Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

شرح الإيمان المسيحى ج4 – ق. أمبروسيوس – د. نصحى عبد الشهيد

شرح الإيمان المسيحى ج4 – ق. أمبروسيوس – د. نصحى عبد الشهيد

 

شرح الإيمان المسيحى ج4 – ق. أمبروسيوس – د. نصحى عبد الشهيد

 

التاسع

ملخص: الاعتراض بأن الابن، بسبب أنه مُرسَل من الآب يصير ـ على الأقل ـ من جهة الاعتبار أقل من الآب، نجيب عليه بأنه أيضًا أُرسل من الروح القدس الذى لا يُعتبر أعظم من الابن. علاوة على ذلك، فإن الروح القدس ـ بدوره ـ قد أرسله الآب إلى الابن حتى تتضح وحدانية عملهم (أى أقانيم الثالوث). فمِن واجبنا لذلك أن نميز بحرص بين ما هو ملائم أن يُنسب للمسيح كإله، وما الذى يُنسب إليه كإنسان.

 

74 ـ لا تنتابنى أية مخاوف بخصوص الاعتراض الشائع من جهة المسيح أنه أقل من الآب ـ بسبب أنه مُرسَل منه ـ لأنه رغم كونه كان مُرسلاً، إلاّ أنه لا ينتج عن هذا أن يكون أقل فى الطبيعة؛ ومن الجهة الأخرى، فإن لقبه المساوى فى الكرامة (للآب) هو أمر ثابت حقًا. وبما أن الجميع يكرمون الابن كما يكرمون الآب (يو23:5)، فمن المؤكد أن الابن ليس أقل من الآب، بسبب كونه مُرسَل (منه).

 

75 ـ لذلك، لا ينبغى أن تلتفت إلى الحدود الضيقة للغة البشرية، بل لاحظ المعنى الواضح للكلمات، وآمن بالحقائق التى تمَّت. تذكَّر أن ربنا يسوع المسيح قال فى سفر إشعياء إن الروح قد أرسله (إش1:61). فهل لذلك يكون الابن أقل من الروح لأن الروح أرسله؟ وهكذا عندك المكتوب أن الابن يعلن نفسه أنه مُرسَل من الآب ومن روحه. إنه يقول: ” أنا الأوّل“، “وأنا الحى إلى الأبد، ويدى أسَّست الأرض ويمينى نشرت السموات ليقفن معًا” (إش13،12:48). وأيضًا: ” أنا أنا تكلمت ودعوته، أتيت به فينجَحُ طريقه، تقدموا إلىَّ واسمعوا هذا، لم أتكلم من البدء فى الخفاء، منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلنى وروحه” (إش16،15:48). هنا بالحق نجد أن الذى صنع السماء والأرض هو نفسه الذى أرسله السيد الرب وروحه. فها أنت ترى إذن أنه حتى فقر اللغة لا يقلل شيئًا من كرامة إرساليته، إذن فالآب أرسله، كما أن الروح أرسله أيضًا.

 

76 ـ ولكى تعرف أنه لا يوجد فرق فاصل فى الجلالة والعظمة، فإن الابن أيضًا بدوره يرسل الروح كما قال هو نفسه: ” متى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من عند أبى، روح الحق الذى من عند الآب ينبثق” (يو26:15). أما عن كون المعزى نفسه مُرسل من الآب، فقد بيّنه من قبل فى قوله: ” المعزى الروح القدس الذى يُرسله الآب باسمى” (يو26:14). لاحظ وحدتهم من حيث إن الذى يُرسله الآب، فالابن أيضًا يُرسله، والذى يرسله الآب يُرسله الروح أيضًا. وإلاّ كان الآريوسيون لا يعترفون أن الابن قد أُرسل لأننا نقرأ أن الابن هو يد الآب اليمنى، فإنهم بأنفسهم يعترفون فيما يخص الآب بما ينكرونه للابن، إلاّ إذا ـ ربما ـ اخترعوا لأنفسهم أبًا آخر أو ابنًا آخر.

 

77 ـ فلنكف إذن عن الجدل العقيم حول الألفاظ، لأن ملكوت الله كما هو مكتوب ليس “ بكلام بل بقوة” (انظر 1كو20:4)، ولننتبه إلى التمييز بين الألوهية والجسد، ففى كليهما يتكلم ابن الله الواحد نفسه، لأن كلاً من الطبيعتين موجودة فيه، ورغم أنه هو نفس الشخص الذى يتكلم، فهو لا يتكلم دائمًا بنفس الطريقة. فأنت ترى فيه مجد الله أحيانًا، وفى أحيان أخرى ترى آلام الإنسان. فهو كإله يتكلم بأمور الله لأنه هو الكلمة؛ وكإنسان هو يتكلم بأمور الإنسان لأنه يتكلم بطبيعتى.

 

78 ـ ” هذا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء” (يو58:6). هذا الخبز هو جسده كما قال هو بنفسه: ” والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى” (يو51:6). هذا هو الذى نزل من السماء، هذا هو الذى قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، والكتاب نفسه يعلّمنا أن اللاهوت ليس فى حاجة إلى تقديس بل الجسد، كما قال الرب نفسه: ” لأجلهم أُقدس أنا ذاتى” (يو19:17). وهذا لكى تعترف وتقرّ أنه إنما يتقدس فى الجسد لأجلنا، كما أنه هو الذى يُقدِّس (جسده) بقوة لاهوته.

 

79 ـ هذا هو نفس الابن الذى أرسله الآب، ولكنه كما يقول الرسول: ” مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس” (غلا4:4). هذا هو نفسه الذى يقول: ” روح الرب علىَّ، لأنه مسحنى لأُبشِّر المساكين” (لو18:4، إش1:61)، هذا هو الذى قال: ” تعليمى ليس لى بل للذى أرسلنى، إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسى” (يو17،16:7). فالتعليم الذى من الله شئ والتعليم الذى من الإنسان شئ آخر. لذلك فإن اليهود عندما اعتبروه إنسانًا وسألوه عن تعليمه وقالوا: ” كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟ أجابهم يسوع: تعليمى ليس لى بل للذى أرسلنى” (يو15:17و16). فإن كان يُعلِّم وهو لم يعرف أُبهة اللغة، يتضح أنه لا يُعلِّم كإنسان ولكن كإله، وهو لم يتعلم (من أحد) ولكنه أبدع تعليمه (بنفسه).

 

80 ـ لأنه هو الذى أوجد وأبدع كل طريق التعليم كما قرأنا من قبل، نظرًا لأنه ابن الله الذى قيل عنه: ” هذا هو إلهنا ولا يحاذيه آخر. هو أوجد طريق التعليم بكماله، وبعد ذلك تراءى على الأرض وتخاطب مع الناس” (باروخ36:3ـ38). كيف إذن وهو إله لا يستطيع أن يكون له تعليمه الخاص، وهو الذى قد أوجد كل طريق التعليم قبل أن يتراءى على الأرض؟ وكيف يكون أقل (من الآب) وهو الذى قيل عنه: ” ولا يحاذيه آخر” ؟. بالتأكيد فإنه يعلو على المقارنة، وهو إذا قورن بآخر فإن هذا الآخر لا يمكن أن يكون محاذيًا له. والآن إذا افترض أحد أن كلام النبوة هنا هو عن الآب، فإنهم سيسقطون فى تجديف سابيليوس، بأن ينسبوا للآب أنه اتخذ طبيعة بشرية.

 

81 ـ فلنأتِ الآن إلى ما يلى: ” مَن يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه” (يو18:7). انظر الوحدة التى يُعلن بها الآب والابن بكل وضوح. الذى يتكلم لا يمكن إلاّ أن يكون كائنًا ومع ذلك فما يتكلم به لا يمكن أن يكون من نفسه وحده، لأنه كل ما فيه هو موجود فيه طبيعيًا من الآب.

 

82 ـ والآن ما معنى تلك الكلمات: ” يطلب مجد نفسه“؟، إنها لا تعنى مجدًا لا يكون الآب مشتركًا فيه، لأنه فى الحقيقة إن كلمة الله هو مجد الله. ويقول ربنا أيضًا: ” لينظروا مجدى” (يو24:17)، ولكن مجد الكلمة هو أيضًا مجد الآب كما هو مكتوب: ” الرب يسوع المسيح فى مجد الآب” (فى11:2)، فمن جهة لاهوته، فإن ابن الله له مجده الإلهى الذاتى، ليكون مجد الآب والابن واحدًا. فمن ثمَّ لا يكون أقل فى البهاء وذلك لأن المجد واحد، ولا أقل فى الألوهة لأن ملء اللاهوت حالٌّ فيه (كو19:1، 9:2).

83 ـ أنت تسأل معى، كيف كُتب: ” أيها الآب قد أتت الساعة، مجِّد ابنك“؟ (يو1:17). أنت تقول إن الذى يتفوَّه بهذه الكلمات يحتاج إلى أن يتمجَّد، ولكن يا لقصر نظرك! ألم تقرأ بقية المكتوب الذى يكمل:   ” ليمجدك ابنك أيضًا“. هل حَدَثَ مطلقًا أن الآب قد احتاج لأى مجد، حتى يمجِّده الابن؟.

 

 

 

 

الفصل العاشر

ملخص: دحض الاعتراض الذى يستند على طاعة الابن، وتوضيح أن القوة والألوهة والعمل كلها واحدة فى الثالوث، كما يشير إلى طاعة المسيح لوالدته، التى بكل تأكيد لا يمكن أن يكون أقل منها.

 

84 ـ وأيضًا فإن خصومنا يثيرون عادة معضلة من جهة طاعة الابن (للآب) باستنادهم على ما هو مكتوب: ” وإذ وُجِدَ فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت” (فى8:2). فالكاتب لم يذكر فقط أن الابن أطاع حتى الموت، ولكنه يبيّن أولاً أنه كان إنسانًا، حتى يمكننا أن نفهم أن الطاعة حتى الموت كانت فيما يخص تجسده، وليست خاصة بألوهته، ولذلك اتخذ الوظائف وكذلك الأسماء التى تخص طبيعتنا.

 

85 ـ وهكذا تعلّمنا أن قوة الثالوث هى واحدة، وهذا تعلّمناه من آلام الرب وكذلك بعد آلامه: لأن الابن يتألم بجسده، هذه الآلام التى هى علامة هذا التجسد، والروح القدس ينسكب (من الآب) على الرسل، والمسيح يستودع روحه فى يدى الآب؛ وعلاوة على ذلك، فالله يُنادى به بصوت مقتدر أنه الآب. تعلّمنا أنه توجد صورة واحدة، شبه واحد، تقديس واحد للآب والابن، نشاطٌ واحد ومجدٌ واحد، وأخيرًا ألوهة واحدة.

 

86 ـ لذلك فإنه يوجد إله واحد كما هو مكتوب: ” للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” (تث13:6)، إله واحد لا بمعنى أن الآب والابن هما نفس الشخص، كما يقول سابيليوس الهرطوقى، ولكن بمعنى أنه توجد ألوهة واحدة لكل من الآب والابن والروح القدس، وحيث توجد ألوهة واحدة، فإنه توجد مشيئة واحدة وهدف واحد.

 

87 ـ ولكى تعرف أيضًا أن الآب كائن وأن الابن كائن وأن عمل الآب وعمل الابن هو واحد، أنصت لقول بولس الرسول: ” والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدى طريقنا إليكم” (1تس11:3)، فمع أن اسم الآب والابن مذكوران، ولكن توجد وحدة فى اتجاه الهداية، وهذا بسبب وحدة السلطان. كما نقرأ فى موضع آخر: ” وربنا نفسه يسوع المسيح والله وأبونا، الذى أحبنا وأعطانا عزاءً أبديًا ورجاءً صالحًا بالنعمة، يُعزى ويُثبِّت قلوبكم” (2تس16:2و17). كم هى كاملة تلك الوحدة التى يضعها الرسول أمامنا، حيث إنَّ ينبوع العزاء ليس متعددًا، وإنما هو واحد. ليخرس كل شك، أو إن لم يُغلب بالبرهان العقلى، فليثنِه فكر ربنا الرحوم الشفوق (ليرجع عن غِيِّه).

 

88 ـ فلنتذكر كيف تعامل معنا ربنا بكل إشفاق، إذ أنه علّمنا ليس الإيمان فقط، بل والأخلاق أيضًا. لأنه عندما جاء فى هيئة إنسان، فإنه كان خاضعًا ليوسف ومريم (لو51:2). فهل كان هو أقل من كل البشر بسبب خضوعه؟ إن القيام بالواجب شئ أما السيادة فشيء آخر، ولكن القيام بالواجب لا يلغى السيادة.

          إذن، متى كان المسيح خاضعًا لناموس الآب؟ بالتأكيد كان ذلك بجسده، والذى به كان خاضعًا لأمه أيضًا.

 

الفصل الحادى عشر

ملخص: يتحدث هذا الفصل عن هدف التجسد وتأثيراته الشافية، ونفع الإيمان الذى به نعرف أن المسيح حَمَلَ كل الضعفات لأجلنا، المسيح الذى أعلنت ألوهيته عن نفسها فى آلامه؛ لذلك فنحن نفهم أن إرسالية ابن الله لا تستلزم أى نوع من المذلَّة، هذا الاعتقاد الذى لا نحتاج أن نخافه كشئ لا يسرّ الله، الذى يعلِن هو نفسه أنه مسرور بابنه.

 

89 ـ دعنا بالمِثل نتعامل بعطف، دعنا نُقنِع الذين يعادوننا بما هو نافع لهم، ” هلم نسجد ونجثو وننوح أمام الرب خالقنا” (مز6:95س)، لأننا لن نطرحهم بعيدًا بل بالأحرى سوف نشفى، إننا لن نضع فخًا أمامهم، ولكننا سوف نحذِّرهم كما هو الواجب. إن الشفقة كثيرًا ما تُغيِّر أولئك الذين لا ينفع فى إخضاعهم لا القوة ولا الجدال. وربنا أيضًا عالج بالزيت والخمر الرجل الذى كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، والذى وقع بين اللصوص ولم يعالجه بأدوية الناموس الخشنة ولا بالنبوات الجافة.

 

90 ـ لذلك، فليأتِ إليه جميع الذين يريدون أن يصيروا أصحاء. دعهم يأخذون الدواء الذى أنزله من عند أبيه والمصنوع فى السماء، والذى أعدَّه من عصائر تلك الثمار السمائية التى لا تذبل. هذا ليس من نتاج أرضى، لأن الطبيعة لا يوجد بها هذا المزيج فى أى مكان. أخذ جسدنا لأجل هدف عجيب، لكى يُبيِّن لنا أن ناموس الجسد قد أُخضِع لناموس العقل. لقد تجسَّد معلِّم البشر لكى يغلب كإنسان.

 

91 ـ ماذا كان سيفيدنى، لو أنه كإله كشف عن ذراع قوَّته وأظهر أن ألوهيته لا تُنتهك؟ فلماذا اَّتخذ لنفسه طبيعة بشرية وسمح لنفسه أن يُجرَّب تحت ظروف طبيعتى وضعفى؟ لقد كان من الصواب أن يُجرَّب وأن يتألم معى، وذلك لكى أعرِف كيف أَنتَصِر عندما أُجرَّب، وكيف أهرب عندما أُضغَط بشدة. لقد انتصر بقوة طهارته وقوة الازدراء بالغِنَى؛ وبالإيمان. فقد وطأ الطمع وهرب من الإفراط والتطرف، آمرًا الشهوانية أن تبقى بعيدة عنه.

 

92 ـ هذا الدواء شاهده بطرس، فترك شباكه، أى أدوات الصيد والرِّبح المضمون، وتخلى عن شهوة الجسد كأنها سفينة مثقوبة فى القاع تتسرب إليها شهوات متعددة كثيرة. حقًّا إنه علاج فعَّال، لا ينزع فقط ندبة الجرح القديم، بل وأيضًا يقطع أصل الألم ومصدره. أيه أيها الإيمان الأثمن مِن كل خزائن الجواهر؛ أيها الدواء الممتاز، الشافى لجراحاتنا وخطايانا!.

 

93 ـ دعنا نذكِّر أنفسنا بمنفعة الإيمان الصحيح. إنه نافع لى أن أعرف أنه مِن أجلى حَمَل المسيح ضعفاتى، أخضع نفسه لمشاعر جسدى، ولأجلى، أى لأجل كل إنسان، صار خطيَّة ولعنة[1]، ولأجلى وفىَّ تذلَّل وصار خاضعًا، ولأجلى صار حملاً وكرمة وصخرة[2] وعبدًا، وابن الأَمَة[3] (يقصد الأُمة اليهودية والعذراء)، (قاصدًا) ألاّ يعرف يوم الدينونة ، ولأجلى لا يعرف اليوم ولا الساعة[4].

 

94 ـ لأنه كيف يمكنه، وهو الذى صنع الأيام والأزمنة أن يكون غير عارف لليوم (الدينونة)؟ كيف لا يمكنه أن يعرف اليوم وهو الذى أعلن زمن الدينونة الآتية وسببها[5]؟ وهو قد صار لعنة، إذن، لا من جهة ألوهيته وإنما من جهة جسده، لأنه مكتوب: ” ملعون كل مَن عُلِّق على خشبة” (تث23:21، غل13:3)، ولذلك فإنه فى الجسد أى بعد التجسد قد عُلِّق، ولذلك فإن هذا الذى حَمَل لعناتنا صار لعنة[6]. إنه بكى، حتى لا يطول بكاؤك أيها الإنسان، واحتَمَلَ الإهانة حتى لا تحزن قِبالة الإساءة التى تصيبك[7].

 

95 ـ إنه علاج عظيم أن نتعزَّى بالمسيح! لأنه احتمل هذه الأشياء فى صبر تجاوز الحدّ لأجلنا، ونحن لا نقدر أن نحتملها بصبرٍ مماثل لأجل مجد اسمه! مَن مِنَّا لا يتعلَّم أن يصفح عندما يُهَاجم، وهو يرى المسيح حتى وهو على الصليب يُصلِّى لأجل أولئك الذين اضطهدوه؟ أما ترى أن ضعفات المسيح هذه كما يُسرِّك (أيها الهرطوقى) أن تُسمِّيها إنما هى قُوَّتك[8]؟ لماذا تسأله عن أدوية لعلاجنا؟ إن دموعه تغسلنا، وبكاءه يطهِّرنا، فلا تشكَّ أنه توجد قوة خاصة فى الضعف، لأنك إن كنت تشك (فى قوته) فسوف تيأس. وكلَّما كانت الإهانة أكبر، كلَّما كان الامتنان الذى يليق به أعظم.

 

96ـ حتى فى وقت السخرية والاستهزاء، عليك أن تعترف بألوهيته. إنه عُلِّق على الصليب، وكل العناصر أولتهُ التكريم[9]. الشمس أخفت شعاعها، ونور النهار احتجب، والظلمة أقبلت وغطَّت الأرض، والأرض اهتزت مع أن المُعلَّق هناك لم يهتز. إلى أىّ شئ تشير هذه العلامات إلاّ إلى توقير الخالق؟ إن هذا المُعلَّق على الصليب، هذا الذى تلاحظه أيها الآريوسى، هذا هو مُعطِى ملكوت الله، وأنتَ لا تُريد أن تعتبره أو تلتفت إليه. إنك تقرأ أنه ذاق الموت، ولكنه أيضًا هو الذى دعا اللص إلى الفردوس[10]، ولكن أنتَ لا تنتبه لمثل هذا العمل. إنك تُحملِق فى المرأة التى تبكى عند القبر، ولكن لا تنظر إلى الملائكة التى تظل تحرسه[11]. إنك تقرأ ما يقوله، ولكنك لا تقرأ ما يعمله. أنتَ تقول إن الرب قال للمرأة الكنعانية: ” لم أُرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت24:15)، ولكنك لا تذكر إنه أتمَّ ما توسلَّت إليه أن يعمله.

97 ـ وهكذا عليك أن تفهم أن كونه: ” أُرسِل” لا يعنى أنه أُجبِر على ذلك بأمر آخرَ، ولكنه عمل هذا بإرادة حُرَّة، وبحسب فكره الخاص. وإلاّ فأنتَ سوف تتّهمهُ أنه يحتقر أباه، لأنه إن كان بحسب شرحك قد جاء المسيح إلى اليهود مثل من يُتمِّم وصايا الآب ليخلِّص شعب اليهود وليس أحد آخر معهم، ومع ذلك فإنه مِن قَبْل أن يُتمِّم هذا، فإنه أقام ابنة المرأة الكنعانية ، فهو بالتأكيد ليس فقط يُتمِّم وصايا آخر، ولكنه حُرٌّ أيضًا ليمارس حكمه ورأيه الخاص. وحيث توجد حرِّية فى أن يعمل الشخص ما يريد، فلا يمكن أن يكون هناك تعدِّى على مهام إرسالية الشخص.

 

98 ـ لا تخف أن يكون عمل الابن لا يرضى الآب، لأنك ترى الابن نفسه يقول: ” لأنى فى كل حين أفعل ما يرضيه“، وأيضًا: ” الأعمال التى أنا أعملها يعملها هو أيضًا“(يو29:8، 12:14). كيف إذن، يكون الآب غير راضٍ عما يفعله هو نفسه بواسطة الابن؟ كما هو مكتوب: ” لأن الله واحد هو الذى سيُبرِّر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان” (رو30:3).

 

99 ـ اقرأ جميع الكتب المقدسة، أصغِ إليها باجتهاد، سوف تجد عندئذٍ أن المسيح قد أظهر ذاته حتى يمكن أن نرى الله فى الإنسان، وعندما تسمع الآب يُعلن رضاءه عن الابن، فلا تسئ الفهم بخبث من جهة تمجيد الابن فى الآب.

 

الفصل الثانى عشر

ملخص: هل الأرثوذكس أم الآريوسيون هم الذين يضمنون لأنفسهم فضل المسيح كديَّان لهم؟ إن الاعتراض المؤَّسس على المزمور 1:110 باطل، إذ يمكن أن نبيّن أن الابن عندما يُدعى بواسطة الآب أن يجلس عن يمينه، فإنه لا يقصد بهذا أى إخضاع، بل ولا أى أفضلية له وعلى الابن، بسبب أن الابن يجلس عن يمينه. إن الحق الخاص بالأقانيم الثلاثة فى الله ووحدة طبيعتهم يبرهن عليها بالتسبحة الملائكية ذات الثلاثة تقديسات.

 

100 ـ إن كان لا يمكن أن يتحوَّل مقاومونا باللطف، فلنستدعِهم أمام القاضى. إلى أىّ قاضٍ إذًا سنذهب؟ بالتأكيد إلى مَنْ له الدينونة. هل إلى الآب؟ كلاَّ، ” لأن الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن” (يو22:5). إن الابن أُعطى هذا ليس كإنعام، بل فى ولادته من الآب. انظر إذن كيف أنه، غير راضٍ عن إهانتك لابنه، ومع ذلك فإنه أعطاه أن يكون ديَّانًا لك.

 

101 ـ دعنا إذن فى موقف القضاء، مَنْ يكون له الدعوى الأفضل، أنت أم أنا؟ بالتأكيد إن اهتمام الفريق الحكيم وهو يعرض الدعوى أن ينال أولاً رضا القاضى. أنت الذى تُكرِّم الإنسان ألا تكرِّم الله؟ إننى أسألك أيهما سوف يجد قبولاً عند القاضى: الاحترام أم الازدراء؟ افترض إننى على خطأ، ومع أننى بالتأكيد لست هكذا، هل المسيح لا يُسرُّ بالكرامة التى نقدمها؟ نحن كلنا خطاة، فمن الذى سيكون جديرًا بالغفران: هل الذى يُقدِّم العبادة أم الذى يظهر العجرفة؟

 

102 ـ أمّا إذا كان العقل لا يستحثَّك، فعلى الأقل دع وجه الدينونة الواضح يحركك! ارفع عينيك إلى الديَّان وانظر مَنْ هو الجالس، ومع مَنْ هو جالس وأين. المسيح يجلس عن يمين الآب. إن كنت لا تستطيع بعينيك أن ترى هذا، فاسمع كلمات النبى: ” قال الرب لربى اجلس عن يمينى” (مز1:110). فالابن إذًا جالس عن يمين الآب. وإلاَّ، قُل لى يا مًن تتمسَّك بأن أمور الله يُحكم عليها من أشياء هذا العالم، فأخبرنى إذًا هل أنت تفكر أنه الجالس عن اليمين هو أقل؟ هل هو أمر مهين للآب أن يجلس عن يسار الابن؟ إن الآب يكرِّم الابن وأنت تجعل هذا الإكرام إهانة! إن الآب يجعل هذه الدعوة علامة حب وتقدير، وأنت تعتبرها أمرًا مِن سيد متسلط على غيره! المسيح قام من الأموات وجلس عن يمين الله.

 

103 ـ ولكنك تعترض وتقول، حسنًا، اسمع الآن عبارة لم ينطق بها الآب، ولكن الابن يتنبأ ويقول: ” مِن الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة” (مت64:26)، وله يقول الآب: ” اجلس عن يمينى[12]. إن كنت حقًا تسأل عن السكن الأبدى للألوهة، فإنه قال عندما سأله بيلاطس ما إذا كان هو ملك اليهود: ” لهذا وُلِدت[13]، وهكذا فإن الرسول حقًا يوضح أنه من الجيد لنا أن نؤمن أن المسيح يجلس عن يمين الآب، ليس كأمر ولا كنعمة، ولكن كابن الله الحبيب العزيز جدًا، لأنه مكتوب: ” اطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، اهتموا بالأشياء التى هى فوق” (كو1:3و2). وأن تهتم بالأشياء التى هى فوق هو أن تؤمن أن المسيح فى جلوسه، لا يطيع كمن يتلقَّى أمرًا، بل هو مكرَّم كابن محبوب جدًا، إذًا، إنه من جهة جسد المسيح يقول الآب: ” اجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك“.

 

104 ـ أمّا إذا كنت تسعى مرة أخرى أن تقلب معنى هذه الكلمات:   ” أضع أعداءك تحت موطئ قدميك“، فإننى أجيب أن الآب أيضًا يعطى للابن أن يقيم الأموات ويُحيى، ويقول المسيح: ” لا يقدر أحد أن يُقبِل إلىَّ إن لم يجتذبه الآب الذى أرسلنى، وأنا أقيمه فى اليوم الأخير” (يو44:6). وأنتَ تقول إن ابن الله خاضع بسبب الضعف، وهو الابن الذى يجذب الآب إليه الناس ليقيمهم فى اليوم الأخير. أتوسل إليك، هل يبدو لعينيك أن هذا خضوع، بينما الملكوت هو معدٌّ للآب والآب يعطيه للابن، ولا مجال لقلب الكلمات، لأن الابن يعطى الملكوت للآب، ولا يوجد من يُفضَّل عليه؟ وبما أن الآب يقدِّم للابن والابن أيضًا يقدِّم للآب، فإنه توجد هنا براهين واضحة على الحب والاعتبار، إذ نرى أن الواحد هكذا يقدم للآخر، فلا يكون الذى يأخذ كأنه يحصل على شئ كما لو كان يخص الآخر، ولا الذى يقدم يَفقد.

 

105 ـ وعلاوة على ذلك، فالجلوس عن اليمين ليس هو أفضلية ولا الجلوس عن اليسار يدل على الازدراء، لأنه لا توجد درجات فى الألوهة التى لا تُحدّ بمكان أو بزمان، هذه الأمور التى هى معايير وقياسات الأذهان البشرية الناقصة. إنه لا يوجد اختلاف فى الحب، ولا ما يقسم الوحدة.

 

106 ـ فلماذا إذن الجولان بعيدًا؟ وأنت قد رأيت كل شئ حولك، رأيت الديَّان، ولاحظت الملائكة وهم يسبحونه، هل هم يسبحون وأنت تسيئ إليه؟ السلاطين والقوات تنطرح أمامه وأنت تتكلم بالشر على اسمه! جميع القديسين يعبدونه وأنتَ لا تعبد ابن الله ولا الروح القدس، بينما السارافيم يقولون ” قدوس، قدوس، قدوس” (إش3:6).

 

107 ـ ماذا يعنى هذا النطق المثلث لنفس الاسم: ” قدوس“؟ فإن كان يكرر ثلاثًا، فلماذا يكرر إلاّ لأنه فعل تسبيح واحد. وإن كان فعل تسبيح واحد، فلماذا يُكرَّر إذًا ثلاث مرات، لماذا التكرار المثلث إن لم يكن الآب والابن والروح القدس واحد فى القداسة؟ إن الساروف ينطق بالاسم ليس مرَّة واحدة لئلا يستبعد الابن، ولا مرتين لئلا يتغاضى عن الروح القدس، وليس أربع مرات لئلا يضيف الكائنات المخلوقة (فى تسبيح الخالق). وعلاوة على ذلك، فلكى يبيّن أن ألوهية الثالوث واحدة، فإن بعد الثلاثة تقديسات يضيف فى عدد مفرد: “رب الصباؤوت” فالآب إذن قدوس، والابن قدوس، وروح الله قدوس بالمثل، ولهذا فإن الثالوث يُعبَد ولا يَعبُد، ويُسبَّح ولا يسبِّح. أمَّا بالنسبة لى، فإننى أومن مثل السارافيم، وأعبد بحسب طريقة كل الرئاسات والقوات السمائية.

 

الفصل الثالث عشر

ملخص: الآراء الشريرة والمخزية التى يتمسك بها الآريوسيون والسابيليون والمانويون فيما يخص الدّيان الذى يدينهم تُفَّند باختصار، كما نستعرض باختصار الاعتراضات الأخرى فيما يتعلق بباقى خصوم المسيح، ويُعبِّر القديس أمبروسيوس عن أمله فى دينونة أخف لنفسه.

 

108 ـ دعنا إذن نتقدم إلى اتهاماتكم، ولنرَ كيف أنك قد تحصل على نعمة عند ديَّانك. أقول لك تكلم الآن، تكلم وقُل: ” إننى أعتبرك، أيها المسيح، لست مثل أبيك”، وسوف يجيبك: “لاحظ، أقول لك، لاحظ وقُل لى فى أى شئ تظن أننى أختلف (عنه)”.

 

109 ـ قُل ثانية: ” إننى أعتبرك كائنًا مخلوقًا”، والمسيح سوف يجيبك: ” إن كانت شهادة رُجلين حقًا، أما كان يجب عليك أن تؤمن بى وبأبى، هذا الذى دعانى ابنه؟”.

 

110 ـ سوف تقول: ” إننى لا أظن أنك كُلِّى القدرة”، وسوف يجيب بدوره: ” وأنا إذن لن أقدر أن أغفر لك خطاياك”.

 

112 ـ أنت تقول: ” أنت كائن خاضع تحت سلطان آخر”، ومن ثمَّ سوف يجيب: ” فلماذا إذن تبحث عن الحرية والغفران مِن هذا الذى تظن أنه خاضع لغيره مثل عبد؟”.

 

113 ـ إننى أرى أن اتهامك يقف عند هذا الحد، وأنا لن أضغط عليك، نظرًا لأننى أنا نفسى أعرف خطاياى. إننى لن أضمر لك عدم الغفران، لأننى أنا نفسى فى احتياج أن أنال الغفران، ولكننى أريد أن أعرف هدف صلواتك. انظر، إذًا، بينما أنا أسرد أمام القاضى رغباتك، إننى لا أظهر خطاياك، ولكننى أتطلّع لأن أشاهد صلواتك ورغباتك مرتَّبة فى نسقها الصحيح.

 

114 ـ افصح إذن عن تلك الرغبات، والتى يريد الجميع أن تُمنح لهم. ” يا سيد، اجعلنى على صورة الله” مِن ثمَّ سوف يجيب: ” على أى صورة؟ هل على الصورة التى أنت أنكرتها؟”.

 

115ـ ” اجعلنى على غير فساد”، فإن إجابته سوف تكون بالتأكيد: “كيف يمكن أن أجعلك على غير فساد، أنا الذى تدعونى كائنًا مخلوقًا، ومن ثمَّ تستنبط أننى قابل للفساد. إن الأموات سوف يقومون متحررين من الفساد، فهل تطلق عليه أنه قابل للفساد، ذاك الذى هو إله؟”.

 

116 ـ ” كُن صالحًا”، ” لماذا تطلب لنفسك ما تنكر أننى عليه؟ كنت أتمنى أن تكون صالحًا، وأنا قلت: ” تكونون قديسين لأنى قدوس” (لا2:19)، وأنت تشرع فى نفسك بأن تنكر أننى صالح؟ هل تبحث إذن عن غفران الخطايا؟ كلا، إنه لا يقدر أحد أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده. فإن كنت ترى أننى بالنسبة لك لستُ الإله الحقيقى الوحيد، فإننى لن أقدر أن أغفر لك خطاياك”.

 

117 ـ ثم دع أتباع آريوس وفوتينوس يتكلمون ويقولون: ” أنا أنكر لاهوتك”، فيجيبهم الرب: ” قال الجاهل فى قلبه ليس إله” (مز1:14، 1:53). مَنْ تُرى هو المقصود بذلك، هل اليهودى أم الأممى أم الشيطان؟ أيًّا كان المقصود أيها التابع لفوتينوس، فإنه يمكن احتماله لأنه سكت (أى قال فى قلبه فقط)، أمّا أنت فمع ذلك تجرَّأت ورفعت صوتك لتنطق بهذا (القول)، حتى يثبت أنك أكثر جهلاً من الجاهل. أنت تنكر لاهوتى رغم أننى قلت: ” إنكم آلهة وبنو العلى كلكم” (مز6:82، يو34:10). وأنت تنكر أننى إله، رغم أنك ترى أعمالى الإلهية تحدث حولك”.

 

118 ـ دع أتباع سابيليوس يتكلمون بدورهم: ” إننى أعتبر أنك تكون بنفسك مرة الآب ومرة الابن أو الروح القدس”. ولهذا يقول الرب: “أنت لم تسمع لا الآب ولا الابن”. هل يوجد أى شك بخصوص هذا الأمر؟ إن الكتاب المقدس نفسه يُعلِّمك أن الآب هو الذى يُعطى الدينونة وأن الابن هو الذي يدين (انظر يو22:5). إنك لم تُعطِ أُذُنًا لكلماتى:   ” أنا لست وحدى ولكن أنا والآب الذى أرسلنى” (يو16:8، 32:16).

 

119 ـ دع الآن من يتبع مانى يعطى كلمته. ” إننى أعتقد أن الشرير هو خالق جسدنا”. ولمثل هذا سوف يجيب الرب: ” ماذا تفعل الآن فى الأماكن السمائية؟ انصرف واذهب فى طريقك إلى الذى خلقك. “أريد أن الذين أعطانى يكونون معى”. أنت أيها المانوى تنوِّه عن نفسك أنك مخلوق من الشيطان؛ فاسرع إذن إلى مسكنه، موضع النار والكبريت، حيث النار فيه لا تنطفئ، وحيث العقاب الأبدى لا نهاية له”.

 

120 ـ إننى أترك جانبًا أصحاب الهرطقات الآخرين، لا أشخاصهم ولكن ما سينالونه من توعُّد مريع. أىّ نوع من القضاء ينتظرهم، وما هو شكل الحُكم عليهم؟ إنه فى الواقع سوف يقول لكل هؤلاء؛ فى أسفٍ أكثر منه فى غضبٍ: ” يا شعبى، ماذا صنعتُ بك وبماذا أضجرتك؟ ألم أُصعدك من مصر وأخرجتك من بيت العبودية إلى الحرية” (ميخا3:6و4، خر2:20).

 

121 ـ ولكن ليس كافيًا أنه أخرجنا من مصر إلى الحرية، وأنه أنقذنا من بيت العبودية، ولكن (هناك) نعمة أعظم من هذه، أنت قد أعطيتَ ذاتك لنا، وعندئذٍ سوف يقول: أما ” حملتُ أحزانكم“؟ (إش4:53)، أما أعطيت جسدى لكم؟ أما ذقتُ الموت الذى ليس له مكان فى لاهوتى ولكنه كان ضروريًا لفدائكم؟ هل هذه هى التشكرات التى آخذها (منكم)؟ أهذا هو ما يتحصَّل عليه دمى، مع أنى تكلَّمت فى الأزمنة الماضية بفم النبى: ” ما الفائدة من دمى إذا نزلتُ إلى الجحيم” (مز9:30). هل هذه هى المجازاة أنكم تنكرونى بخبث، أنتم الذين لأجلكم احتملت تلك الأشياء”؟

 

122 ـ أمَّا من جهتى يا ربى يسوع، فمع أننى عارف فى داخلى بخطيئة عظيمة، إلاّ أننى سوف أقول: ” أنا لم أنكرك وأنت تغفر لى ضعف جسدى، أعترف لك بخطيتى ولا أكتم إثمى” (مز5:32، مز3:51). إن أردت تقدر أن تطهرنى (انظر مت2:8)، والأبرص بقوله هذا نال غاية رجائه. أتوسل إليك ألاّ تدخل فى محاكمة مع عبدك (مز2:143)، أسألك ألاّ تحكم علىَّ ولكن أن تغفر لى”.

 

الفصل الرابع عشر

ملخص: يُعرض حكم القاضى، واعتراضات المعترضين توضع فى الاعتبار، ويبرهن على أن الحكم نهائى وليس له استئناف.

 

123ـ أىُّ حكم نتوَّقعه من المسيح؟ هذا أنا أعرفه. هل أقول أىّ حكم سوف يُعطِى؟ كلا، لأنه إنما نطق الحكم مسبقًا، وهو بين أيدينا إذ يقول: ” لكى يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب، مَن لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذى أرسله” (يو23:5).

 

124ـ إذا كان الحُكم لا يروق لك، استأنفه لدى الآب، وألغِ الحكم الذى أعطاه الآب، وقُل إن له ابنًا ليس مثله، وعندئذٍ سوف يجيب: “هل قد كذبتُ وأنا الذى قلتُ للابن: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك26:1).

 

125ـ قُل للآب إنه خلق الابن وسوف يجيبك: ” لماذا إذن تعبد من تظن أنه كائن مخلوق؟”.

 

126ـ قل له إنه وَلَد ابنًا أدنى منه، وهو سوف يجيب: ” قارن بيننا ولننظر”.

 

127ـ قُل له إنه ليس لك إيمان بالابن، وسوف يجيبك: ألم أقل لك: “هذا هو ابنى الحبيب الذى به سُررتُ. له اسمعوا” (مت5:17). ماذا تعنى هذه الكلمات: ” له اسمعوا” سوى أن تسمعه وهو يقول: ” كل ما هو للآب هو لى” (يو15:16، 10:17)؟. إن هذا ما سمعه الرسل كما هو مكتوب: ” ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدًا” (مت6:17). فإن كان الذين اعترفوا به سقطوا على الأرض، فماذا يعمل للذين ينكرونه؟ أماّ يسوع فوضع يده على الرسل وأقامهم، أما أنت فسوف يتركك منبطحًا على وجهك حتى لا ترى المجد الذى أنكرته.

 

128 ـ فلنهتم إذن لهذا، لأن من يدينه الابن فالآب يدينه أيضًا، لذلك يجب علينا أن نكرم الابن كما نكرم الآب، حتى يمكننا أن نأتى إلى الآب بواسطة الابن.

 

 

 

الفصل الخامس عشر

ملخص: يرفض القديس أمبروسيوس أىّ مديح (يوّجه له) بسبب الشرح الذى يقدمه للإمبراطور، فالإيمان يُدافع عنه بكفاية عن طريق سلطان الكتب المقدسة وشهادتها، هذه التى إذ يقاومها الآريوسيون كاليهود فإنهم يصمون آذانهم عنها. وهو يصلى لأجل أن يرجعوا عن عنادهم ويتحولوا إلى محبة الحق. وفى نفس الوقت يجب أن نتحاشاهم لأنهم هراطقة وأعداء للمسيح.

 

129ـ يا صاحب الجلالة، إن هذه الحجج والبراهين قد نسَّقتُها باختصار وبتلخيص وبشكل تقريبى وليس كشرح كامل ونظام دقيق. وإن كان الآريوسيون يعتبرونها غير كاملة وغير تامة، فأنا اعتبر أنها تكاد تكون بداءة، وإن كانوا يظنون أنه يوجد ما يجب تقديمه، فأنا أُسلِّم بهذا. فبينما غير المؤمنين فى احتياج شديد للبراهين، فإن المؤمنين عندهم ما يكفى ويزيد. إن اعتراف بطرس كان فى الواقع كافيًا ليكفل لنا الإيمان بالمسيح: ” أنت هو المسيح ابن الله الحي” (مت16:16، مر29:8)، لأنه يكفى أن تعرف ميلاده الإلهى بدون تقسيم أو إنقاص، وهو ليس نتيجة اشتقاق أو خلق[14].

 

130ـ وهذا فى الواقع قد أُعلِن فى كل الكتب المقدسة، ومع ذلك فإن غير المؤمنين لا يزالون يَشُكُّون: ” لأنه كما هو مكتوب: قلب هذا الشعب غلظ، وبآذانهم سمعوا ثقيلاً، وأعينهم أغمضوها، لئلا يبصروا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم” (إش10:6، أع27:28و28). فالآريوسيون مثل اليهود اعتادوا أن يصدُّوا آذانهم (عن أن تسمع)، وأن يصنعوا ضجيجًا كثيرًا للتشويش على كلمة الخلاص.

 

131ـ وما العجب (فى هذا) إن كان غير المؤمنين يُشُكُّون فى كلمة الإنسان، عندما يرفضون أن يؤمنوا بكلمة الله؟ سوف تجد مكتوبًا فى الإنجيل إن ابن الله قال: ” أيها الآب مجد اسمك“، وسُمع صوت من السماء يقول: ” مجَّدتُ وأُمجِّد أيضًا” (يو28:12)، وهذه الكلمات سمعها غير المؤمنين ولكن لم يؤمنوا. الابن تكلّم والآب أجاب واليهود قالوا:” دَوِىّ رعد قد كلَّّمه، وآخرون قالوا قد كلمه ملاك” (يو29:12).

 

132ـ وعلاوة على ذلك، فإن القديس بولس عندما تسلَّم من صوت المسيح دعوة النعمة، كما هو مكتوب فى سفر الأعمال (أع9:22)، فإنه رغم أن عددًا من رفقائه كانوا مسافرين معه فى نفس الوقت، فقد قيل إنه بمفرده سمع صوت المسيح، لذلك يا صاحب الجلالة المُبجّل، فإن الذى يؤمن يسمع، وهو يسمع لكى يؤمن، بينما الذى لا يؤمن فإنه لا يسمع، وهو لن يسمع بل لا يمكنه أن يسمع إن لم يؤمن!.

 

133 ـ أمّا بالنسبة لى، ففى الواقع أريد أن تكون لهم رغبة فى الاستماع لعلهم يؤمنون، أن يسمعوا بمحبة حقيقية ووداعة، مثل أُناس يبحثون عما هو حق، ولا يهاجمون كل ما هو حق؛ لأنه مكتوب (علينا) ألاّ نصغى إلى ” خرافات وأنساب لا حدّ لها، والتى بالأحرى تسّبب مباحثات دون أن تؤدى إلى التعليم الإلهى الذى فى الإيمان. أمّا غاية الوصية فهى المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء، الأمور التى إذا زاغ قوم عنها انحرفوا إلى كلام باطل، يريدون أن يكونوا معلِّمى الناموس وهم لا يفهمون الكلمات التى يقولوها ولا الأشياء التى يتكلمون عنها بتأكيد (ولا ما يقرِّرونه)” (1تى4:1ـ7). وفى موضع آخر يقول أيضًا نفس الرسول: ” أما المباحثات الغبيَّة والسخيفة اجتنبها” (2تى23:2).

 

134ـ مثل هؤلاء الناس الذين يزرعون خصومات، أقصد الهراطقة، فإن الرسول يأمرنا أن نتركهم ونبتعد عنهم. إذ يقول عنهم فى موضع آخر: ” يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحًا مُضِلَّة وتعاليم شياطين” (1تى1:4).

 

135 ـ والقديس يوحنا بالمِثل يقول إن الهراطقة هم أضداد للمسيح (1يو18:2) مشيرًا بوضوح إلى الآريوسيين، لأن هذه الهرطقة قد بدأت أن توجد بعد جميع الهرطقات الأخرى، وقد جمعت سموم الكل، كما هو مكتوب عن ضد المسيح أنه: ” فتح فمه بالتجديف على الله، ليجدِّف على اسمهوأن يصنع حربًا مع قديسيه” (رؤ6:13و7). وهكذا هم لا يكرمون ابن الله، كما لم يشفقوا على شهدائه، وربما (عملوا) ما لم يعمله ضد المسيح، فإنهم زوَّروا الكتب المقدسة، وهكذا من يقول إن يسوع ليس هو المسيح؛ ومن ينكر الابن ينكر الآب أيضًا كما هو مكتوب: ” كل من ينكر الابن ينكر الآب أيضًا” (1يو23:2).

 

الفصل السادس عشر

ملخص: يؤكد القديس أمبروسيوس للإمبراطور جراتيان، أنه سينتصر، ويعلن أن هذه النصرة قد سبق وأنبأ عنها حزقيال فى نبواته، وهذا الرجاء تدعمه تقوى الإمبراطور، كما يبيّن القديس أن الكوارث السابقة كانت عقابًا على الهرطقة الموجودة فى الشرق[15]، ويختم القديس هذا الفصل بصلاة إلى الله يطلب منه فيها أن يُظهِر رحمته وأن يُنقذ الجيش والأرض والمملكة التى يعيش فيها المؤمنون.

 

136ـ لا ينبغى أن أُعوِّق جلالتك أيها الإمبراطور، أكثر من هذا وأنت تستعد لهذه الحرب ليتم انتصارك على البرابرة. اذهب وأنتَ فى حماية درع الإيمان، وتمنطق بسيف الروح. اذهب إلى النصرة التى تم الوعد بها منذ قديم الزمن، والتى أُنبئ عنها فى الوحى الذى أعطاه الله.

 

137 ـ لقد تنبأ حزقيال فى الأيام القديمة جدًا عما سيحط من قدر شعبنا وعن الحروب مع الغوط البرابرة بقوله: ” لذلك تنبأ يا ابن الإنسان وقُل يا جوج هكذا يقول الرب: أفلاَ تعلم فى ذلك اليوم عند سُكنى شعبى إسرائيل آمنين، وتأتى من موضعك من أقصى الشمال، أنتَ وشعوب كثيرون معك كلهم راكبون معك، كلهم راكبون خيلاً جماعة عظيمة وجيش كثير؟ وتصعد على شعبى إسرائيل كسحابة تُغشِّى الأرض فى الأيام الأخيرة” (حز14:38ـ16س).

138ـ إن الغوط Goth هم جوج Gog، وإن مجيئهم قد سبق وذكرناه، أمَّا عن الانتصار الذى وُعد به عليهم فى الأيام الآتية بحسب كلمة الرب فهو: ” وينهبون الذين نهبوهم، ويسلبون الذين سلبوهم يقول السيد الرب، ويكون فى ذلك اليوم أنى أُعطى جوجًا ـ أى الغوط ـ موضعًا شهيرًا، لأن إسرائيل تكون مثل كومة عالية لأناس كثيرين[16]، أناس قد جعلوا طريقهم إلى البحر… ويسدُّون فم الوادى، وهناك يخرِّب بيت إسرائيل جوجًا وجمهوره ويسمونه وادى جمهور جوج، ويحدق[17] بهم بيت إسرائيل ليُطهِّروا الأرض” (حز 10:39ـ12س).

 

139ـ وعلاوة على ذلك، فلن نشك يا صاحب الجلالة المقدس، أننا نحن الذين أخذنا على عاتقنا أن نناضل ضد الكفر المخالف سوف نتمتع بمساعدة الإيمان الجامع Catholic Faith الذى هو قوىٌّ فيك. وحقًا وبوضوح فإن سبب غضب الله قد صار ظاهرًا، لدرجة أن تقدير الإمبراطورية الرومانية واحترامها قد هُدِمَ عندما انهار الإيمان بالله.

 

140ـ لا توجد لدىَّ رغبة فى أن أحصى الذين ماتوا والذين عُذبوا والمعترفين الذين نُفوا، كما أن وظائف المؤمنين ومراكزهم أُعطِيَتْ هدايا للخائنين[18]. ألم تسمع مِن وراء كل التخوم والحدود، مِن تراسا وراكيا التى على النهر وميسيا وكل فاليريا ضوضاء مشوبة بتعاليم المجدفين وغزو البرابرة؟ أى فائدة يمكن للجيران المتعطشين للدماء أن يجلبوها لنا، أو كيف يمكن للدولة الرومانية أن تكون فى أمان مع مثل هؤلاء المدافعين؟

 

141ـ نعم، هذا يكفى بل وأكثر من الكفاية أيها الإله القادر على كل شئ، ما ضحَّينا به وقدَّمناه من موت المعترفين ونفى الكهنة واحتمال الأشرار المتعجرفين، كل ما قدمناه بدمنا وبنفينا. إنه من الواضح بصورة كافية أن هؤلاء الذين حطموا الإيمان لم يكونوا فى أمان. التفِت مرة أخرى أيها الرب وارفع رايات الإيمان بك.

 

142ـ إنها ليست النسور الحربية ولا طيران الطيور هى التى تقود طلائع جيشنا، ولكن اسمك وعبادتك أيها الرب يسوع. إنها ليست أرض غير المؤمنين ولكنها الأرض التى من عادتها أن تُرسل المعترفين؛ إيطاليا. إيطاليا هذه التى كثيرًا ما جُرِّبت وأُغوِيَت ولكنها لم تنسحب أبدًا. إيطاليا هذه التى دافعتَ عنها طويلاً يا صاحب الجلالة والآن أيضًا قد أُنقِذَت من البرابرة. لا يوجد فى إمبراطورنا عقل متردد أو متذبذب، بل يوجد الإيمان الثابت الراسخ بقوة.

 

143ـ أُظهِر لنا الآن علامة واضحة على عظمة جلالك، حتى أن كل مَن يؤمِن بك أنك رب القوات الحقيقى وقائد جيوش السماء؛ ويؤمِن أنك أنت قوة الله وحكمته الحقيقية[19]، ليس كائنًا ناشئًا فى الزمن، ليس كائنًا مخلوقًا، بل كما هو مكتوب، القوة الأزلية، وألوهية الله، أنت أيها الرب تسند بقوتك الفائقة لتجعله ينال جائزة النصر لإيمانك.

[1] 2كو21:5، غل13:3.

[2] يو29:1و36، يو1:15، 1كو4:10.

[3] مر45:10، يو4:13و5، مز16:86 ” أعطِ عبدك قُوَّتك، وخلِّص ابن أَمَتَك“.

[4] مت36:24.

[5] مت 22:24و29، مز13:96 ” لأنه جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالأمانة“، مز9:98 ” جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالاستقامة“.

[6] هذا هو ما شكل عثرة ” الصليب “، انظر غل11:5، 1كو22:1.

[7] المقصود هنا الأحزان التى نجوزها خلال وجودنا فى العالم بسبب قسوة البشر.

[8] 2كو9:12، 4:13، 1بط24:2، 13:4.

[9] مت51:27.

[10] لو43:23.

[11] يو11:20و12.

[12] قال هذا للمسيح المُقام أف20:1: ” إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه فى السماويات“.

[13] يفهم القديس أمبروسيوس من هذه الآية أن المسيح يجلس عن يمين الآب.

[14] ميلاد الابن الأزلى لا يستلزم انقسامًا أو تجزئة للألوهة، ولا تقليلاً. فالآب لن يكون إلهًا أقل، وألوهيته لن تفقد شيئًا بولادته للابن الأزلى.

[15] الكوارث المُلَّمح عنها فى هذه المقدمة هى انكسار الجيش الرومانى 378م فى هادريانوبل Hadrianople والموت المُفجع للإمبراطور فالنس، الذى بعدما هرب والتجأ إلى كوخ (ليختبئ فيه) أدركه الغوط وأحاطوا بالكوخ وأضرموا فيه النيران حيث هلك الإمبراطور وسطها. وكان الأرثوذكس (المستقيمى الرأى من غير الآريوسيين) ينظرون إلى هذه النكسة على أنها دينونة (من الله) بسبب اعتقاد فالنس والذين يشاركونه فى المراكز السامية، بالهرطقة الآريوسية.

[16] ” أُعطى جوجًا موضعًا هناك للقبر فى إسرائيل” بحسب الترجمة العبرية.

[17] يُقبرهم (بحسب الترجمة العبرية).

[18] أُبعِد الأساقفة والكهنة الأرثوذكس عن كراسيهم ووظائفهم ليفسحوا مجالاً لأولئك المدعوين “الخائنين للإيمان” أى أولئك الذين كفروا واعتنقوا الآريوسية.

[19] 1كو24:1 ” وأمّا للمدعُوِّين… فبالمسيح قوة الله وحكمة الله“.

 

شرح الإيمان المسيحى ج4 – ق. أمبروسيوس – د. نصحى عبد الشهيد

Exit mobile version