Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير انجيل يوحنا 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الخامس عشر

حديث وداعي

الأصحاحان ١٥ و١٦ هما حديث وداعي تحدث به السيد مع تلاميذه في الليلة التي ألقي القبض عليه ليُسلم للموت. وها هو يهيئهم في هذا الحديث لمواجهة التجربة. ففي هذا الأصحاح حدثهم عن:

  1. الحاجة إلى الثبوت فيه ١ – ٨.
  2. محبتهم لبعضهم البعض ٩ – ١٧.
  3. مواجهة بغض العالم ١٨ – ٢٥.
  4. إرسال المعزي لهم ٢٦ – ٢٧.

1. الحاجة إلى الثبوت فيه

أنا الكرمة الحقيقية،

وأبي الكرام“. [1]

إذ تنازل من أجلنا استخدم أيضًا تشبيهات زمنية للتعرف على شخصه وعمله فينا، فيُدعى شمس البرّ المُشرق على الجالسين في الظلمة، وكوكب الصبح المنير، والكرمة.

ما كان يمكن لشخصٍ يهوديٍ أن يتوقع من المسيا أن يشبه نفسه بالكرمة، فقد ترقوا مجيئه ملكًا مخلصًا لهم، صاحب سلطان يرد لشعبه كرامتهم في العالم، ويهبهم سلطة ملوكية. أما التشبيه بالكرمة فيخص الشعب أو كنيسة الله.

لقد غرس الله جنة عدن ليتمتع آدم وبنوه بثمارها، ولا يحرم أحد إلا من ثمرة شجرة معرفة الخير والشر. وإذ طرد الإنسان نفسه من هذه الجنة ليعيش في أرض تنبت له شوكًا وحسكًا، قدم الله عبر الأجيال إمكانيات إلهية ليجعل من شعبه كرمة مثمرة تقدم عنبًا يُستخرج منه خمر روحي مفرح. وجاء العهد القديم مليء بالمراثي على هذه الكرمة التي لم تثمر إلا مرارة.

ففي مرثاة الكرمة التي أنشدها آساف جاء: “كرمة من مصر نقلت، طردت أممًا وغرستها؛ هيأت قدامها فأصلت أصولها، فملأت الأرض. غطى الجبال ظلها، وأغصانها أرز الله. مدت قضبانها إلى البحر، وإلى النهر فروعها. فلماذا هدمت جدرانها ليقطفها كل عابري الطريق، يفسدها الخنزير من الوعر، ويرعاها وحش البرية؟” (مز 8:80-13) هكذا يئن المرتل، لأن الكرمة التي غرستها يمين الرب حطمت الحصون التي أقامها الرب حولها ليصير ثمرها، لا للرب بل لعابري الطريق وخنزير الوعر ووحش البرية.

وقدم لنا الله نفسه مرثاة على كرمه في إشعياء حيث يقول: “والآن يا سكان أورشليم ورجال يهوذا أحكموا بيني وبين كرمي. ماذا يُصنع لكرمي وأنا لم أصنعه له؟ لماذا إذ انتظرت أن يصنع عنبًا، صنع عنبًا رديئًا؟ (إش 5: 3-4).

مرة أخرى في مرثاة على ذات الكرمة يقول الله: “وأنا قد غرستكِ كرمة سورق (من صنفٍ ممتازٍ)، زرع حق كلها، فكيف تحولت لي سروغ جفنة غربية؟” (إر 2: 21).

هذه هي مسرة الله أن يصير شعبه كله كرمة، تهب حياتها لمن حولها، تفرح قلب الله بثمر الروح، وتبهج السمائيين بعمل الله فيها. لكن ماذا حدث؟ يقول هوشع النبي:”إسرائيل جفنة ممتدة، يخرج ثمرا لنفسه، على حسب كثرة ثمره قد كثر المذابح، على حسب جودة أرضه أجاد الأنصاب. قد قسموا قلوبهم” (هو 10: 1-2). صار شعب الله ليس كرمة مقدسة لحساب ملكوت الله، بل جفنه تخرج مرارة، لحساب عبادة الأوثان ومملكة الظلمة. لم يعد بعد يوجد حل آخر سوى أن يصير المسيا نفسه كرمة حقيقية يتطعم فيها المؤمنون، فيأتون بثمرٍ روحيٍ سماويٍ فائقٍ.

السيد المسيح هو الكرمة المغروسة في التربة، إذ هو الكلمة الذي صار جسدًا، رآه إشعياء النبي بروح النبوة بلا شكل ولا جمال (إش ٥٣: ٢). ثمر الكرمة يفرح الله والناس (قض ٩: ١٣). ثمر الحكمة (السيد المسيح) خير من الذهب ومن الإبريز (أم ٨: ١٩). إنه كرمة يهوذا التي تغنيه بدم العنب (تك ٤٩: ١١)، وكرمة يوسف التي تجري فروعها على الحائط (تك ٤٩: ٢٢)، كرمة إسرائيل التي يجلس تحتها بسلام (١ مل ٤: ٢٥).

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أثناسيوس الرسولي

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح يدعو نفسه الكرمة ويدعونا نحن بالأغصان، والكرمة والأغصان من طبيعة واحدة. هكذا إذ صار إنسانًا حمل ناسوتنا، فصار كرمة ونحن الأغصان الثابتة فيه إذ حملنا فيه[1].

بقوله: “أنا هو” رأينا خلال هذا السفر أن السيد المسيح يتحدث على مستوى حضوره الذاتي، فقد حل بيننا كرمة حقيقية، الحق ذاته، نُغرس فيه ككنيسة العهد الجديد التي تتمتع بالحياة الأبدية، فتفيض بالخمر الروحي الذي يفرح السماء!

الآب ليس فقط صاحب الكرم، لكنه هو العامل فيه والمهتم به، إنه الكرّام، يهتم بكل فرعٍ من فروعها. هو الحافظ للثبوت الإلهي، حيث نثبت في الكرمة كأغصانٍ حية فيها، وثبوتنا في الكرمة، الابن الوحيد الجنس، نثبت في الآب، ونتحد به، لنستقر في أحضانه أبديًا، لن نُنزع منه.

الآب الذي جاء بشعبه من مصر قديمًا ليغرسهم كرمة في أرض الموعد، هو بعينه الذي أرسل ابنه من السماء ليغرسنا فيه أعضاء جسده، فروع كرمة سماوية حية. أقام كلمته المتجسد كرمة أو رأسًا، لنصير نحن فيه فروعًا أو أعضاء جسده. وكما يقول الرسول:” وإياه جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل” (أف 1: 22-23). “ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدة قوته، الذي عمله في المسيح” (أف 1: 19-20).

كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه،

وكل ما يأتي بثمر ينقيه، ليأتي بثمرٍ أكثر“. [2]

يُطلب من الكرمة عنبًا جيدًا (إش ٥: ٢)، ويطلب من المسيحي حياة مسيحية لائقة، بفكر مسيحي، وسلوك مسيحي، وقلب مسيحي محب لكل البشرية. ما نفع الكرمة بلا عنب؟ وما نفع المسيحي بلا حب؟!

مع النمو المستمر في الحياة المسيحية، ومع الثمر المتكاثر إلا أنه يوجد دائمًا ما لا يرغبه الله فينا فينقيه، فيقوم الله بالعمل ككرام يقلم أغصان الكرمة لكي تأتي بثمر أكثر. لقد قال السيد المسيح لتلاميذه عند غسل أقدامهم أنهم أطهار، لكنهم يحتاجون أن يمد يديه ليقوم بنفسه بغسل أقدامهم حتى تتنقى أو تطهر مما لحق بها أثناء سيرهم في العالم.

يرى البعض أنه يشير هنا إلى يهوذا الذي لم يحمل ثمرًا، فاستحق نزعه من الرسولية وحرمانه من الملكوت. إنه كشجرة التين التي جاء إليها السيد وهو في طريقه ولم يجد فيها ثمرًا، فلعنها وجفت للحال.

جاء الوعد لمن يأتي بثمر إنه ينقيه ليأتي بثمر أكثر أو يقلّمة، أي ينزع عنه كل ما هو زائد وما يعوق نموه وإثماره. هذا التقليم لا يحمل عنفًا أو قسوة من الكرام، بل هو اهتمام ورعاية لكي يتزايد الثمر. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إن التقليم هنا يشير إلى الاضطهادات التي تواجه المؤمنين، فهي لا تحطمهم، بل تزيدهم قوة وإثمارًا.

المؤمنون هم الأغصان الكثيرة الظاهرة التي ترتمي في اتجاهات مختلفة لكنها تجتمع معًا في المسيح، الجذر الخفي واهب الحياة والثمار، وهو مركز وحدتهم. المؤمنون كأغصان الكرمة الضعيفة التي لا تقدر أن تقوم بذاتها بدون الجذر. يقول الرب في حزقيال: “يا ابن آدم ماذا يكون عود الكرم فوق كل عودٍ أو فوق القضيب الذي من شجر الوعر؟” (حز ١٥: ٢).

القديس أغسطينوس

هنا يشير إلي طريقة الحياة، مظهرًا أنه بدون أعمال لا يمكن أن نكون فيه “كل ما يأتي بثمر ينقيه“. مع أن الجذر يتطلب عناية أعظم من الفروع حيث يُحفر له وينقب حوله، لكنه لم يقل شيئًا من هذا، إنما كل ما قاله يخص الأغصان. يظهر أن الأصل فيه الكفاية في ذاته، وأما التلاميذ فيحتاجون إلي عونٍ عظيمٍ من الكرام، مع أنهم ممتازون. لهذا يقول: “كل ما يأتي بثمر يقلمه“… هذا يمكن الجزم به أنه قيل بخصوص الاضطهادات التي تحل بهم. فإن “ينقيه” هو أن يقلمه فيجعل الغصن يحمل ثمرًا أفضل. لهذا يُظهر أن الاضطهادات تجعل الناس أكثر قوة[6].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 القديس هيلاري أسقف بواتييه

أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به“. [3]

ربما يشير هنا إلى حديثه أثناء تأسيس الإفخارستيا عن يهوذا مسلمه (يو ١٣: ٢١–٣٠) والتي على أعقابها خرج يهوذا وتمم صفقته مع رئيس الكهنة، فنزع نفسه كما عن جسم المسيح، وتم تقليم الأغصان (تلاميذ الرب) لهذا لاق القول عنهم: “أنتم الآن أنقياء” [٣]. جاءت كلمة المسيح تفصل بين الحق والباطل، وما هو ثمين وما هو مزيف. صار كل منهم نقيًا بكلمة الحق التي للمسيح (يو ١٧: ١٧)، بالإيمان به الذي يطهر قلوبهم وينقيها من كل شائبة (أع ١٥: ٩)، تنقوا من خميرة الفريسيين التي هي الرياء.

لعله أيضًا يشير هنا إلى ما ورد في سفر اللاويين (١٩: ٢٣–٢٤) عن الكروم التي في كنعان، فإنها تبقى إلى ثلاث سنوات غير نقية، وفي السنة الرابعة تصير نقية لمجد الله. هكذا بقي التلاميذ مع السيد المسيح ثلاث سنوات، والآن إذ يعبر بهم إلى صليبه وقيامته كبكرٍ مُقدم عنهم وباسمهم للآب يصيرون أنقياء في عيني الله. لقد عبر بالكرمة ثلاث سنوات، والآن سنة النعمة التي بها تصير ثمارها مقدسة للرب. السنة الأولى هي البشرية في جنة عدن، والثانية تحت الناموس الطبيعي إلى مجيء موسى النبي، والثالثة تحت الناموس الموسوي، والرابعة سنة النعمة الإلهية حيث جاء مخلص العالم. به صارت الثمار قُدس للرب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

اثبتوا فيّ، وأنا فيكم،

كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة،

كذلك أنتم أيضًا إن لم تثبتوا فيّ”. [4]

كثيرًا ما نتحدث عن الحياة الإيمانية إنها التصاق بربنا يسوع، لكن هذا في عيني السيد ليس كافيًا. إنه يطالبنا ويعدنا بما أعظم، أن نحيا فيه، ويسكن هو فينا. إيماننا الحي هو خبرة “في المسيح”، التعبير الذي يكرره الرسل في رسائلهم باستمرار.

كلمة “الثبوت” محببة جدًا لدى القديس يوحنا، وردت في العهد الجديد 112 مرة، منها 66 مرة في إنجيل معلمنا يوحنا ورسائله: 40 مرة في إنجيله و33 مرة في رسالته الأولى و3 مرات في رسالتيه الثانية والثالثة. فقد جاء السيد المسيح لكي يتمتع المؤمنون بالثبوت فيه، فتبقى علاقتهم به ليست وقتيه بل أبدية. في العهد القديم نقرأ عن عمل الروح في حياة الأنبياء والملوك وغيرهم في فترات وقتية. أما في العهد الجديد فلم يأتِ السيد، ولا أرسل روحه القدوس ليقدم إشراقات وقتية، كما ادعي بعض الفلاسفة، وإنما للثبوت الدائم فيه. فإن كان يقيم من مؤمنيه أغصانًا إنما ليؤكد موضعها فيه، فيثبتون فيه (1 يو 2: 6) وفي الحق (2 يو 2)، وفي الحياة (1 يو 3:15). هذه وصية إلهية، بل وعد إلهي يلزمنا أن نتمسك به.

كما أن الغصن يشارك طبيعة الشجرة وينتعش بعصارتها ويحيا بحياتها هكذا يليق بنا أن نكون شركاء في الطبيعة الإلهية ونسلك بحكمته، ونحمل قوته وإمكانياته، ونتطهر ببرّه وقداسته.

القديس يوحنا الذهبي الفم

أنا الكرمة، وأنتم الأغصان،

الذي يثبت فيّ، وأنا فيه، هذا يأتي بثمرٍ كثيرٍ،

لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا“. [5]

يقدم السيد المسيح نفسه سرّ حياة وثمار المؤمن فهو المخلص والصديق والطريق والباب والحياة والقيامة والمعزي والراعي الصالح.

يطالبنا أن نثبت فيه بالإيمان، فيثبت فينا بروحه القدوس وبتقديم جسده ودمه المبذولين طعامًا وشرابًا لنا. عليه نعتمد، وبه نثق، وبالشركة معه نحيا. هكذا نلتصق به، وهو بنا بسكناه فينا بروحه القدوس. نحن نعتمد عليه، لا كما يرتمي الفرع على حائط يسنده، وإنما كغصنٍ لا قيمة له بدون الجذر. هكذا يكشف مسيحنا عن قصده الإلهي من تجسده، بل ومن جهة الإنسان، وهو أن يتمتع المؤمن بالحياة الحقيقية من المنبع الإلهي بغير توقف.

الثبوت فيه أمر اختياري، لكنه لازم للمؤمن، بدونه لن يتمتع بثمرٍ روحيٍ، هو شرط قاطع؛ إما ثبوت فإثمار، وإلا فلا إثمار قط! ليس من حل وسط بين الأمرين.

ربما يعترض أحد على ذلك، قائلاً: إذ أنسب كل شيء للرب، فماذا يخصني أنا؟ لنفحص في كل موضع ما يخصنا حتى لا يمتزج مع ما يأتي من قبل الرب.

يقول: “ضع لي يا رب ناموسًا في طريق حقوقك” (مز 119: 33). ما يخصنا نحن “أطلبه في كل حين” (مز 119: 33).

مرة أخرى أطلب من الله: “أعطني حكـمة، فأفحص ناموسك” (مز 119: 34).

مرة ثالثة أطلب: “اهدني في سبيل وصاياك” (مز 119: 35)، ماذا يخصني؟ يشير إلى ما يخصني بالكلمات: “فإني إياها هويت” (مز 119: 35)…

لنطلب ما يأتينا من الله لكي نحصل عليه، ولنعده أيضًا بما يعتمد علينا نحن، ولا نتخلى عن وعدنا، حتى لا ننقض الميثاق الذي يربطنا بالرب.

هذا ما يقوله المرتل “أمل قلبي إلى شهـاداتك، لا إلى الطمع” (مز 119: 36)، عالمًا بأن الطمع هو رذيلة ذات نفوذ قوي تؤله مكاسب الأشرار، وقد دعاها الرسول: “عبادة الأوثان” (كو 3:5). هذا ونتعلم من هذه العبارة أن الطمع لا يتفق مع شهادات الرب.

العلامة أوريجينوس

إن كان أحد لا يثبت فيّ، يُطرح خارجًا كالغصن،

فيجف ويجمعونه، ويطرحونه في النار، فيحترق“. [6]

هنا يحذرنا من الرياء، إذ يوجد من لهم اسم المسيح دون الشركة معه والثبوت فيه، مثل هؤلاء يشبهون أغصانًا تثقل على الشجرة بلا نفع، ولا حاجة إليها. فإنهم إذ رذلوه عمليًا، يصيرون مرذولين، وإذ رفضوا الشركة معه، لا يتمتعون بالحياة الخفية فيه، ولا يستحقون إلاَّ الطرح في النار لأنهم جافون. النار هي أنسب مكان للخلاص من الأغصان الجافة.

لا تُقدر قيمة أي فرع بالخشب الذي فيه، لأنه إذا عُزل عن الأصل لا يُستخدم في شئ إلا للنار؛ أما ثبوته في الأصل، واتصاله الخفي فيه فيقيم منه فرعًا حيًا يزهر ويثمر، لأنه يحمل حياة. بهذا يصير موضع كرامة الكرام وشغله الشاغل ليأتي بمزيد من الثمار.

بحديثه هنا لا يرعبنا مسيحنا، الكرمة الحقيقية، إنما يوجه أنظارنا إلى عهده الأمين، فهو المتكفل بذلك حسب غني نعمته وسخائه الإلهي الفائق. هذا الذي “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان ” (يو 1: 3).

يطرح خارجًا” إذ يعزل الشخص نفسه عن الكرمة يخرج من دائرتها، فلا يحمل فيه حياة المسيح، ولا يشرق فيه نوره، ولا يتمتع بغنى نعمته وقوته، ولا يعمل روحه القدوس فيه. هذا هو حال المسيحي الذي بعد أن صار غصنًا في الكرمة يعتد بإمكانياته ومواهبه وقدراته وفكره الخاص، فيطرح نفسه خارجًا، ويصير فرعًا جافًا مبتورًا لا يصلح إلا للحريق.

يصف الرب نفسه في حزقيال حال الغصن الجاف بقوله: “كل إنسان من بيت إسرائيل أو من الغرباء المتغربين في إسرائيل إذا ارتد عني (عزل نفسه عن الكرمة)، وأصعد أصنامه (أي اعتد بذاته) إلي قلبه، ووضع معثرة إثمه تلقاء وجهه، ثم جاء إلي النبي ليسأله عني، فإني أنا الرب أجيبه بنفسي. وأجعل وجهي ضد ذلك الإنسان، وأجعله آية ومثلاً، وأستأصله من وسط شعبي” ) حز 14: 6-8).

وما هي النهاية؟ يُطرح في النار. لكن لا يكون هذا حال من يثبت فيه. عندئذ يشير إلى ما هو الذي يثبت قائلاً: “إن ثبت كلامي فيكم”. فإنه إذ يقول: “إن سألتم شيئًا باسمي أفعله لكم” يضيف: “إن كنتم تحبونني احفظوا وصاياي (يو 14: 15). هنا: “إن كنتم تثبتون في، ويثبت كلامي فيكم، تسألون لأنفسكم ما فيكون لكم“. قال هذا ليظهر من جانب أن الذين يتآمرون ضده يحترقون، ومن جانب آخر فإنه يظهر للآخرين أنهم لا يُقهرون، إذ يقول: “في هذا يتمجد أبي أنكم تأتون بثمرٍ كثيرٍ، وتصيرون تلاميذي”[9].

القديس يوحنا الذهبي الفم

منذ الآن تُزرع في فردوس غير منظور!

إنك تتسلم اسمًا جديدًا لم يكن لك من قبل، إذ كنت تدعى موعوظًا، أما الآن فمؤمنا!

من الآن فصاعدًا تُطعم في زيتونة روحية (رو 24:11)، إذ قُطعت من الزيتونة البرية، وطُعمت في الزيتونة الجيدة. نُزعت من الخطايا إلى البرّ، ومن الدنس إلى النقاوة.

ها أنت تصير شريكًا في الكرمة المقدسة (يو 1:15، 4، 5)! حسنًا فإن ثبت في الكرمة تنمو كغصنٍ مثمرٍ، وإن لم تثبت فيها تهلك بالنار.

إذن ليتك تحمل ثمرًا باستحقاق! فلا يسمح اللٌه أن يحل بك ما حل بشجرة التين العقيمة (مت 19:21)، إذ لم يأت بعد المسيح (للدينونة) ولا لعننا بسب عُقمنا ليته تكون لنا القدرة أن نقول: “أما أنا فمثل زيتونة مثمرة في بيت اللٌه، توكلت على رحمة اللٌه إلى الدهر والأبد” (راجع مز 8:52). وهنا لا نفهم الزيتونة بمعناها المادي، بل نفهمها ذهنيًا بكمال النور.

إن كان اللٌه يزرع ويسقى[10]، فإنه يليق بك أن تأتى بثمارٍ. اللٌه يهب نعمته، وأنت من جانبك تتقبلها وتحافظ عليها. لا تحتقر النعمة من أجل مجانيتها، بل اقبلها واكتنزها بورعٍ[11].

القديس كيرلس الأورشليمي

القديس أغسطينوس

إن ثبتم فيّ، وثبتت كلمتي فيكم،

تطلبون ما تريدون فيكون لكم“. [7]

يربط السيد المسيح بين الثبوت فيه والثبوت في كلمته، فإنه خلال إنجيله نتمتع بالوحدة الصادقة. هذا الإنجيل المترجم عمليًا بحفظ الوصية الإلهية وممارستها والفرح بها [١٠–١١].

الثبوت في كلمة المسيح هو لقاء دائم مع الكلمة، وتعرف على شخص السيد المسيح خلال كلمته، فنثبت فيه بكل قلبنا وفكرنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وإرادتنا. ليس ما يقدر أن يفصلنا عنه قط!

إنه يقدم لنا وعدًا ثابتًا أن كل ما نريده حسب مسرته يكون لنا خلال ثبوتنا فيه. وما هي طلبتنا سوى أن نصير أيقونته، ونحمل مشيئته فينا، ونلتقي به، ونتمتع بالشركة في مجده.

ثبوتنا في المسيح وفي كلمته، وبالتالي ثبوته فينا، يجعلنا بالحق رجال صلاة نعرف ماذا نطلب، وننعم في يقين ما نطلبه، لأنه حسب مسرة الله أبينا. وكأن سرّ قوة الصلاة هو ثبوتنا فيه وسكناه فينا.

إن ما لا يّقلم وإن ثبت في الأصل يحمل ثمرًا لكن ليس بالقدر اللائق، أما الذي لا يثبت في الأصل فلا يأتي بثمرٍ نهائيًا، لكن لا يزال التقليم يظهر أنه خاص بالابن والثبوت في الأصل خاص بالآب الذي ولد الأصل. ألا ترون أن كل الأشياء عامة سواء التقليم والإمكانية بالتمتع بما هو من الأصل؟[13]

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

بهذا يتمجد أبي، أن تأتوا بثمرٍ كثيرٍ، فتكونون تلاميذي“. [8]

هنا يكشف السيد المسيح عن ثمر الثبوت فيه العجيب ألا وهو:

* تمجيد الآب، حيث يُعلن حب الآب الفائق في حياتنا، ويتجلى بهاؤه على أعماقنا، ونمارس بالحق بنوتنا له، “حتى متى أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو”.

* الثمر المتزايد، حيث تتحقق كل طلباتنا في الصلاة.

* نتمتع بالتلمذةٍ له، فنصير رجال الله، نشهد له لنرد كل نفس إليه، لكي يصير الكل “أهل بيت الله” (أف 2: 19).

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

2. محبتهم لبعضهم البعض

كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا.

اثبتوا في محبتي“. [9]

يحدثنا السيد المسيح الذي هو الحب عينه، عن الحب من أربعة جوانب:

محبة الآب له [٩].

محبته هو للآب [١٠].

محبة المسيح لنا [٩].

محبتنا له وثبوتنا فيها [٩].

بهذا يكشف السيد المسيح أن أساس كل عمل إلهي هو “الحب” الذي بين الآب والابن، هذا يوضح أن محبة الله لنا لا تقوم على عاطفة مؤقتة، لكنها ثمرة حب إلهي سرمدي بين الآب والابن، وأخيرًا فإن المؤمنين يلتزمون من جانبهم أن يحملوا ثبوتًا دائمًا في الحب. فكما أنه لا يجد ما يوقف قط حب الله لنا يلزمنا أن نحمل ذات السمة في حبنا له. هذا ما يطلبه السيد المسيح لأجلنا: “ليكون فيهم الحب الذي أحببتنني به، وأكون أنا فيهم” (يو 17: 26).

يعلن حبه لهم ليؤكد لهم أنه وإن كان سيتركهم جسديًا سواء بموته أو فيما بعد بصعوده، لكنه يحبهم بلا حدود. يحبهم كما يحبه الآب، مع أنهم ليسوا أهلاً للحب كما يليق.

السيد المسيح هو الابن الوحيد المحبوب لدى الآب، في محبته له أعطاه كل شيء، لأنه واحد معه في ذات الجوهر، كما سلمه خلاص البشرية. فجاء عمل المسيح الخلاصي موضوع حب الآب وسروره. خلال الحب المتبادل بين الآب والابن يوصينا السيد المسيح أن نحبه ونثبت في محبته.

الثبوت في محبته يحمل معنى اختفائنا فيه، لنتمتع بحبه بلا انقطاع، ونشاركه سمة الحب، ونتعرف عمليًا على أعماق أسراره بممارستنا الحياة فيه.

أعلن الإنجيلي نفسه بوضوحٍ شديدٍ في رسالته: “نحن نحب الله لأنه أحبنا أولاً” (١ يو ٤: ١٩). لكنه حين يقول: “كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا” [٩] لا يشير إلى مساواة بين طبيعته وطبيعتنا كما هي بينه وبين الآب، بل يشير إلى النعمة التي للوسيط بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح (١ تي ٢: ٥)… فإن الآب بالحقيقة أيضًا يحبنا ولكن فيه. هنا يتمجد الآب أننا نحمل ثمرًا في الكرمة، أي في الابن، وبهذا نصير تلاميذه[17].

القديس أغسطينوس

إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي،

كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي،

وأثبت في محبته“. [10]

إذ حمل السيد المسيح رسالة الخلاص ثبت كابن الإنسان في محبة الآب خلال مثابرته في العمل. “لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته” (إش ٤٢: ٤). لقد حفظ وصية الآب، لا بتسجيلها فقط بالروح القدس خلال النبوات في العهد القديم، وإنما أيضًا بتسجيلها عمليًا حين أخلى ذاته، وأخذ صورة العبد، وصار في شبه الناس، ووضع نفسه حتى الموت موت الصليب (في 2: 5-8). حفظ الوصية بالطاعة الكاملة، وقبول الآلام بمسرة (عب 5: 8؛ 12: 2). حقق الوصية بالكامل حتى أعلن على الصليب: “قد أكمل” (يو 19: 30). ونحن خلال ثبوتنا فيه، وشركتنا في سماته نحفظ الوصية، لا عن ظهر قلب، ولا بالتأمل فيها ودراستها فحسب، وإنما بممارستها في سهرٍ دائمٍ وتدقيقٍ وشوقٍ حقيقيٍ داخليٍ لتتمتع بها. فالوصية ليست ثقيلة، وإنما تحمل في داخلها قوة التنفيذ بتهليل وبهجة، لأنها تخفي في داخلها “الكلمة” نفسه كقول القديس مرقس الناسك. الوصية الإلهية هي مفتاح السماء، بها نتمتع بمسيحنا الكنز السماوي.

علامة الثبوت في محبته حفظ وصاياه، كما يحفظ هو وصايا الآب ويتمم مشيئته. فإننا لن نتمتع بالحب بدون الطاعة والتسليم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يجلب الحب حفظ وصاياه، لكن هل حفظ وصاياه يجلب حبًا؟

من يقدر أن يشك في أن الحب هو الذي يسبق؟ فإن من ينقصه الحب ليس له الأساس السليم لحفظ الوصايا. بهذا فإن قوله: “إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي” لا يظهر مصدر الحب بل الوسيلة التي بها يُعلن الحب. وكأنه يقول: لا تظنوا أنكم تثبتون في محبتي إن كنتم لا تحفظون وصاياي. فإنه فقط إن حفظتم إياها تثبتون…

إذن لا يخدع أحد نفسه بالقول أنه يحبه إن كان لا يحفظ وصاياه. فإننا نحبه قدر قياس حفظنا لوصاياه، وكلما قل حفظنا لها يقل حبنا له[18].

القديس أغسطينوس

يؤكد القديس أغسطينوس أن محبة المسيح لنا قائمة وتطلب خلاصنا، وهي المبادرة والتي تحثنا على حفظ وصاياه؛ أما عدم حفظنا للوصية فيعلن عن نقص حبنا نحن له، وعدم ثبوتنا في محبته المبادرة[19].

كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم،

ويكمل فرحكم“. [11]

في حديثه الوداعي هنا يكرر تعبير “كلمتكم بهذا” سبع مرات، وهو ذات التعبير الذي يعلنه حزقيال النبي تكرارا: “أنا الرب تكلمت” (حز 5: 13). وكأن الذي يحدثهم هنا هو ذاك الذي تحدث إليهم خلال الأنبياء منذ قرون.

نتمتع بالوعد الإلهي كأغصان في الكرمة، نثبت في المسيح الكرمة الحقيقية، ونثبت في كلمته، وفي محبته، وأيضًا في فرحه. لقد كمل فرح القديس يوحنا المعمدان حين رأى العريس قادمًا وسمع صوته، حيث يلتقي بعروسه خلال الصليب (يو3: 29). فرح المسيح أن يبذل حياته من أجل عروسه، ويقتنيها عذراء عفيفة مشتراة بالدم الثمين. وها هو يدعونا للتمتع بفرحه، حيث نرى في خلاصنا وخلاص اخوتنا كمال الفرح السماوي.

في العهد القديم ارتبط الخلاص بالفرح، فكان داود المرتل يردد: “رد لي بهجة خلاصي” (مز 51). ويتطلع إشعياء النبي إلي مفدي الرب الراجعين إليه، إذ “يأتون إلي صهيون، بترنمٍ وفرحٍ أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانها، ويهرب الحزن والتنهد” (إش 35: 10). يرى الطبيعة ذاتها: الجبال والآكام وكل شجر الحقل تشيد ترنمًا وتصفق بالأيادي (إش 55: 12). وفي العهد الجديد كلما اجتمعت الكنيسة في سرّ الإفخارستيا يتناولون الطعام بابتهاج (أع 2: 46).

إذ كان في طريقه للصليب بسرور يوصي تلاميذه أن يثبتوا في فرحه وهم يشاركونه الصليب، بهذا يكمل فرحهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

علاوة على هذا، فقد فرح منذ الأزل عندما اختارنا قبل تأسيس العالم (أف ١: ٤). ولا نستطيع القول بأن فرحه لم يكن كاملاً، لأن فرح الله لم يكن في أي وقت غير كاملٍ.

لكن هذا الفرح لم يكن فينا، لأنه يُمكن أن يكون هذا بالنسبة لنا نحن الذين لم نكن موجودين. بل وحتى عندما بدأ وجودنا لم يبدأ فينا. لكن (هذا الفرح) كان فيه دائمًا، هذا الذي في الحق غير القابل للسقوط الذي لسابق معرفته فرح بأننا سنكون له، بهذا كان له فرح فينا، هذا الذي كان كاملاً، إذ فرح بسابق معرفته وسابق تعيينه لنا[20].

القديس أغسطينوس

هذه هي وصيتي:

أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم“. [12]

وصية السيد المسيح الأخيرة والأساسية في حديثه الوداعي هي “المحبة”، وقد ربط خلال هذا الحديث بين الوصية والحب. إن أدركنا مفهوم المحبة في حياتنا المسيحية، فإننا لا نحتاج إلى وصية أخرى. لهذا يقول القديس أغسطينوس: “حب الله وأفعل ما شئت”. حقا لقد أساء البعض فهم هذه العبارة، واستخدموها كتصريح للحياة المتسيبة، لكن من يدرك “الحب” لا يقدر إلا أن يسلك في المسيح يسوع حسب فكره الإلهي. لنحب ذات حب المسيح للخطاة، لكي يصيروا أيقونته الحية، الخليقة الجديدة في المسيح يسوع.

وكما يقول الرسول بولس: “من أحب غيره فقد أكمل الناموس” (رو 13: 8)، “المحبة هي رباط الكمال” (كو 3: 14). بل والسيد المسيح نفسه إذ تحدث عن وصيتي المحبة لله والمحبة للقريب يقول: “بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء” (مت 22 :40).

أدرك القديس يوحنا الحبيب أن الحب هو عصب الوصية. وكما يقول القديس چيروم أنه في شيخوخته المتأخرة كان يُحمل القديس يوحنا إلى اجتماعات المؤمنين العامة، وكان حديثه دومًا: “يا أولادي حبوا بعضكم بعضًا”. ولما سُئل عن استمراره على ذلك، أجاب: “لأن هذه هي وصية الرب، وفي حفظها وحدها كفاية[23]“.

إنه لم يذكر حبًا على بسيط حاله، لكنه أوضح طبيعته فقال: “كما أحببتكم“…

مادام الحب أمرًا قديرًا لا يُقاوم، وليس كلمة مجردة، فلنعلنه بأعمالنا.

لقد صالحنا ونحن أعداء؛ فإذ صرنا أحباءه لنثبت هكذا في محبته.

لقد قاد الطريق، فعلى الأقل نتبعه.

أحبنا لا لمصلحة خاصة به (إذ هو لا يحتاج إلي شيء)، فعلي الأقل نحبه من أجل نفعنا.

أحبنا ونحن أعداؤه، فلنحبه على الأقل بكونه صديقنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

 البابا غريغوريوس (الكبير)

لنتأمل كلمات الرسول: “المحبة هي كمال الناموس” (رو ١٣: ١٠). هكذا حيث يوجد الحب فماذا ينقص؟ وحيث لا يوجد الحب أي شيء يمكن أن يكون نافعًا؟

الشيطان يؤمن (يع ٢: ١٩)، لكنه لا يحب. ليس أحد يحب إن لم يكن مؤمنًا…

من لهم الحب المتبادل يكون لهم الله نفسه هدفًا للحب، هؤلاء بالحق يحبون بعضهم بعضًا، وأيضا غاية محبتهم لبعضهم البعض هي حبهم لله. لا يوجد مثل هذا الحب في كل البشر، إذ قليلون من لهم هذا الدافع لحبهم الواحد للآخر، وهو أن يصير الله هو الكل في الكل (١ كو ١٥: ٢٨)[25].

القديس أغسطينوس

ليس لأحد حب أعظم من هذا،

أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه“. [13]

جاءت هذه الكلمات لا كعظة للدراسة، لكنها وقد قدمت في ليلة صلبه، يعلن ما يكرز به عمليًا، موجهًا أنظارهم نحو الصليب كتجلٍ عملي للحب الإلهي نحو كل بشر، نحو أحبائه، ليس الأبرار، بل الخطاة. وكما يقول الرسول، “ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو 5: 10). لقد مات مسيحنا حتى من أجل مضطهديه وهو علي الصليب، أو خلال جسده “الكنيسة”.

لا يستطيع أحد أن يحب صديقه أكثر من هذا، إذ يضع نفسه لأجله، يضع كل ما لديه. دفعت الصداقة العظيمة التي ربطت بين داود وناثان الأخير أن يُسلم تاج الملك له، لكنه لم يكن قادرًا أن يضع حياته من أجله. أما السيد المسيح فوضع حياته ليس من أجل أحبائه بل ومن أجل أعدائه، طالبًا المغفرة لصالبيه. أعظم برهان على محبته لهم هو بذل ذاته من أجلهم، الأمر الذي لا يفعله إنسان ما على ذات المستوى، لأنه وهو الخالق بذل ذاته عن خليقته المحبوبة لديه جدًا. بذل ذاته عن البشرية وهي معادية له (رو ٥: ٨، ١٠).

القديس أغسطينوس

يوجد أمر ما يلزمنا أن نفعله في أزمنة السلام في الكنيسة لكي نوضح إن كنا أقوياء بما فيه الكفاية حتى أننا نموت من أجل حبنا في أوقات الاضطهاد. يقول يوحنا في موضع آخر: “من له وسائل الحياة في العالم ويرى أخاه في احتياج ويغلق عنه حنوه في داخله، كيف يثبت محبة الله فيه” (1 يو3: 17)؟ ويقول يوحنا المعمدان: “من له ثوبان ليعطِ من ليس له” (لو 3: 11). فهل الذي لا يعطي ثوبه يسلم حياته؟

تعهد فضيلة الحب في أزمنة الهدوء بإظهار الرحمة، عندئذ لا تُقهر في أزمنة الاضطراب.

تعلم أولاً أن تسلم ممتلكاتك لله القدير، وعندئذ تسلم نفسك[27].

 البابا غريغوريوس (الكبير)

القديس أغسطينوس

أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به“. [14]

دُعي إبراهيم خليل الله أو حبيبيه (إش 41: 8؛ يع 2: 23)، إذ آمن بالله في طاعة له، فحسب له برًا. ودُعي موسى صديقًا لله (خر 33: 11)، هذا ما يود أن يتمتع به كل مؤمن خلال الإيمان الحي.

الله نفسه يجعلنا أصدقاء عوض كوننا عبيدًا، إذ بنفسه يقول: “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أمرتكم به”. أعطانا مثالاً للصداقة كي نتبعه.

يلزمنا أن نحقق رغبة الصديق (الرب يسوع)، ونكشف له أسرارنا التي نحتفظ بها في قلوبنا، ولا نتجاهل ثقته. لنريه قلوبنا فيفتح قلبه لنا. لذلك يقول: “قد سميتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” [١٥]. إذن الصديق إن كان صديقًا حقًا لا يخفي شيئًا، بل يسكب نفسه، كما يسكب ربنا يسوع أسرار أبيه.

هكذا من يفعل إرادة الله هو صديقه، ويتكرم بهذا الاسم. هذا الذي له فكر واحد معه هو أيضًا صديقه، إذ توجد وحدة فكر بين الأصدقاء. وليس أحد مكروه أكثر من إنسان يسيء إلى الصداقة[29].

القديس أمبروسيوس

لا أعود أسميكم عبيدًا،

لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده،

لكني قد سميتكم أحباء،

لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي“. [15]

لم يقف الأمر عند بذل ذاته عنهم، وإنما أقام عهدًا معهم ليصيروا أحباء، يتمتعون بمعرفة أسراره، وليسوا عبيدًا.

يحمل لسانه ناموس اللطف والحنو، فيدعوهم هنا أحباء، وبعد قيامته يقول: “اذهبوا إلى اخوتي” (يو ٢٠: ١٧)، كما يقول لهم: “يا غلمان (أبنائي المحبوبين) هل عندكم طعامًا؟” (يو ٢١: ٥). أما هم فمن جانبهم يدعون أنفسهم عبيدًا له كما في ١ بطرس ١: ١. كلما قدم لنا كرامة يلزمنا نحن من جانبنا أن نكرمه بالأكثر. كلما ارتفعنا في عينيه، نشعر بالأكثر بانسحاقنا أمامه.

ليس من وجه للمقارنة بين العبد والصديق، فقد يحب السيد عبده ويترفق به، لكنه لا يسمح له بمشاركته أسراره الخاصة. العبد يتقبل الأوامر الصادرة من سيده، وليس له حق الحوار بل يلتزم بالتنفيذ، لا يعرف ما وراء هذه الأوامر من هدف في ذهن سيده، له أن يطيع طاعة عمياء.

كأحباء لهم لم يقدم لهم الوصايا من عرشه، بل نزل إليهم ليتحدث معهم، فيدركوا أنهم في قلبه، لهم تقديرهم الخاص في أعماقه. بنزوله إليهم أنهى عهد العبيد، بانتهاء الحرف القاتل للناموس، وجاء بنا إلى عهد الحب الفائق حيث ننعم بالبنوة لله خلال دم الابن الوحيد الجنس، وذلك بعمل روحه القدوس في مياه المعمودية. هكذا رفعنا وجدد خلقتنا لنصير أيقونته، لنا حق التمتع بمعرفة الآب، وإدراك أسراره الإلهية.

فالذين أدركوا ما قد آلوا إليه في المسيح يسوع، صرخوا قائلين: “لم نأخذ روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذنا روح التبني الذي به نصرخ يا آبا الآب” (راجع رو 15:8).

فإن فشل الإنسان في إظهار استعدادٍ كاملٍ وغيرةٍ للقيام (من الخطية)، فليعلم مثل هذا أن مجيء ربنا ومخلصنا يكون دينونة عليه. لذلك قال سمعان (الشيخ) منذ البداية: “إن هذا وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوم” (لو 34:2). قال الرسول من بعده: “لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 16:2)[30].

القديس أنطونيوس الكبير

ماذا يعني هذا؟… إنه يوجد نوعان من الخوف، يُنتجان نوعين من الخائفين، هكذا يوجد نوعان من الخدمة، تنتجان نوعين من الخدم. يوجد خوف يطرده الحب الكامل (١ يو ٤: ٢٨) ويوجد خوف آخر طاهر يبقى إلى الأبد (مز ١٩: ٩). الخوف الذي ليس فيه حب، يشير إليه الرسول عندما يقول: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف” (رو ٨: ١٥). لكنه أشار إلى الخوف الطاهر عندما قال: “لا تستكبر بل خف” (رو ١١: ٢٠).

في ذلك الخوف الذي يطرده الحب خارجًا توجد أيضًا الخدمة المرتبطة به، فإن الرسول يربط الاثنين معًا، أي الخدمة والخوف، إذ يقول: “إذ لم تأخذوا روح العبودية (الخدمة) للخوف”. مثل هذا الخادم يرتبط بهذا النوع من الخدمة هذا الذي كان أمام عيني الرب عندما قال: “لا أعود أسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمله سيده“. بالتأكيد ليس العبد المتسم بالخوف الطاهر، الذي يُقال عنه: “أيها العبد الصالح، أدخل إلى فرح سيدك”، وإنما العبد الذي يتسم بالخوف الذي يطرده الحب خارجًا، والذي قيل عنه في موضع آخر: “العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أما الابن فيبقى إلى الأبد” (يو ٨ : ٣٥).

إذن حيث أعطانا سلطانًا أن نكون أبناء الله (يو ١: ١٢)، ليتنا لا نكون عبيدًا بل أبناء. فبطريقٍ حقيقيٍ عجيبٍ لا يوصف يكون لنا نحن العبيد السلطان ألا نكون عبيدًا.

حقًا إننا عبيد بالخوف الطاهر الذي يميز العبد الذي يدخل إلى فرح سيده، ولسنا عبيدًا بالخوف الذي يُطرد والذي يخص من لا يسكن في البيت إلى الأبد.

لنضع في ذهننا أن الرب هو الذي جعلنا قادرين أن نخدم ليس كعبيدٍ لا يعرفون ما يعمل سيدهم، ولا كمن عندما يصنع عملاً صالحًا يتعالى، كما لو كان قد فعله بنفسه وليس بربه، وهكذا يتمجد لا في الرب بل في ذاته، خادعًا بذلك نفسه إذ يفتخر كمن لم ينل شيئًا (١ كو ٤: ٧).

ليتنا أيها الأحباء لكي ما نصير أحباء الرب نعلم ما يعمله سيدنا. فإنه هو الذي جعلنا ليس فقط بشرًا بل وأبرارًا، ليس نحن الذين جعلنا أنفسنا هكذا[31].

هذا الحب في الوقت الحاضر يكمن في شوقنا وليس في كمال تمتعنا به، وكل ما نسأله خلال شوقنا هذا باسم الابن الوحيد يهبنا إياه الآب. أما ما نطلبه، ولا يخص خلاصنا فلا نظن أننا نطلبه باسم المخلص. فإننا نطلب باسم المخلص ما هو بالحقيقة يخص طريق خلاصنا[34].

القديس أغسطينوس

ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم،

وأقمتكم لتذهبوا، وتأتوا بثمرٍ،

ويدوم ثمركم،

لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي“. [16]

اختارهم ليس على أساس كفاءتهم أو حكمتهم أو صلاحهم، بل من قبيل حبه ونعمته المجانية. الله هو صاحب المبادرة، اختارهم قبل أن يختاروه هم أو يأخذوا قرارًا بهذا. وكما جاء في سفر التثنية: “إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض، ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق بكم الرب، واختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب، بل من محبة الرب إياكم…” (تث ٧: ٦–٨).

إذ اختارهم “أقامهم” hetheka hymas أي وضعهم في مركز الخدمة (١ تي ١: ١٢)، متوجًا هامتهم بهذه الكرامة، وواهبًا إياهم ثقته فيهم كسفراء عنه يتسلمون شئون مملكته في هذا العالم. وهم في هذا يلتزمون بالعمل “لتذهبوا وتأتوا بثمرٍ ويدوم ثمركم“. دعاهم ليحملوا النير في كل موضعٍ، يتنقلون من موضعٍ إلى آخر في العالم كله، لا يعرفون الاستكانة والراحة، بل العمل والجهاد والبذل، لكي يكون لهم ثمر كما في سائر الأمم (رو ١: ١٣). يرى الأب ثيؤدور أسقف المصيصة أن الكلمة اليونانية تعني “زرعتكم”، فبكونه الكرمة غرسهم كأغصان فيه.

سرّ نجاح الخدمة أن السيد المسيح هو الذي اختار التلاميذ والرسل وكان عونًا لهم يعمل فيهم وبهم. لذا لاق بمن يخدم في كرم الرب الآتي:

  1. أن يغرسه الرب نفسه بيمينه أو يختاره للخدمة.
  2. أن يثبت في الكرمة الحقيقية حتى يثمر ولا يجف.
  3. أن يدرك أنه مدعو للعمل لا للخمول، فإن كان السيد المسيح قد بادر بالحب وباختيار تلاميذه، يلتزم المختارون أن يذهبوا ليعلنوا كمال حب الله للبشرية. مع مطالبتهم بالوحدة يسألهم ألا يلتصقوا ببعضهم بعضًا، بل ينطلقوا للكرازة، يشتركوا في رحلة الكنيسة عبر العالم ليتمتع بالمخلص (مر 16: 15).
  4. أن ينتظر الثمر بطول أناة ولا ييأس، فإن الذي اختاره هو متكفل بتقديم الثمر الدائم.
  5. أن ينسب كل ثمرٍ أو نجاح للرب.

ويدوم ثمركم” ليس كسائر الفلاسفة الذين تلألأت فلسفتهم إلى حين ثم صارت ماضيًا قد عبر، وإنما ثمرهم هو في كنيسة الله التي لا تقوى عليها قوات الجحيم. يتسم المؤمن المحب بالاستمرارية في كل شيء، استمرارية في التمتع بكلمة الله [7]، واستمرارية في محبة المسيح [٩–١٠]، واستمرارية في فرح المسيح [١١]، واستمرارية في الإثمار [١٦].

علامة حبه ليس فقط أنه اختارهم وأقامهم للعمل وجعل ثمرهم مستمرًا، وإنما وهبهم أيضًا نعمة لدى الآب، فكل ما يطلبونه باسمه منه ينالونه.

القديس أمبروسيوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

 لماذا لم ينل ما سأله؟

اسم الابن هو يسوع الذي يعني “الخلاص”. من يسأل باسم المخلص يطلب ما يخص خلاصه الواقعي. فإن كان ما يسأله ليس لصالحه فإنه لا يطلب من الآب باسم يسوع. لهذا يقول الرب لرسله عندما كانوا لا يزالوا ضعفاء: “إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمى” (يو 16: 24). هذا هو السبب الذي لأجله لم يُسمع لبولس. لو أنه تحرر من التجربة لما كان يوجد ما يعينه على خلاصه…

لاحظوا طلباتكم. هل تسألون من أجل مباهج الخلاص؟ “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تزاد لكم” (مت 6: 33)[37].

البابا غريغوريوس (الكبير)

بهذا أوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضًا“. [17]

يمزج السيد المسيح الحب لله بالحب للاخوة [١٢، ١٧]، مقدمًا نفسه مثالاً لنا إذ أحبنا وبذل ذاته عنا [١٣]، ودعانا أحباء [١4]، وكشف لنا أسراره [١5]، واختـارنا [١6]، وأقامنا لخدمته (١٦)، وأعطانا نعمة لكي تقبل طلباتنا باسمه لدى الآب… هذا كله نرده له بحبنا لاخوتنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

3. مواجهة بغض العالم

إن كان العالم يبغضكم، فإعلموا أنه قد أبغضني قبلكم“. [18]

البغض هو سمة إبليس ودعامة مملكته، كما أن الحب هو سمة مملكة المسيح. فلا عجب إن كان محبو العالم يبغضون مملكة المسيح بلا سبب، فإن هذه هي طبيعتهم. لو أن الكراهية تقوم بسبب شر ارتكبوه لما كانت لهم تعزية، أما إن قامت لأن العالم لا يطيق مسيحهم، فهذه الكراهية هي مجد لا يستحقه المؤمن، لأنه يحمل شركة آلام السيد المسيح.

دُعي الأشرار “العالم“، لأنهم محبون له فيحملون اسمه، ولأنهم يمثلون الغالبية العظمى من سكان العالم. لا نعجب إن كان العالم لا يطيق أولئك الذين يحبهم الرب ويباركهم. فقد حدثت عداوة بين العالم الشرير وأولاد الله منذ زحفت الحية إلى حواء لكي تغريها، فقد قتل قايين هابيل لأن أعماله كانت بارة، وأبغض عيسو يعقوب لأنه نال البركة، وحسد اخوة يوسف أخاهم لأن أباه قد أحبه، وأبغض شاول داود لأن الرب كان معه يُنجح طريقه… هكذا في كل هذه الأمثلة لم يحمل القديسون كراهية، ولا صنعوا شرًا يستحقون عليه البغض.

إذ لحقت المتاعب القديس جيروم كتب إلى أسيلا Asella عند تركه روما متجهًا إلى الشرق: [أكتب إليك في عجالة أيتها السيدة العزيزة أسيلا، فإنني ذاهب إلى السفينة مبتلعًا بالحزن والدموع، إلا أنني أشكر إلهي إني حُسبت مستحقًا لبغض العالم[39].]

ضد المسيح قادم، لكن المسيح يغلب.

العدو يقترب ويثور، ولكن الرب الذي يبرئ آلامنا وجراحاتنا يتبعنا.

المقاوم في غضب يهدد، لكنه يوجد الذي يحررنا من يديه[40].

الشهيد كبريانوس

القديس أغسطينوس

لو كنتم من العالم،

لكان العالم يحب خاصته،

ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم،

لذلك يبغضكم العالم“. [19]

يُحسب المؤمنون أنهم ليسوا من العالم، ليس بسبب حكمتهم وفضائلهم، ولا لأنهم من طبيعة تختلف عن بقية البشر، وإنما لأنهم قبلوا دعوة الله لهم وصاروا مختارين منه، أفرزهم للعمل في ملكوته. لهذا يبغضهم العالم. حياة المسيحي الحقيقي تدين العالم الشرير في صمت، لذا لا يجد العالم له طريقًا سوى الانتقام ممن لا يشاركه شره ويهدئ من ضميره.

هنا يشير إلى المزمور ٦٩: “أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب” (مز ٦٩: ٤)، وقد جاء المزمور كله يتنبأ عن شخص السيد المسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إنه يبغض ما هو عليه حسبما خلقه صلاح الله، ويحب ما قد جلبه هو بإرادته الحرة… لقد مُنعنا من أن نحب فيه ما هو يحبه، وأُمرنا أن نحب فيه ما هو يبغضه، أي عمل الله والتعزيات المتنوعة لصلاحه.

مُنعنا من أن نحب الرذيلة التي فيه، وأُوصينا أن نحب الطبيعة، أما العالم فيحب الرذيلة في ذاتها ويكره الطبيعة.

وبهذا نحن نحب ونكره بطريقة سليمة، بينما العالم يحب ويكره ما فيه بطريقة شريرة[42].

القديس أغسطينوس

“أذكروا الكلام الذي قلته لكم:

ليس عبد أعظم من سيده.

إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم.

وإن كانوا قد حفظوا كلامي، فسيحفظون كلامكم“. [20]

حقا لقد دعاهم السيد أحباء، لكن يليق بهم أن ينظروا إلى أنفسهم أنهم عبيد لله. لم يرد أن يبدأ حديثه بما سيعانوه من اضطهاد، إنما بدأ بما سيحتمله هو من متاعب. وضع نفسه في مقدمة المعركة التي بين النور والظلمة، وأن متاعبهم ليست إلا شركة في آلام السيد المسيح. وضع السيد تمييزًا فاصلاً بين المؤمنين المقدسين في حقه وبين الأشرار السالكين في ظلمة الجهالة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الشهيد كبريانوس

لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي،

لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني“. [21]

أحد الأسباب الرئيسية لبغض العالم للمؤمنين هو الجهل وعدم المعرفة، فإنهم لا يعرفون الآب الذي أرسل السيد المسيح. خلال هذه الجهالة يأكلون شعب الله. وكما يقول المرتل: “قال الجاهل في قلبه ليس إله… ألم يعلم كل فاعلي الإثم الذين يأكلون شعبي كما يأكلون الخبز والرب لم يدعوا” (مز ١٤: ١، ٤).

لم يعرفوا الآب ولا عرفوا الابن المرُسل منه. “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (١ كو ٢: ٨).

لا نتعجب من أن السيد الذي يقول: لست أدعوكم عبيدًا” يعود فيقول: “ليس العبد أعظم من سيده“، فهو لا يريد أن يدعونا عبيدًا، وفي نفس الوقت يدعونا “عبيدًا” وأننا لسنا أفضل منه الذي هو سيدنا. وكما يقول القديس أغسطينوس أنه واضح أنه يقصد في العبارة الأولى العبد الذي لا يسكن في البيت إلى الأبد، المتسم بالخوف الذي يطرده الحب خارجًا[44].

يعلق القديس أغسطينوس على تعبير “من أجل اسمي” الذي يعني “من أجل البرّ”، لأن مسيحنا هو برّنا. فالأشرار يضطهدون الأبرار في المسيح يسوع ليس من أجل جريمة ارتكبوها، بل من أجل البرّ. وأحيانًا يمارس الأبرار تأديبات قاسية ضد الأشرار، كما يفعل القضاة ضد المجرمين، أو كما يمارس رجال الشرطة ذلك ضد المقاومين للأمن، فإن كان القاضي أو رجل الشرطة مقدسًا في الرب فلا يُدان على معاقبته للشرير، لأن الشرير لا يحتمل العقوبة من أجل البرّ بل من أجل شره. كما يقول أيضًا إن الأشرار أحيانًا يضطهدون أشرارًا. قد يُسأل إن اضطهد الأشرار أشرارًا كما يفعل الأمراء الأشرار والقضاة الأشرار فإنهم وهم يضطهدون الأبرار بالتأكيد يعاقبون أيضًا القتلة والزناة وكل طبقات فاعلي الأشرار، هؤلاء الذين يمارسون ما هو ضد القوانين العامة، فكيف نفهم كلمات الرب: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته” [١٩]؟ فإن هؤلاء الذين يُعاقبون بسبب الجرائم السابق ذكرها إنما يُعاقبون لأنهم يسببون ضررًا للعالم نفسه. غير أن ذاك العالم موجود في الذين يعاقبون هذه الجرائم وفي الذين يحبون هذه الجرائم. لذلك فإن العالم إذ يوجد في الأشرار وغير الصالحين يكره الذين له بخصوص هذه الفئة من الناس المجرمين، ويحب الأشرار الذين يقدمون نفعًا له[45].

فإن كل هذا يفعلونه بكم، ليس من أجلكم بل من أجلي. لهذا فإن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأمور بسبب اسمي بؤسهم أعظم. كما يطوَّب الذين يحتملون هذه الأمور من أجلها. فإنه هو نفسه يقول في موضع آخر: “طوبى للذين يُضطهدون من أجل البرّ” (مت ٥: ١٠). إنهم يحتملونه من أجل اسمي، لأنه كما يعلمنا الرسول: “صار من الله لنا حكمة وبرًا وقداسة وفداءً، كما هو مكتوب: “من يفتخر فليفتخر بالرب” (١ كو ١: ٣٠–٣١). فإن الأشرار يصنعون مثل هذه الأمور من أجل الشر، وليس من أجل البرّ، لذلك فكلا الطرفين لهما بؤس متشابه، الذين يمارسون الاضطهاد والذين يُضطهدون. أيضًا الصالحون يمارسون هذه الأمور (لتأديب) الأشرار، ليفعل الأولون ذلك من أجل البرّ، بينما الآخرون يعانون منه ليس من أجل البرّ[46].

القديس أغسطينوس

لو لم أكن قد جئت وكلمتهم، لم تكن لهم خطية،

وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم“. [22]

لقد تحققت الوعود الإلهية، وجاء من كان يتطلع إبراهيم إلى يومه فرآه وتهلل، كما اشتهى بقية الآباء والأنبياء مجيئه. بهذا ليس لهم عذر في رفضهم له. حملوا كراهية سبق فتنبأ عنها الكتاب المقدس (مز 35: 19؛ 69: 4؛ 109: 3).

القديس أغسطينوس

الذي يبغضني يبغض أبي أيضًا“. [23]

يتساءل القديس أغسطينوس كيف يُمكن لليهود وهم لا يعرفون الآب الذي أرسل الابن الوحيد الجنس [٢١] أن يبغضوه [٢٣]؟ ويجيب في شيء من الإطالة بأن الإنسان كثيرًا ما يحب آخر أو يبغضه دون أن يراه أو يتعرف عليه، وإنما حسبما يتصوره عنه، أو ما يسمعه عنه. هكذا اليهود ابغضوا الآب وهم لا يعرفونه، وإنما حسبما تصوروا عنه. كما يقول القديس أغسطينوس: [كيف يمكن لهم أن يحبوا أب الحق هؤلاء الذين امتلأوا بالكراهية نحو الحق نفسه؟ فإنهم لا يرغبون في أن يُدان سلوكهم، بينما عمل الحق هو أن يدين مثل هذا السلوك. وهكذا ابغضوا الحق قدر ما أبغضوا معاقبتهم التي يسقطها الحق على مثل هؤلاء. وإذ لم يعرفوا أنه هو الحق الذي يدين من هم مثلهم، لذلك فقد كرهوا من لا يعرفوه، وإذ يبغضوه، فبالتأكيد لن يستطيعوا إلاَّ أن يبغضوا ذاك الذي ولد الحق. وهكذا إذ لم يعرفوا الحق الذي بحكمه يدانون، والمولود من الله الآب، فبالتأكيد هم أيضًا لم يعرفوا الآب ويبغضونه. يا لهم من أناس تعساء! فإنهم إذ يرغبون في أن يكونوا أشرارًا يجحدون ما هو حق إذ يدينهم[50].]

لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري، لم تكن لهم خطية،

وأما الآن فقد رأوا، وأبغضوني أنا وأبي“. [24]

لقد صنع السيد المسيح بينهم أعمالاً عجيبة وفريدة، ليس فقط من جهة السلطان، وإنما أيضًا من جهة الحنو والحب والرحمة. ومع هذا أبغضوه هو والآب الذي أرسله، فما العجب إن أبغضوا الذين صاروا مؤمنين به وتلاميذ له.

القديس أغسطينوس

رأوا بعيونهم المملوءة حسدًا وكراهية فكرهوه، أما القديس يوحنا فقد رآه وتمتع بالشركة معه، إذ يقول: “الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة… الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب، ومع ابنه يسوع المسيح” (1 يو :1 –3).

يقول القديس أغسطينوس أن كثير من الأنبياء قاموا بأعمال لم يقم بها غيرهم، لكنه ليس من وجه للمقارنة بين أعمالهم وأعمال السيد المسيح، ليس فقط من جهة كثرة العجائب التي بلا عدد، ولا بتنوعها، وإنما أيضًا بصنعها بسلطانه الشخصي، وبدونه لا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا. هذا بجانب ميلاده من عذراء بتول وقيامته في اليوم الثالث الخ[52].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم:

إنهم أبغضوني بلا سبب“. [25]

بغضهم للسيد المسيح بلا سبب، فكلماته وتعاليمه كانت علانية تقدم الحق ممتزجًا بالحب، وأعماله فائقة فريدة تقوم على نعمته الغنية وحبه اللانهائي. جاء في المزامير: “الذين يبغضونني بلا سبب” (مز 35: 19؛ 69:4). جاءت “بلا سبب” في اليونانية لتعني: “بدون مقابل”، فقد أبغضوه ولم يكن في ذهنهم نوال مقابل لهذه الكراهية.

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح قد أعلن عن بغض اليهود له ولأبيه، أبغضوه بلا سبب، وأنهم يقتلونه، لكن متى جاء الباراقليط في عيد العنصرة بعد صعود السيد المسيح يجتذب الحاضرين خلال كلمة بطرس الرسول، فيؤمن حوالي ثلاثة آلاف نسمة ممن كانوا مشتركين في الثورة ضده والمطالبة بصلبه. وهكذا يشهد الروح القدس له عمليًا بتحويل مبغضي الحق إلى مؤمنين بالحق.

القديس أغسطينوس

4. إرسال المعزي لهم

الآن، بعد أن قدم لهم طريقًا يبدو غاية في الصعوبة، إذ طالبهم أن يثبتوا فيه كالأغصان في الكرمة، وهذا يبدو مستحيلاً في نظر الإنسان، كيف يثبت الإنسان الضعيف في ابن الله السماوي؟ كيف يتحد الترابي مع السماوي؟

عاد فسألهم أن يحبوا، لا خلال عواطف بشرية مؤقتة، بل أن يبذلوا حتى الموت كما بذل هو ذاته من أجل العالم، وهكذا صارت الوصية كأنها مستحيلة، من يقدر أن يتممها؟

وأخيرًا كشف عن بغض العالم واضطهاده لهم… هذا كله صار أشبه بطريق ضيق لا يقدر إنسان ما أن يسلكه، لهذا عزاهم بوعده بإرسال روحه القدوس الباراكليت. هذا هو المعلم السماوي والمرشد الحقيقي الذي يحملهم إلى كمال حق المسيح. هو يثبتهم في الكرمة، وهو يسكب الحب السماوي في قلوبهم، وهو يهبهم قوة الشهادة للمسيح لتجتذب حتى المقاومين لهم للحق.

ومتى جاء المعزي،

الذي سأرسله أنا اليكم من الآب،

روح الحق الذي من عند الآب ينبثق،

فهو يشهد لي“. [26]

يتحدث هنا عن المعزي بكونه أقنومًا يدعى “روح الحق“، ينبثق من عند الآب، يشهد للابن خلال عطاياه ونعمته على المؤمنين.

إنه روح الآب، إذ يقول الابن نفسه: “من عند الآب ينبثق” (يو 26:15)، وفي موضع آخر يقول: “لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (مت 20:10). وهو روح الابن أيضًا، إذ يقول الرسول “أرسل اللَّه روح ابنه إلي قلوبكم صارخًا يا أبا الآب” (غلا 6:4)، أي يجعلكم تصرخون، لأن هذا هو ما نصرخ به ولكن فيه، أي يملأ قلوبكم بالمحبة التي بدونها يكون صراخكم باطلاً، حيث يقول: “ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له” (رو 9:8).

سبق فقال أنه يطلب من الآب أن يرسل المعزي (يو ١٤: ١٦)، وهنا يقول: “سأرسله أنا إليكم من الآب“. فُهو مُرسل من الآب من جهة أنه مدبر الخلاص والتقديس، ومُرسل من الابن بكونه قد دفع الثمن على الصليب لكي يستقر الروح في الإنسان ويجد فيه برّ المسيح.

الروح القدس يشهد للابن، وإذ يسكن في التلاميذ يشهدون للسيد المسيح بقوة الروح.

القديس أمبروسيوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

العلامة أثيناغورس

القديس غريغوريوس النزينزي

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

استخدم القديس أبيفانيوس عبارة إن الروح القدس ينبثق من الآب ويأخذ من الابن[58]، وإنه من ذات جوهر الآب والابن[59]. ويقرر القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن الروح ينبثق من الآب ويأخذ من الابن[60].

يؤكد القديس كيرلس تعليمه بخصوص الانبثاق، قائلاً: [ينبثق الروح القدس من اللَّه الآب، كما من ينبوع، أما الابن فيرسله للخليقة[61].]

جاء في اللجنة اللاهوتية الدولية المشتركة بين الأرثوذكس والكاثوليك القدامى: [يتميز الآب عن الأقنومين الآخرين بكونه من طبيعته منذ الأزل يلد الابن ويبعث الروح القدس. ويتميز الابن عن الأقنومين الآخرين بكونه مولودّا من أبيه؛ ويتميز الروح القدس بكونه ينبثق من الآب. هكذا الآب غير مولود وبدون أساسanaitios سابق له أو أصل، وفي نفس الوقت هو “الأصل الواحد، الجذر الواحد، الينبوع الواحد للابن والروح القدس”[62]. هو وحده الأساس aitios الذي منذ الأزل يلد الابن ويبعث الروح القدس… لذلك، فالآب بلا أساس (علة) سابقة anaitios وهو نفسه الأساس autoatitos، بينما للابن والروح القدس أساس في الآب[63].]

العلامة أوريجينوس

القديس هيلاري أسقف بواتييه

القديس باسيليوس الكبير

القديس غريغوريوس النزينزي

القديس كيرلس الكبير

عمل الروح القدس اللائق به هو تحقيق وحدتنا مع المسيح.

القديس كيرلس الكبير

         جاء في كتابات القديس باسيليوس الكبير كما في كتابات القديس كيرلس الكبير الروح القدس هو العامل ليقيم منا صورة للآب، ومرة أخرى أنه البيئة الحية التي خلالها يخلق فينا الشبه للآب والابن.

القديس كيرلس الكبير

يقول القديس كيرلس الكبير أن الروح القدس يعطي “طاقته إذ هي طاقة اللَّه”[87].

القديس إيريناؤس

القديس إيريناؤس

عيد البنطقستي هو مجيء الروح القدس الذي وعد به المسيح، والروح في عيد البنطقستي الدائم هو تأكيد لحضور المسيح في الكنيسة. هكذا فإن عيد العنصرة هي عيد مسياني ليس بأقل مما هو خاص بالروح القدس pneumatological، حيث أنه يدشن حضور المسيح في الكنيسة سرائريًا. عيد البنطقستي يزيل الارتباك بين صعود المسيح إلى السماء وجلوسه على يمين الآب وبين وعده: “ها أنا معكم كل الأيام وإلى الانقضاء[91]” (مت 28: 20).

         يقول القديس مقاريوس أنه عندما يحل المسيح والروح فينا نختبر ذلك بطرق متنوعة: في فرح أو دموع، في سكون أو نشوة طرب. توجد أشكال متعددة لحضور اللَّه، أما ثمر الروح فهو دائمًا حضور المسيح واهب الوحدة، الذي يعيش في الكنيسة وفي قلب المؤمن[92].

وتشهدون أنتم أيضًا،

لأنكم معي من الابتداء“. [27]

يقول القديس أغسطينوس إذ يحل الروح القدس على الكنيسة يحمل التلاميذ الذين رافقوا السيد المسيح منذ بداية خدمته إمكانية الشهادة له، الأمر الذي لم يكونوا قادرين عليه أثناء حديث السيد المسيح معهم، إذ لم يكن ملء الروح قد حلّ فيهم. متى حلّ الروح القدس يهبهم الإيمان العامل بالمحبة، والمحبة الكاملة تطرد الخوف خارجًا. فلا يعود بطرس الرسول ينكر المسيح كما حدث عند الصلب، بل يشهد له محتملاً الآلام والاضطهادات من أجل اسمه بفرحٍ. [إذ يشهد له الروح القدس، ويوحي بمثل هذه الشهادة بشجاعة لا تُقهر، يجرد أحباء المسيح من خوفهم، ويحولهم إلى حبهم لبغض أعدائهم لهم[93].]

القديس أغسطينوس

من وحي يو ١٥

طمعني فيك،

يا أيها الكرمة الحقيقية!

غرستني كما في جنة إلهية،

وسيَّجت حولي بحبك،

وترقبت لعلي أقدم لك ثمرًا يفرح قلبك!

وإذ أخرجت عنبًا رديًا لم تهملني.

وطعمتني فيك، يا أيها الكرمة الحقيقية!

أحمل ثمر روحك القدوس، عنب الحب والفرح!

أحمل طعم عذوبتك، ورائحتك الذكية!

بدونك لا أصلح إلاَّ للمزبلة والنار!

إذ أنا غصن حيّ فيك وبك.

فيصير فرحك بي كاملاً، وفرحي بك كاملاً.

أحبك، فأتعرف على أسرارك وإرادتك.

أحبك، فأبذل نفسي من أجل اخوتك الأصاغر!

إني غصن فيك، يا أيتها الكرمة الإلهي،

العالم لا يطيقك، فلا يطيقني!

العالم لا يحتمل صوتك، فلا يقبل كلماتك التي على لساني!

من يهتم بي إلاَّ أباك الكرَّام العجيب؟

من يحوط حولي ويعمل فيَّ،

إلاَّ روحك القدوس المعزي؟

لك المجد أيها الثالوث الكلي الحب!

[1] cf. St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 80: 1.

[2] Letters, 52.

[3] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 80: 3.

[4] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 80: 3.

[5] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 81: 1.

[6] Homilies on St. John, 67:1.

[7] On the Trininty, 9 (55).

[8] Homilies on St. John, 67:1.

[9] Hom. 76. PG 59: 448.

[10] يقول الرسول: “أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله ينمي” (1 كو 6:3)، فنسب القديس كيرلس الغرس والسقي للَّه العامل الذى ينمى الزرع.

[11] مقال 1: 4.

[12] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 81: 3.

[13] Hom. 76. PG 59: 447- 448.

[14] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 81: 4.

[15] Hom. 76. PG 59: 448.

[16] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 82: 1.

[17] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 82: 2.

[18] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 82: 3.

[19] cf. St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 82: 3.

[20] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 83: 1.

[21] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 83: 1.

[22] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 83: 1.

[23] St. Jerome: Common. Gal., Lib 3. c. 6.

[24] Hom. 27. Forty Gospel Homilies, PL 76: 1205.

[25] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 83: 3.

[26] Letters, 167:11.

[27] Hom. 27. Forty Gospel Homilies. PL 76: 1205.

[28] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 84: 2.

[29] Duties of the Clergy, 3: 22: 135 – 136.

[30] Philokalia, Book 1.

[31] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 85: 2.

[32] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 86: 2.

[33] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 86: 3.

[34] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 86: 3.

[35] On the Christian Faith, Book 1:2:12.

[36] Hom. 27. Forty Gospel Homilies.

[37] Hom. 27. Forty Gospel Homilies.

[38] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 87: 1.

[39] Letter 45:6.

[40] Letter 58 to the people abiding in Thibaris, 7.

[41] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 87: 2.

[42] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 87: 4.

[43] Letter 13 to Rogation, the priest and to the other confessors, 4.

[44] cf. St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 88: 1.

[45] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 88: 3

[46] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 88: 2.

[47] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 89: 1.

[48] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 89: 2.

[49] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 89: 3.

[50] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 90: 3.

[51] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 91: 1.

[52] cf. St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 91: 2 – 4.

[53] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 92: 1.

[54] Of the Christian Faith, 2: 9: 76.

[55] Legat. 10:24.

[56] Oratione 39 :12..

[57] De Oratione Dominica 3.

[58] Anor. 7.

[59] Anor. 7.

[60] Adv. Maced. 10.

[61] PG 77:318 D.

[62] القديس باسيليوس الكبير، عظة 4:24 مجلد الآباء اليونان 609:31.

[63] Photius: De S. Spiritus Mystaggia 16 ; Mark of Ephesus: Capita Syllogistica 24.

[64] القمص تادرس يعقوب ملطي، الروح القدس عند العلامة أوريجينوس، تعريب دكتور جورج بطرس.

[65] On the Trinity 2:1.

[66] On the Trinity 2:33.

[67] Liber de Spiritu Sancto. 9 :22 PG 32 :108-9.

[68] Liber de Spiritu Sancto. 9 :23. PG 32 :109.

[69] Oratio 31, Theologica 5:31,29 PG 36:159 B.

[70] Oratio 41 In Pentecosten, 5. PG 36:436 B.

[71] Oratio 31. Theologica 5:28 PG 36:105 A.

[72] In Joannis Evangelium, Liber 10, 15:1 PG 74:333-6.

[73] In Joannis evangelium 11:10. PG 74:544.

[74] De SS. Trinitate Dialogus,3. PG 75 :837 A.

[75] De SS. Trunitate Dialogus, 5 PG 75 :837 A.

[76] De SS. Trinitate Dialogus, 3. PG 75 :964 A

[77] De SS. Trinitate Dialogus, 3. PG 75 :800 C.

[78] De SS. Trinitate Dialogus, 3. PG 75 :833

[79] De SS. Trinitate Dialogus, 3. PG 75 :837 A

[80] De SS. Trinitate Dialogus, 7. PG 75 :1089 A

[81] De SS. Trinitate Dialogus, 7. PG 75 :1089 B.

[82] De SS Trinitate Dialogus, 7. PG 75 :1113 A

[83] De SS. Trinitate Dialogus, 5. PG 75 :964 B.

[84] De SS. Trinitate Dialogus, 5. PG 75 :964 B.

[85] De SS. Trinitate Dialogus, 3. PG 75 :837 C.

[86] De SS. Trinitate Dialogus, 3. PG 75 :856 C.

[87] De SS. Trinitate Dialogus, 7. PG 75 :1112 B.

[88] Adv. Haereses 4:6:6.

[89] Adv. Haereses 4:20:4. PG 7:1034 B.

[90] Adv. Haereses 4:20:6. PG 7:10367.

[91] Boris Bobrinskoy: The Mystery of the Trinity, St. Vladimir 1999, p. 72.

[92] Boris Bobrinskoy: The Mystery of the Trinity, St. Vladimir 1999, p. 73.

[93] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 92: 2.

[94] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 94: 1.

تفسير انجيل يوحنا 15 الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
Exit mobile version