Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير كورنثوس الأولى 11 – الأصحاح الحادي عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الأولى 11 – الأصحاح الحادي عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الأولى 11 – الأصحاح الحادي عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الأولى 11 – الأصحاح الحادي عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

الباب الرابع

معالجة مشاكل تعبدية

11-14

التكلم بالألسنة (11-14)

 

تنظيمات كنسية روحية

بدأ الرسول بولس في هذا القسم بمعالجة بعض التنظيمات الكنسية الروحية مؤكدًا مساواة المرأة بالرجل (1:11-16)، والتزام المؤمن بفحص نفسه قبل التناول من جسد الرب ودمه (11: 17-34).

موهبة التكلم بالألسنة

من بين مواهب الروح القدس للكنيسة قدم موهبة التكلم بالألسنة حتى يتأكد اليهود في العالم كله أن اللَّه ليس إله اليهود وحدهم بل إله كل الأمم، الأمر الذي كان يصعب عليهم جدًا قبوله. وكان غايتها أيضًا الكرازة وسط الأمم التي لم يتعلم الرسل الحديث بلغاتهم. لكن أهل كورنثوس أساءوا فهمها، لهذا تحدث الرسول أولاً عن المواهب الكنسية (12)، ثم أكد أن المحبة أعظم من كل المواهب (13)، وأخيرًا أكد أن اللَّه إله سلام وليس إله تشويش لذا يجب عدم إساءة استخدام المواهب خاصة التكلم بالألسنة (14).

الإصحاح الحادي عشر

تدابير كنسية

عالج الرسول بولس في هذا الإصحاح بعض التنظيمات الكنسية الروحية مثل العلاقة بين المرأة والرجل في الكنيسة، وتنظيم ولائم الأغابي والتزام المؤمن بفحص نفسه قبل التناول من جسد الرب ودمه.

1- الرجل والمرأة في الكنيسة 1- 16.

2- ولائم الأغابي في الكنيسة 17-22.

3- التناول من الأفخارستيا 23- 34.

1- الرجل والمرأة في الكنيسة

كونوا متمثلين بي،

كما أنا أيضًا بالمسيح” [1].

هذه العبارة هي خاتمة الإصحاح السابق والنتيجة النهائية له، وبداية هذا الإصحاح. خاتمة الإصحاح السابق حيث يقدم الرسول نفسه لهم مثالاً في بذل النفس لصالح الغير، والاهتمام بأن لا يعثر أحدًا من اليهود أو الأمم أو المسيحيين. وهو بداية هذا الإصحاح حيث يحثهم خلال تمثلهم به أن يتمسكوا بالأكثر بما سلمه إليهم ويتفهموا بحكمة التدابير الخاصة بالعبادة الكنسية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

من بين هؤلاء كان الرسول القائل: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح” [1]. كان نورًا أشعله النور الأبدي، الرب يسوع المسيح نفسه، ووضعه على منارة لأنه تمجد في صليبه، وذلك كقوله: “حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح” (غل 6: 14)[2].

القديس أغسطينوس

القديس باسيليوس الكبير

أمبروسياستر

“أفأمدحكم أيها الاخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء،

وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم” [2].

إذ عالج الرسول بعض الأمور الخاصة بالتنظيمات الكنسية بدأ لا بالهجوم عليهم بسبب ما اتسمت به الكنيسة هناك من تشويش، وإنما قدم الجانب الإيجابي. إنه يمدحهم لأنه قد استقر الأمر عندهم أنه رسول صاحب سلطان، وأنهم يطلبون إرشاده في كل شيء في التنظيم الكنسي. هذا ما يقصده الرسول بقوله: “تذكرونني في كل شيء” [2]. إنهم يسألونه كصاحب سلطان رسولي ليرشدهم في التنظيم الكنسي.

واضح من هذه العبارة أن الرسول سلم إليهم أمورًا كثيرة شفاهًا أو عمليًا، وأنهم قد التزموا بها. وها هو يمدحهم لأجل اهتمامهم بحفظ ما تسلموه منه، حاثًا إياهم أن يتمثلوا به في المسيح يسوع. لا يترك الرسول فرصة تسنح له إلا ويمدح من يخدمهم، مؤمنًا بضرورة التشجيع.

في الإصحاح السابع (7: 1) كتبوا إليه بخصوص القائد الذي أراد الزواج بامرأة أبيه كما سبق فرأينا. أما في هذا الإصحاح فواضح أنهم بعثوا إليه يطلبون مشورته في دور المرأة في الاجتماعات الكنسية العامة، خاصة في العبادة. فإن تمتعت بنوع من الإعلان أو الوحي، هل تقوم بدور قيادي في العبادة، وتنزع عنها الحجاب وتعلم الجمهور؟

أما الكلمة المترجمة بالعربية “تعاليم” فباليونانية paradoosseis وهي تعني “التقاليد“، فقد سلمهم الرسول أمورًا كثيرة، تمس العبادة الكنسية، شفاهًا أو بالتسليم العملي، وليس بالضرورة بالتعاليم المكتوبة، مثل ممارسة الافخارستيا وغيرها من التدابير الخاصة بالعبادة.

القديس باسيليوس الكبير
القديس يوحنا الذهبي الفم

ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح،

وأما رأس المرأة فهو الرجل،

ورأس المسيح هو اللَّه” [3].

لم يقدم الرسول الاجابة مباشرة لكنه يدعوهم لدراسة الموقف والتعرف على بعض الحقائق التى منها يمكن أخذ القرار. وكأنه يود أن يؤكد أن النظام الكنسي لا يقوم علي قوانين جامدة نلتزم بطاعتها دون حوارٍ، بل أن نتعرف على المفاهيم الروحية واللاهوتية وراء كل قانون أو نظام. أنه يؤكد: “أريد أن تعلموا“، مقدمًا ثلاثة أنواع مختلفة من الرؤوس:

أولا: المسيح هو رأس الرجل

لقد تنازل الكلمة وصار إنسانًا واحتل آخر صفوف البشرية. قَبِلَ أن يكون عبدًا مباعًا بثلاثين من فضة، يخونه تلميذه، لكي بالتواضع والحب الباذل يصير رأسًا ومدبرًا وقائدًا للإنسان. كان يمكنه أن يصدر أوامره من السماء ونلتزم بطاعته، لكن مسيحنا يقدم مفهومًا جديدًا للرئاسة، وهي رئاسة الالتزام والبذل للذات من أجل مرءوسيه المحبوبين لديه جدًا.

بقوله “رأس كل رجل” ربما يقصد كل مؤمن، أو أنه قدم حياته عن كل البشرية ليحتضن كل إنسان في العالم!

القديس أغسطينوس

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

العلامة ترتليان

القديس كيرلس الأورشليمي

ثانيًا: الرجل رأس المرأة

كثيرًا ما يعتمد بعض الرجال علي هذا الجزء من العبارة لالزام المرأة بالخضوع له. لكن الرسول سبق فقدم رئاسة المسيح للرجل كمثالٍ، فإن أراد الرجل أن يمارس رئاسته يلتزم أن يقتدي بمسيحه. ينزل بالحب الي قلب زوجته ويكرمها ويبذل ذاته من أجلها، فتشتهي هي أن تجد في رجلها الحماية لها، إذ تراه أهلاً لذلك، وأنه قادر علي ممارسة دوره. فرئاسة الرجل للزوجة هي حق تطالب به الزوجة، إذ تود أن ترى في رجلها القائد الباذل، المتواضع، وليس حقًا يطالب به الزوج لغرض السلطة والتحكم بلا حكمة وبدون حب!

القديس أمبروسيوس

ثالثًا: اللَّه الآب رأس المسيح

قبل اللَّه الكلمة أن يصير وسيطًا لدي الآب عن البشرية؛ بإرادته صار إنسانًا وخضع لإرادة أبيه وهو واحد معه في الجوهر، ليتمم كل تدبير الخلاص في طاعة كاملة. وكما يقول الرسول: “مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به” (عب 5: 8). ففي دوره في الخلاص قام بدور الخاضع لطاعة أبيه حتى ينزع عنا طبيعة العصيان ونشاركه سمة الطاعة.

أمبروسياستر

القديس يوحنا الذهبي الفم

كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء يشين رأسه” [4].

يقصد بكلمة “يتنبأ” هنا “يعلم” علانية أو فى الاجتماعات العامة، ليعلن مشيئة اللَّه وإرادته، أي الحديث مع الناس لأجل البنيان وتقديم إرشادات وراحة روحية (1 كو 14:3). فبقوله: “يصلي أو يتنبأ” يعني أنه يقوم بعمل قيادي في العبادة الكنسية.

لا يليق بالرجل أن يعظ وقد وضع علي رأسه حجابًا أو قبعة، لأن كشف الرأس علامة الخضوع. فهو يعظ في حضرة المسيح الآب، خاضعًا لروحه القدوس. إذ يمثل القائد الروحي شخص السيد المسيح الذي أطاع الأب ويكرمه لذا يكشف رأسه عندما يبدأ في الخدمة التعبدية العامة. إلي يومنا هذا نجد بعض الأوربيين حين يحيون شخصًا يرفعون القبعة علامة التكريم.

يشين رأسه“، أي يهين مسيحه؛ في كل العالم يكشف الرجل رأسه في حضرة من هو أعظم منه في الرتبة (كما في الجيش) أو المركز (أمام الامبراطور أو الرئيس أو أحد الأشراف).

ربما يتساءل البعض: لماذا يرتدي الكاهن (أو الشماس أو الأسقف) إكليلاً علي رأسه أثناء خدمة القداس الإلهي؟ جاء في الطقس القبطي أن الكاهن عند رفع البخور يكشف رأسه[16]. أما في أثناء القداس الإلهي يذكر المسيح ملك الملوك فإنه يضع تاجًا علي رأسه إذ يحتفل كما بعرس الملك السماوي وكنيسته الملكة السماوية. يشعر خدام المذبح أنهم في حضرته قد توّجوا ملوكًا روحيين، فهم يعتزون بما ينالونه من كرامة روحية خلال ذبيحة الصليب.

أما ارتداء الكاهن العمامة على رأسه في أثناء خدماته الأخرى ورعايته للشعب، فإن العمامة السوداء قد فرضها الحاكم بأمر اللَّه على المسيحيين والزرقاء علي اليهود كنوعٍ من السخرية بهم. لذا يرتديها الكاهن علامة قبوله عار المسيح بسرور!

كان الرسول قد نصحهم في هذه الأمور قبلاً، يبدو أن البعض أصغوا إليه والآخرون لم يطيعوه. هنا يمتدح المطيعين قبل أن يتحدث عن تصحيح موقف الآخرين[17].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها،

لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه” [5].

العلامة ترتليان

كثيرا ما أُشير الى نبيات في الكتاب المقدس مثل مريم (خر 15: 20) ودبـورة (قض 4: 4) وخلدة (2 مل 22: 14) ونوعدية (نح 6 14) وحنة (لو 2: 36). وهكذا وُجدت في الكنيسة الأولى في عصر الرسل نساء نبيات يكشف اللَّه لهن إرادته ومصليات من أجل الآخرين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كان لكنيسة كورنثوس وضعها الخاص، يبدو أن بعض النساء ادعين الوحي وتشبهن بالكاهنات الوثنيات اللواتي كن ينزعن الحجاب ولا يضعن غطاء على رؤوسهن وتظهر شعورهن بطريقة غير منظمة (منكوشة) علامة حلول الوحي عليهن. وقد عرفت هؤلاء الكاهنات بالفساد الأخلاقي والإباحية.

وكانت بعض النساء ذلك الحين لا يضعن غطاء للرأس بقصد لفت نظر الرجال. أراد الرسول أن يكون طابع النساء المسيحيات الوقار والاحتشام والتواضع، خاصة أثناء العبادة الجماعية. فمنعهن من كشف رؤوسهن أثناء النبوة أو الصلاة.

نزع الغطاء أيضًا بالنسبة للمرأة كان علامة عدم الخضوع وعدم تكريم الآخرين، خاصة الزوج أو الأب أو الرجال بوجه عام في الاجتماعات العامة.

يحسب الرسول هذا الاتجاه برفع غطاء الرأس إهانة للمرأة مثله مثل المحلوقة. فقد كان الشعر الطويل علامة جمال المرأة، أما المحلوقة فهي تسئ إلى جمالها بغية أن تبدو كمن في مركز الرجل، وهي بهذا تكشف عن عدم اعتزازها بجنسها كامرأة. كرامة كل جنس في اعتزاز الشخص بجنسه، فلا يتشامخ على الجنس الآخر، كما لا يحسده كمن هو أفضل منه.

يلاحظ هنا أن للمرأة دور قيادي بين النساء والعذارى، تقود الصلاة وتعظ (تتنبأ) ولكن برأس مغطاة. كانت العادة بين اليهود كما بين اليونانيين والرومانيين ألا تظهر سيدة علي مجتمع برأس مكشوفة وكانت عادة النساء اللواتي يفتحن بيوتا للشر أن يظهرن برؤوسهن مكشوفة.

كانت الزانيات والعاهرات يعاقبن بحلق رؤوسهن كأمر مشين لهن. حلق شعر الرأس يعني أنهن قد الحقن بالإساءة إلى رجالهن (إن كن متزوجات) الذين هم رؤوسهن، أو أنهن لا يستحققن أن يكون لهن أزواج كرؤوس مكرمة.

يخبرنا[20] Tacitus مع التعداد الضخم يندر جدًا وجود زانيات بين الألمان، وإن وجدت سيدة زانية تعاقب بحلق رأسها وكشف رأسها أمام أقاربها، ويقوم زوجها بطردها من البيت.

وبحسب الشريعة الموسوية إن أٌتهمت زوجة بالزنا تقف أمام الكاهن ويكشف رأسها (عد 5: 18).

أيضا كانت المرأة العبدة (الأمة) كثيرا ما يُحلق شعر رأسها. يروي Achilles Tacitus Clitophon عن Leucippe التي انحطت إلى العبودية أنها بيعت كعبدة وحلق شعرها ونزع الحلي من رأسها.

ومن عادة اليونانيين أن تحلق النساء شعورهن عند الحزن الشديد.

عند الهندوس تقص المرأة شعرها عند موت رجلها علامة ترملها، أما المتزوجة فلن تفعل ذلك إذ تحسب شعرها هو جمالها.

كما إذا ارتدت سيدة ثيابًا خليعة يحسب ذلك إهانة لزوجها حيث يشك في سلوكها، هكذا كان الحال فيمن تظهر برأسها مكشوفة[21].

كانت بعض النساء الكورنثوسيات مملوءات تشامخًا، فكن يتقدمن الصفوف في الكنيسة وتقوم بعضهن بالوعظ العام وترأسن الاجتماعات وهن مكشوفات الرأس، متمثلات بالكاهنات الوثنيات.

القديس يوحنا الذهبي الفم
القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ المرأة إن كانت لا تتغطى، فلُيقص شعرها،

وإن كان قبيحًا بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغط [6].

ليس أمام المرأة إلا أن تغطي شعرها أو تحلقه، فإن كشف الرأس في ذلك الحين يحمل ذات القبح لحلق الشعر. لهذا نجد عند موت Clytemnestra قامت أختها بقص اطرف شعر رأسها ولم تقص شعرها كله، لأن هذا أمر معيب.

يقدم الرسول للمرأة الخيار بين أن تغطي رأسها أو تحلق شعرها. فإن كان بحسب الطبيعة والعادة يُحسب حلق الشعر عارًا فيكون كشف الرأس على نفس المستوى.

أليس من المعيب أن تحلق الراهبة شعرها؟ كراهبة ترفض جمال الطبيعة بالنسبة لها، ولا تهتم بنظرة الناس إليها. إنها تحلق شعرها حتى لا تنشغل به، ولكي تتفرغ تمامًا للعبادة أو الخدمة قدر ما تستطيع.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة اللَّه ومجده،

وأما المرأة فهي مجد الرجل [7].

لا يرتدي الرجل غطاءً على رأسه أثناء العبادة الجماعية، علامة اعتزازه بالسلطة التى وهبه اللَّه إياها، فقد خلقه اللَّه علي مثاله ليكون صاحب سلطان علي الخليقة الأرضية، لا أن يكون في عبودية أو مذلة.

المرأة كعظمٍ من عظام رجلها ومن لحمه فإنها مجده وبهاؤه. فقد خُلقت المرأة أيضًا علي صورة اللَّه ومثاله (تك 1: 26- 27)، لكنها إذ جاءت في الترتيب بعد الرجل في زمن الخليقة لزمها أن تمارس الخضوع علامة عدم الرغبة في الاستقلال عن رجلها، إذ أن الاثنين جسد واحد. خضوع المرأة ليس مذلة، لأنها مجد رجلها، بدونها كمن يفقد مجده.

هكذا يعتز الرجل بالرئاسة لا للتشامخ بل للالتزام بالمسئولية والحب العملي الباذل من أجل الأسرة. وتلتزم الزوجة بالخضوع لا بروح المذلة، وإنما بروح الوحدة والعمل معًا ليكون رجلها مفتخرًا بها كمجده وبهائه.

يبرز الرسول دور الرجل كوكيل اللَّه، فيظهر في العبادة الجماعية برأسٍ مكشوفة علامة شهادة لمجد اللَّه.

كما يهتم الرجل بالشهادة للَّه كصاحب سلطان، هكذا المرأة مجد الرجل، ففي بيتها تحمل السلطان وسط أسرتها وبين أولادها، فيفرح رجلها بعملها فيهم. المرأة مجد رجلها أو عاره، فإن اهتمت بتربية أولادها في مخافة الرب ومحبته مجدت رجلها أمام اللَّه والناس، وان أهملت في تربيتهم خذلته أمام السماء وعلي الأرض.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأن الرجل ليس من المرأة

بل المرأة من الرجل [8].

خُلقت المرأة من جنب الرجل (تك 2: 18، 22-23). لكنها ليست من صنع يديه، بل قام اللَّه بخلقتها، وكأن الرجل هو الحجاب الذي بين المرأة واللَّه فتلتزم المرأة بهذا الغطاء، أما الرجل فخلقه اللَّه مباشرة ولا يجوز له أن يرتدي حجابًا أو غطاءً للرأس.

ولأن الرجل لم يُخلق من أجل المرأة،

بل المرأة من أجل الرجل [9].

لم يخلق الرجل من أجل المرأة، بل خُلقت المرأة لتكون معينة له (تك2: 18، 21-22)، فهي عروسه كما الكنيسة بالنسبة للمسيح. لم تُخلق لتكون له خادمة أو عبدة بل “معينة”. لا لتكون خادمة لملذاته وشهواته بل لتكون سندًا له في الحياة. لا لتكون من طبيعة أدنى منه، بل من ذات طبيعته، صديقة له، تشاركه أفراحه وأحزانه.

خلقت المرأة لتكون له معينًا تسنده في الحق. هذا لا يقلل من كرامتها، فإنه محتاج إليها، يسير كلاهما معًا في طريق واحد!

هذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها

من أجل الملائكة [10].

حوار الرسول بخصوص خضوع المرأة ليس ليقلل من كرامتها بل ليحثها على السلوك بروح الخضوع والحياء وقبول ما تستلزمه الطبيعة والعادات من وضع غطاء للرأس، مما يعطيها كرامة ومجدًا.

يربط الرسول بين الكلمتين “الغطاء (الحجاب) والخضوع “إذ في العبرية متقاربان: radad radid

سلطان علي رأسها“: يرى كثير من الدارسين أن كلمة “سلطان” هنا تعني “الحجاب”.

ويرى البعض أن السلطان هو غطاء رئيسي مزين أحيانا باللآلئ وذلك كالذي كانت ملكات فارس يرتديهن علامة البهاء مع الخضوع للملك.

كانت النساء المتزوجات ترتدين إياه ويدعىkerchief bandalette أو tiara. بينما كانت الفتيات غير المتزوجات يرتدين قبعات صغيرة بدلا من الـtiara . دُعي هكذا لأنه كان يرتديه النساء المتزوجات وكان لهن سلطان علي الفتيات غير المتزوجات. غير أن الحديث هنا ليس للتمييز بين المتزوجات وغير المتزوجات بل عن النساء اللواتي يتنبأن ويصلين في اجتماعات كنسية عامة.

يرى البعض أن السلطان هو اسم لزينة نسائية كن يرتدين إياها علي رؤوسهن.

في كثير من الدول في ذلك الحين كانت النساء يرتدين غطاء علي الرأس ينزل حتى العينين.

إذ تضع المرأة غطاءً لرأسها إنما تحمل سلطانًا أو قوة أو مجدًا كمؤمنة خاضعة لرجلها في الرب.

من هم الملائكة الذين من أجلهم يرتدين النساء الغطاء علي رؤوسهن؟ ربما يقصد جماعة المتعبدين، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنكم تقفون مع الملائكة، تسبحون وترنمون معهم فهل تضحكون؟]

يرى آخرون أن الملائكة هنا يُقصد بهم الملائكة الأشرار، أو الشياطين التي تحث الكل علي التمرد. إذ يتسلل بعض الأشرار إلي الاجتماعات الكنسية ليتطلعن إلى النساء اللواتي يتعبدن برؤوس مكشوفة.

ويرى آخرون إنها إشارة إلي خدام الكنيسة والعاملين فيها. ويرى آخرون أنه يقصد بالملائكة بالمعنى الحرفي، فإنهم إذ هم حاضرون في الكنيسة يشتركون معنا في العبادة فيجدون مسرتهم فينا كأبناء للَّه (جا 5: 6، 1 تي 5: 21). يتهللون ويفرحون بروح الورع والخضوع والحياء الذي يظهر علي النساء المتعبدات، فيقدمن هذا الروح كصلوات عملية أمام العرش الإلهي.

يرى البعض أن النذير يهتم بشعر رأسه فلا يلمسه موسى (عد 6: 5-7) علامة خضوعه للَّه وتكريس حياته له، هكذا المرأة إذ تغطي رأسها تعلن عن تكريس حياتها لبيتها وخضوعها لرجل لحساب أسرتها[26].

أمبروسياستر

القديس يوحنا الذهبي الفم

غير أن الرجل ليس من دون المرأة،

ولا المرأة من دون الرجل في الرب [11].

إن كان من أجل سلامة تدبير أمور الأسرة تخضع الزوجة للزوج في الرب، وتحمل هي السلطان في البيت لتعلن كرامة رجلها يؤكد الرسول مساواتهما في الرب، واحتياج كل منهما للآخر.

كل من الرجل والمرأة في حاجة إلى بعضهما البعض، ليس لأحدهما أن يستخف بالآخر أو يتطلع اليه كأقلٍ منه. في المسيح يسوع كل منهما يحترم الآخر ويتعاون معه، إذ يتّحدان فيه ليحققا ذات الهدف الواحد.

يختفي الاثنان “في الرب” حيث يصيران عضوين في ذات الجسد، يعملان معًا خلال الرأس يسوع المسيح لأجل بنيان الكل.

لأنه كما أن المرأة هي من الرجل

هكذا الرجل أيضًا هو بالمرأة،

ولكن جميع الأشياء هي من اللَّه [12].

كما خُلقت المرأة من الرجل، يُولد الرجل من المرأة، فإن كليهما خليقة اللَّه (رو11: 18). كل يعتمد على الآخر، والاثنان يعتمدان علي خالقهما.

بهذه النظرة يراجع كل من الرجل والمرأة نظرتهما إلى الرئاسة والخضوع، فالرئاسة هي التزام وعمل وحب، والخضوع هو تعاون وحفظ لروح الوحدة.

خُلقت المرأة الأولى من جنب آدم، وخُلق الرجال أبناء آدم في رحم المرأة، ولكن الكل هم خليقة اللَّه. فالفضل في وجود كل البشرية يرجع إلى الخالق.

القديس يوحنا الذهبي الفم

أمبروسياستر

القديس أغسطينوس

احكموا في أنفسكم:

هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى اللَّه وهي غير مغطاة؟ [13]

يسألهم أن يرجعوا إلى الطبيعة نفسها ليتأملوا ويحكموا بما هو لائق بها بروح الرقة والحكمة. بالطبيعة كانت المرأة اليونانية، فيما عدا الكاهنات، تظهر في المجتمع ورأسها مغطاة.

يحَّكم الرسول بولس عقولهن متسائلاً: أليس من الكرامة لهن واللياقة ألا يقتدين بالكاهنات الوثنيات اللواتي كن يكشف رؤوسهن عند الصلاة الجماعية أو تقديم خطب أو عظات للجماهير.

لا يؤخذ هذا النص علي أن النساء كن يقمن بقيادة المتعبدين في الصلاة أو الوعظ، إنما متي وجدت نساء لهن مواهب خاصة مثل حنة النبية وبريسكلا (أع 2: 18) يلزمهن تغطية رؤوسهن في الكنيسة، أما الوضع العام فهو التزام السيدات بالصمت (1 كو 14: 34-35، 1 تي 2: 11- 12).

أمبروسياستر

القديس يوحنا الذهبي الفم

أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم

أن الرجل إن كان يرخي شعره فهو عيب له [14].

وهبت الطبيعة المرأة، أكثر من الرجل، الشعر الطويل لمجدها وجمالها، لذا فبالطبيعة يقص الرجل شعره ولا يغطيه، أما المرأة فتغطيه كمن تحفظ جمالها.

عرف رجال أخائية التي تتبعها كورنثوس بأن رجالها يمتازون بشعر رؤوسهم الطويل، وقد دعاهم هوميروس Homer”اليونانيون ذوو الشعر الطويل” أو الآخائيون Achaeans.

بالنسبة لليهود كان النذيرون وحدهم يتركون شعر رؤوسهم دون حلقه بموسي، وذلك علامة تكريسه بالكامل للَّه (عد 6: 5؛ قض 13: 5؛16: 17ح 2 صم 14: 26؛ أع 18: 18) والتواضع، وعدم الانشغال بالمظهر الخارجي مع تكريس كل الوقت لخدمة اللَّه.

القديس أمبروسيوس

أمبروسياستر

وأما المرأة إن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها،

لأن الشعر قد أعطي لها عوض برقع [15].

إذ وُهبت المرأة بالطبيعة شعرًا طويلاً يلزم للإرادة البشرية أن تتناغم مع الطبيعة فتغطي هذا الشعر كمن تحفظ جمالها.

كانت النساء في الشرق ينشغلن بإطالة شعورهن علامة مجدهن، وعلى العكس كان الرجال يقوموا بقص شعورهم حتى لا يُتهموا بالأنوثة والعار.

علي سبيل المثال إذ تقدم بطليموس أرجيتيس Ptolemy Eurgetes ملك مصر لمحاربة سليقوسSeleucus Callinicus نذرت زوجته الملكة أن تقدم أثمن ذبيحة وهي أن تقص شعرها وتقدمه قربانًا إن رجع الملك سالمًا. ويقول هارمر Harmer: “تعرف السيدات الشرقيات بطول جدائل شعورهن وكثرتها. وعلي العكس شعر الرجال قصير جدًا.”

تتحدث السيدة M.W. Montagueعن شعر النساء: “شعورهن يتدلى خلفهن بطولهن في جدائل مرصعة باللآلئ بكمية ضخمة. لم أرَ في حياتى رؤوس جميلة هكذا بالشعر، فإننى أحصيت عدد جدائل سيدة فوجدتها مائة وعشرة من الجدائل، كلها طبيعية، ولكن يلزم الاعتراف هنا بأن كل نوع من الجمال نجده شائعًا هنا أكثر من عندنا (في الغرب)”.

يتفق Chardinمع عادة الشرق فيقول: “يحلق الرجال رؤوسهم، بينما تهتم النساء بشعورهن بشغف عظيم، لأجل إطالته، وجدله مع الحرير حتى يبلغ إلي العقبين. الشبان الذين يطيلون شعورهم في الشرق يُنظر اليهم كمن هم مخنثين وذات سمعة رديئة”.

ولكن إن كان أحد يظهر أنه يحب الخصام،

فليس لنا نحن عادة مثل هذه،

ولا لكنائس اللَّه [16].

هذه الأمور لا تدفعنا إلى الخصام، فإنه ليس لدى الرسول بولس ولا اخوته الرسل من الوقت لإضاعته في المجادلات الغبية. فالخادم الحقيقي، بل والمسيحي الحريص على خلاص نفسه وبنيان الآخرين لا يشغل نفسه بالمجادلات، فإنها مضيعة للوقت، ومفسدة لسلام الإنسان الداخلي وانشغاله بالأمور البنّاءة.

بقوله:” ليس لنا عادة مثل هذه ولا لكنائس اللَّه” يشير الى عدم وجود أثر في كنائس اللَّه لظهور النساء في الاجتماعات الكنسية بدون غطاء الرأس.

القديس يوحنا الذهبي الفم

2- ولائم الأغابي الكنيسة

ولكنني إذ أوصي بهذا

لست أمدح كونكم تجتمعون ليس للأفضل بل للأردأ [17].

يعلن الرسول بولس أنهم يجتمعون للعبادة، لكن ليس لأجل بنيانهم وتقدمهم وإنما للانحدار إلى أسوأ. إنه يود أن يمدحهم لكنه لا يقدر، إذ لا تتسم اجتماعاتهم بالعبادة الحقة التى تحمل التناغم والوحدة والحب والتقوى. إنما علي العكس اجتماعاتهم تثمر شرورا: من جهة توجد انقسامات وخصام، ومن جهة أخرى إفساد لمائدة الرب.

يدرك الرسول بولس أن كثيرين في معالجتهم لبعض الأمور مثل غطاء الرأس بالنسبة للرجل أو المرأة يحبون الحوار والنزاع لكن ما يشغل قلب المؤمن هو التصاقه بالرب واهتمامه بالشركة معه، فلا يميل إلي المجادلات الغبية التي تسبب خصومات وانشقاقات. وقت المؤمن أثمن من أن يشغله بهذه الأمور، إنما في محبة يسلك بما يعطي سلامًا للنفوس، وبنيانًا لكنيسة اللَّه.

لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة

اسمع أن بينكم انشقاقات

وأصدق بعض التصديق [18].

إن أول ما أود الاشارة إليه لخطورته هو ما يسمعه عنهم من وجود انشقاقات يلومهم عليها. سمع ذلك من عائلة خلوي (1 كو1: 11)، وكان يود ألا يصدق ذلك لكن لديه من الدلائل على أن يسمعه يحدث حقيقة، وربما ما ورد إليه كان مبالغًا فيه … لكن لا يستطيعوا أن ينكروا وجود الانشقاقات.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأنه لابد أن يكون بينكم بدع أيضًا،

ليكون المزكون ظاهرين بينكم [19].

يرى البعض أن كلمة “بدع” أو “هرطقات” هنا لا تعنى انحرافات عقيدية وإنما انشقاقات وانقسامات. لا بد من قيام المنشقين (مت 18: 7، 2 بط 2:1؛ 2: 2) لأن عدو الخير لا يهدأ، وفي نفس الوقت فإن هذه الانشقاقات تفرز وتزكي المحبين للوحدة والوفاق والسلام. وكأنه يقول لهم مع وجود أناس محبين للانشقاق يتزكي بالأكثر من هم بينكم محبون للوحدة ويعملون من أجل سلام الكنيسة وبنيانها.

تعبير “لابد” لا يعني أن الانشقاقات ضرورية في الكنائس المسيحية، لكن كحقيقة واقعة فإن الحرب قائمة مادمنا في هذا العالم وعدو الخير لا يهدأ، بل ينحني له من يتبعونه ليعمل خلالهم لتحطيم وحدة الكنيسة.

تحدث هذه الانقسامات لعدة عوامل منها: حب بعض المعلمين للسلطة والتمتع بالشعبية؛ وانشغال الشعب بالمعلمين أكثر من السيد المسيح مخلصهم (1 كو 1: 12)، والمبالغة في التفسير لآية أو مجموعة من الآيات في الكتاب المقدس دون التمسك بروح الكتاب، وغيرة الشعب غير المستنيرة مع الكبرياء والغطرسة.

ليكون المزكون ظاهرين بينكم“، المزكون أو الذين يُحسبون أصدقاء حقيقيين للَّه، ثابتون في وصاياه، ومتممون لإرادته الإلهية.

مهما نال أصحاب الانشقاقات والبدع من شعبية لن يتزكوا، فلا يُحسبوا أصدقاء الحق، إذ لا يخضعون للتدبير المملوء حكمة والنابع عن الحب الحقيقي.

الشهيد كبريانوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

سفيريان أسقف جبالة

فحين تجتمعون معًا

ليس هو لأكل عشاء الرب [20].

كأنه يقول لهم: “حقًا إنكم تجتمعون معًا في الكنيسة لكي تشتركوا في العشاء الرباني، لكن هذا لن يتحقق. من الظاهر تشتركون، لكن بسبب الطمع [21] والأنانية وروح الانفصال حيث لا يشترك الكل معًا، فأنتم حقيقة لا تأكلون عشاء الرب، لأنه عشاء الحب والوحدة لا الأنانية والانشقاق والعزلة.

القديس أغسطينوس

لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الآكل،

فالواحد يجوع والآخر يسكر [21].

يقول: “يسبق”، لأن الأغنياء كانوا يسبقون الفقراء، فأساءوا إلى “عشاء الرب”.

ربما يشير هنا لا إلي شركة التناول بل الي وجبات المحبة التى تلحق بالتناول، فإن كان الكل يشترك في التناول لكنهم يفسدون عبادتهم بتصرفاتهم في ولائم المحبة، حيث كان الأغنياء يأكلون بِنهمٍ ويسكرون بينما يتركون الفقراء جائعين.

كان كل واحد يهتم بنفسه، فيأكل مما أحضره معه، عوض أن يأكل الجميع معًا بروح الشركة والحب.

كان أغلب الشعب من الوثنيين الذين قبلوا الايمان حديثًا لهذا كانوا يجهلون طبيعة الايمان المسيحي في كل جوانبه. ولعلهم ظنوا في ولائم المحبة أنها كولائم الهياكل التى جاءوا منها فسلكوا بدون محبة وتواضع وحكمة مسيحية.

هنا يلزمنا أن ندرك أن الذين يقبلون الايمان لا يصيروا كاملين، بل هم في حاجة إلى إرشاد مستمر ليختبروا الحياة الجديدة في المسيح يسوع، ويسلكوا طريق الكمال.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس إكليمنضس السكندري

أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا؟

أم تستهينون بكنيسة اللَّه وتخجلون الذين ليس لهم؟

ماذا أقول لكم: أأمدحكم على هذا؟

لست أمدحكم [22].

يود الرسول بولس ألا تُقام هذه الولائم في الكنائس عن أن تُقام بهذه الصورة الخاطئة. فمن الأفضل أن يرجعوا إلى بيوتهم ويأكلوا من أن يمارسوا هذه الأنانية ويسلكوا بهذا الكبرياء داخل الكنيسة. هنا يوبخهم الرسول بلهجة قاسية لأنهم يهينون كنيسة اللَّه، ويخجلون الفقراء الذين ليس لهم طعام يأكلونه وسط الفقراء. معاملاتهم مع الفقراء مخزية ومخجلة للغاية، خاصة في كنيسة اللَّه، حيث كان يجب أن يسود الحب والمساواة بين الجميع.

القديس يوحنا الذهبي الفم

 3- التناول من الأفخارستيا

لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا،

أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها

أخذ خبزا [23].

إذ أراد أن يحذرهم من أن يكونوا “مجرمين” في جسد الرب ودمه لم يستخدم أسلوبًا عنيفا ولا لغة قاسية في التوبيخ بل بكل هدوء ذكرهم بقصة تأسيس السرّ علي يدي السيد المسيح نفسه.

لكي يكون لحديثه أثره عليهم عاد بذاكرتهم إلي تأسيس سرّ الافخارستيا ليروا ويراجعوا كيف أسسه السيد المسيح باذلاً ذاته عن كل البشرية حتى يشاركوه هذا البذل فلا يُحسبون مجرمين في جسد الرب ودمه.

لأننى تسلمت من الرب“: لم يكن شاول الطرسوسي مع التلاميذ حين أسس السيد المسيح سرّ الافخارستيا؛ لكنه يقول “تسلمت من الرب”. ربما كان ذلك خلال أحد إعلانات الرب المتكررة له (2 كو 12:7). تسلم السرّ لا من التلاميذ بل من الرب مباشرة. واعتبر البعض أن الرسول بولس تسلم هذا السرّ خلال الكنيسة، فحسب ذلك كأنه من الرب مباشرة، وقام بتأسيسه في كورنثوس لكونه أول كارزٍ فيها ومؤسسها.

في ذات الليلة التي خانه فيها تلميذه وسلمه للذبح (مت 26: 23- 25، 48- 50) قدم السيد أعظم عطاياه لخاصته وهو جسد الرب ودمه المبذولين عن حياة العالم كله. كانت لحظات تسليم السرّ رهيبة للغاية، وهي لحظات تسليم الرب للموت بيد أحد تلاميذه الأخصاء الذي سلمه الصندوق وبعثه للكرازة باسمه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

وشكر فكسر وقال:

خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم،

اصنعوا هذا لذكري [24].

أخذ السيد المسيح خبزًا وشكر وقسّم. هكذا تسلم الرسول وهكذا سلّم الكنيسة في كورنثوس، فإنه يلزم إقامة السرّ كما قدّمه السيد نفسه تمامًا. لأن خادم السّر الخفي هو المخلص نفسه القادر وحده أن يقول: “هذا هو جسدي، هذا هو دمي”.

جسدي المكسور“، هذا البذل تحقق على الصليب، لكنه عمل دائم، نتمتع في السرّ بعمل الصليب الذي لن يقدم مع الزمن بل هو حاضر في كنيسته للتمتع بالخلاص.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

القديس كيرلس الأورشليمي

القديس يوحنا الذهبي الفم

كذلك الكأس أيضًا بعدما تعشوا قائلاً:

هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي،

اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري [25].

بعد ما تعشوا، أي تناولوا طعام الفصح القديم، الذي كان رمزًا للفصح الجديد تمتعوا بما هو حق. قدم لهم دمه للعهد الجديد حيث ختم العهد مع البشرية لا بدم بحيوانات بل بدمه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز،

وشربتم هذه الكأس،

تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء [26].

بقوله: “تخبرون بموت الرب الى أن يجئ” يكشف عن الفكر الإنقضائي في حياة الكنيسة. فعمل الكنيسة الرئيسى هو شركة السيد المسيح في موته وترقبها المستمر لمجيئه الأخير لتشاركه مجده وتراه وجهًا لوجهٍ.

نتمتع به هنا بتناولنا جسده ودمه، أما عند مجيئه فيحملنا الى حضن أبيه، ونوجد شركاء مع المسيح في مجده، فنحقق مسرته ومسرة أبيه والروح القدس.

القديس أمبروسيوس

أمبروسياستر

القديس كيرلس الكبير

إذا أي من آكل هذا الخبز،

أو شرب كأس الرب بدون استحقاق،

يكون مجرمُا في جسد الرب ودمه” [27].

بقوله: “بدون استحقاق” يشير الرسول الي عدم تأهلهم للتناول من هذا السرَ. فإنهم إذ كانوا نهمين أنانيين لا يبالون بالفقراء يجرمون في حق جسد الرب ودمه. كمن يرتكب جريمة ضد جسد الرب ودمه.

كيف نتأهل للتناول؟ إن كان السيد المسيح بحبه مات عن كل البشرية، فإن التأهل لتناول جسده ودمه المبذولين يكون بانفتاح أبواب القلب بروح اللَّه لمحبة كل البشرية والاشتياق الي خلاصهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

ولكن ليمتحن الإنسان نفسه،

وهكذا يأكل من الخبز

ويشرب من الكأس” [28].

لما كانت هذه الجريمة خطيرة للغاية وعظمى لذا وجب أن يمتحن الانسان نفسه، ويختبر أعماقه هل اتسعت بالحب نحو الآخرين.

اختبار الإنسان نفسه لا يتحقق بأن يبقى الإنسان بعيدًا، فيحرم نفسه من هذه العطية العظمى. وإنما بالتوبة والرغبة الصادقة للحياة الجديدة المقدسة في الرب واتساع القلب حتى للمقاومين يتمتع بالشركة في جسد الرب ودمه.

يمتحن الانسان نفسه لأنه لا يعرف أعماق الانسان إلا الانسان، فهو عارف بأفكاره ونياته ومشاعره كما بكلماته وسلوكه الخفي والظاهر.

الاقتراب الى المائدة خطير، فهو اقتراب الى الرب نفسه وقبول الاتحاد معه والتمتع بجسده ودمه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

أمبروسياستر

لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق،

يأكل ويشرب دينونة لنفسه،

غير مميزٍ جسد الرب” [29].

التهاون في فحص الانسان نفسه جريمة ضد جسد الرب وتهاون، إذ يكون “غير مميز جسد الرب“. إنه لا يميز بين الخبز الذي يأكله في أي موضع وبين جسد الرب المبذول الأفخارستي.

القديس أغسطينوس

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

أمبروسياستر

من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى،

وكثيرون يرقدون” [30].

خلال التهاون في سرّ الأفخارستيا يسقط كثيرون تحت التأديب، سواء بالضعف الجسدي أو الأمراض بل برقاد الموت. لم يقل بالموت بل بالرقاد، لأن اللَّه يترقب توبتهم ويود خلاصهم حتى وهم علي سرير الموت، فيرقدوا ويقوموا معه.

العلامة أوريجينوس

فإن البعض بسبب فقدانهم قوة النفس يصير فيهم الميل إلى التسلل إلى أية خطية كانت. فبالرغم من أنهم ليسوا ممسكين في أي شكل من الخطية بالكامل كمرضى إلا أنهم مجرد ضعفاء.

وآخرون عوض محبتهم للَّه بكل نفوسهم وكل قلوبهم وكل فكرهم يحبون المال أو المجد الباطل أو زوجة أو أطفالاً، هؤلاء يعانون مما هو أردأ من الضعف، إنهم مرضى.

أما الراقدون فهم أولئك الذين بينما كان يجب عليهم أن يصحوا ويسهروا بكل النفس لا يفعلوا ذلك بل بسبب تهاونهم الخطير تغفل رؤوسهم كنيامٍ، ويصيروا في دوار في تفكيرهم، كمن في أحلامهم ينجسون الجسد ويتهاونون بالسيادة ويفترون على ذوي الأمجاد” (يه 8). ذلك لأنهم راقدون ويعيشون في جوٍ من الأوهام الباطلة كمن يحلمون عوض الواقع. فلا يقبلون الأمور التي هي بالحق واقعية بل ينخدعون بما يظهر لهم خلال تخيلاتهم الباطلة. وقد قيل عنهم في إشعياء: “وكما يحلم العطشان أنه يشرب ثم يستيقظ وإذ هو ظمآن ونفسه مشتهية في رجاءٍ باطلٍ، هكذا يكون عني كل الأمم المتجندين في أورشليم”(إش 29: 8).

إن كان يبدو أننا كمن قد تاه عن الموضوع الرئيسي بالحديث عن الاختلاف بين الضعفاء والمرضى والراقدين، وذلك بسبب ما قاله الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس الذي نشرحه، فإننا فعلنا هذا رغبة منا أن نقدم فهمًا للقول: “شفي مرضاهم”[81].

العلامة أوريجينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا،

لما حكم علينا” [31].

يقدم الرسول بولس نصيحة وتحذير، فإن أردنا الهروب من الدينونة في هذا العالم والعالم العتيد لكي نتبرر أمام اللَّه يلزمنا أن نحكم على أنفسنا.

فحصنا لأنفسنا في جدية وشكوانا من أنفسنا أمام الرب يعفينا من الدينونة في يوم الرب العظيم، كما من تأديبنا سواء خلال الأمراض أو بالتأديبات الكنسية.

القديس يوحنا الذهبي الفم
القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

افترض أنك ذاهب إلى رحلة طويلة، وإذ شعرت بجفاف وعطش بسبب الحر، وملت إلى أحد اخوتك، وقلت له: “انعشني فإني متعب من الظمأ” فيجيبك: “إنه وقت الصلاة، سأصلي وبعد ذلك آتي لأعينك”. وبينما كان يصلى وقبل مجيئه إليك مُت من العطش. ماذا يبدو لك الأفضل أنه كان يجب أن يذهب ويصلي، أم كان يليق به أن يريحك من تعب العطش؟[86]

الأب أفراهات

ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب،

لكي لا نُدان مع العالم” [32].

إن حُكم علينا هنا خلال الضعف والمرض أو حتى الرقاد، أو خلال التأديبات الكنسية بسبب عدم جديتنا في فحص أنفسنا نؤُدب حتى لا نُعاقب في يوم الرب مع العالم الذي أصر علي العناد ولم يقبل تأديب الرب.

ليتنا ننتفع بإنذارات الرب لنا كأن يسمح لنا بالضيقات، فنراجع أنفسنا، ونفحص بروح الرب أعماقنا، وبهذا لا نُدان مع العالم الشرير. لنقبل التأديب الزمنى، أيا كانت وسيلته، فلا نسقط تحت العقوبة الأبدية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس إكليمنضس السكندري

القديس أغسطينوس

إذا يا اخوتي حين تجتمعون للآكل

انتظروا بعضكم بعضًا” [33].

بعد تقديم نصيحته بفحص النفس بدقةٍ وقبول التأديب الإلهي والكنسي يسألنا أن ينتظر بعضنا البعض، أي يهتم كل واحد بما للآخرين لا بما لنفسه في كل شيء، فلا يكون للأغنياء أسبقية على الفقراء.

أمبروسياستر

إن كان أحد يجوع فليأكل في البيت

كي لا تجتمعوا للدينونة.

وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها” [34].

لا تُقدم مائدة الرب لأجل الشبع الجسدي، فمن أراد أن يملأ معدته فلينتظر في بيته عوض أن ينال دينونة بتصرفه الخاطئ الأناني.

أخيرًا إذ عالج بعض الأوضاع الرئيسية التى سببت تشويشًا في العبادة الكنسية في كورنثوس أخبرهم بأنه عندما يأتي إليهم يرتب بقية الأمور.

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

من وحي 1 كو 11

لا تفصلني عنك،

فأنت هو رأسي!

احتفظ بك، فأحيا إلى الأبد.

من يحرمني منك،

ينزع عني حياتي يا رأسي كل رجل!

يتشبه بك يا رأس الكنيسة عروسك.

لا يطلب سلطة ولا يسلك بتشامخٍ،

لكنه كرأسٍ ينحني ليبذل حياته عن أسرته.

يبسط يديه معك كما على الصليب،

فيحتضن بالحب العملي عائلته.

ووهبت المرأة أن تكون جسدًا كالكنيسة،

تتقبل الحب الباذل بالخضوع علامة القوة.

ليس خضوع الخنوع والجهالة، بل علامة حب متبادل!

تقيم من بيتها سماءً مفرحة !

روح الحب العملي.

يفتح الغني لأخيه الفقير مخازن قلبه،

ومع عطائه المادي يقدم بشاشة صادقة!

هبْ للكل روح الوحدة والحب.

فتتحول كنيستك إلى وليمة اغابي،

تشتهي الملائكة أن تشترك فيها.

يجد السمائيون مسرتهم في شعبك،

إذ يرون أيقونتك واضحة وجلية فيهم.

هب لي ثوب برك فأدخل وليمتك.

لأخفتني فيك، فأتأهل للاتحاد بك.

لأتمتع بالتناول من أسرار حبك،

هذه التي تشتهي الملائكة أن تتطلع إليها.

نعم! لئلا تصير وليمتك دينونة لي!

[1] In 1 Corinth., hom. 25:3.

[2] Ep. 208:5.

[3] On the Holy Spirit, 15.

[4] The Long Rules, 43.

[5] CSEL 81:119.

[6] On the Holy Spirit, 29.

[7] In 1 Corinth., hom. 26:2.

[8] Sermons on New Testament Lessons, 14:3.

[9] Answer to Eunomius’ Second Book.

[10] The Chaplet, 14.

[11] Catechesis 13:23.

[12] Paradise 4:25.

[13] CSEL 81:120-121.

[14] In 1 Cor., hom., 26:3.

[15] In Ephes., hom. 20.

 في الخولاجيات القديمة يُشار الي دخول الكاهن لبدء رفع البخور عشية وباكر وقد كشف رأسه.[16]

[17] In 1 Cor., hom., 26:2.

[18] Prayer 22:4.

[19] In 1 Corinth., hom. 26:4.

[20] Germ. 19.

[21] Adam Smith: Comm. On 1 Cor.11.

[22] In 1 Corinth., hom. 26:4.

[23] In Ephes., hom. 15.

[24] In 1 Cor., hom., 25:4.

[25] In 1 Corinth., hom. 26:4.

[26] Adam Clarke: Comm. on 1 Cor. 11.

[27] CSEL 81:122.

[28] In 1 Corinth., hom. 26:5.

[29] In 1 Cor., hom., 26:5.

[30] In 1 Cor., hom., 27:5.

[31] CSEL 81:123.

[32] Continence . 10:24.

[33] CSEL 81:124.

[34] In 1 Cor., hom., 26:5.

[35] Letters to Laymen, 78.

[36] CSEL 81:124 (cf Leviticus 10:6).

[37] In 1 Corinth., hom. 26:5.

[38] In 1 Cor., hom., 26:5.

[39] In 1 Cor., hom., 27:2.

[40] In 1 Cor., hom., 27:2.

[41] In 1 Corinth., hom. 27:2.

[42] In 1 Corinth., hom. 27:3.

[43] Unity of the Church, 10.

[44] In 1 Cor., hom., 27:3.

[45] Ep. 54:7.

[46] In 1 Corinth., hom. 27:4.

[47] In 1 Corinth., hom. 27:4.

[48] In 1 Cor., hom., 27:4.

[49] Paedagogus 2:13.

[50] In 1 Corinth., hom. 27:4.

[51] In 1 Corinth., hom. 27:4.

[52] In 1 Corinth., hom. 27:5.

[53] In 1 Corinth., hom. 27:5.

[54] In 1 Corinth., hom. 27:5.

[55] In 1 Corinth., hom. 27:5.

[56] In 1 Corinth., hom. 27:5.

[57] In 1 Corinth., hom. 27:7.

[58] Sacraments 4:5:21-23.

[59] On the Mysteries, Lecture 1:2.

[60] In 1 Cor., hom., 27:5.

[61] In 1 Cor., hom., 27:5.

[62] Letter, 36.

[63] The Sacraments 4:6:29.

[64] CSEL 81:127-128.

[65] Letter 17:12.

[66] 27:6. In 1 Cor., hom.,

[67] Sermons, 227.

[68] In 1 Corinth., hom. 28:1

[69] In Ephes., hom. 3.

[70] In 1 Tim., hom. 5.

[71] In 1 Corinth., hom. 28:1.

[72] In 1 Cor., hom., 28:1.

[73] Sermons on New Testament Lessons, 82:1.

[74] CSEL 81:129.

[75] Sermons on New Testament Lessons, 40:1.

[76] Sermons on New Testament Lessons, 62:4.

[77] Ep. 54:4.

[78] In 1 Cor., hom., 28:2.

[79] CSEL 81:130.

[80] Commentary on Matthew, 10:25.

[81] Commentary on Matthew, 10:24.

[82] In 1 Cor., hom., 28:2.

[83] In 1 Cor., hom., 28:2.

[84] Ep. 209:10.

[85] Genesis, hom 60:16.

[86] Demonstration 4:15.

[87] In 1 Corinth., hom. 28:2.

[88] In 1 Cor., hom., 28:2.

[89] Stromata 1:27:171-172.

[90] CSEL 81:130.

[91] Ep. to Januarius 54:8.

[92] In 1 Cor., hom., 28:3.

تفسير كورنثوس الأولى 11 – الأصحاح الحادي عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version