Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير انجيل يوحنا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

الاصحاح السادس عشر

إرسال المعزي

إن كان الألم قد دخل إلى العالم كثمرة من ثمار العصيان، لكن الله في حبه سمح لابنه الحبيب أن يتأنس ويتألم كذبيحة حب مقدمة عن كل البشرية. هكذا تحول الألم من ثمرة خطية إلى علامة حب. وصار من حقنا أن نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه. خلال هذه الذبيحة الفريدة ندرك مفهوم الوعد الإلهي أنه يجرح ويشفي (تث ٣٢: ٣٩). حدثهم السيد المسيح صراحة عن ما سيعانوه من آلام، مقدمًا لهم روحه القدوس المعزي الذي سيحل عليهم ويعمل فيهم ويهبهم تعزياته الإلهية.

القديس مقاريوس الكبير

  1. سهام الحب الجارحة ١ – ٦.
  2. إرسال المعزي ٧ – ١٥.
  3. وعد باللقاء معهم بعد قيامته ١٦ – ٢٢.
  4. استجابة صلواتهم ٢٣ – ٢٧.
  5. صعوده إلى السماء ٢٨.
  6. تركه عند آلامه ٢٩ – ٣٢.
  7. غلبته لحسابهم ٣٣.

1. سهام الحب الجارحة

في إخلاص كامل كشف لهم السيد المسيح عما سيلحقهم من متاعب أثناء الإرسالية التي يبعثهم إليها، لكنها متاعب حب، هي سهام حب من أجله، حيث يبغضهم العالم كما يبغضه هو.

قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا“. [1]

تكرر تعبير “قد كلمتكم بهذا” سبع مرات في مقاله هذا، وقد جاء في اللغة اليونانية يحمل نوعًا من الاستمرارية مع الوقار، وكأن هذه الأمور التي يتحدث عنها في حديثه الوداعي لا تمس زمنًا معينًا بعينه، بل أمورًا خاصة بالكنيسة عبر الأزمنة، وأنها أمور جوهرية.

كلمة “تعثروا” هنا يترجمها البعض “تسقطوا في فخ”؛ كما يسقط طير أو حيوان في شرك.

يخبرهم عما سيعانوه من آلام مقدمًا حتى لا يتعثروا، أي لئلا يفقدوا إيمانهم وتُصاب نفوسهم بضررٍ، كما يحدث مع الجسد عندما يعثر في الطريق أو يسقط على حجرٍ أو في فخٍ.

القديس أغسطينوس

سيخرجونكم من المجامع،

بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله“. [2]

يدعو وقت الألم “ساعة التجربة“.

الالتصاق بالمسيح والشهادة له تُحسب جريمة دينية أو تجديفًا، لهذا يقطعون من المجامع ويُحرمون من حق العبادة كأشخاص تحت اللعنة، غير مستحقين أن يمارسوا العبادة لله والشركة مع المؤمنين. لم يكن الألم الذي يصيب اليهودي الذي يؤمن بالسيد المسيح بطرده من الهيكل وحرمانه من التمتع بالانتساب إلى الأمة اليهودية أقل من القتل، إذ يفقد إحساسه بالانتساب لشعب الله في ذلك الحين، والتمتع بالامتيازات الخاصة به، واعتباره كاسرًا للناموس. يُنظر إليه كسامري أو وثني أو عشار، خائن لدينه وشعبه ووطنه.

لا يقف الأمر عند الطرد، وإنما يتعقبون المؤمنين بالسيد المسيح لتقديمهم ذبائح بشرية، ويحسبون ذلك لمجد الله. وكما جاء في إشعياء: “قال اخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي ليمتجد الرب” (إش ٦٦: ٥). هذا ما حدث مع بولس الرسول حين نذر ٤٠ شخصًا ألا يأكلوا ولا يشربوا حتى يقتلوه (أع ٢٣: ١٢–١٣). وقد جاء في التلمود Talmud “من يسفك دم كافرٍ يعادل من يُحضر تقدمة لله[2]“. وهكذا يحمل الذئاب ثوب الحملان، ويظهر أعداء الله كأنهم خدام غيورون على مجده، يمارسون العداوة كأنها التزام ديني لحساب السماء.

القديس أغسطينوس

وسيفعلون هذا بكم،

لأنهم لم يعرفوا الآب، ولا عرفوني“. [3]

شتان ما بين من يتحدث أو يكتب عن الله وبين من يعرف الله والله يعرفه. هنا إذ يتحدث السيد عن المعرفة لا يقصد بها مجرد المعرفة العقلية، إنما معرفة الخبرة والحياة، لهذا عندما يقول للأشرار في يوم الدينونة: “لست أعرفكم” لا يعني أن الله يجهلهم، لأنه عارف بكل شيءٍ، لكنه لا يعرفهم معرفة الصداقة والشركة.

علة شرهم عدم المعرفة الحقيقية، وكما جاء في هوشع: “لأنهم قد تجاوزوا عهدي، وتعدوا على شريعتي، إليّ يصرخون: يا إلهي نعرفك نحن إسرائيل” (هو ٨: ١–٢). إنهم قد يعرفون إرادة الله، لكنهم يجهلونه عمليًا في سلوكهم. يدرسون الكتاب المقدس، لكنهم يحرفون معانيه حسب أهوائهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لكني قد كلمتكم بهذا،

حتى إذا جاءت الساعة،

تذكرون إني أنا قلته لكم،

ولم أقل لكم من البداية،

لأني كنت معكم“. [4]

لم يقل هذا من بداية التصاقهم به حتى لا يربكهم أو يقلقهم، أما وقد صاروا تلاميذه فأعلن لهم هذا كأمرٍ جوهري في حياتهم وشركتهم معه. سبق فأعلن لهم عن ساعة التجربة لكي يدركوا أن ما سيحل بهم لم يحدث مصادفة كما يظن البعض، ولكن بسماحٍ إلهي، وفي الحدود التي يسمح بها الله. هذا وبحديثه هنا يهيئهم لكي يستعدوا لهذه الساعة بأسلحة روحية، خاصة بسيف الكلمة الإلهية.

لماذا أخبرهم بذلك في هذا التوقيت؟ لأن ساعة التجربة قد اقتربت. حانت ساعة آلامه، وستحل ساعة آلامهم، وأنه سيفارقهم بالجسد. حين كان معهم بالجسد كان يعزيهم ويسندهم. الآن يترك لهم كلمته ووعوده ويرسل لهم الروح القدس يعزيهم.

الشهيد كبريانوس

وأيضًا لسبب آخر وهو ألا تقولوا إننا لسنا نعرف مقدمًا أن هذه الأمور ستحدث. تذكروا إذن أنني أخبرتكم بها…

ليتنا نحن أيضًا نضع هذه الأمور في الاعتبار أثناء تجاربنا، عندما نعاني شيئًا من الأشرار، “ناظرين إلي رئيس إيماننا ومكمله” (عب 12: 3)، وأن هذه يسببها الأشرار، وأنها من أجل الفضيلة، ومن أجله.

فإن تأملنا في هذه الأمور سيكون كل شيء سهلاُ ومحتملاً. فإن كان من يتألم من أجل محبوبيه يفتخر بذلك، فما هي مشاعر ذاك الذي يحتمل هذا من أجل الله؟

إن كان هو من أجلنا حسب ذاك العار، أي الصليب، مجدًا (13: 31)، فكم بالأكثر يلزمنا نحن أن نأخذ موقفًا كهذا؟

وإن كنا نستطيع أن نستخف بالآلام، كم بالأكثر نستطيع أن نستهين بالغنى والطمع؟[7]

القديس يوحنا الذهبي الفم

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم لماذا قال لهم أنه لم يسبق أن يخبرهم بهذا مع أنه عندما دعا الاثنى عشر قال لهم أنهم سيقفون أمام ملوك وولاة من أجل اسمه ويجلدونهم في مجامعهم (مت 10: 18،17). يجيب على ذلك أنه ما سبق أن أخبرهم عنه كان يخص ما سيحدث في المستقبل حين يكرزون بين الأمم؛ أما ما يخبرهم عنه هنا فهو ما سيعانوه من اليهود، وأنه قد صار على الأبواب، وهو أمر لم يسبق أن يخبرهم عنه”[9].

وأما الآن فأنا ماضٍ إلى الذي أرسلني،

وليس أحد منكم يسألني أين تمضي“. [5]

سبق أن سأله بطرس هذا السؤال (يو ١٣: ٣٦) وأيضًا توما (يو ١٤: ٥)، وكلاهما نالا إجابة منه، أما الآن فيطالبهم ألا يسألوه، لأن قلوبهم امتلأت حزنًا [٦].

يليق بهم عوض أن يسألوه أين يمضي أن يدركوا ويثقوا أن كل الأمور تعمل معًا لخيرهم كأحباء الله (رو ٨: ٢٨).

القديس أغسطينوس

لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم“. [6]

سبق فملأهم السيد المسيح بالفرح (يو ١٥: ١١)، لكن إذ اُمتصت أفكارهم في الضيق ملأ الحزن قلوبهم، ولم يتركوا مجالاً لفرح المسيح أن يملك عليها. كانت أفكارهم مشغولة بملكوت المسيح الخارجي والمجد الزمني وأنهم يملكون معه، وإذ تسللت أفكار العالم إليهم ملك حزن العالم عليهم.

ماذا يعني “إن لم أنطلق لا يأتيكم الروح القدس” سوى أنكم لا تقدرون أن تقبلوا الرب مادمتم مستمرين في معرفة المسيح حسب الجسد؟ لهذا يقول أحد الذين نالوا شركة الروح: “وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه بعد” (٢ كو ٥: ١٦). فإننا الآن حتى جسد المسيح نفسه لم يعرفه بطريقة جسدانية، حيث بلغ إلى المعرفة الروحية للكلمة الذي صار جسدًا[11].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. إرسال المعزي

لكني أقول لكم الحق

أنه خير لكم أن انطلق،

لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي،

ولكن إن ذهبت أرسله اليكم“. [7]

كان الأنبياء في العهد القديم يعزون الشعب وسط ضيقاتهم بمجيء المسيا المخلص كمعزٍ لهم (إش ٩: ٦؛ ميخا ٥: ٦؛ زك ٣: ٨). الآن جاء المسيا وها هو يفارقهم بالجسد، فصارت الحاجة ملحة إلى معزٍ آخر هو روحه القدوس. أما مجيئه فيتطلب رحيل المسيح [7]. لم يكن ممكنًا للتلاميذ أن يقبلوا هذا، لذلك أكد السيد المسيح “أقول لكم الحق” [6] أنه لخيرهم أن ينطلق. هذا التعليم كان غير متوقع وغريبًا على مسامعهم. صعوده ليس لراحته بل لخيرهم، فإن كان ما فعله خلال تجسده هو لحساب مؤمنيه، فصعوده هو صعود للرأس الذي لا تفارقه أعضاء الجسم.

سبق فأعلن لهم عن ضرورة موته لخلاص البشرية (مت ٢٠: ١٩؛ ٢٦: ٢؛ مر ٩: ٣١؛ ١٠: ٣٣؛ لو ٩: ٤٤؛ ١٨: ٣٢)، الآن لا يكرر ما سبق فأعلنه، إنما يكشف عن خطة الله من جهة إرسال الروح القدس إلى العالم، الذي لن يتم ما لم يتحقق خلاصنا بالصليب والقيامة والصعود إلى السماء.

لماذا لا يأتي الروح القدس ما لم ينطلق المسيح أولاً؟ لأنه قادم ليستقر في النفس البشرية التي اشتراها السيد بدمه ووهبها برَّه وأعطاها حق الدخول إلى السماء. فموت السيد المسيح وقيامته وصعوده هو طريق التمتع بحلول الروح القدس على الكنيسة، واستقراره في داخلها لكي يتمتع المؤمن بهذه السكنى.

من الجانب الآخر فإن صعوده إلى السماء كمخلصٍ ممجدٍ لا ينزع عنه انشغاله بعروسه التي افتداها بدمه، بل يرسل لها من يقدسها له، ويجَّملها ويجعلها أيقونة له، تتهيأ للعرس السماوي الأبدي. بهذا فإن حلول الروح القدس الذي هو روح المسيح أفضل للكنيسة من بقاء السيد المسيح جسديًا على الأرض. فبقاء السيد المسيح جسديًا على الأرض يسحب أنظار البشر الجسمانية إليه، أما حلول روحه القدوس فيسحب قلوبهم إلى المسيح الممجد في السماء، فتلتهب أعماقهم لا للبقاء على الأرض بل للانطلاق إلى العريس.

صعد السيد المسيح إلى السماء في لحظات حاسمة، وظروف غريبة، إذ ترك التلاميذ لا قوة لهم، ولا عمل لهم سوى الانتظار.

  1. فمن جهة حياتهم الخاصة وإيمانهم، كانوا حتى لحظات الصعود في خوفٍ وضعفٍ وقسوة قلبٍ وضعف إيمانٍ (مر 14:16). تركهم بالجسد وترك لهم وصاياه الصعبة، وطريقه الضيق، وصليبه الصعب. من يقدر أن يحتمل هذا كله؟!
  2. ومن جهة عملهم أثقل عليهم الرسالة: طالبهم بالكرازة والتلمذة في العالم كله. “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم” (مت 19:28)، وسألهم أن يكرزوا باسم الثالوث القدوس. رسالة صعبة في فترة لم يعودوا فيها يصنعون معجزات ويطهرون برص ويخرجون شياطين كما كانوا في فترة خدمته على الأرض قبل الصلب.

من أجل هذا كانوا في حاجة إلى من يسند ومن يعين، لذلك وعدهم بذلك الروح الناري، روح اللَّه القدوس نفسه، الذي يعمل فيهم من أجل تقديسهم وتقديس الآخرين، “أنا أرسل إليكم موعد أبي، فأقيموا في أورشليم على أن تلبسوا قوة من الأعالي (لو 49:24). من أجل هذا تحول صعود الرب إلى موضوع فرحهم وتهليل نفوسهم، لأنه فيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون اللَّه (لو 24). لأنه كما قال لهم الرب: إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسلته إليكم (يو 7:16)[15].

في عيد العنصرة تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن “مواهب الروح القدس” قائلاً:

[قبل هذه الأيام، صعد إلى السماوات، وأخذ عرشه السماوي، واسترد مجلسه عن يمين الآب. وها هو اليوم يمنحنا حلول الروح القدس، وخلاله يقسم علينا المواهب السماوية الأخرى. لأنه أية موهبة من بين المواهب التي نتمتع بها في داخل خلاص نفوسنا لم ننلها خلال خدمة الروح (القدس)؟!

فخلاله نتحرر من العبودية، وندعى إلى الحرية!

خلاله صرنا أولاًد اللَّه، بتبنيه إيانا!

وفوق هذا كله، إن أمكنني أن أقول، إننا قد تجددنا، خالعين عنا ثقل الخطايا الكريه!

خلاله نرى قدامنا طغمات الكهنة!

خلاله يساعدنا معلمينا! منه ننال مواهب الإعلانات، ومواهب الشفاء، وكل المواهب الأخرى التي بها يزين الروح القدس كنيسة اللَّه.

هذا ما يعلنه الرسول بولس قائلاً: “ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسمًا لكل واحدٍ بمفرده كما يشاء” (1 كو 11:12). يقول “كما يشاء” وليس “حسبما يؤمر”. ويقول: “قاسمًا” وليس “مقسمة”، مظهرًا أنه هو صاحب هذه المواهب، وليس كمن يخضع لسلطان آخر.

فالسلطان الذي يشهد عنه الرسول بأنه للآب هو نفسه ينسب للروح القدس. وكما قال عن الآب: “ولكن اللَّه واحد الذي يعمل الكل في الكل”، ويقول أيضًا عن الروح القدس: “ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء”.

انظروا كمال السلطان، فإذ الطبيعة (الإلهية) واحدة، لذلك فإنه لا يوجد أدنى شك من جهة السلطان، وإذ توجد مساواة في الكرامة فإن القوة والسلطان واحد.]

القديس أغسطينوس

 البابا غريغوريوس (الكبير)

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

السيد المسيح والروح القدس

         فتح ميلاد السيد المسيح الزمني الطريق لنا لحلول الروح القدس فينا، فقد جاءت حياة السيد المسيح تشهد لعمل الروح القدس، الذي هو روحه، في كل موضع وفي كل تصرف. جاء يوحنا السابق الملاك الذي أعد الطريق للسيد المسيح مملوءً من الروح وهو بعد في الرحم (لو 1: 15). ذات الروح حلّ على القديسة العذراء مريم وظللها مثل الشكينة التي حلت في جبل سيناء، حتى يهيئها لكي يكون المولود منها القدوس المدعو ابن اللَّه (لو1: 35). وعند زيارة القديسة مريم لأليصابات امتلأت الأخيرة من الروح القدس وارتكض الجنين في بطنها بابتهاج (لو1: 41-42). وسبحت مريم وزكريا بوحي الروح (لو1: 46، 68). وبالروح القدس استقبل سمعان الشيخ الطفل يسوع في الهيكل (لو2: 25-32). وقاد الروح القدس ربنا يسوع إلى البرية ليُجرَّب (مر 1: 12).

         يقدم لنا السيد المسيح الروح القدس ليحل فينا، فنحمل المسيح في داخلنا، ويصير هو نفسه صلاتنا وعبادتنا “بالروح” إذ تصرخ أعماقنا نحو الآب: “أيها الآب أبا” (رو 8: 15؛ غلا 4: 6).

ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية،

وعلى برّ،

وعلى دينونة“. [8]

تحقق إرسالية الروح القدس إلى الكنيسة اهتمام السيد المسيح بها، فإنه متى جاء يهب البشرية حياة التوبة والرجوع إليه خلال الصليب. فهو وحده يقدر أن يدخل القلب ويمرر الخطية ويفضحها أمامه، فيرجع إلى عذوبة الشركة مع الله. إنه قادر أن يقنع القلب والفكر وكل أعماق الإنسان أن سعادته وسلامه وفرحه وخلوده وعدم فساده يكمن في الالتصاق بالمخلص لا بالخطية، وأن لذة العشرة مع الله لا تُقارن بأية لذة للخطية.

دُعي الروح القدس “الباركليت“، وهي كلمة يونانية قديمة “بارا” تعني الملازمة، و”كليت” تعني الدعوة للمعونة، فهو الملازم المعين، أو القائد المعزي، الشفيع المدافع. وتترجم “الباراكليت” في اللاتينية “أفوكاتوس”، وفي الفرنسية “أفوكات”، أي المحامي أو الشفيع المدافع.

هذا هو أساس شركتنا مع الثالوث القدوس، إنه شفيع عنا أمام الآب، يقدم حجته، ليخرج قضيتنا بالبراءة، ويصير لنا حق الشركة والتمتع بالأحضان الإلهية. ودفاع الروح القدس، دفاع قوي قادر ومجيد. لكنه دفاع بحقٍ، لا يتقدم في القضية مدافعًا عنًا زورًا أو بهتانًا، لأنه روح الحق، الذي يشهد للحق، بل هو الحق ذاته. فهو عادل في دفاعه، لا يتستر على خطايانا أو أخطائنا. في مؤازرته للخطاة (في 20:1)، لا يستر خطايانا أو يخفي آثارها بأوراقٍ من التين كما فعل آدم ويفعل بنوه، ولا يحابي الوجوه، ولا يطلب شركة بين النور والظلمة، أو البرّ والنجاسة، إنما هذا هو عمله، وهكذا يكون دفاعه عنا: إنه ينخس قلب الإنسان قبل أن يؤمن أو يسكن فيه مغيرًا طبيعته، ليعطيه الإيمان، ويهيئه لقبول عطية الروح القدس، وذلك كما حدث يوم الخمسين. “فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس وسائر الرسل… توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع 37:2-39).

يرى القديس أغسطينوس أن الخطية العظمى هي عدم الإيمان بالمسيح مخلصًا للعالم، فمن لا يؤمن لا يقدر أن يتمتع بغفران خطاياه. لهذا فإن التبكيت على خطية يحمل معنى حث الإنسان على التخلي عن عدم إيمانه بالمسيح، بهذا ينفتح أمامه باب المغفرة.

وبينما بطرس يكلم كرنيليوس ومن معه “حلّ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة… حينئذ أجاب بطرس أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا يعمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن. وأمر أن يتعمدوا باسم الرب” (أع 44:10-47).

إن كان الروح ينخس القلوب قبل العماد، أفلا ينخس قلوبهم بعدما يسكن فيها بسرّ الميرون؟! إن عمله هو التبكيت على الخطية ليتوب الإنسان ويعترف، وفي سرّ التوبة والاعتراف يغفر للإنسان عن خطاياه بالروح القدس الذي يغفر باستحقاقات دم المسيح أيضًا: “اقبلوا الروح القدس من غفرتم لهم خطاياهم غُفرت…” فالروح القدس بالنسبة لمن لم يؤمنوا أو للمؤمنين لا يتستر على خطاياهم، بل بالعكس إذ هو نور يكشف ويفضح الخطية أمام عيني الإنسان الداخلية، ويكشف آثامنا ومرارتها قدام قلوبنا، وفي نفس الوقت يكشف عمل الصليب وقوة حب اللَّه الجذابة.

من هنا يتقدم الروح القدس باعترافاتنا المملوءة نتانة، ويرفقها بالدم المسفوك مع دموع التوبة وصلوات الإيمان. وللحال يحكم بالبراءة للإنسان عن خطاياه السابقة، سواء في سرّ المعمودية أو سرّ التوبة والاعتراف[20].

 القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن الروح القدس كما الآب يشهدان للسيد المسيح لأجل خلاص العالم الذي وُضع في الشرير. حقا لقد قدم السيد المسيح تعاليم وعجائب، لكن الأشرار قاوموها. أما متى صعد إلى السماء، فيرسل روحه القدوس الذي يعمل في تلاميذ المسيح ورسله، ليكشف عن الحق، ويتمم أعمالاً عجيبة فائقة باسم المسيح، ويقوم بتبكيت العالم، لكي يدرك شره، ويقبل الرجوع إلى المخلص.

الآن يمكنهم القول: هذا هو ابن النجار، ونحن عارفون بأبيه وأمه، ولكن حين يرون رباطات الموت قد انحلت، والشر يُنزع، والمعوجات الطبيعية تستقيم، والشياطين يخرجون، وفيض العون من الروح، وهذا كله يتحقق بدعوتي، فماذا سوف يقولون؟ يحمل الآب شهادة لي، وسيحمل الروح أيضًا شهادة مع أنه حمل شهادة في البداية، نعم وسيحملها وسيبكت[22].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقول القديس أغسطينوس أن السيد المسيح نفسه يبكت العالم على خطية، كما في قوله: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية” (يو ١٥: ٢٢)، وعلى برّ، إذ قال: “أيها الآب البار العالم لم يعرفك” (يو ١٧: ٢٥)، كما يبكت على دينونة، إذ أعلن أنه سيقول للذين على اليسار: “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته” (مت ٢٥: ٤١). وردت عبارات كثيرة في الإنجيل تؤكد أن السيد المسيح يبكت على هذه الأمور. لماذا إذن ينسب هذا للروح القدس كما لو كان هذا امتيازًا خاصًا به؟ يجيب القديس أغسطينوس أن الروح القدس ينسكب على قلوب التلاميذ (رو ٥: ٥)، فيهبهم المحبة التي تطرد الخوف خارجًا (١ يو ٤: ١٨)، فيصير لهم حق التوبيخ والتبكيت. ويكمل القديس حديثه: [كثيرًا ما أقول أن عمل الثالوث القدوس لا ينفصل، لكن كل أقنوم يقوم بدوره، ليس فقط بغير انفصالهم، بل وأيضًا دون خلط بينهم. فمن حقنا أن ندرك كلاً من وحدتهم وثالوثهم (تمايزهم)[23].]

أما على خطية،

فلأنهم لا يؤمنون بي“. [9]

يوضح السيد المسيح دور الروح القدس في التبكيت على خطية قائلاً: “لأنهم لا يؤمنون” [9]. إن كانت الخطية تملك على القلب، فليس من طريق للخلاص منها إلا بقدوم ملكٍ آخر قادر على إبادتها، وهو الإيمان بالمسيح الذي يملك على القلب. ملكت الخطية فصارت مصدر فساد ورجاسة، لذا صارت الضرورة ملحة للإيمان بالمخلص الذي ينزع الفساد والرجاسة، ويحتل عدم الفساد والقداسة الموضع. بالخطية كسر الإنسان الناموس وحلت اللعنة، وبالإيمان بالمسيح مكمل الناموس وحامل اللعنة عنا نتحرر من الحرف القاتل واللعنة لننعم بالروح المحيي والحياة المطوَّبة.

بلغت خطية اليهود القمة عندما لم يقبلوه بكونه المسيا المخلص مع أنه صنع العجائب التي سبق أن أعلن عنها الأنبياء (إش ٣٥: ٣–٦). عند حلول الروح القدس في يوم العنصرة اعترف جمع من اليهود بهذه الخطية، ورجعوا إلى الله (أع ٢: ٣٧).

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

وأما على برّ،

فلأني ذاهب إلى أبي،

ولا ترونني أيضًا“. [10]

أما عن التبكيت على برٍّ، فيقول السيد المسيح: “فلأني ذاهب إلى أبي، ولا تروني بعد” [١٠]. أي يبكتهم على عدم إدراكهم لبرّ المسيح وقداسته، فقيامته وصعوده إلى السماء هما الدليل على برّه. لذلك إذ يصعد السيد إلى السماء يرسل روحه ليحمل قلوب البشرية إلى حيث المسيح جالس، فيتلامسوا معه ويختبروا برَّه فيهم، بل يصير المسيح لهم برًا.

تبكيت العالم على خطية يعني عمل الروح القدس في الكشف عن حقيقة العالم أنه خاطئ. وأما على البرٍّ فهو الكشف عن حقيقة ما فعله العالم بالمسيح، أي الصلب، فإن آلام المسيح المخلصة وصلبه هي لأجل تبريرنا. فالروح الذي ينير العينين ليدرك الإنسان خطاياه، ينيرهما أيضًا ليدرك قوة موت المسيح واهب البرّ.

لم يدرك اليهود قيمة موسى النبي كما ينبغي إلا بعد انتقاله من العالم، ولم يعرف الكثيرون برّ المسيح إلا بعد صعوده إلى السماء. حلول الروح القدس في يوم العنصرة حسب الوعد الإلهي هو برهان على مجد المسيح الجالس على يمين العظمة (أع ٢: ٣٣)، وهذا دليل على برِّه الإلهي.

يتساءل القديس أغسطينوس لماذا قال السيد المسيح أن الروح القدس يبكت على برْ لأنه ذاهب إلى أبيه. ويجيب بأن الكلمة عند تجسده ومجيئه من عند الآب أظهر رحمته علينا، وبصعوده إلى السماء وذهابه إلى الآب نقوم معه، ونطلب ما هو فوق حيث المسيح جالس. إنه جالس على يمين الآب، يجلس بكونه الرأس والجسد، وكأن الكنيسة وقد صارت جسدًا تتمتع ببرْ المسيح، حيث صار لها حق الجلوس في السماء عن يمين الله[26].

القديس أغسطينوس

القديس أمبروسيوس

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

وأما على دينونة،

فلأن رئيس هذا العالم قد دين“. [11]

في اختصار، فإن الروح القدس ليس فقط يبكت على الخطية [9] واهبًا الإيمان للإنسان، ومقدمًا برّ المسيح المصلوب له، وإنما يدين العالم الشرير، ويقدم للمؤمنين ما هو للابن، فيتمتعوا بشركة المجد السماوي. هكذا يقدم لنا الروح القدس ثلاث حقائق هامة تمس حياتنا:

  فساد طبيعتنا بالخطية.

  إصلاحها وتمتعها ببرّ المسيح.

  دينونة الشر أبديًا.

يبكت الروح القدس على دينونة، “لأن رئيس هذا العالم قد دين” [11]. بينما ظن العالم أنه قد حكم على المسيح ودانه، إذا بالروح القدس يكشف للمؤمنين أنه بالصليب دين عدو الخير وشُهر به (١ كو ٢: ١٥). انفضح إبليس كمخادعٍ ومدمرٍ للبشرية، وبدأ الأمم يرفضونه ويهجرون عبادته خلال الكرازة بصليب المسيح. عمل الروح القدس تأكيد أن المسيح أعظم وأقوى من إبليس، يهب سلطانًا لتلاميذه أن يدوسوا على قوات الظلمة. وهكذا يختبر المؤمن في حياته اليومية عربون السلطان الذي ناله لكي يتمتع بكماله في يوم الدينونة حيث يُدان إبليس ويتمتع الإنسان بكرامة فائقة. يحتل الإنسان الدرجة السماوية الفائقة التي سقط منها إبليس وكل جنوده. لهذا جاء فعل “دين” يحمل معنى الاستمرارية، فالغلبة على قوات الظلمة عمل يومي مستمر.

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم،

ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن“. [12]

صرح لهم السيد المسيح أن لديه أمور كثيرة لم يرد أن يخبرهم بها، لأنهم عاجزون عن قبولها في ذلك الحين، ففيه تختفي كنوز الحكمة والمعرفة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

وأما متى جاء ذاك روح الحق،

فهو يرشدكم إلى جميع الحق،

لأنه لا يتكلم من نفسه،

بل كل ما يسمع يتكلم به،

ويخبركم بأمورٍ آتية“. [13]

وعدهم السيد المسيح أنهم يتمتعون بمجيء “روح الحق” الذي يرشدهم إلى كل الحق. فقد سبق فقدم السيد نفسه لهم قائلاً: “أنا هو الحق”، من يقتنيه يقتني الحق. لكنهم كيف يقتنونه؟ بالروح القدس الذي هو روح الحق، يعمل فيهم، فيثبتهم في المسيح الذي هو الحق الإلهي.

هل أخفي السيد المسيح الحق عن تلاميذه؟ لقد جاء إلى العالم ليقدم الحق. تحدث مع تلاميذه قدر ما يحتملون، ومع الجماهير حسب قدرتهم. لكنهم كانوا عاجزين عن قبول كل الحق، لذا بعث بروحه القدس لكي يقودهم ويدخل بهم إلي أعماق جديدة في الحق. هذا وقد أكد السيد أن روح الحق لا يعلم بشيء يناقض ما يعلم به السيد المسيح، بل ما يسمعه من الآب والمتناغم مع الابن، فينطق به لمجد الثالوث القدوس وخلاص البشر.

يقودهم روح الله إلى النبوة (رو ٨: ١٤)، ويسلك معهم في الطريق، قائدًا لهم ومرافقًا، ويبقى سندًا لهم حتى يبلغ بهم إلى النهاية، حيث يتمتعون بكل الحق. إنه أشبه بربان السفينة العارف بأسرار المنطقة البحرية، يقودها ويبلغ بالمسافرين إلى البر بأمان.

إنه روح الحق، لا يقود المؤمن إلا في الحق (١ يو ٢٧). يتكلم بما فيه نمونا وتقدمنا في الأمور الآتية. وكما جاء في يوئيل: “يكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلامًا، ويرى شبابكم رؤي”. (٢: ٢٨) وقد تحقق ذلك كما جاء في سفر الأعمال (١١: ٢٨؛ ٢٠: ٢٣؛ ٢١: ١١). تحدث الروح عن الارتداد في الأزمنة الأخيرة (١ تي ٤: ١).

القديس أمبروسيوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقول القديس أغسطينوس أن التلاميذ حتى بعد أحداث الصلب والقيامة وصعود السيد المسيح لم يكونوا قادرين على إدراك بعض الحقائق الإيمانية مثل أن العالم قد خُلق بواسطة ذاك الذي صُلب، وأنه هو ابن الله الذي كسر طريقة حفظ اليهود للسبت، وأيضًا أن الله ثالوث قدوس: الآب والابن والروح القدس، وأن الابن واحد مع الآب ومساوٍ له في ذات الجوهر الخ. مثل هذه الحقائق لم يدركها التلاميذ بوضوح إلا بالروح القدس الذي وُهب لهم، فامتلأت قلوبهم حبًا وغيرة في الروح، واستنارت بمعرفة الحق[41].

فإن صرتم نامين في الحب الذي سكبه الروح القدس في قلوبكم: “هو يعلمكم كل الحق“، أو كما جاء في بعض المخطوطات: “فهو يرشدكم إلى جميع الحق“. وكما قيل: “قدني في طريقك يا رب، فأسلك في حقك” (مز ٨٦: ١١). والنتيجة هي أنكم تتعلمون هذه الأمور التي امتنع الرب عن النطق بها في ذلك الحين، ليس خلال معلمين خارجيين، بل تكونوا متعلمين من الله (يو ٦: ٤٥)…

نعم حسنًا، لقد قلت لكم الآن بعض الأمور التي لها شيء من نفس هذه السمات وأنتم قبلتموها، ليس فقط احتملتموها، بل استمعتم إليها بسرورٍ. فإن ذاك المعلم الداخلي الذي حين كان يتكلم من الخارج مع تلاميذه قال: “إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن” [١٢]، يرغب أن يتحدث في الداخل إلينا عما قلت أنه يخص طبيعة الله غير المتجسمة، بالطريقة التي يتحدث بها مع الملائكة الذين يرون وجه الآب على الدوام، والتي نبقى بعد لا نحتملها.

لهذا عندما يقول: “سيعلمكم كل الحق“، أو “يرشدكم إلى جميع الحق” [١٣] لست أظن أن الملء ممكنًا في ذهن أي شخص في هذه الحياة، لأنه من وهو يعيش في هذا الجسد الفاسد والمقاوم للنفس يقدر أن يعرف كل الحق، إن كان الرسول يقول: “الآن أعرف بعض المعرفة”؟ وإنما يتحقق بالروح القدس الذي ننال الآن غيرته (٢ كو ١: ٢٢) حتى ننال بعد ذلك كمال المعرفة التي يقول عنها الرسول نفسه: “حينئذٍ وجهًا لوجهٍ” (١ كو ١٣: ١٢)[42].

القديس أغسطينوس

القديس باسيليوس الكبير

يعلق القديس أغسطينوس على قول السيد المسيح عن الروح القدس: “لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم، ويخبركم بأمورٍ آتية” [١٣]، قائلاً بأنه إذ هو من عند الآب ينبثق (يو ١٥: ٢٦) أزليًا، فهو من الآب وليس من نفسه، هو واحد معه ومساوٍ له في ذات الجوهر. هو من الآب، له ذات معرفته [إنه يسمع ممن ينبثق منه. بالنسبة له السمع هو معرفة، والمعرفة هي وجوده التي سبق لنا مناقشتها. لأنه ليس من ذاته، بل من ذاك الذي انبثق منه، والذي منه له الكيان والمعرفة والسمع التي ليست إلاَّ معرفة… هذا السمع سرمدي، لأن المعرفة سرمدية… وما هو سرمدي ليس له بداية ولا نهاية، يمكن استخدام الفعل في أية صيغة سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل[44].]

ذاك يمجدني،

لأنه يأخذ مما لي ويخبركم“. [14]

إرسال الروح القدس وعمله يمجدان الابن. فالآب يمجده في السماء، والروح القدس يمجده على الأرض. يأتي الروح القدس باسم المسيح، ويعمل لحساب مملكته، محققًا رسالة إنجيله. لا يأتي ليقيم مملكة أخرى، بل هي ذات مملكة المسيح التي تنسب أيضًا للآب، لأن كل ما للابن هو للآب، وما للآب هو للابن.

إذ صار المسيح ابن البشر قدم الآب ما له للابن لأجلنا، وعهد الابن بدوره العمل للروح القدس، هنا وحدة الثالوث في العمل.

كل ما للآب هو لي،

لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم“. [15]

يتمتع المؤمنون المعمدون باسم المسيح بالشركة معه في موته وقيامته بطريقة غير خاضعة لحواسنا الظاهرية. وهي تتم بعمل الروح القدس الذي ينحدر من السماء باستدعاء الكاهن كما رسم السيد المسيح في كنيسته المقدسة. هذا الروح الذي يأخذ مما للمسيح ويعطينا (يو 15:16).

يعطينا الروح هذا السرّ بفضل نعمة المسيح، لأنه “لا بأعمال في البرّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصـنا بغسل الميلاد الثاني، تجديد الروح القدس” (تي 5:3). “مبارك اللَّه أبو ربنا يسوع المسيح الذي على حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات لميراث لا يبلى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات لكم” (1 بط 3: 4).

يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 14:16). فبحسب اعتقاد المنادين بالفيلوك[45] بخصوص العلاقات الباطنة في أقانيم الثالوث لا يمكن لأقنوم أن يأخذ أو يتقبل شيئًا من أحد الأقنومين الآخرين إلا بطريق “الانبثاق”[46].

يرى فوتيوسPhotius أن هذه الكلمات لا تعني أن الروح القدس يأخذ من الابن بل من الآب؛ لأن السيد المسيح لم يقل “يأخذ مني of Me” بل قال: “يأخذ مما لي on Mine، فالتعبير الأول يعني من ينطق به (شخصيًا)، أما تعبير “مما لي” فيعلن عن شخص آخر يرتبط مع المتكلم برباط القرابة[47]. لقد أضاف الرب: “كل ما للآب هو لي“، لذلك ما يأخذه الروح مما لي إنما يأخذه من الآب[48]. الأخذ هنا لا يخص الجوهر الإلهي بل سمات ربنا يسوع المسيح حتى نتشكل نحن على صورة الابن (رو 29:8).

القديس أمبروسيوس

3. وعد باللقاء معهم بعد قيامته

بعد قليل لا تبصرونني،

ثم بعد قليل أيضًا ترونني،

لأني ذاهب إلى الآب“. [16]

إن كان السيد المسيح يجتاز طريق الألم والموت فهو يفارقهم بالجسد إلى حين، يدعو هذا “قليلاً“، إذ يعود فيظهر لهم بعد قيامته ويهبهم راحة وتعزية. بعد قليل يموت، فيختفي عنهم ثم يقوم، وبعد قليل يصعد إلى السماء إلى الآب، ثم يعود على السحاب ليحمل كنيسته إلى المجد الأبدي. فالزمن طال أم قصر هو قليل جدًا، لأنه ليس من وجه للمقارنة بين الزمن والأبدية. وكما يقول القديس بطرس الرسول: “ولكن لا يُخف عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء، أن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيومٍ واحدٍ. لا يتباطأ الرب عن وعده، كما يحسب قـوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا” (٢ بط ٣ : ٨–٩). كأنه يقول إن دوري يستلزم ترككم، لكن هذا الترك هو لحسابكم، لخلاصكم ولمجدكم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فقال قوم من تلاميذه بعضهم لبعض:

ما هو هذا الذي يقوله لنا،

بعد قليل لا تبصرونني،

ثم بعد قليل أيضًا ترونني،

ولأني ذاهب إلى الآب“. [17]

فقالوا ما هو هذا القليل الذي يقول عنه؟

لسنا نعلم بماذا يتكلم“. [18]

تحنن السيد المسيح، إذ رآهم في حيرة لا يدركون كلماته، وإذ لم يجسر أحدهم أن يسأله كانوا يتهامسون فيما بينهم يسألون بعضهم البعض عما يقصد. لم يتركهم هكذا في حيرتهم فبدأ يفسر لهم كلماته.

قال السيد المسيح هنا هذا القول في توصية تلاميذه وإيضاحه لهم عظمة حبه، لاظهاره ذاته من هو.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فعلم يسوع أنهم كانوا يريدون أن يسألوه،

فقال لهم:

أعن هذا تتساءلون فيما بينكم؟

لأني قلت بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني“. [19]

الحق الحق أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون، والعالم يفرح.

أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرحٍ”. [20]

إذ لم يستطع التلاميذ أن يدركوا ما يقوله حدثهم بصراحة أنهم سيحزنون بسبب آلامه وصلبه وموته. لقد عرف أنهم مشتاقون إلى المعرفة لذلك شرح لهم الأمر. لم يخبرهم في تفاصيل، إنما أخبرهم بما سيحل بهم، ويمس مشاعرهم من حزن ثم فرح. لم يحدثهم بأكثر من هذا حتى لا يزداد ارتباكهم، إنما أكد أن ذلك يؤول إلى فرحهم وإلى تمتعهم بميلاد جديد.

يجد الأشرار فرحهم ومسرتهم في حزن القديسين وآلامهم، بينما يجد المؤمن مسرته في مشاركة المتألمين، حاسبًا آلام كل إنسان كأنها آلامه الشخصية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

المرأة وهي تلد تحزن،

لأن ساعتها قد جاءت.

ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح،

لأنه قد وُلد إنسان في العالم“. [21]

لم يعدهم بنزع الضيقات، لكنه وعدهم بتقديم فهم جديد للألم، إذ يجعله كألم المخاض، الذي يليه ولادة طفلٍ، فيحتل الفرح موضع الألم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فأنتم كذلك عندكم الآن حزن،

ولكني سأراكم أيضًا، فتفرح قلوبكم،

ولا ينزع أحد فرحكم منكم“. [22]

إن كنا نتمتع بكمال الفرح في الأبدية غير أننا ننال عربونه هنا، فنحيا في فرحٍ داخليٍ لا ينقطع (٢ كو ٦: ١٠). سرعان ما يتحول فرح العالم بمسراته ومباهجه إلى حزنٍ، لأنه عالم متقلب على الدوام. وسرعان ما يتحول الحزن الروحي إلى فرحٍ دائمٍ، لأنه فرح المسيح غير متغير. يقدم السبب لفرحنا الذي لا يُنزع منا، وهو رؤيته لنا أو ظهوره لنا، يرانا أعضاء جسمه ونراه رأسنا. فإنه يبدو كمن قد تركنا لحيظة ليعود فيجمعنا بمراحمه العظيمة وغنى نعمته (إش ٥٤: ٧).

عودته هي عودة للفرح إلى القلب، يعود كمصدر حقيقي للفرح الداخلي الدائم، وشبع للنفس. هذا الفرح لا يستطيع أحد ولا تستطيع الأحداث أن تنزعه عنا، إذ لا تقدر أن تغتصب النفس من مخلصها، ولا أن تسحبها من محبة المسيح لها.

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. استجابة صلواتهم

أما السبب الثاني لفرحهم الدائم أنه إذ يُظهر المسيح نفسه لهم ويراهم، يرتبطون بالآب فيطلبون باسم المسيح فينالوا مهما كانت طلبتهم.

يعاتبهم أنهم لم يطلبوا شيئًا بعد باسمه لكي يكون فرحهم كاملاً. وماذا يطلبون إلاَّ سكنى الثالوث القدوس فيهم؟!

وفي ذلك اليوم لا تسألونني شيئًا.

الحق الحق أقول لكم إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم“. [23]

لا يحتاجون بعد أن يطلبوا شيئًا بعد ظهور السيد المسيح لهم، إذ فيه كل الكفاية. هكذا يتجلى السيد المسيح القائم من الأموات في القلب فيشبع كل احتياجاته، ولا يدعه معوزًا شيئًا. لا يطلبون شيئًا، لأن الروح القدس يهبهم كل الحق، ويقودهم فيه، فيتمتعون بملكوت المسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي.

أطلبوا تأخذوا،

ليكون فرحكم كاملاً”. [24]

إلى تلك اللحظات لم يطلبوا شيئًا، لكن متى جاء ذاك فهو يعلمهم الصلاة فيطلبوا الاتحاد مع الله الآب بالابن الوحيد الجنس في الروح القدس.

يعرف أنه قد أُظهر وأنه مخفي. يعرف أن فيه قد أُعلن ما هو مخفي. يعرف هذا كله. يقول المزمور: “يا لعظم فيض عذوبتك يا رب، التي أخفيتها للذين يخافونك، التي تصنعها للذين يترجونك” (مز ٣٠ : ٢٠ LXX).

عذوبتك عظيمة ومتعددة أخفيتها للذين يخافونك…

فلمن تفتحها؟ للذين يترجونك.

سؤال بجانبين قد أُثير، لكن كل جانب يحل الآخر…

هل الذين يخافون والذين يترجون مختلفون؟

أليس الذين يخافون الله هم يترجونه؟…

للناموس الخوف، وللنعمة الرجاء… الناموس ينذر من يتكل على ذاته، والنعمة تعين من يثق في الله… نحن نسمع الناموس. فإن لم توجد نعمة، تسمع العقوبة التي تحل بك… لتصرخ: “ويحي أنا الإنسان الشقي!” (رو ٧: ٢٤). لتعرف نفسك أنك منهزم، لتكن قوتك في خزي ولتقل: “ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من هذا الجسد المائت؟”… هكذا ينذر الناموس من يعتمد على ذاته.

أنظر هوذا إنسان يعتمد على ذاته، يحاول أن يجاهد، إنه منبطح ومُستعبد وأُخذ أسيرًا. من تعلم أن يعتمد على الله، وقد بقي الناموس ينذره ألا يعتمد على ذاته، الآن تسنده النعمة. إذ يعتمد على الله. في هذه الثقة يقول: “من ينقذني من جسد هذا الموت؟ نعمة الله بيسوع المسيح ربنا” (رو ٧ : ٢٤ – ٢٥ Vulgate).

الآن أنظر إلى العذوبة، تذوقها، تلذذ بها. اسمع المزمور: “ذوقوا وانظروا ما أعذب الرب” (مز ٣٤ : ٨ Vulgate). يصير عذبًا لك، إذ ينقذك.

كنت في مرارة ذاتك، عندما اعتمدت عليها. لتشرب العذوبة، ولتتقبل غيرة الفيض العظيم هكذا[60].

لكي يكون فرحكم كاملاً“، أي اسألوا ما يشبعكم.

عندما تسألون أمورًا زمنية لا تسألون شيئًا. “من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا” (يو ٤: ١٣)…

اسألوا ما يشبعكم!

تحدثوا بلغة فيلبس: “يا رب أرنا الآب وكفانا” (يو ١٤: ٨). قال له الرب: أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني؟ من رآني يا فيلبس، فقد رأى الآب أيضًا” (يو ١٤: 9 Vulgate).

قدم تشكرات للمسيح الذي صار ضعيفًا لأجلكم لأنكم ضعفاء، ولتكن رغباتكم معدة للاهوت المسيح لكي تشبع بها[61].

وما جاء بعد ذلك: “إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي” [٢٤] يُفهم بطريقتين: إما أنكم لم تطلبوا باسمي، إذ لم تعرفوا اسمي بعد كما يجب، أو أنكم لم تطلبوا شيئًا، إن قورن بما يجب أن تطلبوه، فما تطلبونه يُحسب كلا شيء[62].

القديس أغسطينوس

قد كلمتكم بهذا بأمثالٍ،

ولكن تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضًا بأمثالٍ،

بل أخبركم عن الآب علانية“. [25]

إنه يقدم لنا معرفة عظيمة عن الآب، لنلتمس فيه أبوته، وندخل إلى أسراره، ونتأمل مجده الفائق. لن يكون الآب غريبًا عنا، وهذا ما يجعل فرحنا كاملاً.

مع كل ما شرحه لهم يحسب أنه لم يكشف لهم كل الأسرار الإلهية، لأنهم لم يكونوا بعد يحتملونها. إنه يكلمهم بأمثالٍ وليس علانية. أما بعد قيامته وصعوده وحلول الروح القدس عليهم فأخبرهم عن الأسرار علانية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس أغسطينوس أن “الساعة” هنا تعني المستقبل، حين نرى الله وجهًا لوجه. وكما يقول القديس بولس: “فإننا ننظر الآن في مرآة في لغزٍ، لكن حينئذ وجهًا لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عُرفتُ” (١ كو ١٣: ١٢).

في ذلك اليوم تطلبون باسمي،

ولست أقول لكم إني أنا أسأل الآب من أجلكم“. [26]

كأنه يقول لا توجد حاجة أن أخبركم إنني لن أكف عن أن أقدمكم خلال دمي المسفوك عنكم لدى الآب، فإن حبي لكم لن يتوقف، وحب الآب لكم لن ينتهي.

القديس أغسطينوس

لأن الآب نفسه يحبكم،

لأنكم قد أحببتموني،

وآمنتم إني من عند الله خرجت“. [27]

سرّ حب الآب للمؤمنين هو أن إيمانهم عامل بالمحبة (غلا ٥: ٦). بحبهم للابن يتمتعون بحب الآب لهم. بهذا يتمتع المؤمنون بالدالة لدى الآب، فيطلبون لا في خوف، وإنما بدالة الحب التي لهم لدى أبيهم السماوي المحب لأبنائه.

القديس أغسطينوس

5. صعوده إلى السماء

خرجت من عند الآب،

وقد أتيت إلى العالم،

وأيضًا أترك العالم،

وأذهب إلى الآب“. [28]

هنا يحدثهم علانية عن تجسده الذي انتهى به إلى صعوده لكي يحمل البشرية المؤمنة معه. هذا هو سرّ حبه، أنه ظهر في الجسد، وحملنا إلى المجد.

لقد جاء من عند الآب الذي كرسه لهذا العالم وختمه، ونزل إلى عالمنا في تواضعٍ عجيبٍ وحبٍ إلهيٍ فائقٍ. ثم عاد فترك العالم بالجسد، وعاد بصعوده إلى الآب. هذا هو سرّ الإنجيل كله (التجسد الإلهي، وموته بالجسد ثم قيامته وصعوده إلى السماء). هذا هو مفتاح السماء!

 القديس هيلاري أسقف بواتييه

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

القديس أغسطينوس

6. تركه عند آلامه

قال له تلاميذه:

هوذا الآن تتكلم علانية،

ولست تقول مثلاً واحدًا“. [29]

توبيخ السيد المسيح للتلاميذ برقةٍ ولطفٍ ومحبةٍ أعطاهم الثقة والشعور بأنه يتحدث معهم علانية، ويرد على أسئلتهم التي في داخل أفكارهم ولم يستطيعوا أن يعَّبروا عنها أو يفصحوا بها. شعر التلاميذ أنه يتحدث معهم بكل وضوح وصراحة، خاصة وأنهم يؤمنون بأنه المسيا العالم بكل شيء، ولا يخفي عنه شيء ما. إنه العارف القلوب وفاحص الكلى، ولا يحتاج أن يسأله أحد، بل يعرف أسرارهم وأفكارهم واحتياجاتهم الداخلية.

يرى القديس أغسطينوس أن التلاميذ ظنوا أنه يتكلم علانية ولا يقول مثلاً واحدًا بينما لم تكن بعد قد جاءت الساعة التي يتحقق فيها ذلك حسب وعده الإلهي. إنما جاءت عندما أكمل حديثه قائلاً: “هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن، تتفرقون كل واحد إلى خاصته…” [٣٢][70].

الآن نعلم أنك عالم بكل شيء،

ولست تحتاج أن يسألك أحد،

لهذا نؤمن أنك من الله خرجت“. [30]

القديس يوحنا الذهبي الفم

أجابهم يسوع: الآن تؤمنون“. [31]

يجيبهم السيد المسيح: “أتؤمنون؟ هل سيبقى إيمانكم ثابتًا؟ إنه قد اقتربت الساعة التي فيها تتفرقون وتتركونني!”

الابن على الأرض ليس بدون الآب (يو30:10)، فكيف تظن أن الآب في السماء بدون الابن؟…

الابن في الجسد، وهو ليس وحده، كما هو مكتوب: “وأنا لست وحدي لأن الآب معي“، فهل تظن أن الآب يسكن وحده في النور؟[71]

القديس أمبروسيوس

هوذا تأتي ساعة وقد أتت،

الآن تتفرقون فيها كل واحدٍ إلى خاصته،

وتتركونني وحدي،

وأنا لست وحدي،

لأن الآب معي“. [32]

جاء السيد المسيح ليحتل مكاننا حتى ننعم بشركة مجده. فنحن جميعًا كثيرا ما نعاني من الشعور بالعزلة. قد يحيط بنا الوالدان لكننا من الأعماق نصرخ مع داود النبي: “أبي وأمي قد تركاني…” وقد يحوط بنا الأحباء والأصدقاء، لكننا نئن: “ليس من يشاركني مشاعري، ولا من يدرك أعماقي، ويشعر بأحاسيسي”. هذه صرخات النفس التي تحطمها الخطية وتعزلها عن إلهها مشبعها الحقيقي. ليس من يقدر بعد أن يملأ الفراغ الداخلي. أما وقد جاء السيد المسيح بلا خطية فإنه لن يعاني قط من شعور داخلي بالعزلة، لأنه لن ينفصل قط عن الآب وعن روحه القدوس. لكنه صار وحيدًا وسط البشر، حيث جاء إلي خاصته، وخاصته لم تقبله، وفي ساعة ضيقه تركه تلاميذه وصار وحيدًا، لكنه يعلن: “وأنا لست وحدي، لأن الآب معي” [32]. هذه صيحة النصرة التي تهتف بها كل نفس اتحدت مع مسيحها المتألم، فإنها لن تعاني من العزلة، ولن تشعر أنها وحدها! لأن الله ساكن فيها لا يفارقها.

7. غلبته لحسابهم

قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيّ سلام.

في العالم سيكون لكم ضيق،

ولكن ثقوا (افرحوا) أنا قد غلبت العالم“. [33]

بالإيمان يحل المسيح في قلوبنا، فنتمتع بنصرته نصرة لنا. “وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا. من هو الذي يغلب العالم إلاَّ الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله؟!” (١ يو ٥: ٤–٥).

السلام الذي يقدمه السيد المسيح لهم يحمل الحياة المطوَّبة المشرقة، ليتمتعوا بروح القوة والنصرة مع التعزية السماوية والسند الإلهي.

لم يخفِ عنهم أنه سيكون لهم في العالم ضيق، لكنه يطالبهم بالبهجة والسرور وسط الضيق، لأنه يتجلى في حياتهم كغالبٍ للعالم الشرير.

قيل أن فنانًا أراد أن يقدم لوحة عن السلام فاختار يومًا عاصفًا جدًا وصوَّر صخرة عظيمة تخبطها الأمواج من كل جانب، وقد ظهرت في اللوحة سفينة حطمتها الأمواج وجثث بعض النوتية والمسافرين تطفو على المياه وسط دوامات الأمواج. في وسط هذه الصخرة أقامت حمامة عشًا في نقرة وقد رقدت في النقرة مطمئنة جدًا، وسجل الفنان كلمة “سلام” على الصخرة تحت النقرة مباشرة. هكذا سلامنا هو في المسيح يسوع صخر الدهور. فيه نستقر ونستريح وسط كل دوامات الحياة وتجاربها.

إذن لنغلب العالم، لنركض نحو الخلود، لنتبع الملك، لنُعِد النصب التذكاري للغلبة، لنستخف بملذات العالم. لسنا نحتاج إلى تعب لإتمام ذلك.

لنحول نفوسنا إلى السماء، فينهزم كل العالم! عندما لا تشتهيه تغلبه؛ إن سخرت به يُقهر.

غرباء نحن ورُحَّل، فليتنا لا نحزن على أي أمورٍ محزنة خاصة به[72].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فإنه أين حارب؟ لقد حارب بأن أخذ طبيعتنا له…

لقد غلب من أجلنا نحن الذين أظهر لنا قيامته…

التصق يا إنسان بالله، هذا الذي خلقك إنسانًا. التصق به جدًا، ضع ثقتك فيه.

أدعه، ليكن هو قوتك. قل له: “فيك يا رب قوتي”.

عندئذ تتغنى عندما يهددك الناس، وأما ما تتغنى به يخبرك الرب نفسه: “إني أترجى الله، لا أخشى ماذا يفعل بي الإنسان” (مز ٥٦: ١١)[74].

إن كانوا قد هربوا من مدينة إلى مدينة لكنهم لم يهربوا منه هو.

بينما تلحق بهم التجربة في العالم يجدون فيه سلامًا.

عوض كونهم شاردين منه بالأحرى يجدون فيه ملجأ. فإنهم بعمل الروح القدس فيهم يتحقق فيهم ما قيل الآن: “كونوا متهللين، أنا قد غلبت العالم” [٣٣].

كانوا متهللين وغالبين، ولكن في من؟ فيه. فإنه ما يُحسب غالبًا للعالم إلا لكي تغلب أعضاؤه العالم. لهذا يقول الرسول: “شكرًا لله الذي يهبنا الغلبة” مضيفًا في الحال: “بربنا يسوع المسيح” (١ كو ١٥: ٧٥)[75].

القديس أغسطينوس

من وحي يو ١٦

لا تتركني وحدي!

إنه يحسب في موتي خدمة لله وله!

تعزيتي أنه أراد الخلاص منك، ولم يدرِ أنك مخلصه.

إنه يود الخلاص مني، فلن أكف عن محبتي له!

فيما أنت مجرب تقدر أن تعين المجربين مثلي!

لقد صعدت إلى سماواتك،

لكنك لم تفارقني، فأنت مالئ السماء والأرض.

ليبكتني على خطيتي، فأمتلئ رجاءً بغافر الخطايا!

ليبكتني على برّ، فأتراءى أمام الآب مختفيًا في برَّك!

ليبكتني على دينونة، فأرى إبليس مُدانًا تحت قدمي!

ويعلن لي حقك كله،

فأتعرف على خطتك نحوي!

بحلوله فيّ تتجلى أنت في أعماقي.

أراك وأسمعك وأتلامس مع حبك!

وسط آلام العالم أتمتع بتعزياتك الإلهية.

يحملني إليك وأنت في البستان وحدك.

تركك الكل، لكن لن يقدر أحد أن يفصلك عن أبيك.

هب لي في وحدتي أن أتمتع بالشعور بحضرتك الإلهية!

نعم أقول إنك لا تتركني وحدي!

[1] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 93:1.

[2] Bammidar, R. 21ad Num. 25 :13.

[3] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 93:2.

[4] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 93:3.

[5] Homilies on St. John, 77:3.

[6] Letter 58 to the people abiding in Thibaris, 2.

[7] Homilies on St. John, 77:3-4.

[8] Homilies on St. John, 78:1.

[9] Homilies on St. John, 78:1.

[10] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 94:3.

[11] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 94:4.

[12] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 94:5.

[13] Homilies on St. John, 78:1.

[14] Homilies on St. John, 78:1.

[15] للمؤلف: الله مقدسي، 1967، ص 3.

[16] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 94:2.

[17] Moral 8:13.

[18] Sermon on N.T. Lessons, 93:4.

[19] Homilies on St. John, 78:1.

[20] للمؤلف: الله مقدسي، 1967، ص 12-13.

[21] The Mission of the Holy Spirit, in Toal 2:369- 371. PG 74; 922 B2

[22] Homilies on St. John, 78:1.

[23] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 95:1.

[24] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 95:2.

[25] Homilies on St. John, 78:1.

[26] Sermon on N.T. Lessons, 94:3-5.

[27] Sermon on N.T. Lessons, 94:6.

[28] Of the Christian Faith, 3:11: 90.

[29] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 95:3.

[30] Homilies on St. John, 78:1.

[31] Sermon on N.T. Lessons, 94:6.

[32] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 95:4.

[33] Homilies on St. John, 78:1.

[34] Homilies on St. John, 78:2.

[35] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 96:1.

[36] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 96:2.

[37] Letters, 166:27.

 

[38] Of the Holy Spirit, Book 3:14:99.

[39] Of the Holy Spirit, 2:12 (131, 133, 134).

[40] Of the Christian Faith, 5:11 (133).

[41] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 96:3. cf.

[42] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 96:4.

[43] Ad. Eunom. 5.

[44] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 99:4 – 5.

[45] أن الروح القدس منبثق من الآب والابن (راجع بحثنا عن الفيلوك في الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية).

[46] Cross: Oxford Dictionary of the Christian Church, 1985, p. 423.

[47] Photius: De S. Spiritus Mystaggia 22.

[48] Photius: De S. Spiritus Mystaggia 29.

[49] Of The Holy Spirit, 2:11 (118).

[50] Of the Holy Spirit Book 3:18:223.

[51] Of the Christian Faith, 4:8:80.

[52] Of the Christian Faith, 2:6 :51.

[53] Hom. 79. PG 59-465.

[54] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 101:2.

[55] Hom. 79. PG. 59:466.

[56] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 101:3.

[57] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 101:5.

[58] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 101:6.

[59] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 102:3.

[60] Sermon on N.T. Lessons, 95:1-5.

[61] Sermon on N.T. Lessons, 95:6.

[62] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 102:2.

[63] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 102:4.

[64] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 102:5.

[65] On the Trinity, 6 (31).

[66] On the Trinity, 6 (31).

[67] In 1 Cor. Hom. 20.

[68] On the Holy Spirit, Book 2:8:80.

[69] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 102:6.

[70] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 104:1.

[71] On the Christian Faith, Book 3:3:22-23.

[72] Homilies on St. John, 78:3.

[73] Letters, 39.

[74] Sermon on N.T. Lessons, 67:4.

[75] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 103:3.

تفسير انجيل يوحنا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
Exit mobile version