Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير انجيل يوحنا 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

الاصحاح الخامس

شفاء مريض بيت حسدا

الطبيب الإلهي

في هذا الإصحاح نجد لقاء بين السيد المسيح، الطبيب السماوي، ومريض بيت حسدا الذي عانى من الفالج 38 عامًا. وهو طبيب فريد يسعى نحو المريض دون أن يطلبه، وإن كان لا يشفيه قسرًا بل يسأله: “أتريد أن تبرأ”. التقي به عند بيت حسدا التي كان لها خمسة أروقة، إشارة إلى كتب موسى الخمسة، أو إلى الناموس. فالناموس يفضح الخطية، ويؤكد لنا المرض، والحاجة إلى طبيب سماوي قادر أن يعالج.

ابرز الطبيب ما في المريض من سمات صالحة، فقد اتسم بالوداعة. فعندما سأله السيد: “أتريد أن تبرأ” لم يثر، بل في وداعة عجيبة أجابه. “يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء، بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامي آخر“. [7] من يسقط في مرضٍ مدة طويلة غالبًا ما يُصاب بأتعاب عجيبة، تزداد مع تزايد فترة المرض. أما هنا فنراه وديعًا للغاية. هذا وعندما قال له السيد “قم احمل سريرك وأمشِ” [8]، آمن وللحال قام ومشى وحمل سريره. إنه ملقي عند البركة منذ قبل ميلاد السيد المسيح بالجسد، وربما لم يسمع عنه، فقد كاد أن يصير محرومًا من لقاء الأقارب والأصدقاء بعد كل هذا الزمن من المرض. ومع هذا لم يحاور السيد كيف يقوم، وكيف يقدر أن يمشي دفعة واحدة، ويحمل سريره؟

قد عجزت الذراع البشرية عن شفاء هذا المفلوج المُلقى عند البركة لمدة 38 عامًا. تدخل السيد المسيح سائلاً إياه: أتريد أن تبرأ؟ لقد وهبه حياة جديدة في بيت حسدا التي تعني “بيت الرحمة”.

لم ترد هذه المعجزة في الأناجيل الثلاثة الأخرى، لأن يوحنا اهتم بالمعجزات التي تمت في أورشليم بينما اهتم الإنجيليون الآخرون بما تم في الجليل.

  1. شفاء مفلوج بيت حسدا ١ –
  2. مقاومة اليهود 10-16.
  3. حديث المسيح عن السبت ١٧ – ١٨.
  4. حديث عن الحياة الأبدية ١٩ – ٣٠.
  5. شهادة يوحنا المعمدان له ٣١ – ٣٥.
  6. شهادة آياته وأعماله          ٣٦.
  7. شهادة الآب له ٣٧.
  8. شهادة الكتاب المقدس له ٣٨ – ٤٧.      

1. شفاء مفلوج بيت حسدا

وبعد هذا كان عيد لليهود،

فصعد يسوع إلى أورشليم“. [1]

يرى كثير من آباء الكنيسة والدارسين المعاصرين أن الظروف الواردة في هذا الأصحاح تكشف أنه كان عيد الفصح. هذا وقد جاء اهتمام الإنجيليون الثلاثة الآخرون بخدمة السيد المسيح في اليهودية مقتضبًا جدًا ولم يشيروا إلى أعياد الفصح التي حلت منذ عماد السيد إلى صلبه، بينما أشار القديس يوحنا إلى جميع هذه الأعياد: الأول في ٢: ١٣، والثاني هنا ٢: ١، والثالث ٦: ٤، والرابع ١٣: ١. وإن كان لم يذكر صراحة هنا أنه عيد الفصح بل “عيد لليهود“.

إذ حلَّ العيد، فمع إقامة السيد المسيح في الجليل إلاَّ أنه صعد إلى أورشليم. لقد أوصى في الناموس بصعود الرجال إلى أورشليم في العيد، فلم يرد أن يستثني نفسه مادام قد قبل أن يصير ابن الإنسان الخاضع للناموس. وهو في هذا يقدم لنا نفسه مثالاً للاهتمام بالعبادة الجماعية، حتى وإن مارسها الكثيرون في شكلية بلا روح.

إن كانت الحكمة تنادي في الأماكن العامة (أم ١: ٢١) فقد صعد الحكمة إلى أورشليم حيث جاء كثير من اليهود من كل بقاع العالم وأيضا من الدخلاء، فيعلن لهم عن الحق، خاصة وأنهم جاءوا للعبادة، وقد تهيأت نفوسهم لقبول الحق والتعرف عليه.

إذ وردت كلمة “عيد” هنا بدون أداة التعريف لهذا رأى بعض الدارسين أنه لم يكن عيد الفصح بل عيد الخمسين، حيث تذكار استلام الناموس ويعتقد كل من القديسين كيرلس الكبير ويوحنا الذهبي الفم بذلك. ويعلل البعض أنه عيد الخمسين أن السيد المسيح قدم حديثه عن مفهوم السبت واتهمهم بأنهم لا يصدقون موسى وإلا كانوا قد صدقوه، لأن الناموس يشهد له [45-47].

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي صعود السيد المسيح إلي أورشليم قائلاً: [غالبا ما كان يذهب إلى المدينة، فمن جانب لكي يظهر معهم في العيد، من جانب آخر لكي يجتذب الجمهور الذين هم بلا خبث، ففي مثل هذه الأيام يجتمع البسطاء معًا أكثر من الأوقات الأخرى[1].]

يبدو أن السيد المسيح صعد إلى أورشليم وحده، ولم يكن معه التلاميذ، حتى يدخل كمن هو متخفي. هذا واضح من عدم معرفة المفلوج لشخصه، لأنه ما أن شفاه حتى اعتزل عن الجمع [13].

وفي أورشليم عند باب الضان بركة،

يُقال لها بالعبرانية بيت حسدا،

لها خمسة أروقة“. [2]

يتحدث عن البركة والخمسة أروقة بكونها كانت قائمة في أثناء كتابة السفر. ويرى البعض أن البركة وأروقتها لم تُدمر بتدمير الهيكل في أورشليم والخراب الذي حلَّ بأورشليم. ويرى البعض أنه في نسخ كثيرة يُستشف من الحديث أنها لم تكن قائمة. اُكتشفت البركة حديثًا، وهي بجوار كنيسة القديسة حنة. أظهرت الحفريات أن البركة مطوّقة بمستطيل به أربعة أروقة مع مجرى خامس عبر البركة يقسمها إلى قسمين.

بيت حسدا” Bethesda وليست بيت صيدا Bethsaida كما جاءت في بعض النسخ. الكلمة العبرية Bethchasdah وتعني “بيت الرحمة”. ربما أخذت اسمها من مراحم الله التي ظهرت بشفاء الذين ينزلون فيها.

“باب الضأن”: الأرجح أن هذا الباب سُمى كذلك، لأن الكهنة كانوا يغسلون غنم الذبائح ويأتون بها إلى الهيكل.

تشير البركة إلى المعمودية حيث يتمتع المؤمنون بالولادة الجديدة والشفاء من الخطية.

تشير الأروقة الخمسة إلى الناموس الذي سُجل خلال أسفار موسى الخمسة؛ يدخل منها المرضى إلي البركة، ليدرك الداخلون أنهم مرضي وفي حاجة إلى الطبيب السماوي.

الملاك النازل من السماء يشير إلى كلمة الله المتجسد، الطبيب السماوي.

شفاء شخص واحد يشير إلى الكنيسة الواحدة التي تتمتع بالشفاء من الخطية.

تحريك الماء يشير آلام المسيح حيث ثارت الجموع عليه. كما يحمل تحريك الماء معنى أن مياه البركة تصير أشبه بمياه جارية حية، كمياه المعمودية التي يعمل الروح فيها فيولد الإنسان ميلادًا روحيًا كما أعلن السيد المسيح لنيقوديموس (يو 3). وتشير إلى عطية السيد المسيح كقول السيد للسامرية، أن من يشرب من هذا الماء لا يعطش.

الذين يرفضون آلام المسيح هم متكبرون. إنهم لا ينزلون، فلا يُشفون. إنهم يقولون: “هل أؤمن بأن الله تجسد، أن الله ولد من امرأة، وأن الله صُلب وجُلد ومات وجُرح ودُفن؟ حاشا لي أن أؤمن بأن هذه من الله، إنها لا تليق بالله. دعْ القلب يتكلم لا الرقبة. فإنه بالنسبة للمتكبرين يبدو لهم تواضع الرب إنه غير لائق به. لهذا فالتمتع بالصحة أمر بعيد عنهم. لا تتكبر، إن أردت أن تُشفى فلتنزل[2].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

في هذه كان مضطجعًا جمهور كثير،

من مرضى وعمي وعرج وعسم،

يتوقعون تحريك الماء“. [3]

ذكر من بين المرضى فقط ثلاث فئات، وهي العمي والعرج العسم، وهي الفئات العاجزة عن النزول إلى الماء، لذلك تجمع منهم عدد كبير حول البركة في الأروقة الخمسة.

لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البركة،

ويحرك الماء،

فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه“. [4]

يرى البعض أن هذا الملاك لم يكن ينزل في البركة يوميًا، وإنما في مواسمٍ معينة، خاصة في الأعياد الثلاثة الكبرى. وأن هذا العمل من قبل الله ليؤكد للشعب أنهم وإن كانوا قد حُرموا من الأنبياء وعمل المعجزات فإن الله لن ينساهم، وهو مهتم بهم.

يرى البعض أن هذا الأمر بدأ بعد أن بنى رئيس الكهنة اليشاب Eliashib حائطًا نحو أورشليم وقدسه بالصلاة، فشهد الله بقبوله ذلك خلال هذا العمل المعجزي للبركة. وآخرون يرون أن ذلك بدأ بميلاد السيد المسيح، وآخرون بعماده. ويرى د. لايتفوت Dr. Lightfoot أنه جاء في يوسيفوس المؤرخ أنه في السنة السابعة من هيرودس، أي الثلاثين قبل السيد المسيح حدث زلزال عظيم. وحيث أن نزول الملائكة تصحبه أحيانًا زلازل، فربما كانت هذه هي السنة الأولى لبداية نزول ملاك على البركة. ويرى البعض أن هذا الأمر توقف بموت السيد المسيح.

بقوله “كان ينزل” Katebainen في الماضي يوضح أن هذا الأمر كان قد توقف عند كتابة السفر، بينما يتحدث عن البركة إنها كانت قائمة في أيامه.

عدم الإشارة الصريحة إليها في كتابات يوسيفوس وفيلون وغيرهما من الكتاب اليهود يشير إلى أن هذا العمل لم يبقَ إلى زمنٍ طويلٍ، أو لم يكن قائمًا أثناء كتابتهم.

الاستحمام، خاصة في مكان عام بإلقاء الشخص بسرعة في الماء غالبًا ما قد يصيبه ضررًا، لكن هنا كان المريض، أيًا كان مرضه، يبرأ إن نزل أولاً إلى الماء.

وكما أن طبيعة المياه لم تكن تشفي هنا على بسيط ذات الشفاء، لأنها لو كانت هي الشافية لكان هذا الشفاء يحدث كل حين، لكنها كانت تشفي بفعل الملاك، هكذا الحال في تطهيرنا، ليس بفعل الماء على بسيط فعله، لكنه يقوم بتطهيرنا إذا قبل نعمة الروح، حينئذ يحل خطايانا كلها[5].

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمانٍ وثلاثين سنة“. [5]

قضى المريض أكثر من نصف عمره عند البركة يعاني من الفالج، ولا يقدر أن يمارس حياته اليومية. الصحة وزنة يلزمنا أن نستخدمها مادامت في أيدينا، ونقدم ذبيحة شكر لله عليها.

ربما يتساءل البعض: لماذا لم يُشفِ كل المرضى الذين في بيت حسدا بكلمة من فمه؟ هو طبيب النفوس والأجساد، لكن ما يشغله بالأكثر الشفاء الأبدي، حيث تتمجد النفوس ومعها الأجساد. فشفاء هذا المريض، وغالبًا ما كان أكثرهم عند البركة، وقد عرفه كل الحاضرين من المرضى وأقربائهم وأصدقائهم، وربما المدينة كلها. لهذا إذ يشفيه يفتح عيون الكل لينظروا شخص المسيا، ويتمتع الكل بالإيمان لكي يتمجدوا أبديًا. شفاء هذا المريض كان ولا يزال وراء شفاء نفوس كثيرة محطمة ويائسة. فلو أن السيد شفى الجميع بكلمة لبدا في ذلك استعراضًا لعملٍ إلهيٍ معجزي، لكن ما يشغل قلب السيد المسيح هو إيمان الكل، وتمتعهم بالشفاء الروحي أولاً.

هذا ما يقوله الرسول: “لأنه لو أُعطي ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس” (غلا 3: 21). ويكمل قائلاً: ” لكن الكتاب اغلق على الكل تحت الخطية ليعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون” (غلا 3: 22). أي شهادة أكثر من هذه؟ أليست هذه الكلمات قد شرحت الخمسة أروقة وجمهور قطيع المرضى؟[8]

كمال البرّ (حسب الناموس) يظهر بالعدد ٤٠. ما هو الذي يكمل الرقم ٤٠؟ أن يضبط الإنسان نفسه عن محبة هذا العالم. يضبطها عن الأمور الزمنية حتى لا تحب لأجل تدميرنا… لهذا السبب فإن الرب صام أربعين يومًا وموسى وإيليا. الذي أعطى خادميه السلطان أن يصوما ٤٠ يومًا ألم يكن قادرًا أن يصوم ٨٠ يومًا أو مائة يوم؟ إذن لماذا لم يرد أن يصوم أكثر مما أعطى خادميه أن يفعلا إلاَّ لأنه في هذا العدد ٤٠ سرّ الصوم والزهد في العالم؟… ماذا يقول الرسول: “قد صُلب العالم، وأنا للعالم” (غلا ٦: ١٤). لقد أكمل إذن رقم ٤٠…

لماذا في رقم ٤٠ كمال البرّ؟

قيل في المزامير: “يا الله أرنم لك ترنيمة جديدة على قيثارة ذات عشر أوتار أرنم لك” (مز ١٤٤: ٩)، والتي تشير إلى الوصايا العشرة التي للناموس، التي جاء الرب لا لينقضها بل ليكملها. والناموس نفسه خلال العالم كله واضح أن له أربع جهات شرق وغرب وجنوب وشمال، كما يقول الكتاب… لذلك فرقم ٤٠ هو الزهد عن العالم، هو تنفيذ الناموس. الآن فإن المحبة هي تكميل الناموس (رو ١٣: ١٠؛ غلا ٥: ١٤). لكن وصية المحبة مزدوجة: “حب الرب إلهك من كل قلبك… والأخرى مثلها حب قريبك كنفسك” فمن لديه تقصير في الاثنين يكون له عجز الرقم ٣٨[9].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

يرى Bede أن رقم 38 هو محصلة رقم 40 ناقص 2. فإن كان رقم 40 يشير إلى كمال الفضائل وهي محصلة ضرب 10× 4 أي تكميل الناموس (10) والأناجيل الأربعة (4)، فإن غياب الرقمين الخاصين بوصيتي الحب لله والقريب يظهر الإنسان في حقيقة كشخصٍ مريض طال زمان مرضه. انهم يقدرون أن يقَّوموا من رذائلهم خلال عطية الروح القدس عندما يهز بلادتهم، ليسرعوا فيحملوا حمل الحب الأخوي لكي يروا خالقهم.

هذا رآه يسوع مضطجعًا،

وعلم أن له زمانًا كثيرًا،

فقال له: أتريد أن تبرا؟” [6]

إذ جاء السيد المسيح إلى أورشليم لم يزر قصور الأغنياء بل المستشفيات، ليقدم حبًا وحنوًا نحو المرضى. فقد جاء إلى العالم من أجل المحتاجين والمرضي. ولعل السيد ركز عينيه على ذلك المريض، لأنه كان أقدمهم، عانى أكثر من غيره من المرض والحرمان، إذ يجد السيد مسرته في العمل لحساب الذين بلا رجاء ولا معين.

“أتريد أن تبرا؟” بهذا السؤال أراد أن يثير فيه الإيمان والرجاء والرغبة الشديدة نحو الشفاء. يوجه السيد المسيح هذا السؤال نحو كل نفسٍ لعلها تشتاق إلى شفائها خلال طبيب النفوس السماوي.

مثابرة المفلوج مذهلة، له ثمانية وثلاثين عامًا وهو يرجو في كل عام أن يشفي من مرضه. لقد استمر راقدًا ولم ينسحب من البركة…

لنخجل أيها الأحباء، لنخجل ونتنهد على شدة تراخينا.

ثمانية وثلاثون عامًا وهو ينتظر دون أن ينال ما يترجاه ومع هذا لم ينسحب. لم يفشل بسبب إهمال من جانبه، وإنما خلال ضغط الآخرين وعنفهم ومتاعبهم. هذا كله لم يجعله متبلدًا. بينما نحن إن ثابرنا في الصلاة لمدة عشرة أيام من أجل أمر ما ولم ننله تهبط غيرتنا[12].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أجابه المريض:

يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء،

بل بينما أنا آت،ٍ ينزل قدامي آخر“. [7]

في حديثه عن المفلوجين (مت 9: 2) اللذين شفاهما السيد المسيح يبرز القديس يوحنا الذهبي الفم وداعة هذا المفلوج، فإنه إذ يلقي إنسان علي فراشه كل هذه السنوات غالبا ما يكون ثائرا، يعاني من متاعب نفسية وعصبية. ومع هذا فإنه سمع سؤال السيد المسيح لم يثر قائلا: “ألا تراني هنا أترقب نزول الملاك ليحرك الماء، فكيف تسألني إن كنت أريد أن أبرأ؟ ” لكن في وداعة عجيبة أجاب السيد المسيح.

اشتكى المريض من عدم وجود أصدقاء يساعدونه، فإنه حتى الذين نالوا الشفاء اعتادوا بشفائهم ولقائهم مع أقربائهم وأصدقائهم، ولم يوجد واحد من بينهم يهتم بهذا المسكين. كما اشتكى من عجزه في منافسة الآخرين لكي يلقي بنفسه أولاً في البركة إذ كانوا كثيرون يسبقونه.

قديمًا إذ تحولت الأنظار إلي البشر عوض النظر إلي المسيا كطبيب ودواء للشفاء قيل: “أليس بلسان في جلعاد؟ أم ليس هناك طبيب؟ فلماذا لم تُعصب بنت شعبي؟” (إر 8: 22). هذه هي شكوى المفلوج إذ لم يجد من يشفيه ولا من يهبه الدواء. الآن هوذا البلسان نفسه، والطبيب بعينه واقف أمامه يهبه ذاته سرّ شفاء.

كان المفلوج يبحث عن إنسانٍ يلقيه في البركة عند نزول الملاك، فينال الشفاء. وها هو الآب نفسه يطلب إنسانًا ينزل إلي العالم يقدر أن يعمل بالعدل وطلب الحق ليغفر للعالم خطاياه فلم يوجد سوى كلمته المتجسد. يقول الرب: “طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل طالب بالحق فأصفح عنها” (إر 5: 1). كما قال: “فرأى أنه ليس إنسان، وتحير من أنه ليس شفيع” (إش 59: 16).

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

قال له يسوع:

قم إحمل سريرك وامشِ”. [8]

قدم له السيد الشفاء بطريقة لم تخطر على فكره، وهي ليس بإلقائه في البركة متى تحرك الماء، وإنما بكلمة تصدر من فمه الإلهي. أمر بسلطان فشُفي المريض.

اعتاد السيد أن يترك علامات بعد المعجزة لكي يتذكر شعبه أعمال محبته، فعندما أشبع الجموع أمر بجمع الكسر. وعندما حوَّل الماء خمرًا طلب من الخدام أن يقدموا للمتكئين. وعندما شفى البرص أمرهم أن يذهبوا إلى الكهنة ليشهدوا بشفائهم. هنا يطلب من المريض أن يحمل السرير الذي حمله أثناء مرضه.

طلب منه حمل السرير ليطمئن أن شفاؤه كامل، وأنه لم ينل القوة الجسدية تدريجيًا بل بكلمة الله وأمره فورًا. إنها صرخة المخلص علي الصليب وهو يتطلع إلي الكنيسة كلها عبر الأجيال منذ آدم إلي آخر، لكي تقوم وتتحرك وتدخل إلي حضن الآب، بيتها السماوي. يطالبها بحمل سريرها الذي هو شركة الصلب معه، لا كثقل علي ظهرها، بل كعرشٍ يحملها، ومجدٍ ينسكب عليها. رأي إشعياء النبي هذا المنظر المبدع بكونه قصة الفداء المفرحة فترنم قائلا: “قومي استنيري، لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك” (إش 60: 1) لم تعد البشرية المؤمنة مطروحة الجسد تحت سطوة الخطية المحطم، بل تمتعت بقوة الروح لتحمل مع عريسها المصلوب صليبه سرّ قوة للخلاص، وتمتع ببهاء المخلص عليها.

ارتبطت قصة شفاء هذا المفلوج بالمعمودية في ذهن الكنيسة الأولي، فوردت في بعض ليتورجيات المعمودية القديمة، كما صورت في بعض سراديب روما للكشف عن إمكانية المعمودية. تصور الرجل المفلوج العاجز عن السير، وقد قام حاملاً سريره علي ظهره في حركة مملوءة حيوية ونشاطًا. صورة رائعة عن عمل المعمودية التي تقيم المؤمن من مرضه المستعصي ليشهد للحياة الجديدة التي صارت له في المسيح يسوع القائم من الأموات!

لذلك إن كان أحدكم متألم في نفسه من خطاياه، فإنك تجده طبيبًا لك. وإن كان أحدكم قليل الإيمان فليقل له: “أعن عدم إيماني” (مر 24:9).

وإن اصاب أحدكم آلامًا جسدية، فلا يكن غير مؤمنٍ، بل يقترب فإن يسوع يعالج مثل هذه الأمراض، وليعلم أن يسوع هو المسيح[15].

القديس كيرلس الأورشليمي

حين كنت ضعيفًا حملك قريبك، الآن أنت صحيح، احتمل أنت قريبك. هكذا تملأ يا إنسان ما كان ناقصًا بالنسبة لك. “إذن احمل سريرك“. وحين تحمله لا تقف في الوضع بل “امشِ“. بحبك لقريبك، وبحملك قريبك، تتمم مشيك. إلى أين تسير في طريقك إلى الرب الإله، الذي يلزمنا أن نحبه من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر. لتحمله، عندئذ إذ تسير تذهب إلى ذاك الذي ترغب أن تمكث معه. لذلك “احمل سريرك وأمشِ[16].

القديس أغسطينوس

فحالاً برئ الإنسان،

وحمل سريره ومشى،

وكان في ذلك اليوم سبت“. [9]

لماذا أمر السيد هذا الشخص أن يحمل سريره في يوم السبت وقد منع الناموس هذه الأعمال، خاصة حمل الأمور الثقيلة (خر ٢٠: ٨؛ إر ١٧: ٢١؛ نح ١٣: ١٥)؟

  1. ربما كان هذا الشخص فقيرًا، لو ترك سريره يفقده، ولم يكن ممكنًا أن يبقى حتى الصباح حارسًا للسرير.
  2. أظهر السيد أن اليهود قد أساءوا فهم السبت، فمارسوه بطريقة حرفية بلا فهم روحي سليم، خاصة لمجد الله ونفع الإنسان.
  3. ليؤكد للحاضرين أنه رب السبت (مت ١٢: ٨)، كل الأيام هي له دون تمييز بين سبت وغير سبت، فيها يعمل عمل الآب بلا انقطاع.
  4. بحمله السرير في وسط العاصمة الدينية ووسط الجمهور القادم للعيد يشد أنظار الشعب لبحث الأمر، والتعرف على محبة المسيح لشعبه، واهتمامه بسلامتهم الروحية والجسدية أكثر من التنفيذ الحرفي للناموس.
  5. في هذا الأمر اختبار لمدى طاعة المريض لذاك الذي يشفيه، وإيمانه به.
  6. لكي يحمل صورة عملية حية عن الكنيسة في العصر المسيحاني. فقد تطلع الأنبياء إلي الكنيسة في العهد الجديد وترنموا قائلين: “الرب يقوم المنحنين” (مز 146: 8)، “خلص يارب شعبك… بينهم الأعمى والأعرج” (إر 31: 7). صارت كل أيامها سبت (راحة) لا ينقطع، وعيد مفرح مستمر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. مقاومة اليهود

فقال اليهود للذي شُفي:

إنه سبت.

لا يحل لك أن تحمل سريرك“. [10]

تخاصم معه القادة واتهموه أنه كاسر للسبت. حسبوا في ذلك العمل تدنيسًا للسبت، وإذ يمارسه علنًا في وسط المدينة وعمدًا فإنه مستحق للرجم. ولم يدركوا أن حسدهم وبغضهم للسيد المسيح هو الذي يدنس سبوتهم وأعيادهم. ذهب السيد المسيح إلي المفلوج ليهبه حياة جديدة وإمكانيات جديدة، وها هم الرؤساء يستدعونه ليجدوا علة للموت. وكما يقول المرتل: “الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يميته” (مز 37: 32).

أجابهم: إن الذي أبرآني هو قال لي:

احمل سريرك وامشِ”. [11]

جاءت إجابة المريض تشهد للسيد المسيح، بقوله: “الذي أبرآني هو قال لي احمل سريرك وامشِ” [١١]. لم يلقِ بالمسئولية على السيد المسيح، ولا أراد أن يحول اتهام كسر السبت عليه، إنما يؤكد أن ذاك الذي له قوة الشفاء بهذه الطريقة الفائقة لا يمكن أن يخطئ الأمر، ولا يمكن أن يصنع شرًا. أطعته لأني أثق في قداسته وبرِّه.

ذاك الذي له سلطان على الأمراض المزمنة بطريقة تفوق الطبيعة يستحيل يُحسب كاسرًا للناموس. ذاك الذي له هذا الحب والحنو، لا يمكن إلا أن يكون منفذًا للناموس الذي يكمل بالحب العملي.

الحياة التي دبت فيه كانت بلا شك أثمن بما لا يقاس من التنفيذ الحرفي لحفظ السبت. لهذا ترك تفسير حفظ السبت لذاك الذي وهبه هذه الحياة الجديدة التي اختبر فيها الراحة.

القديس كيرلس الكبير

على أن المخلع لو أراد أن يسيء فعله كان ممكنًا أن يقول قولاً غير هذا، كأن يقول: إن كان فعلي هذا خطأ فانسبوا الخطأ إلى من أمرني به. إلا أنه لم يقل هذا القول، ولا سألهم عفوًا، لكنه بصوت بهي أقر بالإحسان البالغ إليه، ونادى به بعزم واضح، قائلاً: “إن الذي أبرآني هو قال لي احمل سريرك وامشِ”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فسألوه: من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامشِ”. [12]

بسؤالهم حاولوا إهانة السيد المسيح ليس فقط بظنهم أنه مجرد إنسان، إنما وضعوا السؤال بطريقة تحمل استخفافًا به: “من هو الإنسان…؟” بمعنى أنه لا وجه للمقارنة بين هذا الإنسان الذي شفاك وبين الله واضع الناموس.

القديس يوحنا الذهبي الفم

أما الذي شفي فلم يكن يعلم من هو،

لأن يسوع اعتزل،

إذ كان في الموضع جمع“. [13]

ربما سمع اسم يسوع، لكنه إذ كان ملقى عند البركة ٣٨ سنة لم يرَ السيد من قبل ولا عرف عنه الكثير، ولم يكن قادرًا حتى إن رآه أن يتعرف عليه.

يرى القديس أغسطينوس أن اللَّه استراح في اليوم السابع إشارة إلى إتمام عمل الخلاص على الصليب في اليوم السادس (الجمعة)، وراحته في القبر في اليوم السابع[18].

القديس أغسطينوس

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل، وقال له:

ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر“. [14]

إذ شعر الرجل بحنو الله عليه ذهب إلى الهيكل ربما ليقدم الشكر لله على شفائه. وكأنه يترنم قائلاً: “لله أذبح ذبيحة حمد، وباسم الرب أدعو، أوفي نذوري للرب مقابل شعبه، في ديار بيت الرب في وسطك يا أورشليم” (مز ١١٦: ١٦–١٩). غالبًا ما حدث هذا في نفس يوم شفائه.

التقى السيد المسيح بالمريض في الهيكل. ربما إذ اتهموه باحتقاره يوم السبت جاء إلى الهيكل ليؤكد تقديسه ليوم السبت، وانشغاله بالعبادة الجماعية في ذلك اليوم. لقد جاء خصيصًا ليهب البصيرة الروحية، مع علمه بأن أعداءً كثيرين يطلبون قتله. لكن مادامت الحاجة ماسة للقاء مع شخص لبنيانه لم يتوقف عن الذهاب من أجله. لقد شفى جسد المريض، والآن يعلن اهتمامه بشفاء نفسه من الخطية.

أوضح له السيد المسيح أنه عالم بأسرار الماضي: “لا تخطئ أيضًا” موضحًا أن خطيته السابقة كانت السبب في مرضه الطويل المدى. يحذر السيد من الخطية التي تسحبه إلى مستشفى بركة بيت حسدا ليقضي بها ٣٨ عامًا، بل إلى جهنم لكي يُغلق عليه أبديًا في حرمان من المجد السماوي وعذاب مع عدو الخير إبليس.

بعض الأمراض أحيانًا تحل بنا بسب خطايانا، كتأديبٍ إلهيٍ لأجل رجوعنا إلى الله. وكما يقول المرتل: “والجمال من طريق معصيتهم، ومن آثامهم يُذلون. كرهت أنفسهم كل طعام، واقتربوا إلى أبواب الموت، فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فخلصهم من شدائدهم” (مز ١٠٧: ١٧–١٩).

يلاحظ أن السيد لم يشر إلى الخطايا عند شفائه للمرضى إلاَّ في الحالات المستعصية لمدة طويلة كما في هذه الحالة وما ورد في مر ٢: ٥. ربما لأن هؤلاء إذ عاشوا زمانًا طويلاً في المرض ظنوا أنهم بعدم تعاملهم مع الناس هم أبرار بلا خطية، لذلك يطلب منهم أن يدخلوا إلى أعماق نفوسهم، ويكتشفوا ضعف طبيعتهم، ويرجعوا إلى الله. مثل هؤلاء يحتاجون إلى حذرٍ شديٍد أكثر من غيرهم الذين يدركون أنهم مخطئون.

لعله قال له هذا في الهيكل، فقد حُرم من زيارة الهيكل ٣٨ عامًا بسبب مرضه، فلئلا ينشغل بالمبنى والالتقاء بالناس وما يدور حوله، أراد السيد أن يحول عينيه إلى أعماقه ليحذر في حياته الجديدة من الخطية. حقًا لست أظن أن لغة ما تستطيع أن تعبر عن مشاعر هذا الإنسان في رؤيته للهيكل بعد هذه السنوات الطويلة. ليكن هذا الشوق ممتزجًا باللقاء مع الله الساكن في أعماق النفس!

القديس جيروم

الشهيد كبريانوس

 القديس يوحنا الذهبي الفم

فمضى الإنسان وأخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبراه“. [15]

لم يلقِ بالمسئولية على السيد المسيح أنه هو الذي قال له: احمل سريرك، بل شهد له أنه “هو الذي أبرأه“. لقد أراد أن يمجد يسوع وفي نفس الوقت أن يشهد لصالح سامعيه لعلهم يفكرون جديًا في عمله العجيب.

ولهذا كان اليهود يطردون يسوع،

ويطلبون أن يقتلوه،

لأنه عمل هذا في سبتٍ”. [16]

عوض إعادة النظر في نظرتهم ليسوع منقذ النفوس وشافي الأجساد من الأمراض المستعصية حملهم الحسد والحقد إلى الرغبة في ممارسة أعمال أبيهم: الاضطهاد والقتل. فإنهم لن يجدوا شبعًا إلاَّ بسفك دمه. غيرتهم على تقديس السبت كانت تغطية لمشاعرهم المملوءة كراهية.

3. حديث المسيح عن السبت

فأجابهم يسوع:

أبي يعمل حتى الآن،

وأنا أعمل“. [17]

دخل السيد المسيح في حوار مع القيادات التي تتهمه بكسر السبت. يبدو أن هذا الحوار كان أمام مجمع السنهدرين، إما في نفس اليوم أو في خلال يومين أو ثلاثة من شفائه للمريض.

بقوله: “أبي يعمل حتى الآن” [١٧] يوضح لهم أن الآب قد خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، أي في السبت. لقد توقف عن عمل الخليقة إذ أكمل كل شيء، لكن راحته لا تعني تجاهله للخليقة، بل يبقى في سبته يعتني بخليقته ويرعاها ويدبر كل أمورها. فالسبت عند الله هو عمل فيه راحة ومسرة، حيث يعلن حبه لخليقته المحبوبة لديه جدًا. لو مارس السبت حرفيًا مثل القيادات اليهودية لتوقفت الخليقة وتدمرت، لأنها لا تقدر أن تقوم بدون العون الإلهي. هكذا الابن يقدس السبت بعمل الحب المستمر، حيث يرعى محبوبيه، ويعمل بلا توقف لكي يبرأ الكل وينمو في المعرفة والمجد. هذا هو مفهوم السبت على المستوى الإلهي.

في السبت يختتن الذكر إن كان هو اليوم الثامن لميلاده، وفي السبت يقدم الكهنة ذبائح، وفي السبت يقدم الرعاة المياه لأغنامهم. هذه كلها أعمال لا تكسر السبت لأنها تحمل رائحة حب. ابن الإنسان هو رب السبت، لأنه هو “الحب” عينه.

وأنا أعمل“: بكونه ابن الله فهو يمارس مسيرة أبيه الدائم العمل لحساب شعبه. التوقف عن عمل الحب هو كسر للسبت وإفساد له، أما عمل المحبة فهو تقديس له. إنه لا يعمل كأبيه، كأن لكل منهما عمله المستقل، إنما هو العامل مع أبيه، إذ “به كان كل شيء”. فإن أُتهم بكسر السبت، يكون في ذلك اتهام لله الآب نفسه الذي لا ينفصل الابن عنه قط.

         يقارن السيد المسيح نفسه بالآب، فكما أن الآب يعمل في السبت كما في بقية الأيام هكذا يمكن له أن يفعل هذا. هذه المقارنة لها خطورتها عند القيادات اليهودية، لأنها تحمل معنى التساوي بينهما في الخطة الإلهية والعمل. من هو هذا الذي يعالج موضوع الآب والسبت بكونهما يخصانه؟

يرى القديس أغسطينوس أن اليهود أخطأوا في فهمهم ليوم السبت بطريقة جسدانية. لقد ظنوا أن الله خالق العالم في ستة أيام، فتعب وأراد أن يستريح من تعبه في اليوم السابع فقدس هذا اليوم للراحة. هذا الفهم الخاطئ جعلهم هم في تعبٍ. أما المعنى الروحي له فهو أنه إذ تعبر ستة أيام أو فترات التاريخ البشري يأتي يوم الرب بكونه اليوم السابع. راحته تعني راحتنا نحن فيه. أما الأيام الستة فهي:

  اليوم الأول: من آدم إلى نوح.

  اليوم الثاني: من الطوفان إلى إبراهيم.

  اليوم الثالث: من إبراهيم إلى داود.

  اليوم الرابع: من داود إلى السبي البابلي.

  اليوم الخامس: من السبي البابلي إلى مجيء السيد المسيح.

  اليوم السادس: العصر الحاضر منذ مجيء المسيح إلى مجيئه الأخير. في هذا اليوم نتشكل على صورة الله، إذ فيه خُلق الإنسان (تك ١: ٢٧). وفيه يتم تجديد خلقتنا (بالصليب يوم الجمعة).

هكذا يرى القديس أغسطينوس أن الله يعمل خلال الستة أيام، وأن اليوم السادس هو يوم خلقة الإنسان وتجديده حتى يتهيأ للتمتع بالراحة في اليوم السابع، يوم مجيئه الأخير[25].

 القديس أمبروسيوس

القديس جيروم

القديس يوحنا الذهبي الفم

الآن بالنسبة لآبائنا القدامى قد وُضع سرّ السبت، هذا الذي نحفظه نحن المسيحيون روحيًا بالامتناع عن كل عمل ذليل، أي عن كل خطية، لأن الرب يقول: “كل من يفعل خطية هو عبد للخطية”. وإذ ننال راحة في قلوبنا فهذه هي الراحة الروحية.

أما عن القول بأن اللَّه استراح، فذلك لأنه لم يخلق أية خليقة أخرى بعد أن أكمل كل شيء.

علاوة على هذا فإن الكتاب المقدس يدعوها راحة، لكي يحثنا على الأعمال الصالحة التي بعدها نستريح. لأنه كتب في التكوين: “خلق اللَّه كل شيء حسن جدًا، واستراح اللَّه في اليوم السابع”. لكي ما تدرك يا إنسان أن اللَّه نفسه قيل أنه استراح بعد الأعمال الصالحة، فتتوقع راحة لنفسك بعد أن تمارس أعمالاً صالحة.

إن كان اللَّه بعد أن خلق الإنسان على صورته ومثاله وفيه أكمل كل أعماله لتكون حسنة جدًا عندئذ استراح في اليوم السابع. هكذا لا تتوقع أنت راحة لنفسك ما لم ترجع إلى ذلك الشبه الذي خُلقت عليه[30].

     القديس أغسطينوس

ربما يتساءل البعض: كمثال سار السيد المسيح على المياه، بينما لم يسر الآب على المياه، فكيف نقول أن أعمال الآب والابن غير منفصلة؟ يجيب القديس أغسطينوس قائلاً: [انظروا كيف يقدم الإيمان الجامعي شرحًا لهذا السؤال. سار الابن على البحر، وضع قدميه الجسديتين على الأمواج، سار الجسد، وقد وجَّهه اللاهوت. ولكن حين كان الجسد يمشي واللاهوت يوجّهه، هل كان الآب غائبًا؟ لو كان غائبًا فكيف يقول الابن نفسه: “لكن الآب الحال فيّ نفسه يعمل الأعمال”؟ إن كان الآب حالاً في الابن، هو نفسه يعمل الأعمال، إذن فالسير على المياه هو من عمل الآب وبالابن. بهذا فإن ذاك السير هو عمل الآب والابن بلا انفصال. أرى الاثنين يعملان كلاهما فيه. الآب لن يترك الابن، ولا الابن الآب. هكذا كل ما يعمله الآب لن يعمله بدون الابن، لأن ما يعمله الآب لن يعمله بدون الابن[33].]

القديس أغسطينوس

فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه،

لأنه لم ينقض السبت فقط،

بل قال أيضًا إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله“. [18]

دفاعه عن تقديس السبت بالعمل الإلهي لا بالامتناع عن العمل، حمل شهادة أنه مساو لله الذي دعاه أباه، فازدادوا حقدًا عليه، إذ ليس ما يثيرهم مثل تأكيد سلطانه الإلهي، فطلبوا بالأكثر قتله، لأنه في نظرهم قد جدَّف. كل من الاتهامين عقوبتهما الموت (لا ١٥: ٣٢؛ لا ٢٤: ١١؛ ١٤: ١٦).

يري البعض أن ما أزعج القيادات اليهودية هو دعوة الآب أباه الشخصي الذاتي، وهذا يفهم من استخدام الكلمة اليونانية، فيحسب نفسه معادلاً له.

 القديس أمبروسيوس

4. حديث عن الحياة الأبدية

فأجاب يسوع وقال لهم:

الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا،

إلا ما ينظر الاب يعمل،

لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك“. [19]

         في حديثه دومًا يؤكد حقيقتين: وحدانية اللَّه، وأنه واحد مع الآب ومساوٍ له.

إذ أراد اليهود أن يقتلوه ليس فقط لأنه كسر السبت بل وقال أيضًا أن اللَّه أبوه، معادلاً نفسه باللَّه [18]. لم يكن رد الفعل أنه قال: “لماذا تريدون قتلي، إني لست معادلاً لأبي”. لو كان السيد المسيح أقل من اللَّه من جهة اللاهوت لالتزم بتوضيح ذلك. لكنه أوضح أنه لا تناقض بينه وبين الآب، لأن ما يفعله الآب إنما يفعله بالابن الذي هو قوة اللَّه وحكمته. “كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 2). يقول أن ما يرى الآب هو يفعله؛ ماذا يعني أن ما يرى الآب هو فاعله؟ هل ينظر ما فعله الآب فيكرر ذات الفعل؟ مستحيل! لكن إذ يقوما بذات العمل، فهو واحد مع أبيه في الإرادة، لذلك يتمم الفعل الإلهي الذي حسب مسرة أبيه. وفي نفس الوقت حسب مسرته هو. لا يقدر الابن أن يفعل شيئًا من ذاته بسبب الوحدة التي لا تنفصم مع الآب، ولا يفعل الآب شيئًا دون الابن بسبب الوحدة اللانهائية، لأن الابن هو قوة الله وحكمة الله وكلمة الله.

يقدر الكائن المخلوق أن يفعل شيئًا من ذاته، إذ يستطيع أن يخطئ الأمر الذي لن يقدر الله أن يفعله لأنه قدوس بلا خطية. أما الابن فلن يقدر أن يفعل إلاَّ ما يرى الآب فاعله. كأنه يقول لهم إن اتهمتموني بكسر السبت، فأنا لا أفعل شيئًا إلاَّ ما أرى الآب فاعله، فهل تحسبونه كاسرًا السبت؟!

         ركز في مقاله أنه واهب الحياة الأبدية حسبما يشاء [21]، وأن كلماته تهب حياة أبدية [24]، صوته يقيم الأموات [25-26]، وإن الساعة قادمة ليهب حياة لمن في القبور [28-29].

كيف يُرى الآب بواسطة الكلمة؟

وما هو الذي يراه الكلمة؟

لست أتجاسر هكذا ولا أتهور فأعدكم إنني أشرح هذا لنفسي أو لكم. إنني أقدر قياسكم وأعرف قياسي…

لقد عني بذلك ألا نفهم بأن الآب يفعل بعض الأعمال التي يراها الابن، والابن يفعل أعمالاً أخرى بعد أن يرى ما فاعله الآب. وإنما كلا من الآب والابن يفعلان ذات الأعمال…

فإن كان الابن يفعل ذات أعمال الآب، وإن كان الآب يفعل ما يفعله بالابن، فالآب لا يفعل شيئًا والابن شيئًا آخر، إنما أعمال الآب والابن هي واحدة بعينها…

أقدم لكم مثالاً الذي أظن أنه ليس بصعبٍ عليكم، عندما نكتب خطابات تُشكل أولاً بقلوبنا وبعد ذلك بأيدينا… القلب واليد يقومان بعمل الخطابات. أتظنون أن القلب يشكل خطابات والأيدي خطابات أخرى؟ ذات الخطابات تفعلها القلب عقليًا واليد تشكلها ماديًا.

انظروا كيف أن ذات الأمور تتم ولكن ليس بنفس الطريقة. لذلك لم يكن كافيًا للرب أن يقول: “مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن أيضًا”، لكن كان لازمًا أن يضيف: “وبنفس الكيفية“…

إن كان يفعل هذه الأمور بذات الكيفية، إذن فليتيقظوا، وليتحطم اليهود، وليؤمن المسيحي، وليقتنع المبتدع، فإن الابن مساوي للآب[39].

القديس أغسطينوس

قول المسيح: “لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل” كأنه يقول: “إنه ممتنع عليّ وغير ممكن أن أعمل عملاً مضادًا”. وقوله: “لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك” بهذا القول أوضح مشابهته التامة لأبيه.

لماذا لم يقل: “لا يعمل شيئًا مضادًا” عوض قوله: “لا يقدر أن يعمل”؟ وذلك لكي يثبت عدم التغير والمساواة الدقيقة، فإن هذا القول لا يتهمه بالضعف، بل يشهد لقوته العظيمة… وذلك كالقول: “يستحيل على الله أن يخطئ”، لا يتهمه بالضعف، بل يشهد لقوته التي لا يُنطق بها…

هكذا المعنى هنا هو أنه قادر، أي مستحيل أن يفعل شيئًا مضادًا للآب[40].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

هذا نتعلمه بالتأكيد من العهدين القديم والجديد، لأن الذي قال: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك 26:1) بالتأكيد تكلم مع اقنوم معه. وأوضح من هذا كلمات المرتل: “هو قال فكانت. وهو أمر فخلقت” (مز 5:148). فكما لو أن الآب أمر وتكلم، والابن صنع كل شيء كأمر الآب[44].

القديس كيرلس الأورشليمي

 [يحذرنا القديس أغسطينوس من التفسير المادي]

ما يفعله الآب بمن يفعل هذا؟ إن لم يكن بالابن، إن لم بالكلمة، فإنك تجدف ضد الإنجيل، “لأن كل شئ به كان” (يو ١: ٣).

إذن ما يفعله الآب إنما يفعله بالكلمة. فإن كان بالكلمة يفعل هذا إنما يفعله بالابن. فمن هو هذا الآخر الذي يصغي ليفعل شيئًا يرى الآب فاعله؟[45]

القديس أغسطينوس

القديس جيروم

ماذا نفهم بالقول “ما يراه”؟

هل الابن في حاجة إلى أعين جسدية؟ لا، فإن أكد الأريوسيون هذا عن الابن، فالآب إذن في حاجة إلى أعمال جسدية حتى يراها الابن لكي يفعلها.

إذن ماذا يعني: “لا يقدر الابن أن يفعل شيئًا من ذاته”؟… هل يوجد شيء مستحيل على قوة اللَّه وحكمته؟ ليُدرك هؤلاء أن هذين هما لقبان لابن اللَّه، الذي قدرته بلا شك ليست عطية ينالها من آخر، ولكن كما أنه هو الحياة ولا يعتمد على آخر ليهبه الحياة بل هو الذي يحيي الآخرين، لأنه هو الحياة، هكذا هو الكلمة (1  كو 24:1) ليس ككائنٍ جاهل يطلب الحكمة، بل يجعل الآخرين حكماء من مخازنه. وهكذا هو القوة ليس كمن ينالها خلال ضعف يحتاج إلى مزيد من القوة، بل يهب القوة للأقوياء[47].

القديس أمبروسيوس

لأن الآب يحب الابن،

ويريه جميع ما هو يعمله،

وسيريه أعمالاً أعظم من هذه،

لتتعجبوا أنتم“. [20]

جاء الفعلان “يحب“، و”يريه” في اليونانية في صيغة الحاضر المستمر، يحملان معنى الحب والرؤية وهما عملان مستمران لا ينقطعان. هو حب الوحدة الكاملة في ذات الجوهر، لذا لم يستخدم “أغابي” بل “فيلين” ورؤية العمل المستمر، والذي يحمل الشركة معًا في ذات العمل الإلهي.

الأعمال التي أعظم من شفاء المفلوج هي إقامة الموتى [٢١]، وقيامته من الموت، وإدانته للعالم [٢٢].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

لكن متى يُظهر الآب هذه الأمور للابن؟

ألا يعرفها الابن؟

المتكلم نفسه ألا يعرف كيف يقيم الموتى؟

هل كان محتاجًا أن يتعلم كيف يقيم الأموات إلى الحياة ذاك الذي به كان كل شيء؟ هذا الذي أوجدنا في الحياة حين كنا عدمًا هل كان محتاجًا أن يتعلم كيف نقوم من الأموات؟

فماذا إذن تعني كلماته؟…

إنه يتحدث إلينا تارة بما يليق بجلاله، ومرة أخرى بما يليق بتواضعه. هو نفسه العلي تنازل، لكي يرفعنا نحن الذين أسفل إلى العلا.

ماذا إذن يقول: “وسيريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجبوا أنتم” [20]. إن ما يظهره هو لنا لا لأجله. وإذ يريه الآب لأجلنا، لذلك قال “لتتعجبوا أنتم“.

لماذا لم يقل: “سيريكم الآب” بل سيرى الابن؟ لأننا نحن أيضًا أعضاء الابن، وما تتعلمه الأعضاء يتعلمه هو بطريقة ما في أعضائه.

كيف يتعلم فينا؟ كما يتألم أيضًا فينا.

أين نُثبت أنه يتألم فينا؟ من الصوت الصادر من السماء: “شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟” (أع 9: 4)[49].

القديس أغسطينوس

لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي،

كذلك الابن أيضًا يحيي من يشاء“. [21]

أقام الآب الموتى كما فعل مع ابنة أرملة صرفة صيدا خلال إيليا النبي (١ مل ١٧: ٢٢)، وابن الشونمية (٢ مل ٤: ٣٢–٣٥) خلال خدمة إليشع النبي. ويقيم الابن من يشاء كما حدث مع ابنة يايرس (مر ٥: ٣٥– ٤٢)، وابن أرملة نايين (لو ٧: ١١ –١٥)، ولعازر في بيت عنيا (يو ١١: ١٤–٤٤). إنه يهب الحياة حسبما يشاء، وليس بطلب قوة خارجية كما حدث مع الأنبياء، وأيضًا التلاميذ. له سلطان مطلق على الحياة! له مفتاح القبر والموت (رؤ ١: ١٨)، له مفتاح داود يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح (رؤ ٣: ٧). إنه يميت ويحيي (1 صم 2: 6).

 القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

القديس أمبروسيوس

لأن الآب لا يدين أحدًا،

بل قد أعطى كل الدينونة للابن“. [22]

هذا يؤكد أنه لا يعمل الآب الديان بدون الابن، ولا الابن الديان بدون الآب، لهما سلطان واحد، يعملان معًا.

الآب لا يدين أحدًا، ليس لأنه بلا سلطان، ولكن هذه هي مسرته أن الابن الذي بذل ذاته يدين البشرية. لقد خلقنا الآب بابنه، وخلصنا بموته، ويديننا خلاله. صار المسيح رأسًا للكنيسة بعمله الخلاصي، صار فـوق الكل (اف ١: ١١)، رأس كل رجلٍ (١ كو ١١: ٣)، لذلك فهو الذي يتمم ذلك بأن يتمتع مؤمنيه بشركة مجده. وهو الذي بدأ المعركة ضد مملكة الظلمة، فيعلن في الدينونة تحطيمها تمامًا. إن كان الابن في تواضعه قد صار ابن الإنسان واحتمل الموت موت الصليب، فإنه يظهر أيضًا كابن الإنسان ليخجل ويخزي الذين رفضوه وطعنوه بحربة عدم الإيمان به.

إذ طلب اليهود محاكمته وقتله شرعيًا، أعلن أنه هو الديان، الذي سيحكم في اليوم العظيم ويدين كل البشرية.

لا تقف اهتماماتنا بما يحدث الآن، بل ما سيحدث بعد ذلك، إذ نقف أمام محاكمة رهيبة. “لأنه لا بد أننا جميعا نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كان أم شرا” (2 كو 5: 10).

لنضع في ذهننا علي الدوام هذه المحاكمة، حتى يمكننا في كل الأوقات أن نثابر علي الفضيلة… فإن الذي يغفر خطايانا الآن سيديننا، الذي يموت من أجلنا سيظهر ليدين كل البشرية يقول الرسول: “سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه” (عب 9: 28). لذلك يقول في هذا الموضع: “لأن الآب لا يدين أحدا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب” [22- 23]…

لكي تفهموا “قد أعطى” كما “قد ولد” اسمعوا ما قيل في موضع آخر: “كما أن الآب له الحياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته” [26]. ماذا إذن؟ هل ولده أولاً ثم أعطاه الحياة بعد ذلك؟…

هل وُلد بدون الحياة؟ حتى الشياطين لن تتخيل هذا، لأنه غباوة عظيمة وشر!

فكما إن إعطاء الحياة يعني ميلاده الذي هو الحياة، هكذا إعطاء الدينونة هو إعطاء الميلاد له الذي هو الديان.

ولئلا عندما تسمعون إن الآب هو مصدره تحسبون وجود اختلاف في الجوهر أو نقص في الكرامة قال إنه سيأتي ويدينكم، مبرهنًا بذلك علي مساواته. فإن من له السلطان أن يعاقب ويدين من يشاء، له ذات سلطان الآب[53].

القديس يوحنا الذهبي الفم

كيف يُعلن الابن؟ في الشكل الذي به صعد. لأن شكل اللاهوت مخفي مع الآب، لكن يعلن شكل الابن للبشر…

بأية كيفية رأوه ذاهبًا؟ في الجسد الذي لمسوه، وامسكوه، والجراحات التي تحققوا منها باللمس؛ في هذا الجسد كان يظهر لهم أربعين يومًا، معلنًا عن ذاته بالحق، لا في خيالٍ أو بطلانٍ أو ظلٍ أو روحٍ، بل هو بنفسه لم يخدعهم: “جسّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون” (لو 24: 39). هذا الجسد بالحق صار متأهلاً للسكنى السماوية، لا يخضع للموت، ولا يتغير مع زوال الزمن[54].

القديس أغسطينوس

لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب،

من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله“. [23]

إن كان الابن يُكرم كما يكرم الآب، له ذات الكرامة، تسجد له الخليقة السماوية والأرضية وتتعبد له، الأمر الذي لا يليق إلاَّ بالله، فهو مع الآب الله الواحد.

بين البشر الراسل أعظم من المُرسل. ليكن، لكن الشئون البشرية تخدع الإنسان، الإلهيات تطهره، لا تتطلع إلى الأمور البشرية التي فيها الراسل يظهر أعظم من المُرسل… ومع ذلك توجد حالات كثيرة فيها يُختار الأعظم لكي يرسله من هو أقل…

ترسل الشمس شعاعًا ولكنه لا ينفصل عنها…

والسراج يفيض نورًا ولا ينفصل عنه. إنني أرى إرسالاً دون انفصال…

الإنسان الذي يرسل آخر يبقى خلفه بينما يتقدم المُرسل. هل يذهب الراسل مع الذي أرسله؟ أما الآب الذي اُرسل الابن لا ينفصل عن الابن… الآب الراسل لا ينفصل عن الابن المُرسل، لأن المرسل والراسل هما واحد[55].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلمتي ويؤمن بالذي أرسلني،

فله حياة أبدية،

ولا يأتي إلى دينونة،

بل قد انتقل من الموت إلى الحياة“. [24]

تعاليمه، أي إنجيل خلاصه، هي بذار الحياة الأبدية الغالبة للموت أبديًا، متى زُرعت في القلب ترفع المؤمن فوق الموت الأبدي والدينونة في يوم الرب العظيم. لن يدخل مدينة الموت التي تحبس النفوس التي حرمت نفسها من مصدر الحياة. إنما تعبر النفس إلى إمبراطورية الحياة، ينال المؤمن مواطنة جديدة، عوض بلدة الموت يتمتع بالمواطنة السماوية ليحيا فيها أبديًا في مجدٍ سماويٍ وينطق بلغةٍ سماويةٍ.

إن كانت الحياة الأبدية لا ترتبط بالزمن، فإن عربون هذه العطية يُقدم في الحياة الحاضرة، لننمو فيها حتى تتمتع بكمالها في الحياة العتيدة.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

ماذا تحبون؟ أن تعيشوا. ستنالون هذا.

ماذا تخشون؟ أن تموتوا. ستكون لكم حياة أبدية…

لنحب الحياة الأبدية، بهذا نعرف كيف يلزمنا أن نجاهد كثيرًا من أجل الحياة الأبدية[59].

القديس أغسطينوس

القديس أمبروسيوس

إن كلمات العريس روح وحياة (يو 24:5)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب.

هكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. إنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 131:118).

لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب” (يو 37:7)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي إن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة ويقول: “ليقبلني بقبلات فمه” (نش 2:1).

من يهب الجميع الحياة، ويريد إن الجميع يخلصون، يشتهي أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس[61].

القديس غريغوريوس النيسي

الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الآن،

حين يسمع الأموات صوت ابن الله،

والسامعون يحيون“. [25]

يميز البعض بين “كلمة” السيد المسيح [24] وصوته [25]، فكلمته هي إنجيل خلاصه حيث يجد المؤمن خلال الصليب الحياة الجديدة عوض الموت، ويتمتع بالحرية عوض العبودية، إذ يقول السيد “كلمتي روح وحياة” أما صوته فهو كائن في كلمته، حيث تستعذب العروس صوت عريسها، فيمتلئ قلبها بنشوة الحب وتتحسس حنانه الإلهي ولن تقبل عنه بديلاً: “خرافي تسمع صوتي” (يو 10: 27).

يشير الكتاب المقدس إلى ثلاثة أنواع من الموت: الموت الطبيعي أو الجسدي، والموت الروحي، والموت الأبدي. الأول يتحقق بانفصال النفس عن الجسد، والثاني بانفصال النفس عن الله، والثالث بانفصال النفس والجسد معًا عن الله في العالم الآخر. مقابل هذا توجد ثلاثة أنواع من الحياة: الحياة الطبيعية التي في هذا العالم، حيث يعمل الجسد مع النفس في وحدة، والحياة الروحية حيث تتمتع النفس بالوحدة مع الله الذي يقودها بروحه القدوس، والحياة الأبدية حيث يشترك الجسد مع النفس في المجد السماوي في حضن الآب.

بمجيء السيد المسيح حلت الساعة لتقوم النفس من موتها، أو انفصالها عن الله مصدر حياتها، فتتمتع بالحياة الجديدة هنا. هذه الحياة الجديدة تهيئ المؤمن لمجيء السيد المسيح الثاني حيث يقوم الأموات لتشترك الأجساد مع النفوس في الحياة الأبدية المجيدة. هذا يتحقق بأمر السيد المسيح، حيث يسمع الأموات صوته.

في مجيئه الأول يتكلم في النفس فيقيمها من الموت، وفي مجيئه الأخير يأمر فيقوم الأموات. ليتنا نسمع دومًا صوته الموجه شخصيًا إلينا: “لعازر هلم خارجًا”. ففي كل عبادتنا، بل مع كل نسمة من نسمات حياتنا يلزمنا أن نميل بآذاننا إليه لنسمع صوته العذب المحيي لنفوسنا.

مثل هؤلاء الموتى أقيموا بكلمة الله ليعيشوا في الإيمان. الذين كانوا موتى في عدم إيمان أقيموا بالكلمة. عن هذه الساعة يقول الرب: “ستأتي الساعة وقد جاءت الآن“. بكلمته يقيم هؤلاء الذين كانوا موتى في عدم الإيمان. عنهم يقول الرسول: “قم أيها النائم، وارتفع عن الموتى، فالمسيح يعطيه النور” (أف ٥: ١٤). هذه هي قيامة القلوب. هذه هي قيامة الإنسان الداخلي، هذه هي قيامة النفس.

لكن ليست هذه هي القيامة الوحيدة، إذ تبقى قيامة الجسد أيضًا. من قام ثانية في النفس سيقوم أيضًا في الجسد لتطويبه في الجسد. وأما من لم يقم أولاً في النفس فسيقوم في الجسد للعنته… إذ نتطلع إلى الرب أنه ختم علينا بهذه القيامة للنفوس التي يجب علينا جميعًا أن نسرع إليها، وأن نجاهد لنعيش فيها، وأن نثابر حتى النهاية. بقي له أن يختم علينا بقيامة الأجساد أيضًا التي ستكون في نهاية العالم. الآن فلتسمع كيف ختم بهذه أيضًا.

عندما قال: “الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات“، أي غير المؤمنين، “صوت ابن الله“، أي الإنجيل، “والسامعون“، أي المطيعون “يحيون” [٢٥]، أي يتبررون، ولا يعودوا بعد غير مؤمنين. عندما أقول أنه قال هذا بقدر ما يرانا أننا محتاجون إلى التعلم عن قيامة الجسد أيضًا، ولا نُترك هكذا لذلك أكمل قوله: “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته“. هذه تشير إلى قيامة النفوس، إلى إحياء النفوس. عندئذ أضاف: “وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا لأنه ابن الإنسان” [٢٧][63].

أتريد أن تسير؟ أنا هو الطريق.

أتود ألا تُخدع؟ “أنا هو الحق”.

أتريد ألا تموت؟ “أنا هو الحياة”.

هذا ما يقوله مخلصك لك… البشر الذين ماتوا يقومون؛ إنهم يعبرون إلى الحياة، إذ يسمعون صوت ابن اللَّه يحيون. فيه يحيون، إذ يثابرون في الإيمان به. لأن الابن له الحياة؛ حيث له الحياة حتى أن الذين يؤمنون به يحيون[64].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته،

كذلك أُعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته“. [26]

يتحدث ربنا يسوع هنا بكونه المسيا الذي يخلص العالم ويهبه الحياة.

القديس أمبروسيوس

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا، لأنه ابن الإنسان“. [27]

يرى القديس أمبروسيوس أن السيد المسيح قَبِلَ أن ينال السلطان أن يدين “لأنه ابن الإنسان” أما بكونه ابن الله فهو الديان، إذ هو واحد مع الآب[72].

يقول القديس أغسطينوس أنه هو “ابن الله في ذاته” [٢٥] كان يلزم (بحبه) أن يصير ابن الإنسان حين أخذنا فيه، أو أخذ طبيعتنا.

إنه إذ يقيم الموتى نراه ابن الله واهب الحياة والقيامة، وإذ يدين يتجلى أمامنا عمله الخلاصي الذي بدونه لن نتبرر، فنراه وقد حمل طبيعتنا وصار ابن الإنسان الذي مات وقام ووهبنا برَّه. يراه الأشرار أيضًا ابن الإنسان الذي صلبوه ورذلوه وطعنوه.

بقوله: “وأعطاه أن يدين أيضا لأنه ابن الإنسان” يوجه أنظارهم نحو نبوة دانيال النبي عنه: “كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتي وجاء إلي القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض” (دا 7: 13-14).

اسمعوا وافهموا ما قاله النبي بالفعل: “سينظرون إلى من طعنوه” (زك ١٢: ١٠؛ يو ١٩: ٣٧). سينظرون ذات الشكل عينه الذي طعنوه بحربة. يجلس كديان ذاك الذي وقف أمام كرسي القضاء. سيحكم على المجرمين الحقيقيين، ذاك الذي جعلوه مجرمًا باطلاً. سيأتي بنفسه بذات الشكل.

هذا تراه أيضًا في الإنجيل عندما ذهب إلى السماء أمام أعين تلاميذه، وقفوا ونظروا وتكلم الصوت الملائكي: “أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين… إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء” (أع ١:١١)…

انظروا الآن على أي أساس كان هذا ينبغي أن يحدث وبحق إن الذين يلزم أن يدانوا يروا الديان. فإن الذين يدانون هم صالحون وأشرار معًا. “ولكن طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت ٥: ٨). بقي أنه في الدينونة يعلن شكل العبد للصالحين والأشرار، ويحفظ شكل الله للصالحين وحدهم[73].

هل سيرى الشرير الله أيضًا هذا الذي قال عنه إشعياء: “ليطرد الشرير فلا يرى مجد الله” (إش ٥٦: ١٠ LXX)؟… لذلك فإنه سيعلن نفسه للكل، للصالحين والأشرار، ولكن يحتفظ بنفسه للذين يحبونه… بعد قيامة الجسد عندما يُطرد الشرير فلا يرى مجد الله؛ فإنه “إذ أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو” (١ يو ٣: ٢)، هذه هي الحياة الأبدية[74].

بعد الدينونة سيعبر شكل العبد… وسيقود الجسد بكونه الرأس، ويسلم المُلك للَّه (1 كو 15: 24). عندئذ يظهر شكل اللَّه علانية، هذا الذي لم يكن ممكنًا للأشرار أن يروه، وإنما يرون شكل العبد…

 سيعلن نفسه، كما وعد للذين يحبونه. إذ يقول: “من يحبني يحفظ وصاياي؛ والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأُظهر له ذاتي” (يو 14: 21)[76].

القديس أغسطينوس

لا تتعجبوا من هذا،

فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته“. [28]

عند قيامة السيد المسيح لم يُسمع صوت ما، لأنه قام بقوته وسلطانه. أما عند إقامتنا في اليوم الأخير فيُسمع صوت المسيح الذي له سلطان أن يقيم الموتى. كما تُسمع أصوات أبواق الملائكة التي تعلن مجيء صاحب السلطان.

ها نحن ننظر قيامة الفكر، ليتنا لا نترك إيماننا بقيامة الجسد…

فإنه حقًا كل الفرق التي تتعهد ببث أية عقيدة دينية في الناس يسمحون بالاعتقاد بقيامة الأذهان، وإلا يُقال لهم: إن كانت النفس لا تقوم، فلماذا تتحدثون معي؟… لكن يوجد كثيرون ينكرون قيامة الجسد، ويؤكدون أن القيامة قد تمت فعلاً بالإيمان. مثل هؤلاء الذين يقاوموهم الرسول قائلاً: “من بينهم هيمينايس وفيليتس اللذين زاغا عن الحق، قائلين أن القيامة قد صارت، فيقلبان إيمان قوم” (2 تي 2: 17-18). يقولون أن القيامة قد تمت فعلاً بطريقة لا نتوقع بها قيامة أخرى، ويلومون الذين يترجون قيامة الجسد، كما لو أن القيامة الموعود بها قد تحققت في عمل الإيمان، أي في الذهن[77].

القديس أغسطينوس

فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة،

والذين عملوا السيآت إلى قيامة الدينونة“. [29]

أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئًا،

كما أسمع أدين،

ودينونتي عادلة،

لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني“. [30]

القديس يوحنا الذهبي الفم

5. شهادة يوحنا المعمدان له

“إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا“. [31]

لو أنه شهد لنفسه دون شهادة الآب خلال الأنبياء ودون قيامه بأعمال عجيبة إلهية، لكان لهم عذرهم إن حسبوها شهادة باطلة. لقد رفض شهادته لنفسه لأنهم حسبوا هذا نوعًا من طلب مجد الناس. فهو لا يود أن يقدم شهادة حسب معاييرهم ليست حقًا. بهذا يقطع خط الرجعة عليهم، فلا يعطيهم فرصة للاعتراض علي شهادته، ولا يسمح لهم أن يتشككوا في نيته، فيظنوه أنه يطلب المجد الزمني.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس
القديس أغسطينوس
الشهيد كبريانوس

الذي يشهد لي هو آخر،

وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق“. [32]

جاءت كلمة “يشهد” هنا في صيغة المضارع المستمر، فإن شهادة الآب للابن شهادة سرمدية، شهادة الحب لذاك الذي واحد معه في ذات الجوهر.

هم يؤمنون بالكتاب المقدس، فهو يحمل شهادة الآب عنه خلال النبوات الكثيرة، وهي شهادة صادقة.

فقول المسيح: “إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقالا ينبغى أن يُقرأ على بسيط ذات قراءته، لكن ينبغي أن يُقرأ إذا أضفنا إليه ظن أولئك اليهود في المسيح أن قوله ليس حقًا…

أورد الأقوال التي قالها بثلاثة شهود: أولهم الأعمال التي صنعها، وثانيهم شهادة أبيه، وثالثهم إنذار يوحنا المعمدان به، وقد وضع آخرها أولها وهى شهادة يوحنا المعمدان إذ قال: “الذي يشهد لي هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق” [32].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق“. [33]

مع أن السيد المسيح لا يقبل شهادة من أي إنسان، لكن من أجلهم يقدم شهادة يوحنا المعمدان عنه أو “للحق“، إذ كانوا يحترمونه كسراج حمل النور لساعة. كان يوحنا في ذلك الوقت في السجن. يكرمه السيد المسيح بكونه السراج الذي يعلن عن مجيء المسيح وسط ظلمة هذا العالم.

من جهة سأله الأعداء أنفسهم وطلبوا رأيه، ومن جهة أخرى عُرف القديس يوحنا أنه لا يعطي وزنًا للكرامة الزمنية، ولم يطلب لنفسه مجدًا. إنه مخلص في رسالته، لم يستطع هيرودس أن يثنيه عن الحق، وعندما شهد يوحنا عن السيد المسيح لم يكن قد رآه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

وأنا لا أقبل شهادة من إنسان،

ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم“. [34]

يقول السيد أنه ليس بمحتاج إلى شهادة يوحنا، فإن أعماله فيها كل الكفاية، وهي أعظم من شهادة يوحنا.

أنتم تؤمنون أن يوحنا نبي، لا ينطق بالكذب بل بالحق. وقد شهد أني حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يو ١: ٢٩)، فإن آمنتم بي تخلصون من خطاياكم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

من هو هذا الذي له فهم أكثر من كل معلميه؟

إنني أسأل: من هو هذا الذي يتجاسر ويفضل نفسه عن كل الأنبياء، الذي ليس فقط بالكلام علَّم بسلطانٍ عظيمٍ هكذا الذين عاش معهم، وأيضًا الأجيال المتعاقبة بكتاباتهم؟…

ما قد قيل هنا لا يمكن أن يكون عن شخص سليمان…

إنني أعرفه بوضوح ذاك الذي يفهم أكثر من كل الذين يعلمون، فإنه إذ كان صبيًا في الثانية عشرة من عمره بقي يسوع في أورشليم ووجده والداه بعد ثلاثة أيام (لو 42:2-46). قال الابن: “كما علمني أبي أنطق بهذه الأمور”.

من الصعب جدًا أن نفهم هذا عن شخص الكلمة، ما لم ندرك أن الابن المولود من الآب… “أخذ صورة عبد” (في 2: 7)، فإنه إذ اتخذ هذا الشكل، ظن من هم أكبر منه سنًا أنه يجب أن يتعلم كصبي، لكن ذاك الذي علَّمه الآب له فهم أكثر من كل معلميه، لأنه درس شهادات اللَّه الخاصة به، وهو يفهمها أكثر منهم عندما نطق بالكلمات: “أنتم أرسلتم إلي يوحنا فشهد للحق، وأنا لا أقبل شهادة من إنسانٍ” (يو 33:5، 34).

القديس أغسطينوس

كان هو السراج الموقد المنير،

وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة“. [35]

يقصد بكلمة “موقد” أو الملتهب نارًا الغيرة المتقدة في قلبه نحو توبة الناس وخلاصهم. ويُقصد “بالساعة” الوقت القصير ما بين ظهوره للخدمة والقائه في السجن.

تبتهجواagalliatheenai وتعني أن يثبتوا متهللين، أو يفرحوا بفيض بأخبار ظهور المسيا، حيث توقعوا أن يخلصهم من الرومان، لكن ما أن أعلن عن ملكوته الروحي حتى رفضوه ورفضوا السراج الذي أعلن عنه.

عندما كان هيرودس صديقًا ليوحنا كانت القيادات الدينية تتحدث عنه بكل وقارٍ أو على الأقل لا تقاومه، أما وقد ألقي في السجن بواسطة هيرودس فقد صار بلا شك موضع تكريم من الشعب، لكن القيادات لم تبالِ بأمره. وفي نفس الوقت لم تكن قادرة على مهاجمته علنًا، لأنه كان في أعين الشعب كنبي. الآن إذ أدرك الشعب أن يوحنا نبي وهو قد شهد للمسيح يلزم على الشعب أن يقبل المسيح.

يرى القديس جيروم أن القديسين هم كالقديس يوحنا المعمدان كالسراج الذي ينير، وأن النور يشير إلى بهجتهم وفرحهم بالخلاص. كما يقول: [كل الكنيسة الشرقية، حتى عندما لا توجد رفات للشهداء عندما يُقرأ الإنجيل توقد الشموع، حتى عندما يجعل الفجر السماء حمراء، لا لكي تبدد الظلمة، بل من أجل الشهادة لفرحنا. لذا فإن العذارى المذكورات في الإنجيل يشعلن على الدوام مصابيحهن. وأخبر التلاميذ أن يكونوا على الدوام ممنطقين أحقائهم وموقدين مصابيحهم. ونقرأ عن يوحنا المعمدان: “كان هو السراج الموقد المنير“، حتى أنه النور الحسّي يشير إلى النور الذي نقرأ عنه في المزمور: “كلامك سراج لقدميّ يا رب، ونور لسبلي” (مز 105:119)[84].]

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

6. شهادة آياته وأعماله

وأما أنا، فلي شهادة أعظم من يوحنا،

لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها،

هذه الأعمال بعينها التي أنا اعملها،

هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني“. [36]

كثيرا ما يتحدث السيد المسيح عن شهادة أعماله لشخصه ولرسالته ( يو 10: 25، 32، 37، 38؛ 14: 10، 11). هنا لا يعنى بالأعمال كثرة المعجزات والآيات وتنوعها فحسب وإنما أعمال محبته الفائقة، وسلوكه أثناء عمل المعجزات، وحبه العجيب للبشرية إذ كثيرًا ما نسمع أنه “تحنن عليهم وشفاهم”، هذا بجانب أيضا أحاديثه، والأحداث الفريدة في حياته مثل سماع صوت الآب عند عماده وتجليه، وغلبته لإبليس في التجربة. يشير السيد هنا إلى شفاء المفلوج كشهادة عملية لكي يقبلوا شخصه وتعاليمه فيخلصوا.

كلمة “العطاء” هنا لا تفيد أن ينال الابن ما لم يكن لديه، لكنه تحقيق العمل الإلهي الذي هو للآب والابن وتكميله. فالخلاص علي سبيل المثال هو عمل الثالوث القدوس، الأب يرسل ابنه إلى العالم ليقدم نفسه ذبيحة، والروح القدس يهيئ أحشاء القديسة مريم لتحقيق التجسد الإلهي. فلا فصل ولا ارتباك ولا ازدواج بين عمل الآب والابن والروح، إنما العمل الإلهي واحد. ولقد أعلن السيد علي الصليب أنه أكمل العمل ( يو 19: 28). وكما يقول الرسول بولس: “لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام” (عب 2: 10).

القديس يوحنا الذهبي الفم

7. شهادة الآب له

والآب نفسه الذي أرسلني يشهد (قد شهد) لي لم تسمعوا صوته قط،

ولا أبصرتم هيئته“. [37]

لقد شهد له الآب نفسه علي فم الأنبياء كما ورد في العهد القديم وانتهى بشهادة القديس يوحنا المعمدان. وأخيرا شهد له الآب بصوته من السماء يوم عماده (مت ٣: ١٧)، وفي تجليه أمام ثلاثة من تلاميذه.

أوضح أنه ليس في الله صوت وليس له صورة، لكنه هو أعلى من كل الأشكال والنغمات التي هذه صفتها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته“. [37] يحدثنا القديس أغسطينوس فى هذا الشأن قائلاً: [لا تستسلموا للتفكير بأنكم ترون للَّه وجهًا جسديًا، لئلا بتفكيركم هذا تهيئون أعينكم الجسدية لرؤيته فتبحثون عن وجه… تنبهوا من هو هذا الذي نقول له بإخلاص: “لك قال قلبي… وجهك يا رب أطلب “… لتبحثوا عنه بقلوبكم. يتحدث الكتاب المقدس عن وجه اللَّه وذراعه ويديه وقدميه وكرسيه وموطئ قدميه… لكن لا تحسبوا أنه يقصد بها أعضاء بشرية. فإن أردتم أن تكونوا هيكل اللَّه فلتكسروا تمثال البهتان هذا[86].]

لا يمكننا أن نخبر عن بداية له أو شكل أو مظهر، إذ يقول الكتاب: “لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته“. وكما قال موسى: “احتفظوا جدًا لأنفسكم فإنكم لم تروا صورة ما “يوم كلمتكم”.

فإذ يستحيل تمامًا رؤية شكله، كيف تفكر في الاقتراب من جوهره؟![87]

القديس كيرلس الأورشليمي

8. شهادة الكتاب المقدس له  

وليست لكم كلمته ثابتة فيكم،

لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به“. [38]

وإن كنتم تؤمنون بالكتاب المقدس وما يحويه من نبوات إلاَّ أن قلوبكم غير ثابته في الكلمة. تنطقون بها بألسنتكم، وترفضها قلوبكم، لأنه إذ تحققت النبوات بمجيئي لم تقبلوني. إنكم تقتنون الكتب لكنكم ترفضون خلاصكم. على نقيض داود النبي القائل: “خبأت كلامك في قلبي لئلا أخطئ إليك” (مز ١١٩: ١١).

فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية،

وهي التي تشهد لي“. [39]

كأنه يقول لهم: “لا يكفي أنكم تفتخرون باقتنائكم الكتب، وأنكم تقرأونها، إنما يلزم أن تفتشوا فيها باجتهاد لتتمتعوا بخلاصكم وحياتكم الأبدية، فإن جميعها تدور حول مجيئي إليكم”. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن العبارة هنا تشير إلى الذين يبحثون عن المعادن النفيسة في بطن الأرض، يحفرون المناجم ويبحثون باهتمام عن المعدن النفيس حتى يجدوه.

استخدم السيد المسيح هذه النبوات في حديثه مع تلميذيه اللذين كانا في طريقهما إلى عمواس يوم قيامته: “ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” ( لو 24: 27).

ويوجهنا القديس بطرس الرسول إلي هذه الشهادة الحية فيقول: “وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضع مظلم، إلي أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون، مسوقين من الروح القدس” (2 بط 1:17-21). كما يقول: “الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1 بط 1: 10-11).

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس غريغوريوس النيسي

ولا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة“. [40]

انهم يبحثون في الكتب المقدسة في غير إخلاص، فيقدمون دراسات وتفاسير وهم متجاهلون جوهر الكتب، شخص المسيا، إذ لا يريدون أن يلتقوا به ويؤمنوا به ليتمتعوا بالحياة.

         مجدًا من الناس لست أقبل“. [41]

لم يطلب منهم هذا عن احتياج إلى تكريم منهم، فإن خلاص الإنسان لا يضيف إلى الله شيئًا، ولا هلاك الإنسان يسيء إلى الله، إنما مسرة الله محب البشر هو بنيان الإنسان ومجده الأبدي.

ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم“. [42]

لقد قاوموا السيد المسيح تحت ستار غيرتهم على الله وعلى مجده وعلى ناموسه، وأنهم يدافعون عن الحق الإلهي، لأن يسوع كاسر للناموس ومجدف، حيث يساوي نفسه بالآب. ها هو يكشف لهم أعماقهم أنهم لا يحملون حبًا صادقًا لله ولا غيرة على اسمه ومجده وناموسه، فإنه لو كان لهم هذا الحب لكانوا عرفوا بالحق من هو يسوع، وأدركوا شخصه وعمله. لم يكن ممكنًا لشخصٍ آخر أن يتجاسر ويعلن ما أعلنه السيد أن محبة الله ليست في قلوبهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني.

إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه“. [43]

يرى القديس أمبروسيوس مع تمايز الأقانيم وجود وحدة في الاسم الإلهي، لهذا يتم العماد باسم الآب والابن والروح القدس وليس “بأسماء” (مت 19:28). وقد جاء الابن باسم الآب (43:5)، وكما يُدعى الروح القدس بالباراكليت (الشفيع أو المحامي). هكذا أيضًا يُدعى الابن (1 يو 1:2). وكما يتحدث السيد المسيح عن نفسه قائلاً: “أنا هو الحق” (يو 6:14)، يُدعى الروح القدس أيضًا “الحق” (1 يو 7:5)[89]. أيضًا يُدعى كل من الاب والابن والروح القدس “النور” (1 يو 5:1؛ يو 8:1-9؛ إش 2:9؛ مز 6:4) [90]. وهكذا الأقانيم الثلاثة يدعوا “الحياة”[91].

كان الحاخامات يعتزون جدًا بأن من يقدم نفسه معلمًا يشهد له شخص أو أشخاص لهم مكانتهم الدينية، لهذا كان شاول الطرسوسي يعتز بشهادة معلمه غمالائيل. لقد جاء ربنا يسوع يشهد له الآب، ويتكلم باسمه، ويطلب مجده، أما أضداد المسيح فيأتون بأسماء أنفسهم (مت ٢٤: ٥).

القديس أمبروسيوس

 الأب يوحنا الدمشقي

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض،

والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟” [44]

أوضح السيد المسيح أن مشكلتهم قائمة في أعماقهم، ففسادهم أعمى أعينهم عن معرفة الحق وقبوله. فالعائق الرئيسي لخلاص الكتبة والفريسيين هو كبرياؤهم. فإنهم يفضلون فقدان خلاصهم وهلاك نفوسهم عن أن تُمس سمعتهم وسط الشعب. يهتمون بما يقوله الناس عنهم، لا بما يشهد به الله عنهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس جيروم

لا تظنوا إني أشكوكم إلى الآب،

يوجد الذي يشكوكم،

وهو موسى الذي عليه رجاؤكم“. [45]

اتهموه بكسر السبت، وقد أثبت لهم أن بعمله هذا يقدس السبت لأنه يعمل حسب مسرة الآب. الآن وقد ظهر بطلان اتهامهم، فإنه لم يقم بدوره باتهامهم ككاسري الناموس كله، فإنه ليس بمحتاج إلى ذلك، ولا جاء لهذا الغرض. إنه لم يتجسد ليدين الناس بل ليخلصهم. إنه يترك موسى نفسه الذي يثقون فيه، هو نفسه يتهمهم ويدينهم.

         لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني،

لأنه هو كتب عني“. [46]

جاءت أسفار موسى الخمسة مشحونة بالرموز والنبوات التي تشهد لشخص السيد المسيح وميلاده وخدمته وصلبه وقيامته كمخلص للعالم. فمن يصدق موسى يصدق السيد المسيح نفسه، لأن فيه تمت النبوات.

         فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي؟” [47]

إن كانوا لا يفتحون قلوبهم للنبوات ويدركون أعماق الناموس بل يتمسكون بالحرف بطريقة جافة، فكيف يمكنهم أن يتمتعوا بشخص السيد المسيح عصب الكتاب ومركزه؟ لديهم الحقل لكنهم لا يبحثون عن الكنز المخفي فيه. يقول القديس بولس أنه لا يزال البرقع موضوعًا على قلوبهم إلى اليوم حين يُقرأ موسى (٢ كو ٣: ١٥)، فلا يدركون غاية الكلمة الإلهية.

خُتم حديث السيد المسيح بصمت كامل من جهة المقاومين، إذ لم يكن لديهم ما يجيبون عليه. ويبدو أن كل ما قد فعلوه أنهم رفعوا الاتهام عنه في صمت، أما قلوبهم فازدادت تحجرًا، تترقب فرصة أخرى ليمسكوه بها.

 

من وحي يو 5

ليس لي إنسان!

 

   دخلتُ معه كما من الأروقة الخمسة.

   دخلت خلال كتاب موسى الخمسة،

   سقطت تحت الناموس الذي فضح ضعفي.

   اكتشفت إني مريض، محتاج إلى طبيب سماوي!

   ليس لي إنسان يلقيني في مياه الحب الإلهي فأُشفى!

   من يهبني الحب الحقيقي للَّه واخوتي؟

   من يسندني لأكمل ناموس الحب فأبرأ؟

   كأنك قد تركت الكل لتبحث عن ضعفي،

   فإني أول الخطاة!

   كنت بالحب تردد بلا توقف:

   أتريد أن تبرأ؟

   لغباوتي لم أسمع صوتك!

   أحببت ضجيج العالم، وانشغلت به.

   ليس لي أذنان تسمعان صوت الحب السماوي!

   صوتك حلو، لكن لثقل أذناي لم استمع إليه!

   سمعت صوتك الحلو،

  وتمتعت بوجهك الأبرع جمالاً من بني البشر!

   اعترفت لك بحاجتي لمن يشفيني.

   وفي طاعة لوصيتك حملت سريري، منطلقًا إلى بيتي!

   حملت سرير مرضي،

   أراه فأذكر ضعفي وموتي،

   بل أذكر قدرتك يا واهب الغفران والحياة.

   إني أسير، وأبقى أسير حتى أدخل بيتي.

   لن أستريح حتى أبلغ أحضان أبيك، بيتي الأبدي!

   تحوّل زماني إلى عيدٍ وراحة فائقة.

   عبرت بي إلى عربون الأبدية،

   لأتمتع بشركة الطبيعة الإلهية.

[1] Homilies on St. John, 36:1.

[2] Sermon on N.T. Lessons, 74:3.

[3] Sermon on N.T. Lessons, 75:2.

[4] Homilies on St. John, 36:1.

[5] Homilies on St. John, 36:1.

[6] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:3.

[7] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:1.

[8] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:2.

[9] Sermon on N.T. Lessons, 75:7-10.

[10] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:4-8.

[11] Of the Holy Spirit Book 1:7:88.

[12] Homilies on St. John, 36:2.  

[13] Homilies on St. John, 36:1.

[14] Sermon on N.T. Lessons, 75:3.

[15] مقال 10: 13.

[16] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:9.

[17] ك 3 ف 4.

[18] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:15.

[19] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:11.

[20] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 17:13.

[21] Against the Pelagians 3:1.

[22] Letter 13 to Rogation, the priest and to the other confessors: 1.

[23] Hom 38. PG 59:217-218.

[24] Homilies on St. John,38.

[25] Cf. Sermon on N.T. Lessons, 75:4-6.

[26] On the Holy Spirit, Book 2, jutr.(2).

[27] To Pammachius Against John of Jerusalem, 22.

[28] Letter 133:6.

[29] Homilies on St. John, 38:2.

[30] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:2.

[31] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:2

[32] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:3.

[33] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:6.

[34] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:8.

[35] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:9.

[36] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:13.

[37] Of the Christian Faith, Book, ch. 18 (224).

[38] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 19:3.

[39] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 18:8.

[40] Hom 38. PG 59:221-222.

[41] Of the Holy Spirit Book 2:12:134m136.

[42] Of the Holy Spirit Book 1:17:112.

[43] Of the Holy Spirit Book 2:8:69.

[44] مقال 11: 23.

[45] Sermon on N.T. Lessons, 76:9.

[46] Letter 69:1.

[47] Of the Christian Faith, 4:4:40-43.

[48] Hom 38. PG 59:221-222.

[49] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 21:6-7.

[50] Hom 39. PG 59:223.

[51] Sermon on N.T. Lessons, 62:4.

[52] Of the Christian Faith, 4:10:129.

[53] Homilies on St. John,39:1

[54] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 21:12.

[55] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 21:17

[56] Homilies on St. John,39:2.

[57] Homilies on St. John, 39:2.

[58] Hom 39. PG 59:222.

[59] Sermon on N.T. Lessons, 77:2.

[60] Of the Christian Faith, 5: 6: 68 – 69.

[61] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، 1993، عظة 1.

[62] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 19:8.

[63] Sermon on N.T. Lessons, 77:7-8.

[64] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 22:8.

[65] Homilies on St. John, 39:2.

[66] Of the Christian Faith, 4:10:132.

[67] Of the Holy Spirit Book 5:2:35.

[68] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 19:12.

[69] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 19:13.

[70] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 22:10.

[71] Homilies on St. John, 39:3.

[72] Of the Christian Faith, 63: 78 – 79.

[73] Sermon on N.T. Lessons, 77:10.

[74] Sermon on N.T. Lessons, 77:11-13.

[75] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 19:16.

[76] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 19:18.

[77] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 19:14.

[78] Homilies on St. John, 40.

[79] On the Christian Faith, Book 5:10:123.

[80] Sermon on N.T. Lessons, 78:1.

[81] Sermon on N.T. Lessons, 78:3.

[82] Letter 66 to Florentius: 2.

[83] Sermon on N.T. Lessons, 17:9.

[84] Against Vigiliantius, 8.

[85] Sermon on N.T. Lessons, 78:2.

[86] Sermon on N.T. Lessons, 3.

[87] مقال 6: 7.

[88] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 6.

[89] Of the Holy Spirit Book 1:13.

[90] Of the Holy Spirit Book 1:14.

[91] Of the Holy Spirit Book 1:15.

[92] Of the Holy Spirit Book 1:13:155-156.

[93] Exposition of the Orthodox Faith. Boo k 4, ch 36.

[94] Sermon on N.T. Lessons, 79:6.

[95] Letter 22:27.

تفسير انجيل يوحنا 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
Exit mobile version