهم اعتبروا عقيدة القيامة من الأموات، أسطورة، لذلك قال لهم: ” يقول قائل كيف يُقام الأموات؟ وبأى جسم يأتون[12]، أولئك الذين بعد الموت قد فنت أجسادهم بطرق كثيرة ومختلفة، سواء بالتحلل، أم بواسطة الطيور الجارحة آكلة اللحوم، أو بواسطة الأسماك والطيور وذوات الأربع؟ ولهذا فقد عبّر لهم بأفكار كثيرة، محاولاً أن يُقنعهم بألا يساوون بين قوة الله وقوتهم، ولا أن ينسبوا إلى الله ضعف البشر، بل أن يفكروا في القدرة الإلهية الفائقة، بالأمثلة المعروفة لدينا. وهكذا يعرض لهم العمل العجيب الخاص بنمو البذور، في علاقتها بالأجساد التي تتجدّد بصفة دائمة بواسطة القوة الإلهية، ويبيّن أن حكمة الله لم تُستنفذ، فهى تُستعلن في هذا الكون عن طريق عشرات الآلاف من الأجساد المتنوعة العاقلة وغير العاقلة الموجودة في الجو وعلى الأرض، وكل ما يُقدم لنا من السماء، الشمس والنجوم الأخرى والتي كل واحدة منها بعدما خُلقت بواسطة القوة الإلهية تصير دليلاً على أنه في القيامة سنلبس الجسد مرة أخرى. أى أنه لو أن الكائنات لم تُخلق من مادة كانت موجودة سابقًا، بل إنها أتت إلى الوجود بواسطة الإرادة الإلهية، فهذا معناه أن هناك إمكانية أكبر لأن يعيد الإنسان إلى الحياة مرة أخرى بالشكل الذى كان عليه بالفعل، على أن يعطى كيان وجوهر لما لم يكن موجودًا من البداية.

          إذًا بعدما أوضح لهؤلاء، بأن الإنسان الأول انحلّ أو فسد في الأرض من خلال خطيته، ولهذا دُعى أرضيًا، فإن النتيجة التالية وفقًا لذلك هى أن يصير بالتتابع جميع أحفاده أرضيين وفاسدين لأنهم ولدوا من إنسان أرضى، ثم أضاف بحسب الضرورة، التتابع الثانى والذي بحسبه انتقل الإنسان مرة أخرى من الفناء إلى الخلود قائلاً بنفس الطريقة إن الصلاح زُرع داخل الطبيعة فانتقل من الواحد إلى آخرين، مثلما انتشر الشر من الواحد إلى الجميع، بتتابع الأحفاد. ولكى يُبرهن على هذا التعليم يستخدم الكلمات الآتية: ” الإنسان الأول من الأرض ترابى. الإنسان الثانى الرب من السماء كما هو الترابى هكذا الترابيون أيضًا. وكما هو السماوى هكذا السماويون أيضًا. وكما لبسنا صورة الترابى سنلبس أيضًا صورة السماوى[13]. بهذه الأفكار، وأفكار أخرى مشابهة يكون قد أكّد حديثه عن القيامة، وأبطل حجج الهراطقة بواسطة أفكار أخرى برّهن بها على أن مَن لا يؤمن بقيامة البشر، فلن يقبل قيامة المسيح. وبرّهن من خلال أولئك الذين إتحدوا معًا في نسيج واحد على النتائج التي لا مفر منها، أى أنه: ” إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام. وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضًا إيمانكم[14]. وطالما أن قيامة المسيح من الأموات هى حقيقة، فينبغى أن يتحقق في كل الأحوال، الأمر الذي يعقب ذلك والمرتبط به وهو أنه توجد قيامة للأموات. لأنه بإقامة الدليل على الأمر الجزئى، يُقام الدليل على الأمر الأعم. وبشكل عكسى إن قال أحد إن الأمر الأعم أو الشامل هو أكذوبة، أى الذي يختص بقيامة الأموات عمومًا، فإن الأمر الجزئى لن يكون حقيقيًا، أى فيما يتعلق بقيامة المسيح من الأموات. لأن ما يستحيل تحقيقه بشكل عام، لن يكون أمرًا ممكنًا لأى أحد. ولكن بالنسبة لأولئك الذين قبلوا “الكلمة“، فإن قيامة المسيح من الأموات هى أمر يثقون به ولا يقبلون الشك فيه، وبناءً على ذلك يكون بالضرورة أن الإيمان بالجزء فيما يتعلق بقيامة المسيح سينسحب على الإيمان بالقيامة العامة.

          هكذا فإنه يُلزمهم منطقيًا أن يقبلوا الإيمان (بالقيامة)، قائلاً ” إن لم تكن قيامة أموات”، (لأن هذا الذي لا يسرى بشكل عام، لن يكون جزئيًا أمرًا ممكنًا، فإن كنا نؤمن أن المسيح قد قام فإن الإيمان بقيامته يصير برهانًا على القيامة العامة للبشر). ثم يُقدم الدليل الكامل على هذا الإيمان (بالقيامة)، فيقول ” كما في آدم يموت الجميع. هكذا في المسيح سيحيا الجميع[15]. فهو يكشف بوضوح عن كل ما يتعلق بهذا السر، والذي يعلنه في الآيات اللاحقة، موجهًا حديثه لكل مَن له رجاء القيامة، في تتابع حتمى حتى يصل إلى هذه النتيجة. فالقيامة إذًا هى القصد النهائى من كل تغيير يحدث فينا.

          سأعرض أولاً لمعنى ما كتبه الرسول بولس، حتى نصل إلى الهدف من وراء كتابة هذا الجزء من الرسالة. إذًا ما هو الهدف الذي يُعلّم به الرسول بولس في هذا الجزء؟ إنه يهدف إلى شرح أن طبيعة الشر ستتحول في يوم ما وستختفى بالكامل وأن الصلاح الإلهى الدائم إلى الأبد سيحوى داخله كل طبيعة عاقلة ولن يسقط من ملكوت الله أى شئ مما خلقه الله وذلك عندما يزول كل الشر الذي اختلط بالكائنات وينحل بالنار مثلما تذوب المادة المغشوشة، وكل شئ أخذ وجوده من الله سيصير مثلما كان في البداية عندما كان نقيًا من الشر. وهذا الأمر صار بالطريقة الآتية: أن الألوهة الحقيقية النقية التي للابن الوحيد الجنس أتت إلى طبيعة البشر الفاسدة والفانية. إذًا إلى هذه الطبيعة الإنسانية قد جاء الكلمة، وصار هناك اتحادًا بين الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية كبداية لعجين[16] واحد، هكذا اتحدت الطبيعة الإنسانية بالطبيعة الإلهية.

          إذًا طالما أنه لا يوجد شر في طبيعة ذاك الذي لم ” يعمل ظلمًا ” كما يقول النبى: ” ولم يكن في فمه غش[17]، فقد أُبيدت فيه الخطية ونتائجها أى الموت (لأن الموت لا يأتى من أى شئ آخر سوى الخطية). لقد كانت البداية في تلاشى الشر وإنحلال الموت، هى من المسيح، وبعد ذلك فإن ما حدث قد استوجب نظامًا معينًا وفقًا لتتابع محدد. هذا يعنى أن علاقة المرء بالصلاح، سواء وجد على مسافة بعيدة أم قريبة من الأول (أى آدم الأول)، هى علاقة مرتبطة بالكائن الذى كان (أى الكلمة) من حيث القدرة والقوة التي له. حتى تكون حياة الإنسان فيما بعد بحسب المسيح، هذا الذي صار  ” باكورة طبيعتنا[18]، بعدما إتحد ناسوته بلاهوته وصار “باكورة الراقدين[19]، و “بكر من الأموات[20]، الذي ” نقض أوجاع الموت[21]، وبعد ذلك فإنه من جهة إنسانيته التي هى بلا خطية تمامًا، فهو الذي ” أباد سلطان الموت[22] و” أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة[23]، ولو أن هناك شخصًا ـ بحسب كلام الرسول بولس ـ اقتفى آثار المسيح على قدر ما يستطيع، من جهة بُعده عن الشر، فإن هذا الإنسان سيلحق بالباكورة (أى المسيح) في مجىء المسيح.

          وأقول الآتى بشأن هذا الأمر: فإن كان تيموثاوس قد اقتدى بمعلّمه بكل ما يملك من قوة، وإن كان أى شخص آخر مثله قد حاكى معلّمه، وأى أحد تالى يأتى فيما بعد ويكون أقل في الصلاح سيقتفى آثار معلّمه، وهكذا على التوالى فإن أولئك الذين هم أقل في الصلاح والذين بسبب زيادة الشر فيهم، يكون نصيبهم من الصلاح قليل، يقتفون آثار أولئك الذين يتقدمون في الصلاح حتى يصلوا إليهم بدورهم ، وعلى نفس النسق فإن الذي يحقق هذا الأمر هو الترتيب الذي يحتله أولئك الذين ينتهون إلى الصلاح بالنسبة لهؤلاء الذين ينمون في النعمة ويبتعدون عن الشر بالنسبة لأولئك الذين قد استحوذ عليهم الشر، وعندما يصل الشر إلى أقصى درجاته، يتحقق الصلاح ويختفى الشر. وهذا بكل تأكيد هو تاج الرجاء، ألاّ يبقى شئ مُضاد للأتقياء، لكن الذي يبقى هو الحياة الإلهية، فبعدما تسود على كل شئ سيختفى الموت بالكامل من البشر، طالما أنه قد مُحيت الخطية، تلك التي بها ساد الموت على الجميع كما قيل.

          عندما تبطل كل سلطة وكل سيادة للشر علينا، وعندما لا تُسيطر أى شهوة على طبيعتنا، فهناك إحتياج مطلق لأن يخضع الكل لمن هو أصل وبداية الكل. والخضوع لله هو التغرب الكامل عن الخطية. إذًا عندما نوجد جميعًا بحسب محاكتنا للباكورة، خارج دائرة الشر أو الخطية، فحينئذٍ ستخضع طبيعتنا كلها لسيادة الصلاح، طالما أنها قد إتحدت بالباكورة، وصارت واحدة معها على الدوام. وهكذا بعدما إتحدت طبيعتنا الإنسانية بالطبيعة الإلهية غير المائتة، فى شخصه المبارك يتحقق فينا مقولة “خضوع الابن”، طالما أن الخضوع الذي يتحقق بالجسد تم في الابن، الذي وضع فينا نعمة الخضوع.

          هذا هو المعنى كما أتصور، فيما علّم به الرسول بولس. لكن من المناسب الآن أن أعرض كلام الرسول بولس نفسه وهو الآتى: ” لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع. ولكن كل واحد في رتبته المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه. وبعد ذلك النهاية متى سلم الملك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه. آخر عدو يبطل هو الموت. لأنه أخضع كل شئ تحت قدميه. ولكن حينما يقول إن كل شئ قد أُخضع فواضح أنه غير الذي أخضع له الكل. ومتى أخضع له الكل فحينئذٍٍ الابن نفسه أيضًا سيخضع للذي أخضع له الكل كى يكون الله الكل في الكل[24]. والملاحظ فى هذه العبارة الأخيرة يصور أو يصف بالكلمة وبوضوح إختفاء الخطية، قائلاً إن الله سيسود على كل شئ ويصير الكل لكل أحد. أى من الواضح أنه في ذلك الوقت سيتحقق حضور الله في الكل عندما لا يكون هناك أية خطية داخل البشر. فمن المؤكد أنه ليس أمرًا طبيعيًا أن يأتى الله وسط الخطية أو وسط الشر. ولن يوجد الله في الكل عندما تبقى بقية للخطية في البشر، فإن كان ينبغى علينا أن  نؤمن أن الله يوجد حقًا في الكل، فحينئذٍ سيتضح أنه لا مكان للخطية فى هذه الحالة. لأنه من غير الممكن أن يوجد الله وسط الشر.

          وأيضًا أن يصير الله الكل في الكل، هو برهان على بساطة وفرادة الحياة التي نترجاها. من حيث إن هذه الحياة التى نترجاها ستكون مختلفة تمامًا عن الحياة الحاضرة، وهذا ما قصده بعبارة: ” يكون الله الكل في الكل“، وفيما يختص بهذه الحياة يُعد التحول نحو الأمور الإلهية أمرًا ضروريًا لكل أحد، حيث يكون الله هو طعامنا وشرابنا، وأيضًا يصير لنا الملبس والغطاء والهواء والمكان والغنى والمتعة والجمال والصحة والقوة والفكر والمجد والسعادة وكل شئ يختص بالصلاح باعتباره مُعد لنا. إذًا أهمية هذا الكلام تظهر حين يتحد الإنسان بالله، حتى أننا بهذا نتعلم أن كل من هو مُتحد بالله، يمتلك كل شئ بإعتباره يحيا بالله. وأن يحيا أحد بالله، ليس هو أمر آخر سوى أنه اتحد بالله. ولا توجد طريقة أخرى لإتحاد أحد بالله إن لم يصر جسدًا واحدًا معه، كما يقول القديس بولس. بمعنى أننا عندما نتحد معًا فى جسد واحد، نصير جميعًا جسد المسيح الواحد. إذًا عندما يسود الصلاح على الجميع، فحينئذٍ كل جسد الإنسان سيخضع للقوة المحيية، وهكذا فإن خضوع جسده يُقال عنه بأنه خضوع للابن الذي إتحد بالكنيسة التي هى جسده، الأمر الذي يشير إليه الرسول بولس في رسالته إلى أهل كولوسى بقوله: ” الذي الآن أفرح في آلامى لأجلكم وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمى لأجل جسده الذي هو الكنيسة[25] وإلى كنيسة كورنثوس يكتب: “ وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا[26]. هذا التعليم ذَكره بوضوح في رسالته إلى أهل أفسس حيث يقول: ” بل صادقين في المحبة ننمو في كل شئ إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح الذي منه كل الجسد مُركبًا معًا ومقترنًا بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو للجسد لبنيانه في المحبة[27]. لأن المسيح يكمّل بنيان جسده (أى الكنيسة) بواسطة هؤلاء الذين ينضمون باستمرار إلى الإيمان، وسيتوقف عن بنيان جسده عندما يصل نمو وكمال هذا الجسد إلى قياسه هو، ولا يصبح هناك شيئًا ناقصًا من هذا الجسد، بعدما يكون كل البشر قد تأسسوا على أساس الأنبياء والرسل[28]، وإتحدوا في الإيمان عندما: ” ننتهى جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح[29].

          فإذا كان المسيح هو الرأس، وهو يبنى جسده بأولئك الذين ينضمون باستمرار (إلى هذا الجسد)، مؤلفًا الجميع معًا ومحددًا لكل واحد بحسب طبيعته وفق معيار طاقته ما هو مناسب له، حتى يصير هو اليد والرِجل والعين وكل ما يؤلف الجسد، على حسب إيمان كل واحد، فإنه بهذا، يبنى جسده كما قيل. لقد صار واضحًا من خلال كل هذا، أنه بواسطة حضوره في الجميع يقبل في نفسه كل من إتحد به عن طريق الشركة في الجسد الواحد، ويجعل الجميع أعضاء جسده وبرغم أنهم أعضاء كثيرون فهم جسد واحد. إذًا فإن ذاك الذي وحّدنا معه وإتحد بنا، وصار واحدًا معنا، جعل كل ما هو لنا هو له. وتاج صلاحنا هو في الخضوع للأمور الإلهية، وذلك عندما تتوافق كل الطبيعة مع نفسها: ” وتجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب[30]. حينئذٍ بعدما يصير الكل جسدًا واحد، وبعدما يتحد الجميع فيما بينهم في المسيح من خلال الخضوع، فإنه هنا يشير إلى خضوع جسده (أى الكنيسة) للآب. إذًا لا ينبغى أن يشك أحد فيما قيل. لأننا نحن أيضًا في كل ما يصير لجسدنا، من خلال عادة ما، ننسبها للنفس. مثل ذاك الذي تحدث إلى نفسه، عندما صار في وطنه رخاء، قائلاً لها: ” كلى واشربى وافرحى[31]، فهو يُشير إلى النفس حين يتحدث عن شبع الجسد، هكذا هنا خضوع جسد الكنيسة ينسب إلى الابن الذي اتحد بالطبيعة الإنسانية. لأن كل من هو متحد به يخلص، والخلاص يُفسر بالخضوع، كما تفرض علينا مزاميرنا أن نفكر. نتعلّم بحسب التتابع المنطقى لهذا الجزء من كورنثوس، أن نؤمن أنه لا يوجد أى شئ خارج أولئك الذين يخلصون. وهذا المعنى هو الذي يُعلن عنه كلام الرسول بولس من خلال بطلان الموت وخضوع الابن. لأنهما يتفقان فيما بينهما من حيث أن الموت لن يوجد، وأن الكل سيوجد داخل الحياة. الحياة هى الابن، والذي به صار ـ بحسب الكلمة الرسولية ـ إحضار كل البشرية أمام الآب بواسطة جسده. وجسده كما قيل مرات كثيرة، هو كل الطبيعة الإنسانية التي إتحد بها. وبهذا المعنى دُعى السيد وسيط بين الله والناس[32]. بمعنى أن ذاك الذي كان في الآب وأتى وحلّ داخل البشر قد إكتملت فيه الوساطة، أى يوجد الجميع فيه، ومن خلاله يتحد الجميع بالآب، كما يقول: ” كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا[33]. وهذا يُظهره الرسول بولس بوضوح، فطالما أن الابن الذي هو في الآب قد وحّدنا به، فإن بواسطته يتحقق إرتباطنا بالآب.

          بل والآيات اللاحقة في إنجيل يوحنا تتفق مع كل ما قاله: ” وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتنى[34]. وأنا أعتقد أن الحديث عن المجد هنا هو حديث عن الروح القدس، الذي أعطاه للتلاميذ حين نفخ في وجوههم. لأنه بكل تأكيد من غير الممكن أن تحدث وحدة فيما بين أولئك الذين تفرقوا، إن لم يتحدوا بواسطة الروح القدس. لأنه: ” إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له[35]. الروح القدس هو المجد، مثلما يقول في موضع آخر حين يتوجه إلى الآب قاائلاً: ” مجدنى أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم[36]. لأن الله الكلمة الذي كان له مجد الآب قبل خلق العالم، صار في الأيام الأخيرة جسدًا وكان ينبغى مع اتحاد الكلمة بالجسد أن ما هو للكلمة يصير للجسد، وهذا قد صار بالفعل، فقد أخذ الجسد هذا الذي كان للكلمة قبل إنشاء العالم. وهذا الذي كان للابن هو الروح القدس. لأنه لا يوجد أحد قبل الدهور سوى الآب والابن والروح القدس. ولهذا يقول هنا: ” وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتنى ليكونوا واحد كما أننا واحد“. لنرى الكلام اللاحق لذلك مباشرةً في الإنجيل (أى إنجيل يوحنا) ” ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد[37]. إننى أتصور أن هذه الأمور لا تحتاج إلى أى توضيح، ما تحتاجه هو الإتفاق مع المعنى المطروح، لأن الكلمات ذاتها تعرض بوضوح التعليم الخاص بهذه الأمور ” ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد“. وبالتأكيد من غير الممكن أن يصير الجميع واحدًا، مثلما نحن واحد، إن لم يتخلصوا من كل ما يفصلهم الواحد عن الآخر، وإن لم يتحدوا بنا لكى يكونوا واحدًا، كما نحن واحدًا. وكيف أكون أنا فيهم؟ لأنه ليس ممكنًا أن أوجد أنا فقط فيهم، لكن يجب على كل حال أن تكون أنت فيهم، لأننا نحن واحد. وهكذا سيكمّلون إلى واحد، هؤلاء الذين إكتملوا فينا. هذه النعمة يُعلن عنها الابن بوضوح في الكلام اللاحق قائلاً الآتى ” وأحببتهم كما أحببتنى [38]. أى أن الآب يحب الابن فإن كنا نوجد في الابن، نحن الذين صرنا جسده من خلال الإيمان به، فبالنتيجة من يُحب الابن يُحب جسده، ونحن جسده. إذًا قد صار واضحًا من خلال كل ما قلناه، أن المعنى الذي يقصده الرسول بولس في هذا الجزء من الرسالة إلى كورنثوس بخصوص خضوع الابن للآب، هو الاعلان بكل وضوح عن معرفة الله والخلاص الذي تحقق لكل الطبيعة الإنسانية.

          ولكن يمكن أن يصير كلام الرسول بولس في هذا الجزء من كورنثوس أكثر وضوحًا من خلال بعض المعانى الرسولية في مواضع أخرى، والتي سأشير إلى واحدة فقط منها، وسأتجاوز عن شهادات أخرى كثيرة، وذلك لكى لا أعطى لحديثى إمتدادًا أكثر. يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: “مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ[39]. إذًا لو أن بولس الذي صلب مع المسيح لا يحيا هو بل يحيا بالمسيح، فإن كل ما يصنعه كما يقول بولس يكون بالطبع من خلال المسيح الذي يحيا فيه. لأن الرسول بولس يقول إن كلامه هو كلام المسيح: ” إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ[40]. ويؤكد الرسول بولس على أن كل إنجازات فى العمل الكرازى ليست بقوته هو، لكنه ينسبها إلى نعمة المسيح الساكن فيه. إذًا إن كان يقال ـ تبعًا لهذه الرؤية ـ إن المسيح الساكن فيه هو الذي يعمل ويتكلم بما يقوله القديس بولس، فإن هذا قد حدث بعدما تحرر من كل قيود الفساد والموت، إذ كان قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا[41]، وقد صار هدفه هو الصلاح الحقيقي فقط، وفي هذا خضع وأطاع، وبناء على ذلك فإن خضوع القديس بولس لله يتحقق بالمسيح الذي يسكن فيه، والذي يتكلّم داخله بالصلاح، ويعمل من داخله، وقمة الصلاح كله هو في “الخضوع” لله. والآن فإن ما تبرهن عليه بالنسبة لشخص واحد، سيسرى منطقيًا على كل الطبيعة الإنسانية، عندما يحدث كما يقول الرب: ” ويُكرز بالإنجيل للخليقة كلها[42]. لأنه عندما يتخلص الجميع من إنسانهم العتيق بأعمالهم ورغباتهم، ويقبلون الرب داخلهم، فبالضرورة يكون ذاك الذي يحيا فيهم هو الذي يفعل كل صلاح يصنعونه. والسعادة العظمى التي تفوق كل شئ، هو في الصلاح الذي وُهب لنا بالإبتعاد عن فعل الشر. ولا توجد طريقة أخرى بها نستطيع أن نبتعد عن الشر إن لم نتحد بالله من خلال الخضوع له. وبناء على ذلك فإن الخضوع لله يتم في الابن الذي يسكن فينا. فإن كان هناك شئ حسن فهو منه، وإن كان هناك صلاح ما فإنه يأتى منه كما يقول أحد الأنبياء. إذًا طالما قد تبرهن أن الخضوع هو أمر حسن وصالح ويأتى من الابن، فعلى كل الأحوال الابن هو الصلاح الكامل الذي منه ينبع كل صلاح، كما يقول النبى. ولا ينبغى لأحد أن يحتقر كلمة “الخضوع” واضعًا في إعتباره المعنى السئ للكلمة كما يراه الكثيرون. لأن حكمة بولس العظيم تعرف أن تستخدم الكلمات بحرية، كما يعتقد هو أن ذلك حسن ويلائم بين معانى الكلمات من خلال ترابط أفكاره، حتى ولو كانت العادة تقود إلى استخدام هذه الكلمات تجاه معانى أخرى مختلفة. فمن أين أخذ إستعمال عبارات ” أخلى نفسه[43]، “عطيته التي لا يعبر عنها[44]، و” تعطل الإيمان[45] و”لئلا يتعطل صليب المسيح”[46]. وعندما استخدم هذه الكلمات في رسائله بأى كيفية قد إستخدمها؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يتهمه لأنه قال “حانين إليكم[47]، وهى كلمة تبيّن علاقة محبة؟ وكيف استخدم عبارة: ” لا تنتفخ[48]، لكى يُبيّن أن الإنتفاخ لا علاقة له بالمحبة؟.

          أيضًا الرغبة في النزاع وحب المشاجرة، كيف يقدمها الرسول بولس بكلمة (erqe…a) وهى تعنى عمل مقابل أجر، وهو معروف للجميع أن الكتاب المقدس أخذ كلمة (šriqoj – eriqe…a) من كلمة (eriourg…a) وهى تعنى صناعة الصوف، وقد إعتدنا أن نعرض لكلمة (eriqe…a) بمعنى الإنشغال بالمنازعات.

          لكن بولس لا يبالى بالجذور الجامدة للكلمات، ويُعبّر عما يعتقد أنه مناسب للمعنى الذي يريده بأى كلمات. ويمكن لمَن يفحص كلام الرسول بولس بدقة وهو غير مُستعبد للإستخدام المعتاد للكلمات، بل يستخدمها بحرية بالمعنى الذي يراه، ودون مراعاة مطلقًا للعادة، أن يجد فيه أمور أخرى كثيرة. هكذا هنا أيضًا فإن الرسول بولس فيما يختص بمعنى “الخضوع”، يُعطى معنى مختلف عن المعنى العام المعتاد.

          والدليل على ما أقوله، أنه ولا حتى فيما يختص بخضوع الأعداء، فى علاقته بهذا الجزء من الرسالة، هو خضوع إضطرارى وغير إرادى، مثلما يقول كل مَن هو عبد للعادة، لكن من خلال كلمة “الخضوع” يُستعلن الخلاص في هؤلاء. الدليل على هذا هو التمييز الذي صنعه الرسول بولس فيما يتعلق بكلمة عداوة في هذا الجزء من خلال معنيين. لأنه يقول إن من الاعداء مَن سيخضع ومنهم مَن سيُبطلون. سيبطل العدو الطبيعى أى الموت، وستُبطل الخطية وسلطانها وقوتها. وسيخضع لسبب آخر المدعون أعداء الله، أولئك الذين فضّلوا السلوك في الخطية على ملكوت الله، هذا ما أشار إليه في الرسالة إلى أهل رومية قائلاً: ” لأنه وإن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله[49]. الخضوع الذي يتحدث عنه هنا يُسميه هناك (أى في رسالة رومية) “صلح” وكلا الاسمين يعلن عن الخلاص. لأنه مثلما يأتى الخلاص من الخضوع، هكذا فإنه في موضع آخر يقول ” فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته[50].

          إذًا هؤلاء الأعداء ـ كما يقول الرسول بولس ـ سيخضعون لله، والموت لن يوجد بعد وسيبطل سلطانه. هذا ما تعنيه كلمة “سيبطلون” حتى أنه يصير واضحًا من خلال هذا أن سيادة الشر ستُستأصل بالكامل، بينما أولئك الذين عصوا، دُعوا أعداء الله، هؤلاء بالخضوع سيصيرون أحباء المسيح، حين يقتنعون بذاك الذي يقول: ” نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله[51]. بحسب وعد الإنجيل عندما يتصالحون سيُحصَون مع الأصدقاء وليس مع الأعداء. وهو (أى الابن) أيضًا: ” لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه[52]. وكما أعتقد سيكون أمرًا صالحًا أن نفهم بكلمة “يملك” أنه “يمتاز”. حينئذٍ يتوقف القوى عن أن يمتاز في الحرب، عندما يختفى كل شئ مقاوم للصلاح، عندما يجمع كل مُلكه ويقدمه لله الآب، موحدًا كل شئ فيه. والقول بأنه يُسلم ملكه لأبيه، نفس المعنى يحمله القول بأنه يقود الجميع إلى الله، ذاك الذي فيه لنا قدوم لدى الآب. إذًا فهؤلاء الذين كانوا ذات مرة أعداءً له، ثم صاروا تحت أقدام الله، عندما يبطل الموت (طالما أنه لن يوجد أموات، فبالطبع لن يوجد موت)، عندئذٍ من خلال خضوعنا جميعًا، والذي لا يُفهم بالتأكيد على أنه خضوع عبودية، بل هو ملكوت لا يفنى وسعادة دائمة، عندها كما يقول الرسول بولس فإن ذاك الذي يحيا داخلنا (أى الابن) سيخضع لله، ذاك الذي به يكتمل صلاحنا ويصنع بنا ما هو مُسر أمام الله.

          على قدر قدراتنا الذهنية، قد فهمنا على قدر ما نستطيع هذا الجزء (أى المتعلق بخضوع الابن) والخاص بحكمة بولس العظيم، وقد أردنا أن نُبيّن أن المقاومين للإيمان من الهراطقة، لم ينتبهوا إلى هدف الرسول بولس الذي من أجله كتب هذا الكلام. أخيرًا إن كان التفسير الذي قدمته لك بشأن هذا الموضوع يكفيك، فلنعطِ المجد لله. أما إن إتضح لك أن هناك شيئًا ناقصًا في هذا الإيضاح، فسأقبل برغبة كاملة أن تكمل ما نقص، لو أوضحت لنا ذلك برسالة منك، وأصلي أن تُستعلن المعانى المختفية بالروح القدس.

[1] مز6:12.

[2] تيطس 9:2.

[3] مز6:8.

[4] مز3:47.

[5] مز3:18.

[6] مز1:62.

[7] مز1:6.

[8] لو 51:2.

[9] عب15:4.

[10] يو4:2.

[11] أى بالطبيعة البشرية للكلمة المتجسد

[12] 1كو35:15.

[13] 1كو47:15ـ49.

[14] 1كو13:15ـ14.

[15] 1كو22:15.

[16] ” كل عجينة البشرية أعطتها بالكمال لله الخالق وكلمة الآب” (ثيوطوكية الخميس).

[17] إش9:53.

[18] 1كو23:15.

[19] 1كو20:15.

[20] كو18:1.

[21] أع24:2.

[22] عب14:2.

[23] 1كو24:15.

[24] 1كو22:15ـ28.

[25] كو24:1.

[26] 1كو27:12.

[27] أف15:4ـ16.

[28] أف20:2.

[29] أف13:4.

[30] في10:2ـ11.

[31] لو19:12.

[32] 1تيمو5:2.

[33] يو21:17.

[34] يو22:17.

[35] رو9:8.

[36] يو5:17.

[37] يو21:17ـ22.

[38] يو23:17.

[39] غلا20:2.

[40] 2كو3:13.

[41] 1تيمو13:1.

[42] مر15:196.

[43] في7:2.

[44] 1كو15:9.

[45] رو14:4.

[46] 1كو17:1.

[47] 1تس8:2.

[48] 1كو4:13.

[49] رو10:5.

[50] رو10:5.

[51] 2كو20:5.

[52] 1كو25:15.

 

خضوع الابن للآب – ق. غريغوريوس النيسى – د. سعيد حكيم يعقوب