Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير انجيل لوقا 23 الأصحاح الثالث والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل لوقا 23 الأصحاح الثالث والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل لوقا 23 الأصحاح الثالث والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل لوقا 23 الأصحاح الثالث والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثالث والعشرون

الصديق المصلوب

من أجل الصداقة التي يطلبها السيد المسيح احتمل الآلام، وقبل المحاكمة، وحمل الصليب، واجتاز الموت، ودفن في القبر حتى يحملنا إليه أصدقاء إلى الأبد.

  1. محاكمته أمام بيلاطس 1-7.
  2. محاكمته أمام هيرودس 8-12.
  3. إصرار اليهود على صلبه 13-25.
  4. الصليب وسمعان القيرواني 26.
  5. الصليب والنائحات 27-31.
  6. صلبه بين لصين 32-43.
  7. تسليم الروح 44-49.
  8. دفنه 50-56.
  9. محاكمته أمام بيلاطس

جاء السيد المسيح ليصالح الإنسان مع الآب، يستر خطاياه بدمه، أما الإنسان فاتهمه أنه مثير للشغب، وصاحب فتنة، إذ يقول الإنجيلي: “قام كل جمهورهم، وجاءوا به إلى بيلاطس. وابتدأوا يشتكون عليه، قائلين إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً: إنه هو مسيح ملك” [1-2].

يذكر الإنجيلي لوقا الاتهام المدني بكل وضوح، ففي المجمع الديني أُتهم بالتجديف، وهنا أمام بيلاطس كان الاتهام أنه محرض الشعب على عدم دفع الجزية لقيصر وإقامة نفسه ملكًا، مع أنه إذ سُئل قبلاً، أجاب: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، وحينما أرادوا أن يخطفوه ليقيموه ملكًا، اختفى من بينهم!

يقول القديس كيرلس الكبير: [قادوا يسوع إلى بيلاطس، وهم أيضًا أنفسهم سُلموا للجند الرومان الذين احتلوا أرضهم واقتحموا مدينتهم حيث الموضع المقدس المكرم، وسلم سكانها للسيف والنار. لقد تحقق فيهم نبوات الأنبياء القديسين، إذ يقول أحدهم: “ويل للشرير شر، لأن مجازاة يديه تُعمل به” (إش 3: 11)، ويقول آخر: “كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك” (عو 15)[1].]

بلا شك سمع بيلاطس عن السيد أنه نادى بتقديم “ما لقيصر لقيصر”، وإذ رأى السيد المسيح إنسانًا معدمًا لا يمكن أن يقيم نفسه ملكًا سأله ربما في استخفافٍ أو كعملٍ شكليٍ:

“فسأله بيلاطس قائلاً: أنت ملك اليهود.

فأجابه وقال: أنت تقول.

فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع:

“إني لا أجد علّة في هذا الإنسان” [3-4].

يقول القديس كيرلس الكبير: [اخترعوا عدة اتهامات، وأثاروها ضد المسيح، اتهامات كاذبة لا يمكن التدليل عليها. لكنهم بهذا أكدوا إنهم أشر من الوثني، فإن بيلاطس برّأه من كل عيب، قائلاً: “إني لا أجد علّة في هذا الإنسان”، هذا ما نطق به ليس مرة واحدة بل ثلاث مرات[2].]

إذ لم يستطع القادة أن يثيروا الوالي ضده بالمنطق، “كانوا يشدّدون قائلين: إنه يهيج الشعب، وهو يعلِّم في كل اليهودية، مبتدئًا من الجليل إلى هنا[5].

لعلهم بهذا أرادوا أن يهددوا الوالي بأن الموقف لا يُحد خلال منطقة نفوذه، وإنما أيضًا يمتد إلى مناطق أخرى، فإن لم يحكم هو عليه سيحكم آخر غيره، فيصير الوالي في عيني قيصر متهاونًا في حق قيصر، يترك صانعي الفتنة والشغب بلا محاكمة. ولعله لهذا السبب أيضًا أرسله بيلاطس إلى هيرودس والي الجليل حتى متى برأّه أو حكم عليه يكون معه شهادة والٍ آخر تسنده أمام قيصر. هذا وبحسب القانون الروماني يقف كل إنسان ليحاكم أمام والي منطقته، فلم يرد بيلاطس أن يتعدى اختصاصات هيرودس بالرغم من وجود عداوة قائمة بينهما. وكأن بيلاطس احترم القانون الأرضي برضا وسلمه لوالٍ آخر، بينما لم يحترم قادة اليهود الشريعة الإلهية مسلّمين السيد المسيح للصلب وحكم الموت ظلمًا.

هذا ونلاحظ أن السيد المسيح لم يدافع عن نفسه بكلمة، فقد حسب الحق الذي فيه مُعلن بصمته ولا يحتاج إلى كلمات تشهد له. هذا ما يعلنه الإنجيلي في لقاء السيد المسيح مع هيرودس كما سنرى [9]. إنه جاء ليسحب قلوبنا بحبه لا ليدافع عن نفسه.

  1. محاكمته أمام هيرودس

وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جدًا،

لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة،

وترجّى أن يرى آية تصنع منه.

وسأله بكلامٍ كثيرٍ فلم يجبه بشيء.

ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتدادٍ.

فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به،

وألبسه لباسًا لامعًا، وردّه إلى بيلاطس.

فصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما في ذلك اليوم

لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما[8-12].

يلاحظ في هذا اللقاء بين السيد المسيح وهيرودس الآتي:

أولاً: أراد هيرودس أن يتأكد مما سمعه عن السيد المسيح، لذا فرح جدًا أن يراه، لا ليتمتع به ويقتني الحق، وإنما ليشاهد آيات وعجائب، أما السيد فلم يأتِ لاستعراض آيات، وإنما لخلاص النفوس، لذا التزم بالصمت، ولم يجب حتى على اتهامات المشتكين، فاحتقره هيرودس ورجاله واستهزؤا به..

ثانيًا: في محاكمته سواء أمام رئيس الكهنة أو بيلاطس أو هيرودس اتجه إلى الصمت ليتم فيه القول: “لم يفتح فاه، كشاةٍ تُساق إلى الذبح” (إش 53: 7).

القديس أغسطينوس

القديس أمبروسيوس

ثالثًا: يعلق القديس أمبروسيوس على الثوب اللامع الذي ألبسه هيرودس إياه، قائلاً: [ألبسه هيرودس ثوبًا أبيض ليشير أن الآلام التي احتملها ليست عن لوم فيه، إذ هو حمل الله الذي بلا عيب، يحمل بمجدٍ خطايا العالم[5].]

رابعًا: يرى الأب ثيؤفلاكتيوس في الصداقة التي قامت بين بيلاطس وهيرودس من أجل قتل السيد المسيح بعد العداوة التي كانت بينهما توبيخًا لنا، فإن الشيطان وحّد بين المتخاصمين لتحقيق هدفه الشرير، أما نحن فننقسم على أنفسنا عوض الوحدة من أجل خلاص النفوس. أما القديس أمبروسيوس فيرى في هذه الصداقة بين العدوين إشارة إلى الوحدة التي صارت بين شعب إسرائيل والشعوب الأممية، خلال موت المسيح بقبول الكل كأعضاء في كنيسة العهد الجديد.

  1. إصرار اليهود على صلبه

أولاً: لا نعجب إن كان السيد المسيح وهو مُتهم ظلمًا قد صمت بينما وقف الأعداء – منهم بيلاطس وهيرودس- يدافعون عنه. لقد شهد بيلاطس: “ها أنا قد فحصتُ قدامكم، ولم أجد في هذا الإنسان علّة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودس أيضًا” [14-15]. وعندما أصروا على قتله مرة ومرتين أكدّ لهم: “أي شر عمل هذا؟! إني لم أجد فيه علّة للموت” [22]، فكانوا يصرخون بإلحاح أن يُصلب!

القديس كيرلس الكبير

ثانيًا: إذ كان الرب يبذل كل الجهد حتى حياته لأجل تقديم صداقته للبشرية، كانت خاصته ترفضه وتقدم باراباس عنه، إذ: “صرخوا بجملتهم قائلين: خذ هذا وأطلق لنا باراباس، وذاك كان قد طُرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل” [18-19]. أرادوا قتل البار وإطلاق مثير الفتنة القاتل. وكما يقول القديس أمبروسيوس أن كلمة “باراباس” تعني “ابن أب”، وكأن هؤلاء الذين قيل لهم: “أنتم من أب هو إبليس” (يو 8: 44)، قد مثلوا الآن ليفضلوا ابن أبيهم أي ضد المسيح عن ابن الله.

ثالثًا: للمرة الثالثة كانوا يصرخون بأصوات عظيمة ويتوسلون من بيلاطس أن يصلبه،

فقويت أصواتهم وأصوات رؤساء الكهنة.

فحكم بيلاطس أن تكون طلبتهم.

فأطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة،

وقتل الذي طلبوه وأُسلم يسوع لمشيئتهم” [23-25].

القديس كيرلس الكبير

  1. الصليب وسمعان القيرواني

ولما مضوا به أمسكوا سمعان،

رجلاً قيروانيًا كان آتيًا من الحقل،

ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع” [26].

قلنا أن كلمة “سمعان” تعني “يسمع” أو “يطيع”، و”قيروان” تعني “ميراثًا”، وهي مدينة أممية في ليبيا، فإن سمعان القيرواني يشير إلى كنيسة العهد الجديد التي صارت وارثة خلال طاعة الإيمان، وقد جاءت من الأمم لكي تشارك مسيحها صليبه، وتنعم بهذا الشرف العظيم[8].

يذكر الإنجيلي يوحنا أن السيد المسيح حمل صليبه (يو 19: 17)، إذ هو علامة ملكه، كقول إشعياء النبي “وتكون الرئاسة على كتفيه” (إش 9: 6). وفي الطريق إذ أراد أن يجعل من كنيسته ملكة تشاركه أمجاده، سُمح لسمعان ممثل الكنيسة أن يحمله. يقول القديس أمبروسيوس: [آن الوقت لكي يرفع المنتصر لواءه، فوضع الصليب على كتفه… حمل الرب لواءه ثم سلمه للشهداء ليرفعوه هم أيضًا: “احمل صليبك واتبعني” (9: 23)[9].]

ليتنا نخرج مع سمعان بالطاعة النابعة عن الإيمان، منطلقين من حقل هذا العالم، لنحمل صليب ربنا يسوع المسيح فنشاركه ميراثه وأمجاده!

  1. الصلب والنائحات

“وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء

اللواتي كن يلطمن أيضًا وينحن عليه.

فالتفت إليهن يسوع وقال:

“يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ،

بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن.

لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها:

طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع.

حينئذ يبتدئون يقولون للجبال اسقطي علينا وللآكام غطينا.

لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟!” [27-31]

إذ كتب القديس لوقا البشير للأمم أراد إبراز مركز المرأة وتقديرها في عيني المسيحية، فإن كان الرجال قد ثاروا ضد الحق، وهاجت الجماهير تطلب صلب البار وإطلاق القاتل، فإن جمهور من النساء كن ينحن على ما حدث، يتبعن السيد في اللحظات المُرّة.

مسيحنا الصديق الحقيقي يلتفت إلى هؤلاء النسوة ليوجه دموعهن من الشفقة البشرية عليه إلى التوبة الصادقة وطلب خلاص نفوسهن ونفوس أولادهن، قائلاً: “لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن“.

من يبكي كثيرًا في هذا العالم يخلص في المستقبل، لأن “قلب الحكماء في بيت النوح، وقلب الجهال في بيت الفرح” (جا 7: 4). وقال الرب نفسه: “طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون” (6: 21). فلنبكِ إذن إلى زمان، فنفرح إلى الأبد. لنخفْ الرب وننتظره، معترفين بخطايانا، راجعين عن شرنا، حتى لا يُقال لنا “ويل لي… قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس” (مي 7: 1-2)[10].

القديس أمبروسيوس

هذا ويرى كثير من الآباء أن الحديث هنا موجه إلى كل الأمة اليهودية، إذ دعاهم “يا بنات أورشليم”، معلنًا لليهود أنه يليق بهم أن ينوحوا بالأحرى على ما سيحل بأورشليم. فإن كان قد صدر الحكم الروماني بصلب “العود الرطب” أي السيد المسيح، فسيُسلم اليهود “العود اليابس” لسيوف الرومان، حيث يتم حصار أورشليم ويحطم الهيكل تمامًا.

القديس كيرلس الكبير

البابا غريغوريوس الكبير

إن كان السيد المسيح “شجرة الحياة” لم يترك هذا العالم إلا بعد أن حمل آلامه من أجلنا وبسبب خطايانا، أفلا ننتظر نحن أن نتألم ونحن كالعود الجاف الذي بلا ثمر في ذواتنا؟! أما عن الأيام التي فيها تطوّب النساء العواقر فقد جاءت أيام حصار أورشليم، حيث أكلت الشريفات أطفالهن بسبب شدة الجوع، كما وصف يوسيفوس المؤرخ اليهودي.

  1. صلبه بين لصين

قدم لنا الإنجيلي لوقا وصفًا لصلب السيد جاء فيه:

أولاً: إمعانا في السخرية به صلبوه بين لصين، واحد عن يمينه والآخر عن يساره، فتحقق فيه قول إشعياء النبي “أُحصيَ مع آثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين” (إش 53: 12). ويصف لنا الإنجيلي موقف اللصين، قائلاً:

وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه،

قائلاً: إن كنت أنت المسيح، فخلّص نفسك وإيّانا.

فأجاب الآخر وانتهره، قائلاً: أوَلاَ أنت تخاف الله،

إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟!

أمّا نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا،

وأمّا هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله.

ثم قال ليسوع: اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك.

فقال له يسوع: الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس” [39-43].

اسجُد لذاك الذي عُلق من أجلك، حتى وإن كنت أنت نفسك معلقًا. انتفع من شرك، واقتنِ خلاصك بموتك. ادخل مع يسوع الفردوس، لتتعلم من حيث سقطت (رؤ 2: 5) [13].

القديس غريغوريوس النزنيزي

القديس أغسطينوس

القديس جيروم

فيقول: نعم أرى هذه كلها ولكن الصليب نفسه رمز الملكوت، فلذلك أدعو المصلوب عليه ملكًا، لأنه يجب على الملك أن يموت عن رعيته[16].

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

القديس كيرلس الكبير

البابا غريغوريوس (الكبير)

القديس أمبروسيوس

ثانيًا: ربط الإنجيلي لوقا بين اسم الموضع الذي صُلب فيه السيد وبين صلبه بين مذنبين، إذ قال: “ولما مضوا به إلى الموضع الذي يُدعي جمجمة، صلبوه هناك مع المذنبين، واحدًا عن يمينه، والآخر عن يساره” [33]. جاء في التقليد أن الموضع دُعي “جمجمة”، لأن فيه قد دُفن آدم رأس البشرية، وكأن الصليب قد رُفع على مقبرة آدم حيث تحولت جمجمته إلى التراب خلال فسادها، وقد صُلب بين مذنبين يمثلان الفساد الحاضر. بمعنى آخر ارتفع المخلص على الصليب لينقذنا من خطية آدم كما من الخطايا الفعلية.

البابا أثناسيوس الرسولي

القديس أمبروسيوس

يرى البعض أن كلمة “جمجمة” مترجمة عن الآرامية “جلجثة”، وقد سميت هكذا لأن شكلها المستدير يشبه جمجمة الإنسان، أو لأنها كانت موضع الصلب فكثرت فيها جماجم المصلوبين.

هذا ويرى أيضًا بعض الدارسين أن السيد المسيح قد صلب بين لصين عوض باراباس الذي كان يجب أن يُصلب كرئيس لهما ورفيقهما ومثيرهما للقتل، فاحتلّ السيد موضع هذا القاتل.

ثالثًا: سجلت لنا الأناجيل الأربعة سبع كلمات نطق بها السيد المسيح على الصليب، منها ثلاث كلمات وردت في إنجيل معلمنا لوقا. هذه الكلمات السبع هي:

أ. ثلاث كلمات قبل حدوث الظلمة:

“يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34).

“الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43).

“يا امرأة هوذا ابنك… هوذا أمك” (يو 19: 26-27).

ب. كلمة أثناء الظلمة:

“إلهي إلهي لماذا تركتني؟!” (مت 27: 46؛ مر 15: 34).

ج. ثلاث كلمات بعد الظلمة:

“أنا عطشان” (يو 19: 28).

“قد أكمل” (يو 19: 30).

“يا أبتاه في يديك استودع روحي” (لو 23: 46).

هذه الكلمات السبع التي ذكر منها الإنجيلي لوقا الكلمات الأولى والثانية والسابعة، قُدمت جميعها من أجلنا لننعم بها خلال عمله الخلاصي على الصليب. الأولى موجهة لأجل أعدائه ليهبهم الصفح، إذ جاء لينزع العداوة ويهب مصالحة. والثانية قُدمت للص بصفة شخصية، ليؤكد علاقته الشخصية مع كل نفسٍ دون النظر إلى الماضي، والثالثة قُدمت لأمه ويوحنا الحبيب ليعلن رعايته لكل نفس] وعنايته بكل أمورنا. الرابعة حملت نوعًا من العتاب ليكون لنا ملء الجرأة في عتابنا مع الله، والخامسة كشفت عن عطشه نحونا وشوقه نحو الإنسان غير المنقطع. السادسة أعلن نصرة الخلاص، والسابعة قدم لنا تمام الطمأنينة.

رابعًا: فقال يسوع: “يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” [34].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لم يتطلع أنه يموت بواسطتهم، إنما تطلع فقط أن يموت لأجلهم![20]

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغناطيوس النوراني

خامسًا: “وإذ اقتسموا ثيابه اقترعوا عليها” [34].

إن كان السيد المسيح قد حمل خطايانا، فقد رُفع على الصليب عاريًا ليفتدينا من عار الخطية. قلنا في تفسير مت 27: 35، أن الثياب المقتسمة أربعة أقسام تشير إلى الكنيسة الممتدة إلى أربع جهات المسكونة، أما القميص الذي كان منسوجًا من فوق (يو 19: 23) الذي اقترعوا عليه دون أن يُشق، فيشير إلى الكنيسة التي ينبغي أن تحمل سمة عريسها، فتوجد سماوية (منسوجة من فوق) وبلا انشقاق أو انقسام. هذا أيضًا ما أعلنه القديس كيرلس الكبير[23].

يرى القديس أمبروسيوس[24] أن الأربعة جنود يشيرون إلى الأربعة إنجيليين، الذين سجلوا لنا ما نتمتع به، أما القميص الذي أُلقي عليه قرعه فيشير إلى أن الروح القدس لا يُوهب حسب استحقاق الإنسان ذاتيًا وإنما هو هبة إلهية مجانية.

سادسًا: إذ ارتفع السيد المسيح على الصليب صار موضع سخرية الجميع، الشعب مع الرؤساء، واليهود مع الجند الرومان، إذ قيل: “وكان الشعب واقفين ينظرون، والرؤساء أيضًا معهم يسخرون به، قائلين: خلص آخرين، فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله. والجند أيضًا استهزئوا به وهم يأتون ويقدمون له خلاَّ. قائلين: إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك” [35-37].

أراد الرؤساء أن يسخروا به فاعترفوا بألسنتهم “خلّص آخرين“، ويصير اعترافهم هذا شهادة ضدهم. حقًا لقد جاء لا ليخلص نفسه، إذ هو غير محتاج إلى خلاص، إنما كطبيب يتقدم ليشفي المرضى. وكما يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي: [بالحق أراد المخلص ربنا أن يُعرف مخلصًا لا بخلاص نفسه بل بخلاصه الآخرين. فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بإبراز مهارته مع المرضى. هكذا الرب بكونه المخلص لا يحتاج إلى خلاص نفسه. فليس بنزوله من على الصليب يصير مخلصًا بل بموته. فإنه بالحق يتحقق خلاص عظيم للبشرية بموته أكثر من نزوله عن الصليب[25].]

لقد قبل أن يشرب الخل، كما يقول القديس أمبروسيوس[26]، لأنه أخذ فسادنا ليسمره على الصليب. أمّا رفضه الخمر الممزوج بالمر، فذلك ليس امتناعًا عن المرّ لمرارته، وإنما لأن المرّ يعطي نوعًا من التخدير، فلا يشعر المصلوب بكل الآلام التي اجتازها. فقد أراد أن يحمل الألم حتى النهاية. أمّا من جهة المرارة فيقول القديس أمبروسيوس: [بالتأكيد أخذ مرارة حياتنا في جسم بشريته.]

سابعًا: “وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية: هذا هو ملك اليهود” [38]. صارت علته تاجًا له يمثل حقيقته الخفية كملكٍ، وكما جاء في سفر النشيد “اخرجن يا بنات صهيون، وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه، وفي يوم فرح قلبه” (نش 3: 11).

كُتب العنوان باللغات الرئيسية: اليونانية والرومانية والعبرية، ليعلن أنه بالحق ملك روحي على جميع الأمم، وليس خاصًا باليهود وحدهم كما ظنوا في المسيا المنتظر.

الأب ثيؤفلاكتيوس

  1. تسليم الروح

إن كانت القوى البشرية قد تضافرت معًا لتسخر بالسيد المسيح المصلوب، فإن اللص اليمين استطاع أن يغتصب الملكوت أو ينعم بالصداقة الإلهية على مستوى أبدي. الآن وقبيل تسليم السيد المسيح روحه في يدي الآب تقوم الطبيعة الجامدة بدورها لتشهد لذاك الذي جحدته الخليقة الأرضية العاقلة، حتى آمن قائد المائة الروماني وشهد أيضًا له.

“وكان نحو الساعة السادسة،

فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة.

وأظلمت الشمس، وانشق حجاب الهيكل من وسطه.

ونادى يسوع بصوت عظيم، وقال:

يا أبتاه في يديك استودع روحي.

ولما قال هذا أسلم الروح.

فلما رأى قائد المائة ما كان مجّد الله، قائلاً:

بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا.

وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر

لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم.

وكان جميع معارفه ونساء كنّ قد تبعنه من الجليل،

واقفين من بعيد، ينظرون ذلك” [44-49].

يلاحظ في هذا النص الآتي:

أولاً: بالحساب اليهودي “كانت ظلمة على الأرض كلها من الساعة السادسة حتى التاسعة“، هل لأن الطبيعة قد أرادت أن تعبّر عن استنكارها لما فعله الإنسان بكلمة الله المتجسد؟ أم أرادت بهذه الظلمة أن تسدل ستارًا طبيعيًا على هذا المنظر المفجع؟ أم أرادت أن تعلن أن المصلوب هو خالقها؟! لقد سبق فشهد الأنبياء عن هذا الحدث، قائلين:

“ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور، الدراري تنقبض، ويكون يوم واحد معروف للرب؛ لا نهار ولا ليل بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور” (زك 14 :6-7).

“ويكون في ذلك اليوم يقول السيد الرب: إني أُغيِب الشمس في الظهر، وأُقتم الأرض في يوم نور، وأحول أعيادكم نوحًا، وجميع أغانيكم مراثي” (عا 8: 9-10).

“أُلبس السماوات ظلامًا، وأجعل المُسح غطاءها” (إش 50: 3).

القديس أمبروسيوس

القديس كيرلس الكبير

ثانيًا: انشق حجاب الهيكل من وسطه، إذ زالت العداوة التي بين الله والإنسان، فانفتح قدس الأقداس السماوي أمام جميع المؤمنين، أعضاء جسد المصلوب. وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [لم يعد قدس الأقداس بعد لا يمكن الاقتراب منه.]

يقول القديس أمبروسيوس إن الحجاب القديم قد انشق، لكي يستطيع اليهود بالإيمان أن يعاينوا السرّ المعلن لنا، فيقبلون الأمم معهم بلا انقسام إلى شعبين: يهودي وأممي، أي لتظهر كنيسة العهد الجديد.

[ راجع الإنجيل بحسب مرقس ص 293-294.]

ثالثًا: “نادى يسوع بصوت عظيم، وقال: يا أبتاه في يديك استودع روحي” [46].

يستودع روحه في يديّ الآب، لكنه وإن كان في الأعالي إلا أنه أضاء الجحيم ليخلص الذين فيه…

استودع الروح في يديّ الآب حتى تتحرر السماوات نفسها من قيود الظلمة، ويكون سلام في السماء وتستطيع الأرض أن تتبعها.

أسلم الروح بإرادته… لذا أضاف “بصوت عظيم”[29].

القديس أمبروسيوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

رابعًا: إذ رأى قائد المائة السيد المسيح يسلم روحه بقوة، وسمعه يستودعها بإرادته في يديّ الآب آمن، قائلاً: “بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا” [47]، كما قال: “حقًا كان هذا الإنسان ابن الله” (مت 27: 39). لقد شاهد قائد المائة كثير من المصلوبين يموتون، لكن موت هذا المصلوب كان فريدًا، هزّ أعماق قلبه ليسحبه للإيمان به، خاصة وأنه أبصر بعينيه شهادة الطبيعة له. لقد تحقق قول الرب: “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع” (يو 12: 32). لقد ارتفع على الصليب فاجتذب اللص اليمين وقائد المائة وكثيرين ممن كانوا يشاهدونه واقفين من بعيد [49].

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عظيم هو سلطان المصلوب، فبعد سخريات كثيرة وهزء وتعييرات تحرك قائد المائة نحو الندامة، وأيضًا الجموع. يقول البعض أن قائد المائة استشهد إذ بلغ النضوج في الإيمان[30].]

  1. دفنه

تجاسر يوسف الرامي، الذي “كان مشيرًا ورجلاً صالحًا بارًا[50]، وطلب جسد السيد المسيح، وإذ كان “ينتظر ملكوت الله” [51]، وإذ سمح له بيلاطس “أنزله ولفه بكتان، ووضعه في قبر منحوت، حيث لم يكن أحد وضع قط. وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح. وتبعته نساء كن قد أتين معه من الجليل، ونظرن القبر وكيف وُضع جسده. فرجعن وأعددن حنوطًا وأطيابًا، وفي السبت استرحن حسب الوصية” [53-56].

كان يوسف تلميذًا خفيًا للسيد المسيح، يحبه ويشتاق إليه ويسمع له، لكن بسبب الخوف لم يكن يعلن تبعيته له، وإذ حّل وقت الصليب نُزع عنه الخوف ليطلب جسد الرب بشجاعة. كثيرون يحولهم الضيق من الخوف إلى الشجاعة، فيزكيهم لدى الله والناس، ويتأهلوا بنعمة الله أن يطيبوا جسد المسيح، أي الكنيسة، بأطياب محبتهم الثمينة التي تظهر بقوة وقت الألم!

القديس غريغوريوس النزينزي

[راجع تعليق القديس أمبروسيوس في كتاب الإنجيل بحسب مرقس، ص 295-296.]

[1] In Luc hom 151.

[2]  In Luc hom 151.

[3] In Ioan 116: 4.

[4] In Luc 23: 131.

[5] In Luc hom 23: 131.

[6] In Luc hom 151.

[7] In Luc hom 152.

[8] الإنجيل حسب مرقس، ص 287.

[9] In Luc 23: 131.

[10] On Rep. 2.

[11] In Luc hom 152.

[12] Mor. 12: 4.

[13] Oration on Easter 2: 24.

[14] In Ioan tr 109: 4.

[15] Ep. 16: 1.

[16] المطران أبيفانيوس: الأماني الذهبية من مقالات إكليل في القديسين يوحنا الذهبى الفم، 1972، ص 6265.

[17] In Ioan tr. 31: 11.

[18] In Luc hom 153.

[19] In Pass. Dom.

[20] In Ioan 31: 9.

[21] In Matt 60: 3.

[22] Ad Ephes 10: 13.

[23] الانجيل بحسب مرقس ص 288.

[24] In Luc 23: 3349.

[25] In Pass. Dom.

[26] In Luc 23: 3349.

[27]Catena Aurea.

[28] In Luc hom 153.

[29] In Luc 23: 3349.

[30] In Matt. hom 88.

[31] On Easter 2: 24.

تفسير انجيل لوقا 23 الأصحاح الثالث والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
Exit mobile version