آبائيات

الكرازة الرسولية ج1 – ق. إيرينيوس – د. نصحى عبد الشهيد

الكرازة الرسولية ج1 - ق. إيرينيوس - د. نصحى عبد الشهيد

الكرازة الرسولية ج1 – ق. إيرينيوس – د. نصحى عبد الشهيد

 

الكرازة الرسولية ج1 - ق. إيرينيوس - د. نصحى عبد الشهيد
الكرازة الرسولية ج1 – ق. إيرينيوس – د. نصحى عبد الشهيد

 

كتاب

” الكرازة الرسولية ”

للقديس إيرينيوس

مع دراسة عن حياته وتعليمه

 

 

الجزء الأول

القديس إيرينيوس أسقف ليون

 

القديس إيرينيوس أو صانع السلام ـ كما يعنى اسمه ـ هو أشهر آباء القرن الثانى فى شهادته للإيمان الرسولى ودفاعه عن العقيدة المسيحية فى مواجهة البدع الغنوسية. ولذلك يستحق أن يُلقب بمؤسس علم اللاهوت المسيحى، ولُقب أيضًا بـ”أبو التقليد”.

 

نشأته:

         من الصعب تحديد تاريخ ميلاد إيرينيوس بالضبط، ولكن علماء الآباء يرجحون أنه وُلد ما بين 135 ـ 145م، إذ يخبرنا إيرينيوس نفسه أنه فى شبابه المبكر عرف القديس بوليكاربوس الذى كان تلميذًا ليوحنا الرسول، وأن القديس يوحنا الرسول هو الذى أقام بوليكاربوس أسقفًا على كنيسة سميرنا أو أزمير[1]، إذ سجل لنا يوسابيوس المؤرخ من بين ما سجل من كتابات القديس إيرينيوس الرسالة التى كتبها القديس إيرينيوس إلى فلورينوس:

[ لأننى لما كنت صبيًا رأيتك فى آسيا السفلى مع بوليكاربوس تتحرك فى عظمة الحاشية الملكية، ومحاولاً أن تنال رضاه. وإننى أتذكر حوادث ذلك الوقت بوضوح أكثر من حوادث السنوات الأخيرة. لأن ما يتعلّمه الصبيان يرسخ فى عقولهم. كذلك ففى إمكانى وصف نفس المكان الذى كان يجلس فيه المغبوط بوليكاربوس وهو يلقى أحاديثه، ودخوله وخروجه، وطريقة حياته، وهيئة جسمه، وأحاديثه للشعب، والوصف الذى قدمه عن عِشرته ليوحنا، والآخرين الذين رأوا الرب، ولأن بوليكاربوس كان متذكرًا كلماتهم، وما سمعه منهم عن الرب وعن معجزاته وتعاليمه لاستلامها من شهود شهدوا بأعينهم كلمة الحياة، فقد روى كل شئ بما يتفق مع الأسفار المقدسة. وإذ أصغيت إلى هذه الأمور برحمة الله بانتباه كبير مسجلاً إياها ليس على ورقٍ بل فى قلبى صرتُ أرددها على الدوام بأمانة بنعمة الله][2].

         ومن هذه الكلمات يتضح تمامًا أن إيرينيوس اتصل بالعصر الرسولى عن طريق القديس بوليكاربوس، وهذا ما أعده لكى يكون شاهدًا أمينًا للتقليد الرسولى الذى استلمه بواسطة بوليكاربوس الذى كان تلميذًا وصديقًا للقديس يوحنا الرسول وآخرين غيرهم من الذين رأوا الرب. وبعد عدة سنوات من استشهاد القديس بوليكاربوس فى سنة 156م، رحل إلى الغرب متجهًا إلى بلاد الغال (فرنسا حاليًا)، وربما يكون قد مكث بعض الوقت فى روما وهو فى الطريق إلى فرنسا، وقد يكون تتلمذ لبعض الوقت لمعلّمين مثل يوستينوس الذى كان فى روما فى تلك الفترة قبل استشهاده. ثم بعد ذلك انتهى به المطاف إلى الغال.

         وفى سنة 177م أرسله شهداء كنائس ليون وفيينا، الذين كانوا فى السجن، إذ كان قسيسًا لكنيسة ليون، للتوسط فى الصراع الذى نشأ بخصوص بدعة مونتانوس فى آسيا الصغرى. وكان يحمل رسالة كنائس فيينا وليون إلى كنائس آسيا وفريجية، والتى يرى بعض العلماء أنها من قلم إيرينيوس نفسه، وقد حُفظت أجزاء من هذه الرسالة فى تاريخ يوسابيوس الكتاب الخامس: 1ـ3.

         كما أن كنائس ليون وفيينا أرسلت رسالة أخرى إلى إليفثريوس أسقف روما (175ـ189) بواسطة إيرينيوس، وقد شهد هؤلاء المعترفون من السجن الشهادة التالية عن إيرينيوس فى هذه الرسالة:

         [ أيها الأب إليفثريوس إننا مرة أخرى نرجو لك السلام من الله على الدوام. ولقد طلبنا من أخينا ورفيقنا إيرينيوس أن يحمل هذه الرسالة إليك، ونتوسل إليك أن توقره وقارًا كبيرًا لأنه مملوء غيرةً على وديعة المسيح وعهده. فلو كان المركز يُضفى برًا على أى واحد لكنا أوصينا، فهو به أول من يستحقون التوصية لكونه قسيس الكنيسة وهذا هو مركزه][3].

         وبعد أن رجع إيرينيوس من روما، فإن أسقف ليون المُسن فوتيوس توفى شهيدًا، وصار إيرينيوس أسقفًا لليون خلفًا له.

 

إيرينيوس ومشكلة الأربعشرية (أى تعييد الفصح يوم 14 نيسان العبرى):

         فى سنة 190م حدث خلاف بين كنائس آسيا الصغرى وبين فيكتور الأول أسقف روما حول ميعاد تعييد الفصح المسيحى. وعقد فيكتور مجمعًا فى روما حرّم فيه أساقفة آسيا بسبب تعييدهم عيد القيامة يوم 14 نيسان. وطلب أسقف روما من كل كنائس العالم أن تتبع تقليد كنيسة رومية بخصوص عيد الفصح وهو أن يكون العيد المسيحى فى الأحد التالى للفصح اليهودى، فى حين أن كنائس آسيا الصغرى كانت تُعيّد عيد القيامة مع اليهود فى اليوم الرابع عشر من نيسان العبرى، فى أى يوم اتفق من أيام الأسبوع. قائلين إنهم تسلموا هذا التقليد من بوليكاربوس، وأنه بدوره استلمه من يوحنا الرسول.

         وفى هذا الموقف الصعب فى هذا العصر برز إيرينيوس وقام بدور هام لحفظ سلامة الكنيسة، فكتب عددًا من الرسائل إلى الأساقفة فى آسيا وإلى فيكتور أسقف روما نفسه، يحث فيها الجميع على السلام أو بحسب تعبير يوسابيوس المؤرخ فإنه قال: [ إن سر قيامة الرب يجب أن يُحفظ فقط فى يوم الرب]. ويضيف يوسابيوس قائلاً: [حقًا فعل (إيرينيوس) إذ نصح فيكتور بألاّ يقطع كنائس الله برمتها وهى حافظة تقليد عادة قديمة… وهكذا صار إيرينيوس صانعًا للسلام، وهذا هو معنى اسمه، إذ قدم النصائح وأرسل الرسائل اللازمة على هذا الوجه من أجل سلام الكنائس][4].

         بعد هذا الموقف الذى ظهر فيه دور إيرينيوس الرسولى فى إعادة السلام بين الكنائس مما جعل جيروم يسميه “الأسقف الرسولى والشهيد” وذلك فى سياق تفسيره لسفر إشعياء. ويذكر كواستن[5] أنه بعد هذا الدور البارز لصانع سلام الكنيسة كلها لم يرد ذكر لإيرينيوس فى المصادر التاريخية إلى أن ذكره غريغوريوس أسقف تور (573ـ594)[6]، الذى ذكر أنه مات شهيدًا سنة 202م. وهكذا يكون القديس إيرينيوس قد شهد خراب مدينة ليون الذى حدث سنة 197م.

 

كتابات إيرينيوس:

         بالإضافة إلى عمل إيرينيوس الرعائى كأسقف لإيبارشية، فإنه كرّس جزءً كبيرًا من وقته لمهمة دحض الهرطقات الغنوسية بواسطة الكتابات الكثيرة التى كتبها لهذا الغرض. وتظهر براعته وموهبته فى دحض التعاليم المنحرفة بنوع خاص فى الكتاب المشهور والضخم الذى كتبه القديس إيرينيوس وعُرِف باسم “ضد الهرطقات” فى خمس كتب. هذا ولقد جمع إيرينيوس بين معرفة واسعة وشاملة لمصادر الإيمان والتقليد مع روح جادة وحماس دينى كبير. فإن معرفته الشاملة بالتقليد الكنسى التى يدين بها لعلاقته بالقديس بوليكاربوس وغيره من تلاميذ الرسل الآخرين، هذه المعرفة بالتقليد الكنسى كانت مصدر قوة عظيمة جدًا فى كفاحه ضد الهراطقة.

         ومما يُؤسف له أن كتاباته باللغة اليونانية فُقدت فى وقت مبكر. ولم يتبق من كتاباته وأعماله الكثيرة التى كتبها بلغته اليونانية سوى كتابان:

         1 ـ أحد هذين الكتابين هو كتابه الذى يفوق كل الكتب الأخرى فى أهميته من جهة الإيمان. وهذا الكتاب هو ما اشتهر باسم “ضد الهرطقات”، ولكنه لم يصلنا فى لغته اليونانية الأصلية التى كُتب بها بل فى ترجمة لاتينية وهى ترجمة حرفية. وهذا الكتاب يتكون من جزءين رئيسيين. الجزء الأول يكشف أصول وتفاصيل الهرطقة الغنوسية. ويذكر فيه أسماء الهراطقة الغنوسيين ويعتبره العلماء أفضل مصدر لمعرفة الغنوسية وتاريخها. والجزء الثانى يدحض فيه تعاليم الغنوسيين خاصة فالنتينوس وماركيون، كما يوضّح عقيدة الكنيسة عن الآب والابن، وكل عقائد الإيمان الأساسية المُسلّمة من الرسل.

         2 ـ والكتاب الثانى الهام الذى كتبه القديس إيرينيوس هو “شرح الكرازة الرسولية” ولسهول الاستعمال سنذكره بعنوان “الكرازة الرسولية”. هذا الكتاب كان أصله اليونانى مفقودًا طوال القرون الماضية. ولم يكن لدينا سوى اسمه فقط، وقد حُفظ اسمه فى كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس (الكتاب الخامس فصل26)، وفى سنة 1904م أراد الله أن يُكتشف هذا الكتاب الهام كاملاً فى ترجمة باللغة الأرمينية، والذى اكتشفه هو “تيرمكيرتشيان” (Ter -Mekerttschian) الذى قام بنشره للمرة الأولى سنة 1907م.

 

 

التعليم اللاهوتى للقديس إيرينيوس:

         ترجع أهمية القديس إيرينيوس اللاهوتية لسببين:

السبب الأول: أنه رفع القناع الذى كانت البدعة الغنوسية تغطى به تعليمها، مدّعية أن تعاليمها هو الإيمان المسيحى الصحيح، وبرفع هذا القناع استطاعت الكنيسة فى عصره أن تستبعد هذه الهرطقة من الكنيسة.

والسبب الثانى: أنه نجح نجاحًا عظيمًا فى تحديد وتعريف عناصر إيمان الكنيسة الجامعة، الذى كان الغنوسيون ينكرونه أو يسيئون تفسيره، مما يجعله جديرًا بأن يُلقب بـ”مؤسس علم اللاهوت المسيحى”.

         كان إيرينيوس لا يميل إلى التفكير النظرى المجرد ولم يجتهد لكى يُبدع اكتشافات لاهوتية لم تكن مُسلّمة من الرسل، وبالعكس قد كان دائمًا يتشكك بسهولة فى أى نوع من المعرفة أو العِلم النظرى المجرد. ولذلك نجده يقول فى كتاب “ضد الهرطقات”: [من الأفضل للإنسان ألاّ يحصل على عِلم أو معرفة عن السبب الذى لأجله خُلق أى مخلوق من المخلوقات، بل بالحرى ينبغى أن تؤمن بالله وتستمر فى محبته أفضل من أن تنتفخ بمعرفة من هذا النوع وهذا يؤدى بك إلى السقوط من محبة الله، التى هى حياة الإنسان. ولا ينبغى للإنسان أن يسعى وراء أى معرفة أخرى سوى معرفة يسوع المسيح ابن الله الذى صُلِب من أجلنا، فمن يسعى وراء معرفة أخرى مستخدمًا أسئلة خبيثة وتعبيرات ماكرة ومُعقدة فإنه سيسقط فى الكفر وعدم التقوى] (AH2:26:1).

         وبالرغم من موقفه الحذر والمتشكك تجاه التعاليم اللاهوتية النظرية المجردة، كما يقول عالِم الآباء المشهور جوهانسن كواستن[7]، فإن إيرينيوس جدير بمكانة عظيمة وفضل لا يبارى على الإيمان المسيحى، لأنه أول من قام بصياغة المصطلحات العقائدية لكل تعاليم الإيمان المسيحى.

 

1ـ تعليم القديس إيرينيوس عن الثالوث:

         يتميز تعليم القديس إيرينيوس عن الثالوث بالتأكيد على أن الإله الواحد الحقيقى هو نفسه خالق العالم، وهو نفسه إله العهد القديم، وهو نفسه أبو الكلمة. ورغم أن إيرينيوس لا يبحث فى العلاقات بين الأقانيم الثلاثة أحدها بالآخر، إلاّ أنه مقتنع أن وجود الآب والابن والروح القدس ثابت بوضوح فى تاريخ الجنس البشرى. فالآب والابن والروح القدس موجودون قبل خلقة العالم لأنه كما يقول، فإن الكلمات: ” نصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا” (تك26:1س) هى مُوجهة من الآب إلى الابن والروح القدس، هذين الأقنومين اللذين يدعوهما القديس إيرينيوس بلقب: “يدىّ الله” (انظر AH5:19:3، 5:28:1، 5:5:1). ويشرح القديس إيرينيوس بتكرار أن الروح القدس مع الكلمة يملأ الأنبياء بمسحة الوحى وكيف أن الآب هو الذى دبر كل هذه الأمور. ولذلك فإن كل تدبير الخلاص فى العهد القديم هو عند إيرينيوس درس ممتاز رائع عن الأقانيم الثلاثة فى الإله الواحد.

 

2ـ تعليم القديس إيرينيوس عن المسيح:

         أ ـ بخصوص علاقة الابن بالآب:

         يقول القديس إيرينيوس إنه لا يستطيع أحد أن يدرك كيفية ولادة الابن من الآب ولا يستطيع أحد أن يفهم طبيعة هذه الولادة الإلهية، وما هو الاسم الذى يطلقه عليها لأنها أمر يعلو على كل وصف أو شرح. ولا يوجد مَنْ يعرف هذه العلاقة سوى الآب الذى يلد الابن، والابن الذى وُلِدَ من الآب. ولذلك يقول القديس إيرينيوس: ” حيث إن هذه الولادة لا يمكن التعبير عنها بالكلام وتفوق الإدراك، لذلك فإن أولئك الذى يحاولون أن يضعوا ويرتبوا ولادات[8] وتوّلدات لا يمكن أن يكونوا عقلاء لأنهم يحاولون أن يصفوا أمورًا من المستحيل وصفها” (AH2:28:6).

         ويقدم لنا القديس إيرينيوس أول محاولة لإدراك العلاقة بين الآب والابن فيقول: ” الله قد أُعلِن من خلال الابن الذى هو فى الآب والذى له الآب فى ذاته” (AH3:6:2). كما يؤكد القديس إيرينيوس أن الآب هو نفسه خالق العالم وذلك ردًا على الغنوسيين. وهو أيضًا يعلّم أنه يوجد مسيح واحد حتى إن كنا نعطيه أسماء عديدة. لذلك فالمسيح هو ابن الله، وهو الكلمة، وهو يسوع الإله المتجسد، وهو مخلصنا وربنا.

 

ب ـ جمّع الكل فى المسيح:

         إن قلب تعليم إيرينيوس عن المسيح بل ومحور وقلب كل تعليمه اللاهوتى هو رؤيته الخاصة بـ ” جمّع الكل فى المسيح“. واضح أن القديس إيرينيوس استعار هذا التعبير من بولس الرسول فى رسالته إلى أفسس (10:1) ” لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ فى المسيح“. ثم امتد بهذه الفكرة امتدادًا كبيرًا حتى صارت فكرة ” جمع كل شئ فى المسيح” تحوى كل تعليمه عن التجسد والفداء وحلول الروح القدس وتأسيس الكنيسة، وكون المسيح رأس الجسد أى “الكنيسة”. فيقول إيرينيوس إن “جمع كل شئ فى المسيح” يشمل أخذ كل الأشياء منذ البداية وجعلها فى المسيح. فالله أعاد الخطة الإلهية الأولى الخاصة بخلاص الجنس البشرى التى انقطعت بسقوط آدم، وهو يجمع كل ما عمله منذ البداية لكى يجدّد، ولكى يرد، ولكى يعيد تنسيق كل شئ فى ابنه المتجسد، الذى يصير بهذه الطريقة هو آدم ثانٍ لأجلنا. وحيث إنه بسقوط الإنسان ضاع كل الجنس البشرى، فكان يلزم أن يصير ابن الله إنسانًا لكى يتمّم إعادة خلق جنس البشر: [المخلوقات التى هلكت كان لها جسد ودم لأن الرب صنع الإنسان من تراب الأرض، ولأجله حدثت كل تدبيرات مجيء الرب. لذلك أخذ لنفسه جسدًا ودمًا جامعًا فى نفسه ليس إنسانًا آخر معينًا بل ذلك الإنسان الأول الذى خلقه الآب، إذ انه كان يطلب ذلك الذى كان قد هلك] (AH5:14:2).

         وبهذا “الجمع” للإنسان الأصلى فى المسيح قد تم تجدّيد ورد ليس آدم الأول شخصيًا فقط بل وكل الجنس البشرى، إذ يقول: [حينما تجسد وصار إنسانًا، جمّع فى نفسه كل تاريخ الإنسان الممتد جامعًا إيانا ومعطيًا لنا الخلاص لكى ننال مرةً أخرى فى المسيح يسوع ما قد فقدناه فى آدم، أى صورة الله ومثاله] (AH3:18:1).

         وفى نفس الوقت فإن النتائج الشريرة لعصيان آدم الأول قد أُبيدت، إذ يقول: [الله جمّع فى نفسه صورة الإنسان القديمة، لكى يقتل الخطية ويجرد الموت من سلطانه ويحيى الإنسان] (AH3:18:7). وبهذه الطريقة فإن آدم الثانى قد جدَّد الصراع القديم ضد إبليس وهزمه، إذ يقول القديس إيرينيوس: [ لو أن الرب كان قد أتى من أب آخر غير الله الآب لما كان قد جمّع فى نفسه تلك العداوة الأولى ضد الحية، ولكن لأنه هو هو نفسه الذى هو واحد، وهو نفسه الذى صنعنا فى البداية ثم أرسل إلينا ابنه فى النهاية، فإن الرب تمّم هذا الأمر، مولودًا من امرأة، إذ أباد عدونا كما أنه أكمّل الإنسان على صورة الله ومثاله] (AH5:21:2).

         ولهذا جدَّد المسيح كل شئ بجمعه كل شئ فى نفسه. فيقول القديس إيرينيوس: [إذن فما الذى أحضره المخلّص عند مجيئه، اعلم أنه أتى بكل الجدة، بأن حضر بنفسه، وهو نفسه الذى سبق التنبؤ عنه. لأن هذا قد أُعلِن جهارًا، أن هناك جدة سوف تأتى، لتجدّد الإنسان وتعطيه الحياة] (AH4:34:1).

 

 

 

3ـ تعليم القديس إيرينيوس عن الكنيسة:

أ ـ تعليم القديس إيرينيوس عن الكنيسة أو ما يسميه العلماء بـ”الإكليسولوجى” مرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرته عن “جمع الكل فى المسيح”. فالله يجمع فى المسيح ليس الماضى فقط بل والمستقبل أيضًا. لذلك فقد جعله الآب رأس الكنيسة كلها لكى يواصل بواسطتها عمل التجدّيد إلى نهاية العالم. فيقول: [ لذلك إذ يوجد إله واحد هو الآب كما سبق أن أوضحنا، ومسيح واحد هو المسيح يسوع ربنا، الذى جاء بتدبير جامع وشامل لكى يجمع كل الأشياء فى نفسه، ومن ضمن كل هذه الأشياء (المخلوقة) الإنسان الذى هو خليقة الله؛ لذلك فهو يجمع الإنسان أيضًا فى نفسه. فغير المنظور صار منظورًا وغير المُدرك صار مُدركًا وغير المتألم صار متألمًا؛ والكلمة صار إنسانًا جامعًا كل الأشياء فى نفسه من جديد. وهكذا، فكما أنه هو الأول بين الكائنات السماوية والروحية غير المنظورة، هكذا أيضًا هو الأول بين الأشياء المنظورة والجسمانية، فهو يأخذ الرئاسة لنفسه وإذ جعل نفسه رأس الكنيسة، فهو سوف يجذب كل الأشياء إلى نفسه فى الوقت المحدد] (AH3:16:6).

ب ـ القديس إيرينيوس كان متيقنًا بثبات تام أن تعليم الرسل مستمر بغير تغيير فى الكنيسة. هذا التعليم أى التقليد هو مصدر الإيمان وقاعدته، فهو قانون الحق، وقانون الحق هذا عند إيرينيوس هو قانون إيمان المعمودية، لأنه يقول إننا نستلمه فى المعمودية (AH1:9:4). ويعطى القديس إيرينيوس وصفًا لإيمان الكنيسة بحسب قانون إيمان الرسل بالضبط، إذ يقول: [ رغم أن الكنيسة منتشرة فى كل العالم، منتشرة فى كل المسكونة من أقاصيها إلى أقاصيها، فقد استلمت من الرسل وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، الآب ضابط الكل، خالق السماء والأرض والبحار وكل ما فيها؛ والإيمان بالمسيح يسوع الواحد، الذى هو ابن الله، الذى تجسد لأجل خلاصنا؛ والإيمان بالروح القدس الذى أعلن التدبير بواسطة الأنبياء، أى بمجيء المسيح وميلاده العذراوى وآلامه وقيامته من بين الأموات، وصعود ربنا المحبوب المسيح يسوع إلى السماء جسديًا، وظهوره ثانيةً من السماء فى مجد الآب لكى يجمع كل الأشياء فى نفسه ولكى يقيم أجساد كل البشر إلى الحياة، لكى تجثو للمسيح يسوع ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كل ركبة، بحسب مشيئة الآب غير المنظور، ولكى يعترف كل لسان له، ولكى يجرى دينونة عادلة للجميع ولكى يطرد أرواح الشر والملائكة الذين تعدوا وصاروا مضادين وكذلك الأثمة والأشرار ومخالفى الناموس والدنسين، يطرح الجميع فى النار الأبدية؛ ولكن فى نعمته سوف يهب الحياة ومكافأة عدم الفساد والمجد الأبدى لأولئك الذين حفظوا وصاياه وثبتوا فى محبته سواء منذ بداية حياتهم أو منذ وقت توبتهم. هذه الكرازة وهذا الإيمان تحفظه الكنيسة باجتهاد رغم أنها مُشتتة فى كل العالم، تحفظه بكل اجتهاد كما لو كانت كلها تسكن فى بيت واحد، وهى تؤمن بهذا وكأن لها عقل واحد وتكرز وتعلّم وكأن لها فم واحد، ورغم أن هناك لغات كثيرة فى العالم، إلاّ أن معنى التقليد واحد، وهو هو نفسه. لأن نفس الإيمان تتمسك به وتسلّمه الكنائس المؤسسة فى ألمانيا، وأسبانيا، وقبائل قوط، وفى الشرق، وفى ليبيا، وفى مصر، وفى المناطق الوسطى من العالم. ولكن كما أن الشمس وهى مخلوقة من الله، هى واحدة، وهى هى نفسها فى كل المسكونة، هكذا أيضًا نور كرازة الحق، الذى يضيء على كل الذين يرغبون أن يحصلوا على معرفة الحق] (AH1:10:1-2).

ج ـ وعلّم القديس إيرينيوس أن الكنائس المُؤسسة من الرسل فقط هى التى يمكن أن يُعتمد عليها فى معرفة التعليم الصحيح للإيمان ومعرفة الحق، لأن تسلسل الأساقفة غير المنقطع فى هذه الكنائس هو الذى يضمن أن تعليمها هو الحق: [ أى شخص يريد أن يميز الحق، فإنه يمكن أن يرى التقليد الرسولى واضحًا وظاهرًا فى كل كنيسة فى العالم كله. ويمكننا أن نحصى أولئك الذين أُقيموا كأساقفة من الرسل فى الكنائس وكذلك خلفائهم حتى إلى يومنا الحاضر والذين لم يعرفوا أبدًا ولم يُعلّموا بتاتًا أى شئ يشبه التعليم الأحمق لهؤلاء (أى الغنوسيين). فلو كان الرسل قد عرفوا مثل هذه الأسرار الخفية التى يعلّمونها على انفراد وسرًا للكاملين لكانوا بالتأكيد قد استودعوا هذا التعليم للرجال الذين أقاموهم كمسئولين عن الكنائس، لأن الرسل كانوا يريدون أن هؤلاء الرجال الذين استلموا منهم السلطان أن يكونوا بلا لوم أو عيب] (AH3:3:1).

 

4 ـ تعليم القديس إيرينيوس عن الخلاص:

         محور تعليم القديس إيرينيوس عن الفداء هو حقيقة أن كل إنسان محتاج إلى الفداء ومُؤهل للفداء. وهذا نتج عن سقوط الأبوين الأولين الذى جعل كل نسلهم تحت الخطية والموت، وقد فقدوا صورة الله. فالفداء الذى صنعه ابن الله قد حرّر البشر من عبودية الشيطان وعبودية الخطية، وعبودية الموت. إضافة إلى ذلك، إن هذا الفداء استجمع كل البشرية فى المسيح، وقد أدى إلى إعادة الاتحاد بالله، وإلى التبنى لله، وإلى مشابهة الله. ولكن القديس إيرينيوس يتحاشى لفظة التأليه فى هذا المجال ولكنه يستخدم تعبيرات “الالتصاق بالله”، و”التعلق بالله” و”الاشتراك فى مجد الله”، ولكنه يتحاشى إلغاء الحدود الفاصلة بين الله والإنسان كما كان معتادًا فى الديانات الوثنية والهرطقات الغنوسية.

         والقديس إيرينيوس يميز بين صورة الله ومثال الله، فالإنسان عنده هو فى طبيعته ـ بروحه غير المادية ـ هو صورة لله. أما “مثال الله” فهو مشابهة لله من نوع فوق الطبيعة الذى كان آدم حاصلاً عليه بمبادرة من صلاح الله ونعمته. هذه المُماثلة لله تتحقق بفعل روح الله.

         فداء الشخص المفرد يتم بواسطة الكنيسة وأسرارها باسم المسيح، فالسر بالنسبة للطبيعة هو يقابل آدم الجديد بالنسبة للقديم. فالمخلوق ينال الكمال بالأسرار. فالسر هو ذروة جمع كل الخليقة فى المسيح. بالمعمودية يُولد الإنسان ثانية من الله. وعندما يتحدث عن المعمودية فإن إيرينيوس يشهد لأول مرة فى الكتابات المسيحية القديمة لمعمودية الأطفال: [ لقد جاء ابن الله ليخلّص الجميع بواسطة نفسه ـ أقول الجميع الذين يُولدون ثانية بواسطة الله ـ الرُضع، والأطفال ـ والصبيان، والشباب، والشيوخ] (AH2:22:4).

 

5ـ تعليم القديس إيرينيوس عن الإفخارستيا:

         القديس إيرينيوس كان عنده اقتناع تام بالحضور الحقيقى للمسيح بجسده ودمه فى الإفخارستيا لدرجة أنه يستنتج حقيقة قيامة الجسد الإنسانى من حقيقة كون هذا الجسد قد اغتذى بجسد المسيح ودمه:

         [ لذلك، حينما يحصل الكأس الممزوج والخبز المصنوع، على “كلمة الله”، وتصير الإفخارستيا جسد المسيح ودمه، هذه التى تنمى جسدنا وتسنده، فكيف يمكنهم أن يؤكدوا أن الجسد غير مهيأ لنوال موهبة الله، التى هى الحياة الأبدية؛ جسدنا هذا الذى يتغذى من جسد الرب ودمه، والذى هو عضو له؛ ذلك الجسد الذى يغتذى بالكأس التى هى دمه، وينال ازديادًا من الخبز الذى هو جسده. وكما أن الفرع المأخوذ من الكرمة عندما يُغرس فى أوانه، أو كما أن حبة الحنطة التى تسقط فى الأرض وتموت وتتحلل؛ تقوم بازدياد بأنواع كثيرة بقوة روح الله، وتصير هى الإفخارستيا التى هى جسد المسيح ودمه، هكذا أجسادنا أيضًا، إذ تتغذى منها، فإنها عندما توضع فى الأرض، وتتحلل وتموت، فإنها سوف تقوم فى وقتها المعين لها] (AH5:2:3). وفى موضع آخر يقول:

         [ وكيف يقولون إن الجسد يصير إلى فساد ولا يشترك فى الحياة، وهو الذى يتغذى على جسد الرب ودمه. فإما أن يغيروا رأيهم، أو فليكفوا أن يقدموا التقدمات التى ذكرتها. أما نحن فإن تعليمنا متفق مع الإفخارستيا، والإفخارستيا بدورها تثبت صحة تعليمنا. ونحن نقدم له التقدمات التى هى له، وبالتالى نكون مظهرين شركتنا واتحادنا، ومعترفين بقيامة الجسد والروح. لأنه كما أن الخبز الذى من الأرض، إذ ينال عطية الله، لا يبقى بعد خبزًا عاديًا بل إفخارستيا مكونة من عنصرين، واحد أرضى والآخر سماوى، هكذا أيضًا أجسادنا، إذ تنال من الإفخارستيا، لا تعود فيما بعد قابلة للفساد، بل يصير لها رجاء القيامة الأبدية] (AH4:18:5).

         ومن هذه الكلمات يتضح أن القديس إيرينيوس يؤمن بأن الخبز والخمر يتقدسان بصلاة استدعاء الروح. وكذلك يؤمن بأن الإفخارستيا ذبيحة، لأنه يرى فيها الذبيحة الجديدة التى تنبأ عنها ملاخى:

         [وإذ أعطى (الرب) توجيهات لتلاميذه أن يقدموا باكورات من كل الأشياء المخلوقة التى له ـ ليس كمن هو فى احتياج إليها، بل لكى لا يكونوا هم أنفسهم غير مثمرين، ولا غير شاكرين ـ لذلك أخذ ذلك الشئ المخلوق، أى الخبز، وشكر، وقال: ” هذا هو جسدى” وكذلك الكأس بالمثل، التى هى جزء من تلك الخليقة التى ننتمى نحن إليها، هذه الخمر اعترف بأنها دمه، وعلّم عن القربان الجديد الذى للعهد الجديد، والذى تقدمه الكنيسة لله فى كل العالم كما استلمته من الرسل، وهى تقدمة لذاك الذى يعطينا باكورة عطاياه للعهد الجديد كوسيلة للبقاء والوجود، تلك التقدمة التى تنبأ عنها ملاخى أحد الأنبياء الاثنى عشر قائلاً: ” ليست لى مسرة بكم قال رب القوات (الرب القدير)، ولا أقبل تقدمة من يدكم. لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمى عظيم بين الأمم، وفى كل مكان يُقرّب لاسمى بخور وتقدمة طاهرة لأن اسمى عظيم بين الأمم قال رب القوات (الرب القدير)” مبينًا بأوضح طريقة بهذه الكلمات، أن الشعب القديم (اليهود) سيكف عن أن يقدم تقدمات لله، ولكن سوف تُقدم له (لله) تقدمات فى كل مكان، تقدمات طاهرة، وأن اسمه سوف يتعظم بين الأمم] (AH41:17:5).

 

6 ـ تعليمه عن الإنسان:

         يتبنى القديس إيرينيوس فكرة تكوين الإنسان من جسد ونفس تنال الروح: فيقول: [ الجميع يعترفون أننا مكونون من جسد مأخوذ من الأرض، ونفس تلك التى تنال الروح من الله] (AH3:22:1).

         لذلك فالجسد البشرى الذى تحييه نفس طبيعية (أو حيوانية) فقط ليس إنسانًا كاملاً. ويبدو أن القديس إيرينيوس، مثل الرسول بولس، دائمًا يعتبر “الروح” الذى يكمل ويتوج الطبيعة البشرية، هو روح الله شخصيًا. فالمسيح وعد بهذا الروح كعطية لرسله ومؤمنيه، والرسول بولس يقول للمسيحيين مرة بعد مرة إنهم يحملون هذا الروح فى داخلهم كما فى هيكل. ويتضح تعليم إيرينيوس عن الإنسان من الفقرة التى يصف فيها الإنسان الكامل المخلوق على صورة الله:

         [ أنه بيدى الآب، أعنى بالابن والروح خُلِق الإنسان ـ وليس مجرد جزء من الإنسان ـ خُلِق على مثال الله. فالنفس والروح هما بالتأكيد جزء من الإنسان وبالتأكيد أيضًا ليس هما الإنسان؛ لأن الإنسان الكامل يتكوّن من مزيج واتحاد النفس بنوالها روح الآب، وخليط تلك الطبيعة اللحمية التى جُبلت أيضًا على حسب صورة الله.. لأنه إذا استبعد أحد الجسد من صناعة يدى الله، واعتبر الروح فقط صنعته، فإن هذا لا يكون إنسانًا روحيًا بل يكون روح إنسان أو روح الله. ولكن حينما تتحد الروح المندمجة مع النفس بالجسد، يصير الإنسان روحانيًا وكاملاً بسبب انسكاب الروح عليه، وهذا هو “الإنسان” الذى صُنِع على صورة الله ومثاله. ولكن إن كانت النفس بلا روح، فالذى يكون هكذا هو فى الحقيقة من طبيعة حيوانية وإذ يبقى لحميًا، فسيكون كائنًا ناقصًا حتى إن كان يملك صورة الله فى تكوينه، ولكنه غير حاصل على المماثلة بواسطة الروح؛ ولهذا يكون غير كامل. ولذلك أيضًا، إذا استبعد أحدٌ الصورة ووضع الجسد جانبًا فإنه لا يستطيع عندئذٍ أن يفهم أن هذا الكائن هو إنسان ـ كما قلت سابقًا ـ أو كشئ ما آخر غير الإنسان. لأن ذلك الجسد الذى قد جُبِل ليس هو إنسانًا كاملاً بذاته، ولكنه جسد إنسان وجزء من إنسان، وكذلك النفس ذاتها إذا اعتُبرت بذاتها فقط (أى بدون الجسد)، فهى ليس إنسانًا بل هى نفس الإنسان وجزء من الإنسان. وكذلك أيضًا فإن الروح ليست إنسانًا، لأنها تُدعى الروح، ولا تُدعى الإنسان؛ ولكن امتزاج الثلاثة معًا واتحادهم يكوّن إنسانًا كاملاً] (AH5:6:1).

         وفى موضع آخر من نفس الكتاب يقول: [ إذن، يوجد ثلاثة عناصر ـ كما سبق أن أوضحت ـ يتكوّن منها الإنسان “الكامل” وهى: الجسد، والنفس، والروح[9]. أحد هذه الثلاثة هو الذى يُحفظ ويشكِّل، وهذا هو الروح. أما بالنسبة للعنصر الآخر فهو المتحد والمُشَكّل فذلك هو الجسد؛ والعنصر الثالث هو بين هذين الاثنين ذلك هو النفس التى فى بعض الأحيان حينما تسير وراء الروح تسمو  بواسطة الروح، ولكن فى أحيانٍ أخرى إن مالت ناحية الجسد فإنها تسقط فى الشهوات الجسدية. إذن فأولئك الناس الذين ليس عندهم ما يخلِّص ويشكِّل للحياة الأبدية وليس فيهم الوحدة فإنهم يكونوا “لحمًا ودمًا”[10]، وبذلك سيُدعون هكذا “لحمًا ودمًا”. لأن هؤلاء هم الذين ليس لهم روح الله فى أنفسهم ومثل هؤلاء تكلم عنهم الرب بأنهم أموات حين  قال ” دع الموتى يدفنون موتاهم” (لو60:10)، لأنه ليس عندهم الروح الذى يحيى الإنسان” (AH5:9:1).

         ويُفهم من تعليم القديس إيرينيوس عن الإنسان أن قبول العنصر الثالث وحفظه ـ أى الروح ـ والذى يتوقف عليه كمال الإنسان الجوهرى هو مشروط بإرادة الإنسان وسلوكه الروحى والأخلاقى. فحتى الوجود الأبدى للنفس يعتمد على سلوكها هنا على الأرض، لأن النفس ليست خالدة بطبيعتها. فإن خلودها أمر متصل بالنمو الروحى والأخلاقى. فالنفس يمكنها أن تصير خالدة إن كانت شاكرة لخالقها؛ وفى هذا يقول القديس إيرينيوس:

         [ لأنه كما أن السماء التى هى فوقنا، أى الجلد والشمس والقمر وبقية الكواكب، وكل عظمتها، ورغم أنها ليس لها وجود سابق، قد دُعيت إلى الوجود، وتستمر موجودة لفترة طويلة من الزمن بحسب إرادة الله، هكذا أيضًا فكل إنسان يفكر هكذا من جهة النفوس والأرواح وفى الواقع من جهة كل المخلوقات لن يضل فى تفكيره بأى حال. إذ أن كل الأشياء التى قد خُلقت لها بداية وذلك حينما صُنعت وتستمر موجودةً مادام الله يريد أن يكون لها وجود واستمرار … لأن الحياة لا تُنشأ منا ولا من طبيعتنا الخاصة، بل تُمنح لنا حسب نعمة الله. ولذلك فالإنسان الذى يحافظ على الحياة الممنوحة له ويشكر خالقه الذى وَهَبه إياها سوف ينال طول أيام إلى الأبد وإلى أبد الآبدين. أما ذلك الذى يرفض العطية (الحياة) ويبرهن على أنه غير شاكر لخالقه ـ إذ أن هذا الإنسان مخلوق ـ ولم يُقدِّر ذلك الذى منحه الحياة ولم يعرفه، فهذا الإنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام إلى الأبد وأبد الآبدين] (AH2:34:3).

         ومن الجدير بالملاحظة كما يقول Massuet[11] إن عبارة القديس إيرينيوس “لذلك فهذا الإنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام إلى الأبد”، ينبغى أن تُفهم بما يتفق مع تأكيدات القديس إيرينيوس المتكررة أن الأشرار سيكونون فى تعاسة إلى الأبد. فهذه العبارة إذن لا تشير إلى ملاشاة الأشرار كليةً بل الحرمان من السعادة.

 

كتاب ” الكرازة الرسولية ”

مقدمة:

         الهدف الذى من أجله كتب القديس إيرينيوس كتاب “الكرازة الرسولية”، واضحٌ بشكل صريح، إذ يذكر القديس إيرينيوس فى السطور الأولى للكتاب أنه يقصد أن يزود ماركيانوس بـ ” مذكرة مُلخصة” فى شكل نقاط أساسية يستطيع ماركيانوس بواسطتها “فهم كل أعضاء جسد الحقيقة”. وهكذا يكون كتاب “الكرازة الرسولية” هو اقدم ملخص للتعليم المسيحى، نجده معروضًا بطريقة غير جدليةٍ أو دفاعيةٍ بل بطريقةٍ إيجابية. ولهذا السبب فإن اكتشاف هذا الكتاب فى بداية القرن العشرين ولّد حماسًا وإثارة كبيرة؛ إذ أصبح بين ايدينا كتاب قام بتأليفه أسقف يعرّفنا عن نفسه بأنه قد عاشر أولئك الذين هم انفسهم قد عرفوا الرسل، كما أشرنا سابقًا. وهكذا يعرض إيرينيوس فى كتابه مضمون تعليم الرسل. ولقد وُصف هذا الكتاب بأنه مقالة “تعليمية وعظية”، يقدّم المسيحية فى خطوط عامة كما كان يشرحها فى ذلك العصر أسقف لرعيته. ولذلك، فإن قيمة مثل هذه الوثيقة تتجاوز ما يمكن أن نعرفه من تقدير وأهمية.

         الطريقة التى يعرض بها إيرينيوس المسيحية ليست هى المنهج الذى تعودنا عليه بتقديم المعتقدات اللاهوتية، ولكنه بدلاً من ذلك يتبع منهج العظات الكبيرة المُسجلة فى سفر الأعمال التى تروى كل أعمال الله الخلاصية التى تصل إلى ذروتها فى تمجيد ابنه المصلوب ربنا يسوع المسيح، وأيضًا انسكاب روحه القدوس وإعطاء قلب جديد، قلب لحم بدلاً من قلب الحجر.

         وأهم ما يلفت النظر فى كتابه أنه فى سرده لهذا التاريخ لا يستعمل كتابات العهد الجديد كمرجع لشرحه[12].

         من الواضح أن القديس إيرينيوس يعرف كتابات العهد الجديد، ويعتبرها جزءً من الكتاب المقدس، كما يتضح تمامًا من كتابه الآخر “ضد الهرطقات”، وأيضًا يتضح من كونه فى كتاب “الكرازة الرسولية” حينما يقتبس آية من العهد القديم ويُرجعها إلى المكان التى اقتُبست منه فى العهد القديم، فإنه كثيرًا ما يُعطى هذه الآية فى الصورة المكتوبة بها فى العهد الجديد (مثلاً، الآيات المنسوبة إلى إرميا النبى فى مت9:27ـ10 هذا الاقتباس فى فقرة81 من “الكرازة الرسولية”)، لكن من الجهة الأخرى فإنه يتحدث عن ولادة يسوع من العذراء وصُنعه للمعجزات مبينًا ذلك من إشعياء وغيره من الأنبياء، بينما أسماء بيلاطس البنطى وهيرودس مذكورة فى الأناجيل التى تقول إن المسيح قُيد وأُحضر أمامهما كما يبيّن هوشع، وأنه صُلِب وقام وتمجّد كما يشهد بذلك أنبياء آخرون. بل إن كل محتوى “الكرازة الرسولية” مُستقى فى نظر إيرينيوس من العهد القديم. وهذه الحقيقة بالتالى تتضمن الاعتراف بأصالة النصوص الكتابية، التى تحمل نفس أصالة الكرازة الرسولية.

 

التعليم الآبائى فى القرن الثانى قبل إيرينيوس:

         لكى نحصل على فهم أفضل لكتاب “الكرازة الرسولية” فمن المفيد أن نضع أمامنا باختصار بعض الكتابات المسيحية السابقة على إيرينيوس:

         إن أقدم كتابات مسيحية وصلتنا من عصر ما بعد الرسل، أى كتابات الآباء الرسوليين تشير بوضوح إلى أنهم كانوا يعرفون بدرجات متفاوتة بعضًا من كتابات الرسل ولكنهم فى أغلب الأحوال لم يكونوا يقتبسون من كتابات الرسل أو يستندون إليها كمصادر وحي يُعتمد عليها، أى باعتبارها أنها هى الكتاب المقدس. فعبارة “الكتب المقدسة” بالنسبة للآباء الرسوليين وهكذا بالنسبة للعهد الجديد نفسه إنما تشير إلى كتابات العهد القديم. فالبشارة الإنجيلية كانت إلى ذلك الوقت لا تزال فى معظم الأحوال فى مرحلة المناداة (أى الكرازة بالفم). فكتاب الديداخى (2:8، 5:9)، وكذلك رسالة اكليمندس الرومانى الأولى (13، 7:46ـ8) كلاهما يشيران صراحة إلى أقوال يسوع المسيح، ولكن ما يذكرانه وخاصة رسالة اكليمندس هى مجموعة من أقوال متنوعة معروضة بترتيب آخر غير المُدون فى الأناجيل. إضافة إلى ذلك فإن اكليمندس الرومانى يحث الكورنثيين أن “يتذكروا” هذه الأقوال، مما يُبيّن أن ما كان يشير إليه اكليمندس من المحتمل جدًا أن يكون تقليد شفهى مُسلّم احتفظ بأقوال الرب.

 

القديس أغناطيوس الأنطاكى:

         حالة القديس أغناطيوس الأنطاكى الذى عاش وكتب فى السنوات الأولى للقرن الثانى هى حالة مُلهمة بنوع خاص. فهو يشير إلى رسائل الرسول بولس (رسالة أغناطيوس إلى أفسس2:12) ولكنه لا يقتبس منها أبدًا، فعند أغناطيوس، المسيح هو محتوى إيماننا كما أنه المصدر المُطلق النهائى لإيماننا، كما سُلِّم إلينا بواسطة الرسل. فالقديس أغناطيوس يذهب بعيدًا جدًا أكثر من كل كُتّاب عصره فى تقديره لدور الرسل. ففى كل الرموز المتقابلة المُغرم بها فى كتاباته، يضع الأسقف والقسوس والشماس فى ناحية ويقابلهم بالآب والمسيح والرسل (انظر الرسالة إلى كنيسة تراليا3). ومن ناحية أخرى فالرسل عنده يُوضعون دائمًا فى المستوى الأرفع، مع المسيح وأبيه. هذا المستوى ينعكس بعد ذلك على الكنيسة، فى وجودها الخاص تاريخيًا وجغرافيًا، وذلك فى الرتب الثلاث: الأسقف، القسوس، الشماس، وتبعًا لذلك فإن أغناطيوس يُصرِّح أو يذكر بتكرار أنه هو كأسقف ليس مثل الرسل، لأنه ليس فى وضع يسمح له بأن يعطى أوامر أو يضع مبادئ أو تعاليم (عقائد) جديدة، فهذه التعاليم والعقائد تأتى فقط من الرب ورسله (انظر مغنيسيا13، رومية3:4، أفسس1:3،… إلخ). لقد كان أغناطيوس متشددًا  فى تأكيده لإعلان الرسل والأنبياء عن يسوع المسيح، كأساس لفهمه هو شخصيًا للكتاب المقدس (العهد القديم). فبحسب أغناطيوس فإننا ينبغى أن نعطى اهتمامًا كبيرًا للأنبياء، لأنهم هم أيضًا عاشوا بحسب يسوع المسيح وقد ألهمهم بنعمته (مغنيسيا2:8). وفى مقطع هام فى رسالته إلى كنيسة فلادلفيا فصلى 8و9، يسجل أغناطيوس مناقشة ربما يكون أجراها مع بعض أعضاء تلك الكنيسة. وبعد حثه لسامعيه أن لا يفعلوا شيئًا بعيدًا عما هو “بحسب تعليم المسيح”، فإنه يصف كيف أنه سمع البعض يقولون: “إن كنت لا أجد (هذا الكلام) فى “الكتب المقدسة” فلن أؤمن أنه يكون موجودًا فى الإنجيل”، أى أنهم سيقبلون الرسالة المسيحية فقط بمقدار ما تتفق مع “الوثائق المقدسة”، أى تتفق مع ما هو مكتوب قبل ذلك، أى كتاب العهد القديم. فكانت إجابة أغناطيوس أنها “مكتوبة”؛ مشيرًا بذلك ليس إلى نصوص العهد الجديد، بل يشير إلى يقينه الأكيد أن العهد القديم يحتوى بالفعل على الإعلان عن المسيح. ولكن معارضيه لم يقتنعوا بهذا التفسير للعهد القديم المتمركز حول المسيح. وفيما بعد حينما أدرك سبب الاختلاف فى الفهم، فإنه شرح موقفه بوضوح أكثر فى رسالته: [الوثائق بالنسبة لى هى يسوع المسيح، الوثائق المقدسة الثانية هى صليبه وموته وقيامته والإيمان الذى بواسطته. بهذا أريد أن أتبرر بصلواتكم… الكهنة مُكرّمون، ولكن رئيس الكهنة هو أعظم لأنه مُؤتمن على قدس الأقداس، وهو وحده أيضًا المؤتمن على أسرار الله. إذ أنه هو الباب المؤدى إلى الآب، الذى دخل منه إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء والرسل والكنيسة… كل هذه تؤدى إلى الوحدة مع الله. ولكن الإنجيل فيه شئ فريد: فيه مجيء المخلّص، ربنا يسوع المسيح، وآلامه وقيامته. فالأنبياء المحبوبون قد تنبأوا مشيرين إليه، أما الإنجيل هو اكتمال عدم الفساد] (فلادلفيا2:8ـ1:9).

         فبالنسبة لأغناطيوس، فإن يسوع المسيح، وآلامه وقيامته هو الإعلان الإلهى الوحيد والكامل؛ هذا الإعلان وحده هو الذى يخلّص. وهكذا فمن خلال هذا الباب وحده، يسوع المسيح صار الدخول للأنبياء، وللرسل وللكنيسة كلها إلى الآب. فحينما يقول أغناطيوس إن “الوثائق بالنسبة لى هى المسيح” فهو لا يعنى بذلك أن يسوع المسيح هو سلطة مختلفة تعلو الكتاب المقدس؛ بل بالحرى بالنسبة لأغناطيوس فإن العهد القديم هو ببساطة يسوع المسيح ـ الكلمة الذى صار جسدًا. فكل كتاب من العهد القديم يختص بإعلان الله هو مُطابق لإعلان الله المُعطَى فى المسيح كما كرز به الرسل؛ وبالعكس، فكل ما ينادى به الإنجيل قد سبق وكُتِب فى الكتاب المقدس. لكن هذا لا يقلل من قيمة إعلان المسيح نفسه كما يذكر أغناطيوس هذا بقوله؛ إن الإنجيل فيه شئ “فريد”، لأنه يذكر مجيء المسيح وآلامه وقيامته، بينما الأنبياء أشاروا فقط إليه. فبالنسبة لأغناطيوس والآباء الرسوليين الآخرين، اعتبروا الإنجيل المسيحى، الذى هو الإعلان الخاص بيسوع المسيح، وهو بصفة أساسية يُعتبر قراءة للكتاب المقدس متمركزة حول المسيح كما سُلِّم بواسطة الرسل، رغم أن كتابات هؤلاء الرسل لم يحدث أن اقتُبس منها لإثبات هذا التعليم، ولا تم الاقتباس منها باعتبارها كتاب مقدس.

 

يوستينوس الفيلسوف والشهيد:

         أهم شخصية سابقة على إيرينيوس، وكان له تأثير عميق بنوع خاص عليه هو القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد المدافع عن الإيمان، يوستينوس الذى كتب فى منتصف القرن الثانى هو أول كاتب من الآباء يستشهد بكتابات العهد الجديد، وهو يشير إليها على أنها “مذكرات” الرسل والتى يقول عنها أنها تُسمى “بالأناجيل” (الدفاع الأول3:66).

         واستعمال يوستينوس لمصطلح “مذكرات الرسل” لوصف الأناجيل تشير إلى أن هذه الكتابات كان لها بالنسبة له قيمة تاريخية فى المقام الأول، ربما أكثر من كونها إعلانًا مُوحى بها مما كان يقتضى عليه فى هذه الحالة أن يسمى هذه الكتابات “الكتاب المقدس”. ومع ذلك فهذا الاستخدام للمصطلح من جانب يوستينوس يوضح أن مذكرات الرسل المكتوبة كانت قد بدأت تأخذ بالنسبة ليوستينوس مصداقية الرسل أنفسهم، وهذه المصداقية هى التى بها يصير الإعلان أو الوحى المسيحى مُسلّمًا بطريقة فريدة.

          والأمر الأكثر أهمية جدًا من جهة فهمنا لكتاب إيرينيوس “الكرازة الرسولية” هو أنه رغم أن يوستينوس قد بدأ بالتأكيد يستخدم بعض الكتابات الرسولية، فهو يقتفى أثر الآباء الرسوليين فى رؤيتهم للإعلان المسيحى باعتباره قد سبق التنبؤ به فى كتب العهد القديم. وهذه النقطة لها عند يوستينوس قيمة دفاعية معينة ـ فما يؤمن به المسيحيون ليس مجرد إدعاءات حديثة، بل هو النبوات القديمة التى يستطيع أى إنسان أن يقرأها والتى تحققت الآن. هذا الكلام يتضمن تفسيرًا دائريًا للإعلان المسيحى: أى أن يوستينوس يقول إن النبوات قد تحققت فى المسيح وهكذا أيضًا فإن الإعلان المسيحى المُعطى من الرسل، هو المفتاح لفهم الرسالة التى سبق أن بشر بها الأنبياء:

         [ نجد فى كتب الأنبياء هذه، إذن يسوع مسيحنا يُخبر به على انه يأتى مولودًا من عذراء وينمو إلى قامة رجل، ويشفى كل مرض وكل ضعف ويقيم الموتى، وأنهم يبغضونه ولا يعترفون به، ويُصلب ويموت، ويقوم ثانية ويصعد إلى السماء، وإذ هو فى كيانه ابن الله ويُدعى ابن الله، وأنه يرسل أشخاصًا معينين إلى كل جنس من البشر مبشرين بهذه الأمور، والناس الذين من الأمم هم الذين يؤمنون به (أكثر من اليهود)] (الدفاع الأول7:31).

         أى أن تبشير الرسل ليس شيئًا آخر سوى النبوات التى نطقها الأنبياء، وقد بشر بها الرسل إذ أنها قد تحققت فى يسوع المسيح. وهذا يعنى أن الكرازة الرسولية هى من ناحية المفتاح لفهم العهد القديم، والتأكيد على تحقيقه، بينما من الناحية الأخرى فإن العهد القديم هو الذى يشكّل الإعلان المسيحى كله.

 

خطورة الغنوسية فى القرن الثانى:

         مما يساعدنا على تقدير قيمة كتاب إيرينيوس “الكرازة الرسولية” هو أن نبحث فى تعليم أولئك الهراطقة الغنوسيين الذين كشفهم إيرينيوس بكتاباته مما أدى إلى استبعادهم تدريجيًا من جسم الكنيسة الجامعة. وأبرز هؤلاء الغنوسيون هو ماركيون. فهؤلاء الغنوسيون استخدموا أجزاء من العهد القديم وأجزاء من الكتابات الرسولية مع عناصر أخرى عديدة مأخوذة من مصادر مختلفة. وكوّنوا من كل هذه العناصر أساطيرًا مُركبة وألفوا كُتبًا كثيرة، بعض هذه الكتب ادعوا أن لها أصالة تعليم الرسل. ولأن الغنوسيين لم يستطيعوا أن ينكروا الكتابات الرسولية المُعترف بها والتى لا يوجد بها أى أساس واضح لأساطيرهم، لذلك ادعوا أن الرب لم يعّلم هذه التعاليم الموجودة فى كتبهم علانية، بل بدلاً من ذلك علّم عددًا قليلاً من التلاميذ الأكثر جدارة بالثقة، وأعطاهم هذه المعرفة سرًا فى فترة ما بين القيامة والصعود أو فى فترة ما بعد التجلى؛ وأن هذه المعرفة السرّية انتقلت من شخص إلى آخر بالتقاليد الشفهية دون أن تظهر بوضوح فى الكتابات الرسولية المُعترف بها فى الكنيسة. بينما هذه المعرفة السرّية واضحة جدًا فى كتاباتهم الغنوسية. ومن الجدير بالذكر أن الغنوسيين كانوا يفسرون كتابات بولس الرسول وإنجيل القديس يوحنا بطريقة خاطئة ليدعموا أفكارهم. إذ يخبرنا القديس إيرينيوس أن شخصًا يُدعى بطلميوس كان تلميذًا لفلاندينوس الغنوسى الذى كان دائمًا ينادى بأن الإنجيل الرابع قد كتبه “يوحنا تلميذ الرب”، وذلك ليعطى مصداقية لتعاليمه الغنوسية التى كانت تعتمد على التفسير الخاطئ لهذا الإنجيل (AH1:8:5).

         وأيضًا هناك تلميذ آخر لفلاندينوس يُدعى هيراكليون هو الذى كتب تفسير لإنجيل يوحنا بين سنتى 170 ـ 180م تقريبًا. وهذا التفسير يكون بهذا الشكل الغنوسى ـ على قدر ما نعلم ـ أول تفسير مكتوب لأى سفر من أسفار العهد الجديد.

         وإن كان الخطر الذى مثلته الغنوسية هو الشمولية المتطرفة والجمع المُلفق بين عقائد دينية متعارضة، فإن التحدى الذى اثاره ماركيون هو العكس تمامًا فى تطرفه، وهو الاختصار وحذف بعض الأسفار من الكتب المقدسة. فقد أنكر ماركيون العهد القديم كله، وكذلك رفض معظم الكتابات الرسولية مُدعيًا أن أغلب الرسل قد أساءوا فهم الإعلان الحقيقى الأصلى ليسوع المسيح. فقد استند على تأكيد بولس الرسول فى غلاطية (6:1ـ10) أنه يوجد إنجيل واحد فقط ولكن الإخوة الكذبة غيّروه، وكان ماركيون يؤمن أن الرسل الآخرين قد أساءوا فهم يسوع المسيح باعتباره المسيا المنتظر المُرسل من إله العهد القديم الخالق، وهكذا شوُهوا رسالة الخلاص التى تعطى الحرية الحقيقية. هذا الخلاص الذى هو من الإله الحقيقى. لقد كان ماركيون مقتنعًا أن بولس هو الرسول الوحيد الذى فهم يسوع المسيح فهمًا كاملاً، يسوع المسيح الذى هو إعلان الإله الواحد الحقيقى ـ ولكن رغم هذا فإن ماركيون أعاد كتابة رسائل بولس وحذف منها وأدخل عليها تغييرات، فمثلاً فيما يخص إبراهيم ونسله عندما يتكلّم الرسول بولس فى (غلا16:3ـ6:4) عن المواعيد التى أُعطيت لإبراهيم وكيف أنها تحققت فى نسله أى المسيح نجد أن ماركيون قد قام بحذف هذا الجزء من غلاطية لأنه يتعارض مع اعتقاده بأن العهد القديم غير مُوحى به من الله. كما كان ماركيون لا يثق سوى فى إنجيل واحد هو إنجيل القديس لوقا تلميذ بولس. ولكن هذا لم يمنع ماركيون أيضًا من حذف بعض الأجزاء حتى من هذا الإنجيل.

 

منهج إيرينيوس فى كتاب ”الكرازة الرسولية”:

         يبنى القديس إيرينيوس كتابه على أعمال الكُتّاب المسيحيين السابقين له، وهو يتخذ موقفًا حاسمًا ومدروسًا ضد كل من ماركيون والغنوسيين. فإيرينيوس هو أول أب من آباء الكنيسة يستخدم الكتابات الرسولية ويقول إنها من الكتاب المقدس. فهو يعرف نصوص العهد الجديد كلها التى نعترف بها نحن الآن ويستخدمها بالفعل فى كتاباته. وهو يُصرّ على أن الأناجيل لا يمكن أن تكون أكثر أو أقل من أربعة أو بالأحرى إنجيل واحد له أربعة أوجه. وهو فى كتابه الكبير ” ضد الهرطقات” بعد أن يصف أنظمة الغنوسيين فى الجزء الأول من كتاب “ضد الهرطقات”، ثم يوضح تناقضاتهم الموجودة فيها فى الجزء الثانى، ثم ينتقل فى الأجزاء الثالث والرابع والخامس إلى الشرح من الكتاب المقدس، وأيضًا الشرح من الرسل الذين كتبوا الإنجيل، والذين سجلوا فيه التعليم عن الله، مبينين فيه أن ربنا يسوع المسيح هو الحق ولا يوجد فيه غش (ضد الهرطقات AH3:5:1). وبعد ذلك ينسج بمهارة مقاطع من العهد القديم مع مقاطع من العهد الجديد، لكى يوضح أنه لا يوجد سوى إله واحد الذى أعلن عن نفسه للجنس البشرى الواحد فى ابنه الوحيد يسوع المسيح بالروح القدس الواحد، وذلك بواسطة التدبير الإلهى الذى يخيّم على الكل على مدى التاريخ.

         وكما سبق أن أشرنا فإن إيرينيوس فى كتابه “الكرازة الرسولية”، لا يستخدم الكتابات الرسولية كثيرًا وبشكل صريح. هو يشير إلى الرسل فى الفصول 3و41و46و47و86و98و99، ويقتبس من الرسول بولس ثلاث مرات، ومرة يشير إليه على أنه رسول المسيح فى فصل 5و8و87، ويقتبس من تلميذ المسيح يوحنا مرتين فى فصلى 43و94. وفيما عدا هذه الإشارات القليلة، فإن إيرينيوس يشرح “الكرازة الرسولية” ببساطة ضمن إطار قراءة العهد القديم المتمركزة حول المسيح تلك القراءة التى ميّزت التعاليم المسيحية فى القرن الثانى.

         إن منهج القديس إيرينيوس الخاص فى كتابه “الكرازة الرسولية” سبق أن أشار إليه بوضوح كل من أغناطيوس الأنطاكى ويوستينوس، ونقصد هنا قراءة العهد القديم المتمركزة حول المسيح. وهذا المنهج فى الواقع يُنسب إلى يسوع المسيح نفسه بعد القيامة، الذى ” ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهم الأمور الخاصة به فى جميع الكتب” (لو27:24). وأكثر من ذلك فإن عددًا كبيرًا من النصوص الكتابية التى استخدمها إيرينيوس كان يوستينوس قد سبق باستخدامها لنفس الغرض. وفى أغلب الحالات بنفس تجميع الآيات مع بعضها وبنفس طريقة ترتيبها، فإما أن يكون إيرينيوس قد استقى فى كتابته كثيرًا من يوستينوس أو أن يكون كلاهما قد استقى من مصدر مشترك.

         ومع ذلك فإن فرادة إيرينيوس فى كتاب “الكرازة الرسولية” تكمن ليس فى التحليل النظرى للموضوع، بل فى عرضه الشامل والواضح الذى قدّمه. وبينما كان يوستينوس يتجول من موضوع إلى موضوع بدون تنسيق واضح، فإن إيرينيوس كان يعالج أو يقدم شرحًا للكرازة الرسولية بسهولة، بخصوص عمل الله منذ بداية الخليقة حتى يصل إلى تمجيد ابن الله بصعوده إلى المجد.

         ومما سبق أن قلناه بخصوص عرض “الإعلان المسيحى” فى كتابات القرن الثانى، يتضّح أنه كان هناك مشروعان مرتبطان معًا: الأول هو توضيح أو كشف محتوى الكتاب المقدس، العهد القديم فيما يختص بإعلان يسوع المسيح كما بشر به الرسل؛ والثانى هو الاعتراف بالإصالة الكتابية لتلك الكرازة الرسولية بإظهار أن كرازة الرسل التى كان مركزها يسوع المسيح كما صيغت فى الكتاب المقدس، قد سبق التنبؤ بها كما هى.

         هاتان المهمتان عبّر عنهما القديس إيرينيوس بكلمة واحدة هى επίδειξις أى شرح أو برهان للكرازة الرسولية.

 

محتوى كتاب ”الكرازة الرسولية”:

         يحتوى كتاب “الكرازة الرسولية” للقديس إيرينيوس:

أولاً: مقدمة قصيرة (فصول 1ـ3أ).

ثانيًا: قسمان كبيران:

         القسم الأول (فصول3ب ـ42أ).

         القسم الثانى (فصول 42ب ـ97)

ثالثًا: خاتمة (فصول98ـ100).

أولاً: مقدمة قصيرة:

         يبدأ القديس إيرينيوس كتاب “الكرازة الرسولية” بمقدمة قصيرة فى الفصول من (1ـ3أ)، ويذكر فى هذه المقدمة أنه بهذا الكتاب يرجو أن يقوى إيمان ماركيونوس، الشخص المُرسل له هذا الكتاب. وذلك بواسطة عرض مختصر “لكرازة الحق”. ويذكِّر إيرينيوس ماركيانوس أنه إذا أردنا أن نجتاز الطريق الوحيد نحو حضرة الله فإنه يلزمنا قداسة الجسد، أى الابتعاد عن مخالفة وصايا الله، وكذلك قداسة النفس، أى حفظ الإيمان بالله. وينبغى أن نتجنب الأنواع الثلاثة من الناس المذكورين فى (مز1:1):

         الأشرار، أى الذين لا يعرفون الله؛

         والخطاة، أى الذين يعرفونه ولكنهم لا يطيعون وصاياه؛

         والمستهزئون، وهم أولئك الذين يُضّلون أنفسهم والآخرين بواسطة تعاليمهم السامة.

         فلكى نخلص، من الضرورى أن نحفظ قاعدة الإيمان، وأيضًا أن نطيع وصايا الله، لأن الإيمان يتحقق فى العمل، والإيمان نفسه مُؤسس على ما هو حقيقى.

 

القسم الأول:

         وبعد هذه المقدمة القصيرة يأتى القسم الأول، وهو يحوى كما ذكرنا فصول (3ب ـ42أ). ويعطى إيرينيوس فى هذا القسم شرحًا للكرازة الرسولية. وهذا القسم ينقسم بدوره إلى ثلاثة أجزاء.

الجزء الأول: موضوعه “الله والإنسان”، وهو يحوى الفصول (3ب ـ16). وكما سبق أن أكد إيرينيوس فى نهاية المقدمة، فإن الإيمان يتأسس ويُبنى على ما هو صادق حقًا، وبذلك، فإننا يجب أن “نؤمن بما هو حقيقى كما هو فى الواقع”، حتى أننا “إذ نؤمن بما هو موجود حقًا كما هو فعلاً[13]، فإننا نحفظ اعتقادنا ثابتًا” (فصل3). والحق الكتابى بخصوص الإله الواحد، الاب: أنه هو خالق الكل؛ فهو يخلص كل الأشياء بكلمته ويزينها بروحه (فصل5). وهذا الاعتراف الثلاثى بالله الآب، والابن يسوع المسيح، والروح القدس، هو أساس إيماننا وسند سلوكنا (فصل6)؛ ومعموديتنا تتم بالاعتراف بهؤلاء الثلاثة، والمعمودية تجددنا لله بابنه بواسطة الروح (فصل7). فإن كان هذا هو الحق عن الله، فإن الحق من جهة الإنسان هو أنه “مخلوق”، “الله يخلق، أما الإنسان فمخلوق” (انظر AH4:11:2). وبعد أن يصف إيرينيوس السموات السبعة مع الجمع غير المُحصى الذى للقوات الملائكية (الفصلان9و10)، فإن إيرينيوس يصف الحق الخاص بالإنسان عن طريق شرح (تك3:1). فالله صنع من الطين مخلوقًا يحمل صورته فى جسده وفى روحه نسمة الحياة، كما صنع له معينًا ووضعهما معًا فى الفردوس (فصول 11ـ14). إن حقيقة العلاقة بين الخالق وخليقته تتضح من الوصية التى اعطاها الله للإنسان، والتى كان القصد منها أن يعلّمه “إن سيده وربه هو رب الكل” (فصل15). وكون أن الإنسان لم يحفظ هذه الوصية فهذه طبعًا هى الحقيقة الأخرى المختصة بالإنسان والتى تحدد حقيقة وضعه خارج الفردوس (فصل16).

الجزء الثانى: فصول (17ـ30)، يصف فيه القديس إيرينيوس تاريخ إعداد الله البشرية للخلاص الذى تمّ بابنه. فبعد موت قايين انتشر الشر فى الأرض كلها وفى أيام نوح لم يكن غيره وحده إنسان بار (فصول 17ـ18). ثم بعد تطهير الأرض بواسطة الطوفان، فإن ابن نوح الأصغر “حام” لُعن لعدم تقواه، واللعنة امتدت إلى كل نسله، بينما ابنا نوح الآخران سام ويافث، فقد نالا بركة ورثها أحفادهما (فصول19ـ23). وبركة سام ورثها إبراهيم، الذى طلب الله وتبرر بالإيمان، وبعد ذلك ورث إسحق هذه البركة وبعده ورثها يعقوب (فصل24). ثم أنقذ الله أحفاد إبراهيم من مصر بواسطة موسى، وهكذا كشف لهم سر الفصح، وأعطى الوصايا العشر لموسى (فصول25ـ26). وقبل دخول أرض الموعد هيأ موسى الشعب بأن أعاد تذكيرهم بأعمال الله العظيمة، ووضع لهم ناموسًا جديدًا وهو التثنية (فصل28). وأخيرًا فإن الله أتى بشعبه من البرية إلى أرض الموعد بواسطة يشوع بن نون الذى سُمى “يسوع”، ” الاسم الوحيد الذى يستطيع أن يُخلِّص” (فصول27 ـ29). وفى تلك الأرض، سكن داود الملك فى أورشليم؛ وفيها بُنى الهيكل على اسم الله، والأنبياء كانوا يحثون الشعب أن يرجعوا إلى إله آباءهم مُعلنين لهم أيضًا عن الإعلان الآتى الخاص بالرب يسوع المسيح، ابن داود وإبراهيم حسب الجسد، وابن الله بحسب الروح (فصول29ـ30).

الجزء الثالث فصول (31ـ40أ)، يواصل الحديث عن الخلاص الذى أتمه ابن الله، فإن الرب بفضل ولادته من عذراء كان له نفس الجسد مثل ابينا الأول آدم، من أرض عذراء، ولكن بينما كان الرب سالكًا بالطاعة فإن آدم كان عاصيًا، وهكذا فإن الرب أتى إلينا بالخلاص وقاد الإنسان إلى الشركة مع الله (فصل31ـ32)، كما يشير أيضًا للتقابل بين حواء ومريم، وبين الشجرة والصليب (فصلى33ـ34).

         وبواسطة العمل الخلاصى هذا تحققت المواعيد التى أُعطيت لإبراهيم ولداود (فصلى35ـ36)، ويؤكد إيرينيوس أن المسيح وُلد حقًا، ومات وقام مبينًا تقدمه فى كل شئ (فصول37ـ40أ).

         ثم يختم إيرينيوس القسم الأول فى الفصول (40ب ـ 42أ) لكى يلخص كيف أن الذى بُشر به بواسطة الناموس والأنبياء، أى ابن الآب، قد وُلِد من العذراء مريم بالروح القدس. هذه العذراء التى من نسل إبراهيم وداود، وأن يسوع الذى هو مسيح الله هو فى الحقيقة ذاك الذى سبق وأنبأ عنه الأنبياء (فصل 40ب). كما أن يوحنا المعمدان السابق له، قد أعدَّ الشعب لنوال كلمة الحياة. وقد أرسل المسيح تلاميذه ورسله والذين عاينوه إلى كل العالم لكى “يدعو الأمم ليسكنوا فى مساكن سام” ـ هذه هى ثمرة بركة يافث التى أُعلنت فى الكنيسة أى دعوة الأمم بحسب وعد الله (فصول41ـ42أ).

 

القسم الثانى:

         بعد أن استعرض القديس إيرينيوس تاريخ عمل الله الخلاصى، فإنه ينتقل إلى القسم الثانى من الكتاب، والذى يشمل كما ذكرنا الفصول (42ب ـ97). هذا القسم الثانى يختص بشرح “الكرازة الرسولية” عن طريق البرهنة عليها من الكتاب المقدس. وهذا واضحٌ تمامًا فى الفصل الافتتاحى (42ب) الذى يصف فيه إيرينيوس كيف أن كل الأشياء التى تمت فى يسوع المسيح سبق التنبؤ بها بواسطة الأنبياء، وأنها تحققت فى النهاية تمامًا كما سبق التنبؤ بها وذلك يجعلنا نوقن أن الله هو الذى أعلن لنا خلاصنا.

         ويمكن تقسيم هذا القسم الثانى إلى أربعة أجزاء متميزة:

الجزء الأول الفصول (43ـ52) يهتم فيه إيرينيوس بتوضيح الوجود الأزلى ليسوع المسيح. وهنا يستند على إصرار أغناطيوس على أن العهد القديم هو يسوع المسيح. فإن كانت الكرازة الرسولية الخاصة بيسوع المسيح هى إعلان الله الحاسم، أى كلمة الله، الذى تطلّع إليه كل رؤساء الآباء والأنبياء، فإنه يمكننا أن نرى الأمر بطريقة عكسية، ونؤكد أن الرب يسوع المسيح هو نفسه الذى ظهر وتحدث إلى إبراهيم وموسى (انظر ضد الهرطقات AH4:9:1). فبالنسبة لإيرينيوس توجد علاقة تبادلية بين رؤساء الآباء، الذين أُعطيت لهم المواعيد، وبين نسلهم الذين رأوا هذا الوعد يتحقق[14].

         وتبعًا لذلك ففى هذا الجزء من “الكرازة الرسولية” يوضح إيرينيوس من نصوص الكتاب المقدس كيف أن الابن، الذى نعرفه الآن ـ كواقع تاريخى ـ هو يسوع المسيح، وأنه كان فى البدء مع الآب (فصل43)، وكيف ظهر لإبراهيم (فصل44) ويعقوب (فصل45)، وتكلّم مع موسى من العليقة (فصل46)، وكيف يتكلّم داود وإشعياء عن الآب والابن (فصول47ـ51). ولكن بينما أن الابن بالنسبة لله هو كائن منذ البدء، قبل الخليقة فإنه صار معروفًا بالنسبة لنا الآن فقط، وذلك عندما كُشف لنا باسم يسوع المسيح (فصل43). وهكذا فإن كل الرؤى القديمة هى أحداث نبوية تنبأت بالأمور التى سوف تحدث (فصلى44ـ45). ويختم إيرينيوس بإعادة التأكيد بأن الكتاب المقدس يقول بوضوح إن المسيح هو ابن الله من قبل وجود العالم، وهو كائن مع الآب ومع الناس. وإنه هو يخلّص جميع الذين يؤمنون به (فصل52).

وفى الجزء الثانى من القسم الثانى (فصول53ـ66) يتحدث إيرينيوس عن ولادة المسيح بالجسد، مستندًا على شهادات من إشعياء (فصول53ـ57، 59ـ61، 65)، وعلى شهادات من موسى (فصلى 57ـ58)، وعاموس (فصل62)، وميخا (فصل63)، وداود (فصل64)، هذه الشهادات تؤكد أن ابن الله سيُولد، كما أنها تصف كيف يُولد، وأنه هو المسيح، وهو الملك الأبدى الوحيد (فصل66).

وفى الجزء الثالث من القسم الثانى، فإن إيرينيوس يوضح كيف أنه سبق التنبؤ (عن المسيح) بأنه سيُجرى معجزات وأشفية (فصل67 من مقاطع من سفر إشعياء)، وأنه سوف يُجلد (فصلى68ـ 69أ، من إشعياء وداود)، وأنه سوف يتألم، وسوف يُحكم عليه، وعن جيله الذى لا يستطيع أحد أن يخبر عنه (فصول69ب ـ 70، من إشعياء)، وأنه سيحضرونه مُقيدًا إلى الملك (فصل77، من هوشع)، وأن ثيابه ستُقسّم (فصل80، من المزامير)، وأنه سيُباع بثلاثين من الفضة (فصل81، من إرميا)، وأنه سيُعطى مُرًا ليشرب (فصل82، من مزامير داود)، وأنه يموت على الصليب (فصول71ـ76، 79، من إرميا، وإشعياء، وداود، وزكريا)، وأخيرًا يقوم ويتمجّد ويرتفع إلى يمين الآب (فصول 72ب، 83ـ85، من مزامير داود).

         ويختم إيرينيوس القسم الثانى من “الكرازة الرسولية” بالجزء الرابع (فصول86ـ97) موضحًا كيف أن دعوة الأمم بواسطة الرسل قد سبق وتنبأ عنها الأنبياء (فصل86). هذه الدعوة تحققت ليس بفرائض الناموس، بل بكلمة الإيمان البسيطة (فصل87). وأولئك الذين خلصوا دُعوا باسم جديد (فصل88)، ولذلك فلا ينبغى ان يعود أحد للوراء مرة أخرى إلى الناموس الذى قد تمَّ تحقيقه بواسطة المسيح (فصل89). إن ناموس الله الآب مكتوب على قلوبهم الجديدة التى من اللحم حتى أن الإنسان يستطيع الآن أن يثق فى خالقه (فصل 90ـ93). وبواسطة هذه الدعوة وتغيير القلب الذى يتم بالكلمة الصائر جسدًا والساكن بيننا، فإن التى كانت عاقرًا فى السابق قد ولدت عددًا كبيرًا من الأولاد أكثر من المجمع القديم (فصل94). فأولئك الذين لم يكونوا شعبًا هم الآن شعب الله الذين يعرفون رب الناموس، ليس لهم حاجة للمؤدب السابق (الناموس) (فصلى95ـ96) فالمسيح الذى قد ظهر على الأرض وتحدّث مع البشر قد أدمج روح الله مع خليقة الله (صنعة يدى الله) الذين كُوّنوا بحكمة من التراب، لكى يصير الإنسان فى النهاية حسب صورة الله ومثاله (فصل97).

 

الخاتمة:

         ويختم إيرينيوس كتابه “الكرازة الرسولية” بأن يكرر النصيحة التى أعطاها فى المقدمة: أننا يجب أن نتمسك بكرازة الحق التى أعلنها الأنبياء، والتى ثبّتها المسيح، والتى سلّمها الرسل ونتجنب كل المعاملات مع أولئك الذين يفكرون فى آلهة أخرى لأنفسهم، محتقرين الله الذى هو “الكائن” حقًا، ومنكرين مجيء ابنه وعطية الروح القدس.

 

منهج القديس إيرينيوس فى تفسير الكتاب المقدس:

         منهج القديس إيرينيوس فى تفسير الكتاب هو أنه ينبغى أن يُشرح على أساس الكتاب نفسه، وهو يذكر هذا المبدأ صراحة فى كتابه “ضد الهرطقات” بقوله: [تفسيرات نصوص الكتب المقدسة لا يمكن شرحها إلاّ من الكتب المقدسة نفسها] (ضد الهرطقات AH3:12:9)، وفى موضع آخر من نفس الكتاب يقول: [ فإن كانت بعض مقاطع الكتاب تبدو غامضةً، فيجب أن نحاول فهمها بواسطة ما هو واضح وظاهر فى الكتاب نفسه وليس بأى طريقة تفكير خارجية] (ضد الهرطقات AH2:27-28). ولهذا السبب بالتحديد انتقد إيرينيوس الغنوسيين لأنهم أسسوا تفسيرهم للكتب على أساس مبادئ غير كتابية، فبعد أن يفند القديس إيرينيوس بعض أساطيرهم، يقول:

         [ هذه هى طريقتهم التى لم يتنبأ بها الأنبياء، ولا الرب علّم لها، ولا الرسل سلّموها إلينا، فهم يفتخرون بصوتٍ عالٍ أنهم يعرفون أكثر من الآخرين. وهم يستندون فى هذا على مصادر خارج الكتاب المقدس، وكما يقول المثل الشعبى فهم يحاولون أن يضفروا حبالاً من الرمل. إنهم يحاولون أن يجعلوا أمثال الرب، أو أقوال الأنبياء، أو كلمات الرسل تتوافق مع أقوالهم بطريقة تجعل الناس يصدقونهم، حتى لا يبدو تلفيقهم أنه بدون مرجع. فهم يتجاهلون نظام الكتب المقدسة وترابطها مع بعضها. وبتجاهلهم لهذا الترابط فى الكتاب الذى يكمن فيه أساس الحق فإنهم يفككون أعضاء الحق] (ضد الهرطقات AH1:8:1).

         ويوضح إيرينيوس طريقة استعمال الكتاب، بأن يقارنها بما يفعله بشخص أو إنسان عندما يأخذ صورة جميلة من الفسيفساء لملك صنعها فنان ماهر من أحجار ثمينة، ثم يعيد ترتيب هذه الأحجار الكريمة التى فيها ليصنع منها صورة كلب أو ثعلب، ثم زعم أن هذه الصورة هى الصورة الأصلية التى صنعها الفنان الأول، ويعلّل قائلاً إن الحجارة أصيلة. والحق أن التصميم قد تهدم و”ضاع نموذج الإنسان الموضوع”. هذا بالضبط ما يفعله الهراطقة بالكتاب المقدس “ويقطعون أوصال الحقيقة”. إن كلماتهم وتعبيرهم وأمثالهم أصيلة، ولكن قياسهم (أو تصميمهم) مزاجى وخاطئ، فيقول: ” بنفس الطريقة فإن هؤلاء الناس يرقعون معًا خرافات العجائز ويقتلعون كلمات وأقوال وأمثال من هنا وهناك ويريدون أن يجعلوا كلمات الله تتكيف مع خرافاتهم” (ضد الهرطقات AH1:9:1).

         وفى مثال آخر، يصف إيرينيوس كيف أن بعض الناس يأخذون سطورًا متنوعة من كتابان هوميروس ثم يعيدون ترتيبها. وقد تخدع هذه السطور أولئك الذين ليس لهم سوى معرفة عابرة لهوميروس، لكنها لا تخدع أولئك المتمكنين جيدًا من معرفة أشعاره؛ وهؤلاء يستطيعون أن يعرفوا السطور المقتبسة تمامًا ويعرفون مكانها ثم يعيدونها إلى سياقها الصحيح (ضد الهرطقات AH1:9:4).

         وبنفس الطريقة يواصل إيرينيوس كلامه فيقول: [.. أى إنسان يحفظ فى نفسه قاعدة الحق غير المتغيّر الذى استلمه بواسطة المعمودية فإنه سيعرف الأسماء والأقوال والأمثال المأخوذة من الكتب المقدسة… لأنه إن عرف الجواهر، فإنه لن يقبل صورة الثعلب على أنها صورة الملك، بل هو سوف يعيد كل مقطع من المقاطع إلى مكانه الصحيح، إذ يكون منسجمًا ضمن جسم الحقيقة، وهكذا هو يفضح تلفيقهم ويبيّن أنهم بلا سند] (ضد الهرطقات AH1:9:4).

         وبعد ذلك يعطى إيرينيوس وصفًا شاملاً لـ”قانون الحق المُسلّم فى المعمودية”، الذى له ثلاثة بنود أساسية، وهى: الإيمان المُسلّم من الرسل بإله واحد الله الآب، والرب الواحد المصلوب والمُقام يسوع المسيح، والروح القدس” (انظر AH1:10:1).

         وقانون الحق المُعطى فى كتاب “الكرازة الرسولية” (فصلى6و7) رغم أنه مختصر عن ما ورد فى كتاب “ضد الهرطقات”، إلاّ أنه مبنى على البنود المحورية الثلاثة: الآب، والابن، والروح القدس، الذين باسمهم تتم معموديتنا.

         ومع ذلك، فإن هذه البنود الثلاثة هى جوهر  قانون الحق، وليست مجرد عناصر منفصلة لمعتقدات لاهوتية. ولذلك فهى عند إيرينيوس مرتبطة بلا انفصال مع ترتيب وترابط الكتب المقدسة (انظر AH1:8:1). وهذا الترتيب والارتباط هو طبعًا ما يصفه إيرينيوس بطريقة مختصرة فى كتاب “الكرازة الرسولية” لكى: “بواسطة هذا الكتاب الصغير يمكنك أن تفهم كل أعضاء جسد الحقيقة” (فصل1 من الكرازة الرسولية) التى هى الكتاب المقدس نفسه. وبكتابته لكتاب “الكرازة الرسولية” فإن إيرينيوس ـ الذى هو أكثر من أى كاتب آخر سابق له ـ حدّد وعرّف الكتاب المقدس كما نعرفه نحن الآن وثبته فى مكانه الصحيح والأساسى. وبهذا فإن القديس إيرينيوس قد أعطانا نموذجًا لا مثيل له عن كيف نقترب من الحقائق المُعلنة فى الكتاب وكيف نفهمها. وفى هذا تكمن الأهمية الفائقة لهذا الكتاب المختصر.

 

النص الأصلى لكتاب ”الكرازة الرسولية” وترجماته:

المخطوطات والطبعات والترجمات:

         كتاب “الكرازة الرسولية”  هو مقال فى صورة رسالة مُرسلة إلى شخص يُدعى ماركيانوس. وكان هذا المقال معروفًا منذ القديم إذ أن يوسابيوس المؤرخ أشار إليه فى كتابه “تاريخ الكنيسة” (كتاب36:5). ولكن بعد هذه الإشارة منذ القرن الرابع يبدو أن هذا الكتاب اختفى تمامًا، ولم يُعثر على أى آثار له. ولكن فى شهر ديسمبر سنة 1904م عثر الأرشمندريت الأرمنى “كارابت تيرمكيرتشيان” (Karapet Ter-Mekerttschian) على مخطوط فى مكتبة كنيسة والدة الإله فى إيرفان Erevan بأرمينيا، ثبت فيما بعد أنه يحوى ترجمة أرمينية قديمة للكتابين الرابع والخامس من كتاب “ضد الهرطقات” للقديس إيرينيوس، وأيضًا كتابه “الكرازة الرسولية”. وهذا المخطوط محفوظ الآن فى ماتينا داران بإيرفان (مخطوط رقم 3710). وبحسب ما وُجد مُسجلاً فى نهاية المخطوط فإن المخطوط كان مِلكًا لرئيس الأساقفة تير جوهانس  Ter Johannes” شقيق الملك المقدس” هذا الملك من المحتمل أن يكون Haïtoun I هايتون الأول (1226ـ1269م) الذى اشتهر شقيقه الأصغر بأنه كان عالمًا كبيرًا، وكان أسقفًا (1259م) إلى أن توفى سنة 1289م، لذلك يمكن أن يكون تاريخ المخطوط هو حوالى منتصف النصف الثانى من القرن الثالث عشر، رقم أن الترجمة ـ كما سنرى فيما بعد ـ قد تمت قبل هذا التاريخ بعدة قرون. ونص هذه المخطوط نُشر لأول مرة سنة 1907م مع ترجمة ألمانية ومُقدمة وملاحظات مختصرة قام بها العالِم اللاهوتى المشهور أدولف هارناك وهو الذى قسّم النص إلى مائة فصل.

         وبعد ذلك تُرجم النص الأرمنى إلى اللغة اللاتينية بواسطة       S. Weber، وحينما أُعيد طبع النص الأرمنى سنة 1919م صدرت معه ترجمة إنجليزية وأخرى فرنسية، وتضمنت هذه الطبعة التى صدرت سنة 1919م وصفًا للمخطوط، وتضمنت أيضًا بعض الملاحظات عن وجود تنقيحات فى المخطوط الأرمنى. وصدرت بعد ذلك ترجمات أخرى من بينها ترجمة إنجليزية ثانية قام بها          J. Armitage Robinson[15].

         وبعد فترة ركود لعدة عشرات من السنين ظهرت ترجمتان أخريتان ساهمت كلاهما فى ازدياد فهمنا للنص. الترجمة الأولى إلى الإنجليزية قام بها J.P. Smith واحتوت إلى جانب النص الأرمنى، ملاحظات كثيرة جدًا ملأت عدد صفحات أكثر من النص نفسه[16]، الأمر الذى جعل البروفيسور John Bher أستاذ علم الآباء بمعهد القديس فلاديمير الأرثوذكسى اللاهوتى بالولايات المتحدة الأمريكية أن يقول إن العالِم سميث قام بجهد كبير فى بحث المخطوطة الأرمينية وقيّم كل الترجمات السابقة واقترح تنقيحات للمخطوط.

         والترجمة الثانية التى تمت بعد الأولى بسنوات قليلة هى ترجمة فرنسية جديدة أعدّها L.M. Froidevaux وقد نُشرت فى سلسلة المصادر المسيحية بالفرنسية SC. 62 سنة 1959م. وقد أضافت هذه الترجمة ملاحظات كثيرة على ما قدمه سميث، إلاّ أن مساهمتها الهامة جدًا هى الملحق الموجود بها الذى يحوى مقارنة بين الترجمات، أعدّها Charles Mercier. هذه المقارنة موجودة أصلاً فى المخطوط P.O. 12:5 (مع ميكروفيلم لمخطوط إيرفان 3710).

         وقد اكتُشفت فيما بعد مخطوطتان بهما اقتبسات صغيرة من كتاب “الكرازة الرسولية”. المخطوط الأول يُسمى “ختم الإيمان”، اكتشفه نفس مُكتشف المخطوط الأول Bishop Karapet Ter-Mekerttschian لكن سنة 1911م فى دير القديس اسطفانوس بداراشامب Darachamb، وهذا المخطوط يرجع تاريخ كتابته إلى القرن الثالث عشر. والمخطوط الثانى يرجع إلى القرن الرابع عشر ويُعرف باسم “جالاطا54” وُجد فى دير القديس يعقوب للأرمن بأورشليم، وهو الآن محفوظ فى مكتبة البطريركية الأرمينية بإسطنبول.

         وأخيرًا بعد فترة ركود ثانية قام A. Rousseau بعد أن أكمل نشره لكتاب “ضد الهرطقات” فى سلسلة SC.، نشر ما يجب أن يُعتبر طبعة قياسية لكتاب “الكرازة الرسولية” باللغة الفرنسية طبعًا. وفى هذه الطبعة نشر روسو بالإضافة إلى النص الأرمنى نفسه، ترجمتين إحداهما لاتينية والأخرى فرنسية. ويرى روسو صاحب الترجمة الفرنسية أن النص الأرمنى قد تُرجم أصلاً  عن اللغة اليونانية بتصرف. وتحتوى أيضًا طبعة روسو التى نُشرت فى SC. سنة 1995، ملاحظات مستفيضة وصلت إلى عدد صفحات أكثر من النص نفسه، كما يختم طبعته هذه بستة ملاحق عن تعاليم القديس إيرينيوس اللاهوتية، ومقارنات بين الترجمات المختلفة للنص الأرمنى. وبهذا يكون عمل روسو حسب رأى جون بهر John Behr إنجازًا ملحوظًا فى مجال البحث الآبائى.

 

المراجع التى استُخدمت فى إعداد المقدمة عن

حياة القديس إيرينيوس وتعليمه اللاهوتى

  • JOHANNES Quasten: PATROLOGY, published 1950, reprinted by Christian Classic, INC., 1983, Westminster, Maryland S.A. Vol. I, ps. 287-315.
  • ANTE- NICENE FATHERS, 1884, reprinted by Hendrickson Publishers, INC., 1994, O. Box 3473, Peabody, Massachusettes 01961-3473. U.S.A. Vol. I, ps. 309-313.

3 ـ تاريخ الكنيسة ـ للأسقف يوسابيوس القيصرى،

                          الكتاب الرابع: فصل 21، ص 190

                          الكتاب الخامس: فصل 4، ص 217

                          الكتاب الخامس: فصل 8، ص 222.

تعريب القمص مرقس داود، نشر مكتبة المحبة، الطبعة الثانية، القاهرة 1970.

 

المراجع التى رجعنا إليها لترجمة

كتاب ”شرح الكرازة  الرسولية ”

1- ΙΩΑΝΟΥ Δ. ΚΑΡΑΒΙΔΟΠΟΥΛΟΥ Δ. Θ.,

            ΕΙΡΗΝΑΙΟΥ ΕΠΙΣΚΟΠΟΥ ΛΟΥΓΔΟΥΝΟΥ.

            ΕΠΙΔΕΙΞΙΣ ΤΟΥ ΑΠΟΣΤΟΛΙΚΟΥ ΚΗΡΥΓΜΑΤΟΣ

            ΕΙΣΑΓΩΓΗ- ΜΕΤΑΦΡΑΣΙΣ- ΣΧΟΛΙΑ ΕΝ

            ΘΕΣΣΑΛΟΝΙΚΗ, 1965.

 

2- St. Irenaeus of Lyons

            ON THE APOSTOLIC PREACHING

            Translated and Introduction by John Bher

            St. Vladimir’s Seminary Press, Crestwood, NY 1997.

 

3- ANCIENT CHRISTIAN WRITERS,

            St. Irenaaeus Proof of The Apostolic Preaching.

            Translated and Annotated by Joseph P. Smith, S.J.

            Professor in The Pontifical Biblical Instituite,

            Rome, Newman Press. No. 16.

 

 

الاختصارات

BEPES

:

Biblioq»kh ‘Ell»nwn Patšrwn ka… ‘Ekklhsiastikîn Suggrafšwn

(œkd.; ApostolikÁj Diakon…aj tÁj ‘Ekklhs…aj tÁj Ell£doj), AqÁvai 1955 ™x.

 

 

 

EPE

:

”Ellhnej Patšrej tÁj ‘Ekklhs…aj, Paterika… ™kdÒseij, « GrhgÒrioj Ð Palam©j » , Qessalon…kh 1972 ™x.

 

 

 

 

 

A.N.F

:

Ante- Nicene Fathers, Edited by Alexander Roberts, D.D. and James Dondaldson, LL.D. Hedrickson Publishers, Massashusetts 01961-3473, U.S.A. 1994.

 

 

 

AH

:

Against Heresies  كتاب ضد الهرطقات

 

 

 

P.L.

:

Patrologia Latina.

 

 

 

P.O.

:

Patrologia Orientalis.

 

 

 

S.C.

:

Sources Chrétiennes, Les Edition du Cref, BD De Latour MAUBOURG, Paris

 

 

 

س : سبعينية

 

 

 

[1] انظر Against The Heresies (=AH) 3:3:4، وأيضًا يوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة.

[2] يوسابيوس القيصرى: تاريخ الكنيسة، ترجمة القمص مرقس داود، ك5 فصل5:20ـ7، الطبعة الثانية، مكتبة المحبة القاهرة 1970، ص272ـ273.

[3] يوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة، 2:4:5، ص 247.

[4] يوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة11:24:5، 18.

[5] Quasten, Patrology Vol. I, 288.

[6] انظر Historia Francorum, !, 27، وانظر Murray Dictionary of Christian Biography, Vol. 2, p. 771, London 1880.

[7] Quasten, Patrology Vol. I, 294.

[8] يقصد الغنوسيين الذين كانوا يؤمنون بوجود عدة ولادات للدهور والأزمنة.

[9] يشدد القديس إيرينيوس على أن الإنسان الكامل يتكون من الجسد والنفس والروح، والروح عنده تناله النفس من الله.

[10] 1كو5:15، وهنا  يرد القديس إيرينيوس على الغنوسيين الذين نادوا بأن الجسد لا يخلص لأنه شرير فى ذاته بتفسيرهم الخاطئ لهذه الآية ” فإن لحمًا ودمًا لا يرث ملكوت السموات”.

[11] ملاحظة Massuet هذه أوردها ناشر المجلد رقم 1 من مجموعة A.N.F الذى يحوى كتاب “ضد الهرطقات”  للقديس إيرينيوس وجاءت الملاحظة فى هامش صفحة 412 من المجلد رقم 1 تعليقًا على العبارة المقتبسة أعلاه من الكتاب الثانى من ضد الهرطقات (AH2:34:3).

[12] علينا أن نلاحظ أن القديس إيرينيوس لم يكن يستعمل تعبيرات “العهد القديم” و”العهد الجديد” كعهدين منفصلين. بل بعكس أولئك الذين وضعوا فارقًا شديدًا بين الإعلان الجديد (أى إعلان إله آخر وبين الإعلان القديم) ـ نموذج هؤلاء ماركيون الهرطوقى فى القرن الثانى ـ بعكس هؤلاء فإن القديس إيريناوس هو أول من كتب من الآباء مؤكدًا على وحدة  معاملات الله مع الجنس البشرى طوال التاريخ. أى أنه يقول إنه يوجد تدبير إلهى واحد فقط. فحينما يكتب إيريناوس عن مراحل أو عصور مختلفة فهو يفضل أن يتكلّم عن أربعة مواثيق: عهد مع آدم، عهد مع نوح، عهد بواسطة موسى، وأخيرًا عهد الإنجيل (AH3:11:8)، وحينما يشير إلى الكتاب المقدس فهو كثيرًا ما يميز بين ثلاثة أقسام هى: الكتب النبوية (ويقصد بها كل العهد القديم)، والكتابات الإنجيلية (أى الأناجيل) والكتابات الرسولية (أى الرسائل). انظر Y.M. Blanchard, Aux Sources du canon: Le Témoignage d’ Irénée (Paris: Cerf, 1993) p. 132-145.

[13] وهذا الإصرار على أننا ينبغى أن نرى ونقبل ما هو موجود كما هو، يتكرر كثيرًا فى كتابه “ضد الهرطقات”، حيث يذكر أن هذا الكتاب الأخير يخص الحق عن الله والإنسان. ويشرح إيرينيوس اننا ينبغى “أن نعرف ما هو الذى يستطيع الله أن يفعله؟ وما هى الفوائد التى يمكن أن ينالها الإنسان؟، وذلك لكى لا نضل بالمرة عن الإدراك الصحيح للأمور كما هى فعلاً فيما يخص الله والإنسان” ضد الهرطقات AH5:2:3 .

[14] [إن تهليل إبراهيم نزل على ذريته الذين جاءوا منه… ومن الجهة الأخرى يوجد تهليل متبادل انتقل من الأبناء إلى إبراهيم الذى اشتهى أن يرى يوم المسيح أن يأتى. إذن فبصواب شهد ربنا لإبراهيم قائلاً: ” أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى وفرح“] (ضد الهرطقات AH4:7:1 وانظر يو56:8).

 

[15] J. Armitage Robinson, St. Irenaeus: The Demonstration of the Apostolic Preaching (London & NY: SPCK, 1920).

[16] J.P. Smith, St. Irenaeus: Proof of the Apostolic Preaching (ACW16; London& Maryland: Westminster, 1952). A Further English version was prepared by J. Sparks (Brookline, MA: Holy Cross Orthodox Press, 1987), on the basis of the earlier translation.

 

الكرازة الرسولية ج1 – ق. إيرينيوس – د. نصحى عبد الشهيد