Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير كورنثوس الثانية 12 – الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 12 – الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 12 – الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 12 – الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

الإصحاح الثاني عشر

الإعلانات الإلهية والخدمة

لتأكيد صدق رسوليته تحدث الرسول عن الإعلانات الإلهية التي تمتع بها، مؤكدًا أنه لا يفتخر بذلك. فقد سمح اللَّه له بتجربةٍ في جسده حتى لا يسقط في الكبرياء بسبب كثرة الإعلانات. أما ما يفتخر به فهو ما وهبه اللَّه من إمكانية لاحتمال الضيقات والتجارب والاضطهادات من أجل الرب. وأيضًا محبته الباذلة لشعبه كأولادٍ له. أخيرًا يطلب إليهم أن يستعدوا بالحياة المقدسة حتى يفرح بهم عند مجيئه إليهم.

١. الإعلانات الإلهية ١-٤.

٢. عدم افتخاره بها ٥-٦.

٣. شوكة في الجسد ٧-٩.

٤. افتخاره بأتعابه ١٠.

٥. خدمته لهم المجانية ١١-١٧.

٧. خدمة تيطس المجانية ١٨.

٨. مسرته ببنيانهم الروحي ١٩-٢١.

١. الإعلانات الإلهية

“إنه لا يوافقني أن افتخر،

فإني آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته” [1].

إحدى البركات التي نالها الرسول بولس هي الإعلانات الإلهية، خاصة وأنه أُختطف إلى السماء الثالثة. يرى القديس بولس أنه يليق به بروح التواضع ألا يتحدث عن إعلانات اللَّه له، فإن هذا لا يوافقه، لكنه التزم بذلك من أجل بنيان الخدمة.

“أعرف إنسانًا في المسيح قبل أربع عشرة سنة،

أفي الجسد لست أعلم،

أم خارج الجسد لست أعلم،

اللَّه يعلم،

اُختطف هذا إلى السماء الثالثة” [2].

يتحدث الرسول عن نفسه قائلاً: “أعرف إنسانًا في المسيح” قد تمتع برؤيةٍ خاصة، منذ أربع عشرة سنة. يرى البعض إن هذه الرؤيا تحققت عندما سقط على الأرض، وبقي أعمى لمدة ثلاثة أيام. وآخرون يرون أنها تحققت حين رُجم في لسترة. وآخرون يرون أن الرسالة كتبت عام ٥٧م، فتكون الرؤية حوالي عام ٤٢ أو ٤٣م حين أحضر برنابا بولس من طرسوس إلى إنطاكية (أع ١١ : ٢٥-٢٦)، وقد أُرسل الاثنان بواسطة كنيسة إنطاكية حاملين العطايا لفقراء أورشليم. ربما رأى هذه الرؤيا وهو في أورشليم لكي تسنده وسط المتاعب التي لحقت به، وقد احتفظ الرسول بالرؤيا لمدة ١٤ عامًا لم يخبر بها أحدًا قط، وكان يمكن ألا نعرف عنها شيئًا كغيرها من الإعلانات التي لم يسجلها لنا الرسول.

إنه يعرف بأنه كان في الفردوس، أما هل كان في الجسد أم لا فهذا ما لا يقدر أن يخبر عنه.

لماذا حدث معه هذا؟ أظن حتى لا يشعر إنه أقل من الرسل الآخرين الذين كانوا جميعًا مع المسيح عندما كان على الأرض[1].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أفي الجسد لست أعلم، أم خارج الجسد لست أعلم، اللَّه يعلم“: كان الرسول في حالة دهش، فلم يدرك الحال الذي هو عليه، ولم يكن ذلك يشغله.

اختطف هذا إلى السماء الثالثة” شعر بأنه حُمل إلى السماء الثالثة، لكن كيف؟ وبأي وضع؟ لا يعلم. لعله يقصد بالسماء الثالثة أنها وراء السماء الأولى التي تطير فيها الطيور، وأيضًا وراء السماء الثانية التي بها الأفلاك (الفضاء).

كان اليهود يعتقدون بوجود سبع سموات، وجاء في العهد القديم “سماء السموات” التي غالبًا ما يُقصد بها السماء الثالثة، حيث العرش الإلهي ومسكن القديسين مع السمائيين في الحياة الأبدية. ويرى البعض مثل أمبروسيايتر أن القديس بولس أُختطف مرتين، مرة إلى السماء الثالثة، وأخرى إلى الفردوس الذي انطلق إليه اللص اليمين عندما صُلب السيد المسيح.

الأب غريغوريوس بالاماس

“وأعرف هذا الإنسان،

أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم،

اللَّه يعلم” [3].

لأنه حينما جال في الأرض كان كمن تصحبة الملائكة، وبالرغم من فخاخ الجسد المائت كان ملائكيًا في نقاوته، وبالرغم من ضعف بشريته جاهد ليصير ملائكيًا كالقوات العلوية،

وكان سلوكه في العالم كمن يسكن على جناحي طائر وككائن غير قابل للفساد.

احتقر كل المصاعب والأخطار. احتقر كل شيءٍ على الأرض، كمن امتلك السماوات، كمن اختبر رؤية سرمدية، وعاش وسط الملائكة في السماء.

إن مهمة الملائكة كانت خدمة البشر وحراستهم، ولكن لم يستطع أحد القيام بالمهام الخاصة لكل فرد واحتياجاته الخصوصية مثلما فعل بولس لكل الأرض[4].

وإذا كان بولس لم يصحبه مرض مقيم، فإن مصائبه الكثيرة الدائمة لم تكن أكثر رفقًا به من المرض، ولم تكن توفر على جسده شيئًا من قسوة الآلام المرضية…

كان يتوسل إلى اللَّه [8]، حتى إذا رأى أنه لم يستفد من طلبه شيئًا، واستقر في ذهنه أن في الآلام ربحًا له، سكن واطمأن، بل صار يفرح بالآلام[5].

القديس يوحنا ذهبي الفم

القديس أغسطينوس

“إنه اختطف إلى الفردوس،

وسمع كلمات لا يُنطق بها،

ولا يسوغ لإنسانٍ أن يتكلم بها” [4].

يعتقد اليهود بوجود على الأقل أربعة فراديس بجانب السبع سموات.

هل الفردوس هو السماء الثالثة أم أنهما مختلفان؟ هل يتحدث الرسول عن اختطافين أحدهما إلى السماء الثالثة والثاني إلى الفردوس؟ أم هي رؤيا واحدة واختطاف إلى موضع واحد؟

لقد دعيت جنة عدن فردوسًا (رؤ ٧:٢)؛ والآن تدعى السماء الثالثة، موضع انتظار القديسين، فردوسًا، حيث ردنا السيد المسيح إلى الفردوس، لكن ليس على الأرض، وإنما هو السماء الثالثة. سمع في هذا الفردوس لغة غير بشرية، لا يُنطق بها ولا يستطيع إنسان أن ينطق بها بجسده الترابي.

لقد سمع الرسول أحاديث سماوية لكنه لم يستطع أن ينشرها، إذ لا يمكن ترجمتها بلغة بشرية، ولا يقدر لسان بشري أن ينطق بها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس هيلاري أسقف بواتييه

حتى ولو أن أحدًا مثل القديس بولس قد اطلع على أسرار الفردوس غير المدركة وسمع كلمات لا يُنطق بها (2 كو 4:12) فإن أية معرفة للَّه تظل لا يُنطق بها.

وبولس الرسول ذاته يقول إن مثل هذه المفاهيم غير مدركة.

أعلن أولئك الذين يقدمون لنا أية أفكار صالحة عن مثل هذه الأسرار، أنهم أيضًا غير قادرين حقًا على التعبير عن الطبيعة الإلهية[9].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

العلامة أوريجينوس

لنحذر من مثل هذه التجربة التي للكبرياء، ولندرك حقيقة أن الرسول نفسه الذي وإن سقط أرضًا ونصحه صوت اللَّه من السماء، هو نفسه أُرسل إلى انسان ليتقبل الأسرار وينضم إلى الكنيسة.

وأيضًا كرينيليوس قائد المائة وإن كان قد بشره ملاك بأن صلواته قد قبلت وصدقاته قد ذكرت، مع هذا سُلم لبطرس ليتعلم منه، ليس فقط قبل الأسرار من يدي الرسل، بل وتعلم منه الأمور اللائقة الخاصة بالإيمان والرجاء والمحبة.

بدون شك كان يمكن تحقيق كل هذا بواسطة ملائكة، لكن حال جنسنا يُهان تمامًا إن لم يستخدم اللَّه البشر كأداة لخدمة كلمته لزملائهم البشر.

فإنه كيف يمكن أن يكون ذلك حقيقة ما كُتب: “هيكل اللَّه مقدس الذي أنتم هو” إن كان اللَّه لا يقدم تعاليم خلال هيكله البشري، ويقدم كل شيء يود يُعلم به البشر بأصوات من السماء وخلال خدمة الملائكة؟

أضف إلى هذا أن الحب نفسه، الذي يربط البشر معًا برباط الوحدة، لا تكون له وسيلة لسكب نفسٍ في نفسٍ، كمن يمتزجا معًا الواحد مع الآخر، إن كان البشر لن يتعلموا شيئًا من البشر زملائهم[11].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

 ثيؤدور أسقف المصيصة

 القديس أغسطينوس

٢. عدم افتخاره بها

“من جهة هذا أفتخر،

ولكن من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضعفاتي” [5].

بتواضعه لم يشر إلى نفسه أنه هو الذي تمتع بهذه الرؤيا وإن كان مارد لا يمكن إن ينطبق إلا على شخصه.

لم يفتخر الرسول بما قد تمتع به من الإعلانات. من يتمتع بذلك ويقدر أن يصمت لمدة ١٤ عامًا دون أن يشير إلى ذلك قط؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فإني إن أردت أن افتخر لا أكون غبيًا،

لأني أقول الحق ولكني أتحاشى،

لئلا يظن أحد من جهتي فوق ما يراني أو يسمع مني” [6].

من حقه أن يفتخر بما ناله من اللَّه، ولا يُحسب بذلك غبيًا، لأنه ينطق بالحق، لكنه صمت كل هذه السنوات حتى لا يكرمه أحد أو يظن فيه شيئًا أعظم مما هو عليه. لقد تمتع الرسول بروح التمييز، يعرف متى يصمت ومتي يتكلم. صمت هذه السنوات حتى لا يُّعظمه أحد، وتكلم حتى لا يحطم أحد عمله الرسولي.

 أمبروسياستر

هكذا فعل بولس الرسول، اتهموه بأنه ليس رسولاً وله قوة خارقة فالتزم الأمر تقديم دليل على صحة رسوليته، واظهار قيمته. لاحظ كيف في حديثه لم يكن هناك أي كبرياء بل تحدث من أجل استنارة سامعيه:

أولاً: واضح أنه تصرف هكذا كما استلزم الأمر.

ثانيًا: دعى نفسه مختل العقل واستخدم تعبيرات مماثلة كثيرًا.

ثالثًا: لم يفصح عن كل شيء، بل احتفظ بالجزء الأعظم وأخفاه.

رابعًا: أخفى شخصيته قائلاً: “أعرف إنسانًا…..”

خامسًا: لم يظهر كل فضائله بل فقط ما تتطلب الأمر إظهاره[18].

القديس يوحنا الذهبي الفم

٣. شوكة في الجسد

“ولئلا ارتفع بفرط الإعلانات،

أُعطيت شوكة في الجسد،

ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع” [7].

كما كان الرسول يحرص على تمتعه بروح التواضع فلم يشر إلى رؤياه هذه لمدة ١٤ عامًا، حرص اللَّه نفسه أن يبقى الرسول متواضعًا، فسمح لو بشوكة في الجسد تجعله دائمًا يشعر بضعف الجسد.

ما هي هذه الشوكة التي في الجسد؟

يرى العلامة ترتليان أنها ألم في الأذن، والقديس يوحنا الذهبي الفم أنها صداع، والشهيد كبريانوس آلام جسدية كثيرة وخطيرة. ويرى البعض أنها إهانات لحقت به من المعلمين الكذبة خاصة من جهة قدرته على الكلام، إذ يفسرون “ملاك الشيطان” أو “الرسول الشيطان” أنه “الرسول الكاذب”. فكما أرسل يسوع المسيح بولس رسولاً للحق هكذا أرسل الشيطان رسولاً مقاومًا للحق، يبث روح الكذب ويحول كنيسة المسيح إلى مجمع للشيطان.

القديس مقاريوس الكبير

بقوله “ملاك الشيطان” يقصد به كل مقاومي الكلمة، الذين صارعوا وحاربوا ضده، الذين ألقوه في السجن، والذين ضربوه لكي يموت… فإنهم مارسوا عمل الشيطان… كل واحد كان يقاومه. لذلك يقول: “اعطيت شوكة لئلا انتفخ“، ليس كما لو أن اللَّه وضع أسلحة في أيدي هؤلاء الناس، ليس كذلك! ولا إن اللَّه يؤدب ويعاقب بل إلى حين سمح لهم بذلك[20].

هذا لا يعني أنه لا يمس الداخل، بل يُرفض بالقوة الأسمى التي للإرادة. وحينما يقول تلك الكلمات الرائعة مثل بهجته بالجَلد ومجده في وثقه، فماذا يعني ذلك غير كل ما سبق ذكره حينما يقول: “بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 27:9). إنه يتحدث عن ضعف الطبيعة الذي يصل لسمو الإرادة بالطريقة التي سبق ذكرها[21].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 سيفيريان أسقف جبالة

 ثيؤدورت اسقف قورش

إن كان المؤمنون الحقيقيون ينتفعون حتى من التجارب التي يثيرها الشيطان ضدهم، فهل يُحسب الشيطان صالحًا لأنه نافع؟

 القديس أغسطينوس

“من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني” [8].

واضح من العبارة التالية أن كلمة “الرب” هنا تشير إلى السيد المسيح، فإذ يصلي إليه الرسول بولس لكي ينزع هذه التجربة فواضح أن الرسول يؤمن بلاهوت المسيح، وأنه يحب الصلاة إليه.

لقد طلب من السيد المسيح ثلاث مرات لينزع عنه التجربة، متشبهًا بالسيد المسيح الذي طلب ثلاث مرات إن أمكن أن تعبر عنه الكأس (مت ٢٦ : ٣٩-٤٤). إنه يقدم لنا مثالاً بالالتجاء إلى الصلاة أثناء الضيق حتى وإن كان لصالحنا الروحي وبنياننا ونترك القرار في يد اللَّه المهتم بخلاصنا.

 القديس أغسطينوس

 القديس كبريانوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فقال لي:

تكفيك نعمتي،

لأن قوتي في الضعف تكمل،

فبكل سرور افتخر بالحري في ضعفاتي،

لكي تحل عليّ قوة المسيح” [9].

أدرك الرسول بولس أن ما حلَ بجسده من ضعفات لم يكن بالأمر الطبيعي، وليس بلا هدف، وإنما سمح به اللَّه لهدف أسمى.

 ثيؤدورت أسقف قورش

 القديس أمبروسيوس

اللَّه هو الذي سمح له بالتجربة، لكنه مع التجربة يعطيه نعمة لكي تسنده ويتمجد اللَّه في ضعفه، حيث تتجلى قوة المسيح فيه، ولا يقدر الأعداء أن يحطموه. كلما كانت التجربة عنيفة تجلت بالأكثر قوة المسيح وتمجد اللَّه فيه.

“لكي تحل عليّ قوة المسيح”، تحل عليِّ Episkeenoosee، أي تظلل عليَّ كخيمة أو خيمة اجتماع حيث أتمتع بسكنى المسيح معي، وأجد حمايتي وراحتي فيه. وهو نفس التعبير المستخدم في يوحنا ١٤:١ “وحلّ بيننا … مملوء نعمة وحقًا”.

وعده السيد المسيح بأن يسكن فيه، ويهبه قوته، ويعطيه نعمة وحقًا، بهذا يشعر بالكفاية ولا يعاني من أي عوزٍ. يهبه الحماية والكرامة والمجد. لم ينزع عنه التجربة، ولا وعده بذلك، لكنه وهبه نعمته التي تهبه راحة وحماية ومجدًا. حيث يتمتع بإرادة مقدسة متناغمة مع إرادة المسيح، تدخل به إلى الاستنارة وإدراك خطة اللَّه من جهته، كما تهبه امكانيات إلهية تعمل فيه لكي يبلغ إلى الكمال في المسيح يسوع.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

٤. افتخاره بأتعابه

“لذلك أُسر بالضعفات والشتائم والضرورات

والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح،

لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” [10].

إن كان السيد المسيح من جانبه لا ينزع التجربة بل يهب الرسول نعمته التي تسنده فيتمجد اللَّه فيه، ويدخل إلى طريق الكمال، فالرسول من جانبه يُسر بكل الضيقات التي تحل به مادامت من أجل المسيح. إنه ليس بالإنسان القوي، لكن حيث هو ضعيف يصير بالسيد المسيح قويًا. إنه لا يحتمل التجارب بصبرٍ فحسب، وإنما بمسرة وبهجة قلب.

ليطَّبق كل إنسان ذلك على نفسه كيف أنه بالحق إذ يصير ضعيفًا وهزيلاً بالصوم تكون نفسه مملوءة غيرة، وأفكاره ممتصّة بالكامل في اللَّه. ويردد مرارًا وتكرارًا: “ما أجمل خيامك يا رب الجنود!”[34]

القديس جيروم

القديس جيروم

وبالرغم من الضرب والاضطهاد والشتم كان كمن فى عرس بهيج مُصحِحًَا الكثير من مفاهيم النصرة، متهللاً فرحًا، شاكرًا للَّه بقوله: “ولكن شكرًا للَّه الذى يقودنا فى موكب نصرته فى المسيح كل حين” (2 كو 14:2).

وفى كرازته ازدادت كرامته بقبوله الإهانات والاضطهادات، ناظرًا إلى الموت كما ننظر نحن إلى الحياة، وقابلاً للفقر كقبولنا للغنى، ومتمتعًا بالأتعاب كسعينا نحو الراحة، ومُفَضِلاً الضيقة عوض عن اللذة، ومُصليًا لأجل أعدائه أكثر من المصلين ضدهم. فقلب موازين الأمور، أو بالأحرى لنقُل إننا نحن الذين غيٌرنا تلك النُظم. إذ أنه ببساطة حافظ على شرائع اللَّه، لأن ما سعى إليه يتفق مع الطبيعة البشرية، أما سعينا نحن فهو ضد الطبيعة…

شيء واحد فقط كان يخافه ويخشاه، ألا وهو التعدٌى على شرائع اللَّه. فسعى نحو لذةٍ واحدة فقط وهى أن يكون موضع سرور اللَّه، ليس بمعنى السرور الحاضر فقط، بل السرور العتيد أن يكون أيضًا[36].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 القديس باسيليوس الكبير

٥. خدمته لهم المجانية

“قد صرت غبيًا وأنا افتخر،

أنتم ألزمتموني،

لأنه كان ينبغي أن أُمدح منكم،

إذ لم أنقص شيئًا عن فائقي الرسل،

وإن كنت لست شيئًا” [11].

يرى إنه ما كان يليق به أن يفتخر بما ناله من ضيقات لأجل المسيح، لكنه التزم بذلك، لأنه كان يليق بهم أن يدافعوا عن رسوليته أمام المقاومين، إذ لم يكن ينقص شيئًا عن فائقي الرسل، وخدمته ليست بأقل من خدمتهم. صمتهم يفسد العمل الذي أسسه هناك، لهذا الزموه أن يمدح نفسه وخدمته.

بقوله “وإن كنت لست شيئًِا” يشير إلى ما ادعاه الرسل الكذبة ضده، وأيضًا صدقهم بعض الشعب وحسبوا الرسول بولس كلا شيء. كأنه لم يقم بأية خدمةٍ لائقة بالمسيح. كان الرسول نفسه أيضًا يشعر بهذا أنه ليس بشيء بدون نعمة المسيح وقوته.

كثيرون ممن تطّلعوا إليه أرادوا التمثل به بلا تفكير أو تمييز. هذا يحدث أيضًا في مجال الأطباء، فنجد ما يصفه الطبيب بعناية لشخصٍ ما يستخدمه الآخر باستهتار فيفقد تأثيره وفاعليته.

ولتجنب المزيد من الصعوبة لاحظ كيف أحاط بولس الرسول ممارساته وأفعاله بحدود عظيمة مؤجلاً مديحه لنفسه لا مرة ولا اثنين بل مرات عديدة قائلاً : “ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً” (2 كو 1:11) وأيضًا: “الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب، بل كأنه في غباوة في جسارة الافتخار هذه” (2 كو 17:11، 21) “في غباوة أنا أيضًا أجترىء فيه”.

ولم يجد هذا القول ملائمًا ولكن في رفضه لنزعة الافتخار يخفي شخصيته قائلاً: “أعرف إنسانًا في المسيح“، وأيضًا: “من جهة هذا أفتخر ولكن من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضعفاتي”، وبعد كل ذلك يضيف قائلاً: “قد صرت غبيُا وأنا أفتخر. أنتم الزمتوني” (2 كو 2:12، 5، 11).

حينما نرى هذا الرجل القديس يرفض ويتردد كثيرًا في الافتخار بنفسه حتى حينما يقتضي الأمر ويلزمه بذلك، إذ دائمًا يلجًم حديثه، كحصانٍ جامحٍ ينحدر من على قمة جبل، مستخدمًا أقل الكلمات الممكنة، فمن يمكنه التجاسر والحمق في أن ينغمس في مدحه لنفسه بدلاً من ترشيد هذا الافتخار عند الضرورة القصوى إن اقتضى الأمر؟[38]

القديس يوحنا الذهبي الفم

“إن علامات الرسول صنعت بينكم

في كل صبرٍ،

بآيات وعجائب وقوات” [12].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 ثيؤدورت اسقف قورش

قدمت نعمة اللَّه الدلائل على صدق رسولية بولس ودعوته الإلهية، وهي:

أولاً: في كل صبر، فإن ما احتمله الرسول لا يمكن لطاقة بشرية أن تحتمله ما لم تعمل نعمة اللَّه فيها وتهب الشخص إمكانية الصبر.

ثانيا: بآيات وعجائب وقوات متنوعة.

“لأنه ما هو الذي نقصتم عن سائر الكنائس،

إلا إني أنا لم اثقل عليكم.

سامحوني بهذا الظلم” [13].

كخادم أمين قدم كل الامكانيات للكنيسة في كورنثوس، ولم يتركها تنقص شيئًا عن سائر الكنائس، وفي نفس الوقت لم يثقل عليهم بأي التزام مادي يخص ضروريات الحياة.

يعتذر بأنه ظلمهم لأنه لم يسمح لهم أن يساهموا في معونته كما سمح للكنائس الأخرى بالمساهمة في نفقات الخدمة والخادم هو امتياز يتمتع به المؤمنون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“هوذا المرة الثالثة أنا مستعد أن آتي إليكم،

ولا أُثقل عليكم،

لأني لست أطلب ما هو لكم بل إيّاكم،

لأنه لا ينبغي أن الأولاد يذخّرون للوالدين

بل الوالدون للأولاد” [14].

إن كان قد ظلمهم قبلاً فها هو يخبرهم للمرة الثالثة أنه قادم لزيارتهم وهو لا يطلب مساهمتهم في نفقاته، إنما يطلب أشخاصهم. إنه أب، والأب يتعب ويجاهد لكي يعطي أولاده ولا ينتظر أن يأخذ منهم شيئًا. مسرته أن يقتنيهم كأولاد له. إنه يطلب خلاصهم الأبدي، يقتنيهم كعروس للمسيح، ولا يطلب مقتنياتهم.

سبق فأخبرهم أن لديهم معلمين كثيرين لكن ليس آباء كثيرون. إنه ليس مجرد معلم بل هو أب. كأنه يقول لهم: “أنا أبوكم وأنتم أولادي، ليس من يجد لذة في التعب من أجلكم مثلي”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

آمنوا باللَّه. أحبوا أولاد اللَّه. امتدوا نحو اللَّه، واسحبوا كل من تستطيعون جذبه إلى اللَّه.

لك عدو، اجتذبه للَّه.

لك ابن وزوجة وخادم، اجتذبهم إلى اللَّه.

لك عدو، اجتذبه للَّه. اجتذب واجتذب عدوك، فباجتذابه سيكف عن أن يكون عدوًا.

لتنمو المحبة وتنتعش، فإذ تنتعش تكمل، بهذا ترتدي ثوب العرس[43].

القديس أغسطينوس

“وأما أنا فبكل سرور أَنفِق وأُنفَق لأجل أنفسكم،

وإن كنت كلما أُحبكم أكثر أُحب أقل” [15].

إنه سيستمر يمارس أبوته الحانية، ينفق ما لديه ويبذل ذاته من أجلهم، مقدمًا ما لديه من امكانيات كما يقدم قلبه وفكره ومشاعره وأحاسيسه لحسابهم. هذا لن يتأثر بتصرفاتهم، فهو يعلم أنه كلما أحبهم أكثر يحبونه أقل.

إنه يُسر بأن يقدم ممتلكاته ووقته وقوته وكل ما يشغله لحساب أولاده، وأيضًا أن يتألم ويموت لأجلهم. إنه كالشمس التي تُستهلك لتضيء للآخرين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فليكن.

أنا لم أثقل عليكم

لكن إذ كنت محتالاً أخذتكم بمكر” [16].

حسب قول الرسول نفسه أنه استخدم المكر معهم حين رفض قبول أية مئونة منهم لكي لا يثقل عليهم. ويرى البعض أن هذه ليس كلمات الرسول بولس وإنما كلمات الذين افتروا عليه، وقد ردِّ عليهم في الآيتين التاليتين.

“هل طمعت فيكم بأحد من الذين أرسلتهم إليكم؟” [17]

يتساءل: هل طلب أحد ممن أرسلهم إليهم سواء للكرازة بالإنجيل أو معاونتهم في تدبير أمور الكنيسة في أي جانب من الجوانب شيئا لحساب بولس الرسول؟ يطلب برهانًا واحدًا على أية دعوى كهذه.

٧. خدمة تيطس المجانية

“طلبت إلى تيطس، وأرسلت معه الأخ،

هل طمع فيكم تيطس؟

أمَا سلكْنا بذات الروح الواحد،

أمَا بذات الخطوات الواحدة” [18].

أرسل بولس الرسول إليهم تيطس ومعه أخ آخر (٢ كو ٨: ٦، ١٨). فهل طلب منهم تيطس أجرًا أو شيئًا ما سواء لنفسه أو لبولس الرسول؟ إنهم يعرفون تمامًا أنه لم يحدث شيء من هذا، إذ سلك بذات روح الرسول بولس، وسلك على نفس خطواته.

٨. مسرته ببنيانهم الروحي

“أتظنون أيضًا أننا نحتج لكم؟

أمام اللَّه في المسيح نتكلم،

ولكن الكل أيها الأحباء لأجل بنيانكم” [19].

ما يطلبه الرسول في كل تصرفاته معهم هو بنيانهم. هذه هي غايته أن يقيم أساسًا سليمًا وبناءً فائقًا لكنيسة اللَّه في كورنثوس. إنه يتساءل: هل يعتذر لهم عن إرساله تيطس والأخ الذي معه إليهم ولم يحضر هو بنفسه إليهم؟ حتمًا لا، لأنه فعل هذا لخيرهم. هذا ما ينطق به في المسيح يسوع أمام اللَّه الآب.

“لأني أخاف إذا جئت إن لا أجدكم كما أريد،

وأوجد منكم كما لا تريدون،

إن توجد خصومات ومحاسدات وسخطات

وتحزبات ومذمّات ونميمات وتكبّرات وتشويشات” [20].

يقدم لهم الرسول السبب في عدم حضوره وإرساله تيطس والأخ إليهم، وهو أنه لم يرد أن يحضر ويجدهم في حالٍ غير ما يريده، ألا وهو التوبة وإصلاح المواقف الخاطئة المنحرفة. كما لا يريد أن يحضر فيجدوه على غير ما يريدوه، إذ يجدونه حازمًا وحزينًا على ما هم عليه. يروه حاملاً عصا التأديب لا روح الوداعة والرقة معهم. إذ لا يطيق أن يجد الانقسامات والخصومات مع الحسد والسخط والتحزب والنميمة والعجرفة والتشويش.

القديس يوحنا الذهبي الفم

اسمع ما يقوله لأهل كورنثوس: “لأني أخاف إذا جئت أن لا أجدكم كما أريد، وأُوجد منكم كما لا تريدون” (2 كو 12 : 20). يقول بعد ذلك: “إن يذلني إلهي عندكم إذا جئت أيضًا وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزناة والعهارة التي فعلوها” (2 كو 21:12). وكتب إلى أهل غلاطية: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصوّر المسيح فيكم” (غل 19:4)[47].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أن يُذِلَني إلهي عندكم إذا جئت أيضًا

وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل

ولم يتوبوا عن النجاسة والزنى والعهارة التي فعلوها” [21].

يستخدم بعض الآباء، هذه العبارة للرد على أتباع نوفتيان Novatian الذين يدعون بأنه لا توبة للزناة، والتمتع بالأسرار الإلهية. على نقيض من ذلك يفتح الرسول باب الرجاء أمام الجميع مترجيًا التوبة عن النجاسة والزنى والعهارة.

بعد أن بذل بولس الرسول كل هذا الجهد في نشأة الكنيسة في كورنثوس وأيضًا الاهتمام بإصلاح حالها يخشى أنه متى جاء إليهم يسمح له اللَّه بالحزن الشديد على ما حلِّ بهم من شرٍ وفسادٍ، فينوح عليهم عوض الفرح بالالتقاء معهم وتهليل قلبه لنموهم الروحي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

 

من وحي 2 كو 12

أعلن لي ذاتك وسط السكون!

فذاق عذوبة الحياة الأبدية.

دخل في دهن وسكرت نفسه بحبك.

وبقي سنوات هذا عددها لم يخبر أحدًا بذلك!

 لتعلن ذاتك في أعماقي.

 أنر عيني، فأتعرف على أسرارك،

أعيش في سكون الحب الفائق!

وحياتي هبة من عندك.

 من يحبني مثلك؟!

من هو قدير وحكيم مثلك؟

لا أعود أخشى الضيقات،

ولا أرهب التجارب،

فحياتي هي في يدك الأمينة!

قدني في الطريق الضيق،

لكن لا تفارقني ولو إلى لحظات!

فأنت حياتي وحصني وسعادتي!

أنت تخرج من الآكل أكلاً!

أنت تحول كل الأمور لبنياني!

لأسر بالضعفات والمتاعب!

إذ تحولها فتصير إكليلاً لي!

أنت تهب الصبر علامة الرسولية!

أنت وحدك تهبني بك القدرة على الاحتمال!

هب لي أن أنفق كل ما وهبتني لحساب ملكوتك!

هب لي أن أبذل كل حياتي، متشبهًا بك يا أيها العجيب في بذلك!

فلا أكف عن العمل معك وبك.

لأحزن على كل نفسٍ ساقطة،

ولتتهلل أعماقي بتوبة الكثيرين!

 

[1] In 2 Cor. hom 26:1-2.

[2] The Hesychast Method of Prayer and the Transformation of the Body, The Trial 2:2:5 (14)

[3] On Priesthood, book 4:6.

في مديح القديس بولس، عظة 2.[4]

[5] To Olympias, 17.

[6] Sermons on New Testament Lessons, 3:12.

[7] In 2 Cor. hom 26. PG 61: 618-619.

[8] On the Trinity 11(23).

[9] Commentary on Song of Songs, Homily 3.

[10] The Song of Songs, Comm., Book 1:5.

[11] On Christian Doctrine, Preface 5, 6.

[12] In Ephes., hom. 8.

[13] Against Eunomius, 1:23.

[14] Pauline Commentary from the Greek Church.

[15] Letter, 94.

[16] In 2 Cor. Hom 26:2.

[17] CSEL 81:301

في مديح القديس بولس، عظة 5.[18]

[19] Sermon 7. Question 3.

[20] In 2 Cor. hom 26. PG 61: 620-621.

في مديح القديس بولس، عظة 6.[21]

[22] Pauline Commentary from the Greek Church.

[23] PG 82: 450.

[24] Against the Manicheans, 2:28:42.

[25] To Proba, 130.

[26] Mortality, 13.

[27] To Olympias, 90.

[28] In 2 Cor. hom 26. PG 61:621.

[29] PG 82:450.

[30] Letter to Emperors, 1.

[31] In 2 Cor. Hom 26:3.

[32] In Ephes., hom. 9.

[33] On Divine Providence, Dis., 10:10. (ACW)

[34] On Ps. Hom. 16.

[35] On Ps. Hom. 35.

في مديح القديس بولس، عظة 2.[36]

[37] Hom. 20 On Ps. 59.

في مديح القديس بولس، عظة 5.[38]

[39] In 2 Cor. hom 27:1.

[40] PG 82:451.

[41] In 2 Cor. hom 27:2.

[42] In 2 Cor. hom 27:2.

[43] Sermons on New Testament Lessons, 40:10.

 في مديح القديس بولس، عظة 3.[44]

[45] In 2 Cor. hom 27:2-3.

[46] In 2 Cor. hom 28:2.

في مديح القديس بولس، عظة 3.[47]

[48] In 2 Cor. hom 28:2.

تفسير كورنثوس الثانية 12 – الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version