تفسير العهد الجديد

تفسير سفر الرؤيا 21 الأصحاح الحادي والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير سفر الرؤيا 21 الأصحاح الحادي والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير سفر الرؤيا 21 الأصحاح الحادي والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير سفر الرؤيا 21 الأصحاح الحادي والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 21 الأصحاح الحادي والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير سفر الرؤيا 21 الأصحاح الحادي والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الحادى والعشرين: وصف أورشليم السماوية

يحدثنا في هذا الأصحاح عن “الوطن السماوي”، أو كما يقول القديس أغسطينوس: [الكنيسة السماوية[1].]

  1. كنيسة واحدة 1 – 8.
  2. كنيسة مقدسة 9 – 11.
  3. كنيسة جامعة رسولية 12 – 14.
  4. مقاييسها 15 – 17.
  5. بناؤها 18 – 27.
  6. كنيسة واحدة

كثيرون من الفلاسفة والأدباء والشعراء أمثال أفلاطون أخذوا يرسمون لنا مدنًا مثالية حسبما تتصورها أذهانهم، يسنّون لها قوانين ونظمًا ومبادئ حسبما تمليه عليهم فلسفتهم وفكرهم. لكن سرعان ما تندس في وسط تخيلاتهم مبادئ خاطئة أو خيالية فتخرج المدينة ناقصة مملوءة ضعفات. أما الرسول يوحنا فلم يحذو حذوهم، بل صعد بالروح فرأى كنيسة حقيقية مثالية خالدة، هي في حقيقتها “لقاء الله مع المؤمنين” أو قل هي “وحدة سماوية”. ولما كان هذا الأمر يصعب رسمه أو التعبير عنه، لهذا سجل لنا ما رآه فعلاً لكن في رموز بسيطة تاركًا لنا أن نتعمق فيها لندرك ونتذوق ما عليه هذه المدينة السماوية على قدر ما تستطيع قامتنا الروحية أن تدرك بإرشاد الروح.

“ثم رأيت سماء جديدة وأرضًا جديدة،

لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا”.

لقد أوضح لنا الرب يسوع أن الخمر الجديدة لا توضع في زقاق قديمة، بل في زقاق جديد، هكذا نحن خمر ملكوته إذ نخلع هذا الجسد الفاسد لنلبسه في عدم فساد، وهذا المائت في عدم موت. نقوم في مجد وقوة، لنا أجسام روحانية (1 كو 15: 42-44) لهذا يضعنا الرب في سماء جديدة.

يليق بنا كأبناء ملكوت جديد ألا نعود بعد إلى هذه الأرض، لأنه كما أكد لنا ربنا يسوع: السماء والأرض تزولان”. وقد طمأننا الرسول بطرس أنه بمجيء يوم الرب “تنحل السموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب، ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضًا جديدة يسكن فيها البرّ” (2 بط 3: 12-13). نسكن في “أرض الأحياء” مع كافة القديسين الأحياء بالروح.

ولعل قوله “سماء جديدة وأرض جديدة” يحمل معنى آخر أيضًا، هو أنه مع زوال كل ما هو قائم حاليًا سنعود إلى سماء جديدة، أي نلتقي مع “الرب إله السماء”، ومع السمائيين في شركة مبدعة جديدة في كمالها وتمامها.

ونلتقي أيضًا مع إخوتنا الذين كانوا معنا على الأرض في “أرض جديدة“، أي في لقاء حب من صنف جديد، في وحدة تامة وكاملة في شخص الرب يسوع. إنه لقاء كنيسة واحدة تذوق الوحدة الأبدية في صورة ليس لها مثيل، لهذا يقول “والبحر لا يوجد فيما بعد” [1]. ليس للبحر موضع هناك، إذ يشير البحر إلى الانقسام والانشقاق حيث يفصل البلدان أو الدول أو القارات، أما في السماء فالكنيسة ليس فيها ما يفصل أعضاءها عن بعضهم البعض. والبحر يشير إلى الاضطراب والقلق، إذ يقول الكتاب: “أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ ويقذف حمأة وطينًا” (إش 57: 20). فالكنيسة السماوية لا يختفي فيها شرير واحد، بل مع كمال وحدتها يسودها سلام داخلي وخارجي.

 

اسم الكنيسة

“أنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة،

نازلة من السماء من عند الله،

مهيأة كعروس مزينة لرجلها[2].

رأى يوحنا الرسول ما أعده الله لنا أو رآنا بروح النبوة ونحن في المجد، وإذ عاد ليخبرنا بما رأى لم تسعفه اللغة البشرية، إذ يعلم مدى اشتياقاتنا للمعرفة، وفي نفس الوقت يريد الروح القدس أن نعرف، لهذا سجل لنا ما رآه خلال رموز بسيطة فقال إنه رأى “المدينة”. إنني أظنه كطفل بالكاد يعرف اللغة، لم يرَ طائرات من قبل، دخل مطارًا ضخمًا فرأى مئات الطائرات، فعاد ليقول “رأيت حمامًا كبيرًا على الأرض”. هكذا يقول الرسول عن الأبديّة إنها “المدينة”. هي في حقيقتها مسكن الله مع الناس، لهذا سماها “المدينة”.

وإذ أدرك أحضان قدوس القديسين المفتوحة للقاء قديسيه، دعا ذلك اللقاء “المدينة المقدسة”. إنها امتداد للكنيسة المقدسة، إذ أنه حال فيها قدوس القديسين.

وحينما أراد أن يعطيها اسمًا دعاها “أورشليم الجديدة“، أي مدينة الله الجديدة، وتبقى جديدة لأن ما هو أخروي[2] جديد ويبقى جديدًا لا يصيبه القِدَم، لأنه لا يكون زمان ولا عوامل فناء ولا فيها ما يفقدها جمالها وضياءها المتقد بنور الرب.

أما سرّ قداستها وجدتها فهو إنها “نازلة من السماء من عند الله”. ومع إنها هي السموات بعينها لكنها “نازلة من السماء” كالأم الحنون التي تفتح أحضانها وتركض لتحتضن طفلتها التي طالما اشتاقت إليها. هكذا تتوق الأبدية إلينا لأننا لسنا غرباء عنها بل أعضاء فيها. بنزولها من السماء من عند الله، تقدم لنا رجاء في أننا أبناء لها وأعضاء أحياء فيها، فلا يراودنا اليأس بحجة ضعفنا أننا لا نصلح لها.

في نزولها من عند الله تعلن حب الله للبشر واشتياقه إلى اللقاء معهم، فهو دائمًا المبادر بالحب. وهو الذي يهتم بهم، إذ أن الله لا يستحي أن يُدعى إلههم، لأنه أعد لهم مدينة” (عب 11: 16). وقد لمس إبراهيم أب الآباء في الأبديّة عمل الله تجاهه، فقيل عنه أنه كان “ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله” (عب 11: 10).

وأخيرًا إذ رأى الرسول أن كل ما في المدينة يتلألأ جمالاً لم يعرف بماذا يصفها فقال: “مهيأة كعروسٍ مزينة لرجُلِها”. إنها عروس واحدة مزينة بزينة عريسها التي أهداها لها.

هكذا عبر الرسول عن اللقاء الأبدي حين رآه، فبماذا عبر الصوت السمائي عنه؟

 

“وسمعت صوتًا عظيمًا من السماء قائلاً:

هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم،

وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم[3].

لم تجد السماء اسمًا لهذه المدينة الجديدة والأرض الجديدة والسماء الجديدة يليق بها سوى أن تدعوها “مسكن الله مع الناس”. لم تقل “مسكن الناس مع الله” بل “مسكن اللّه مع الناس“، لأن اشتياق الناس للسكنى معه لا يقاس ولا يقارن باشتياق الله للسكنى معنا. يا لعظم محبة اللّه الفائقة! كأن الله ينتظر الأبديّة ليستريح بالسكنى معنا، مع أننا نعلم أنه ليس محتاجًا إلى عبوديتنا بل نحن المحتاجون إلى ربوبيته[3].

لهذا يبدأ بالقول “وهم يكونون له شعبًا“، أي أنهم هم المحتاجون إليه، وهو يسكب حبه عليهم، إذ “الله نفسه يكون معهم إلهًا لهم”. إنه إله كل البشر، وإله المؤمنين. لكن في الأبدية ينعم أبناء الملكوت بمفاهيم أعمق وعذوبة أكثر في ربوبية الله لهم.

وأخيرًا يمكننا من خلال قراءتنا للأصحاحين 21 و22 أن نفهم ماذا تعنيه الكنيسة السماوية الواحدة وهو:

  1. أنها المسكن الأبدي الذي يقول عنه الرب: “أنا أمضي لأعد لكم مكانًا”، وقد قدمه لنا الرسول واصفًا لنا أبعاده ومواد بنائه في أسلوب رمزي بسيط.
  2. إنها الوجود في حضرة العريس السماوي واللقاء الدائم معه، إذ هي “مسكن الله مع الناس” لهذا حدثنا عن شخص العريس وعمله مع شعبه.
  3. إنها جماعة المؤمنين الغالبين “الذين يحسبون سماء”، ليس في الحياة الأبدية فحسب، بل وهم على الأرض. إذ يقول القديس أغسطينوس[4] [الإنسان الروحاني في الكنيسة هو السماء… الكنيسة هي السماء… والسماء هي الكنيسة.]

حال الكنيسة الواحدة

  1. “وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم”: وكما يقول العلامة ترتليان[5] أن الله يمسح كل دمعة سكبتها العيون قبلاً، إذ ما كان لها أن تجف ما لم تمسحها الرأفات الإلهية. طوبى لأصحاب العيون الباكية، لأن الله بنفسه يمسحها ويطيِّبها!
  2. “والموت لا يكون فيما بعد”: وكما يقول النبي “يبلغ الموت إلى الأبد ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه” (إش 25: 8).
  3. “ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد. لأن الأمور الأولى قد مضت[4]. لقد مضى العالم القديم بما يحمله معه من سمة للنقصان وقابلية للفناء، وصار كل ما في الأبدية جديدًا مفرحًا ومبهجًا للكل.
  4. “وقال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شيء جديدًا”. في العالم الآخر لا نجد ما تسأمه النفس، ولا ما تملّ منه، إذ ليس فيها شيء يعتق ويشيخ بل لحظة فلحظة – إن صح هذا التعبير – نجد كل شيء جديدًا. إذ نحن ماثلون أمام الله الذي لا تشبع النفس من اشتهائه. وكما يقول القديس غريغوريوس النيسي: [أن رؤية الله بالضبط لا تَشبع النفس من اشتهائه. وهذا يتم إلى الأبد والنفس ذاهبة من بدء إلى بدء ببداءات لا تنتهي.[6]] كلما تأمل الإنسان الله رآه كأنه لأول مرة يراه جديدًا في نظره، فيزداد شوقًا إلى السجود له والنظر إليه، ويستمر هكذا بلا نهاية.

ولما كان هذا الأمر مجيدًا حتى ليستعصب الكثيرون نواله، أراد الرب أن يبعث فيهم رجاء فقيل للرسول: “وقال لي: اكتب فإن هذه الأقوال صادقة وأمينة، ثم قال لي: قد تم[5]. إنها أمور حقيقية واقعية قد أتم الله تهيئتها للبشر، ولم يبقَ سوى أن ندخل ونرث. وكأنه يقول لعروسه: “الله بالحق قد أعد بيت الزوجية وبقي أن تأتي صاحبة البيت”.

أما مقدم الدعوة فيقول: “أنا هو الألف والياء. البداية والنهاية”. وقد سبق لنا شرح هذا القول. إنه يقول: إنني لغة السماء أعلمكم التسبحة الجديدة، وأنا رأس الكل أتيت أخيرًا لكي أحتضن الجميع وأجمعهم معي.

إنني لا أبخل على أحد، بل أقدم ذاتي ينبوع ماء حياة مجاني لكل طالب أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانًا[6]. يقدم نفسه لكل ظمآن يشعر بالحاجة إليه، القائل مع المرنم: “كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي، متى أجيء وأتراءى قدام الله. صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً، إذ قيل لي كل يوم: أين إلهك؟ (مز 42: 1-3). لهذا ينادي الرب قائلاً: “إن عطش أحد فليقبل إلىَّ ويشرب (يو 7: 37). وحتى لا يسيء أحد إلى فهم مجانية الماء الحي عاد ليؤكد لنا أن الميراث الأبدي لا يناله إلا المجاهدون المثابرون، لهذا يقول: “من يغلب يرث كل شيء وأكون له إلهًا وهو يكون لي ابنا[7].

إنه يعطي للغالبين… فماذا يأخذون؟

يرث كل شيء!” إنه كأب رأى الأيام التي كان فيها ابنه قاصرًا قد انتهت، وقد صار الآن ناضجًا، فيقدم له كل أمواله وممتلكاته ويسلمه كل شئونه وأسراره، وإن استطاع أن يقدم له كل قلبه. إنه يورّثه كل شيء وهو بعد حي! هذا ما يعنيه بقوله: “يرث كل شيء“. لهذا يكمل قائلاً: “وأكون له إلهًا، وهو يكون لي ابنًا“. حقًا بالمعمودية صرنا أبناء ولكننا ندرك كمال بنوتنا حين نتسلم الميراث الأبدي!

أما غير المجاهدين وغير المؤمنين فليس لهم نصيب معه إذ يقول:

“وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني[8].

لقد بدأ هذه القائمة المرة بالخائفين، أي الجبناء الذين ينكرون الإيمان خوفًا على حياتهم الزمنية، وهؤلاء أشر الفئات. ويليهم “غير المؤمنين” لأنه بدون إيمان لا يمكن أرضاؤه. ويليهم صانعو الشر أي “الرجسون والقاتلون…” أي المؤمنون اسمًا لكن أعمالهم لا تتناسب مع الإيمان. وإننا نجده يركز على الكذب فيقول “وجميع الكذبة”، ولعله يقصد بالكذب أولئك الذين يستخدمون الغش والخداع في معاملاتهم وأحاديثهم.

 

  1. كنيسة مقدسة

“ثم جاء إلى واحد من السبعة الملائكة

الذين معهم السبعة الجامات المملوءة من السبع الضربات الأخيرة،

وتكلم معي قائلاً: هلم فأريك العروس امرأة الخروف[9].

اختار الرب أن يرسل ملاكًا من الذين معهم السبعة الجامات ليرى الرسول “العروس امرأة الخروف“، وذلك ليظهر لنا حب هؤلاء الملائكة لنا وحنانهم تجاه البشر، فمع كونهم يسكبون الجامات لكنهم يتوقون إلى رؤية البشر في حالة تقديس كامل، ليس فقط هكذا بل ويريدون أن يعلنوا ذلك لكل أحد.

ستكون الكنيسة في قداستها موضوع إعجاب الملائكة، فيترنمون مع المرتل قائلين: جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير…” ويناجيها العريس نفسه إذ يرى فيها جمالاً، فيقول ها أنت جميلة يا حبيبتي… (نش 1: 15). هذا الجمال السماوي الذي هو القداسة المشعة من الله تجاه أولاده.

أما سر قداستها فهو:

  1. “علوّها وسموّها”: “وذهب بي الروح إلى جبلٍ عظيمٍ عالٍ، وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة[10]. إنها مرتفعة جدًا، سماوية، لا يقدر أن يقترب إليها إبليس أو جنوده، لأنهم ملقون في البحيرة المتقدة.
  2. “نازلة من عند الله [10]. سرّ قداستها إنها مرتفعة كما رأينا، وإنها “نازلة من السماء من عند الله”. ففي علوِّها لا يقدر أحد أن يصعد إليها، وبنزولها من السماء يعلن أن الله يُصعدنا إليه. يقول القديس أغسطينوس[7] إنه لا يستطيع أحد أن يصعد إلى شركة أورشليم السمائية ما لم يؤمن أن صعوده لا يتم بقوته الذاتية بل بعمل الله. وبنزولها أيضًا يعلن لنا أنه يجب علينا أن نختبر الحياة السماوية ونحن هنا على الأرض قبلما يأتي يوم الرب لنرتفع معه وبه. يقول القديس إكليمنضس الإسكندري إننا نستعيض عن الأرض بالسماء، إذ بالأعمال الصالحة نصير آلهة[8]… وبسلوكنا في السماويات نصير كمن هم في السماء!
  3. “لها مجد الله شبه أكرم حجر كحجر يشب بلوري[11]. مجدها ليس من ذاتها، بل مجد الله المُشرق عليها. وهي كالبلّور تستقبل الأمجاد الإلهيّة. فكما أنه هو في المنظر شبه حجر يشب” (رؤ 4: 3)، هكذا باتحادنا به وتقبلنا إشعاعات مجده نصير كحجر يشب بلوري. هو شمس البرّ يتلألأ جمالاً، ونحن كالبلور الذي يحيط به من كل جانب حتى تختفي فينا ملامح البلّور ولا يظهر إلا الإضاءات القوية من شمس البرّ علينا. إن كل واحد منا كالبلّور يرى في أخيه مجد الله، وأخوه يرى فيه مجد الله. هكذا يصير الله الكل في الكل.
  4. كنيسة جامعة رسولية

“وكان لها سور عظيم وعال”

من هو السور؟ يقول المرتل “لأنك أنتَ إله حصني” (مز 43: 2). الله هو حصن الكنيسة السماوية وملجأها، في ستره نسكن وفي ظله نبيت (مز 91). هذا السور يجمع شمل الكنيسة الجامعة في وحدة كاملة لا يدخلها عدو، أي إبليس وأعماله لكي يقسمها أو يفرق أعضاءها. وكما يقول القديس أغسطينوس: [طوبى للذي يسكن في المدينة التي لا يخرج منها صديق ولا يقتحمها عدو!]

هذه الكنيسة أو المدينة جامعة يجمع سورها شمل الكنيسة كلها. كنيسة العهد القديم وكنيسة العهد الجديد وهى رسولية على أساس سورها أسماء رسل المسيح إذ يقول:

“وكان لها إثنا عشر بابًا وعلى الأبواب إثنا عشر ملاكًا،

وأسماء مكتوبة هي أسماء أسباط بني إسرائيل الإثنى عشر.

ومن الشرق ثلاثة أبواب، ومن الغرب ثلاثة أبواب،

ومن الشمال ثلاثة أبواب، ومن الجنوب ثلاثة أبواب.

وسور المدينة كان له إثنا عشر أساسًا،

وعليها أسماء رسل الخروف الاثنى عشر[12-14].

لقد جمعت بين أسماء الأسباط الإثنى عشر، أي رجال العهد القديم وأسماء رسل المسيح، أي رجال العهد الجديد لأنها كنيسة واحدة، أما اليهود المنشقون عنها برفضهم الإيمان، فلم يعد لهم مكان إذ انتزع عنهم نسبهم الروحي للأسباط وصاروا غير مؤمنين. وتشير الأبواب الإثنا عشر إلى افتتاح الأبواب من كل جانب لكل أبناء الملكوت[9]. أما توزيع الأبواب في كل الجهات فذلك لكي لا يضل أحد من الراغبين في الميراث الأبدي عن البلوغ إلى داخله.

  1. مقاييسها

“والذي كان يتكلم معي كان معه قصبة من ذهب،

لكي يقيس بها المدينة وأبوابها وسورها[15].

إن أبناء الملكوت معروفون ومقاسون من قبل الله ومحفوظون لديه. أما وحدة القياس فهي قصبة من ذهب أي سماوية، لأن الأمور الروحية والسماوية لا تقاس إلا بما هو روحي سماوي.

“والمدينة كانت موضوعة مربعة طولها بقدر العرض،

فقاس المدينة بالقصبة مسافة إثنى عشر ألف غلوة

للطول والعرض والارتفاع متساوية[16].

هي مربعة لها أربعة زوايا متساوية، إشارة إلى أن حاملها الأناجيل الأربعة التي ترتفع بالمؤمنين تجاه السماويات وتهيئهم ليكونوا عروسًا سماوية بقوة الكلمة. أما قياسها 12000 غلوة فذلك لأن رقم 12 يشير إلى أبناء الملكوت، 1000 يشير إلى السماء، أي تتسع لكل أبناء الملكوت السمائيين.

“وقاس سورها مئة وأربعة وأربعين ذراع إنسان، أي الملاك[17].

يشير رقم 144 إلى الكنيسة الجامعة (كنيسة العهد القديم 12× كنيسة العهد الجديد 12) التي هي مسورة بسور واحد لتنعم بإله واحد. أما الذي قاس فهو ملاك لا إنسان أرضي حتى لا نتخيل في السماء ماديات وأرضيات.

  1. بناؤها
  2. السور

“وكان بناء سورها من يشب، والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي[18].

إنها مسورة بالله ذاته حافظها، وهي من ذهب نقي شبه زجاج نقي أي سمائية طاهرة.

“وأساسات سور المدينة مزينة بكل حجر كريم”.

الأساس الأول يشب. الثاني ياقوت أزرق.

الثالث عقيق أبيض. الرابع زمرد ذبابي.

الخامس جزع عقيقي. السادس عقيق أحمر.

السسابع زبرجد. الثامن زمرد سلقي.

التاسع ياقوت أصفر. العاشر عقيق أخضر.

الحادي عشر أسمانجوني. الثاني عشر جمشت[19-20].

أولا: تشير هذه الحجارة الكريمة إلى رسل المسيح، إذ هي كنيسة رسولية، كما يقول الكتاب: مبنيين على أساس الرسل والأنبياء والمسيح نفسه حجر الزاوية (أف 2: 20).

ثانيًا: تشير الحجارة الكريمة إلى الفضائل الإلهية التي يهبنا الله إياها لأجل تزيينا. فالأساس الذي نبني عليه في الأبديّة هو الفضائل الإلهية التي يهبنا عربونها في هذه الحياة خلال جهادنا. وهناك تتلألأ فينا في مجد سماوي. لهذا يُعزي الرب الكنيسة المجاهدة قائلاً لها: أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية. هأنذا أبني بالإثمد حجارتك. وبالياقوت الأزرق أؤسسك. وأجعل شرفك ياقوتًا وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة…. هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب” (إش 54: 11-17).

ثالثًا: إذ يشير رقم 12 إلى أبناء الملكوت، فكأن كل ابن للملكوت يتزين بزينة إلهية مختلفة عن أخيه، لكنها ثمينة وجميلة. وهكذا تكمل الكنيسة بعضها البعض في وحدة بالغة.

  1. الأبواب

“والإثنا عشر بابًا إثنتا عشرة لؤلؤة،

كل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة واحدة”.

الرب يسوع هو “اللؤلؤة” كثيرة الثمن من أجلها يبيع الإنسان كل ماله ليقتنيها (مت 13: 46). فأبناء الملكوت جميعهم الداخلون من الأبواب باعوا العالم واشتروا اللؤلؤة. ومن ناحية أخرى نجد أنه من كل جانب يظهر ثلاثة أبواب أي الثالوث القدوس. فكأن الثالوث القدوس من كل جانب يبهج نظر الشعوب لتبيع ما تملكه وتقتني الأبدية، فتدخل إلى الميراث المعد لها.ويرى البعض أن الإثني عشر بابًا أيضًا تشير إلى الإثنى عشر هؤلاء الذين جعلهم “الباب الفريد” أي الرب يسوع أبوابًا، عن طريق كرازتهم تدخل الشعوب إلى الإيمان به.

  1. السوق (الساحة)

“وسوق المدينة ذهب نقي كزجاج شفاف[21].

وسوق المدينة يشير إلى صنف ما من الأبرار. على أي الأمور كل المدينة ذهب نقي، أي سماوية ليس فيها أمر أرضي، وزجاج شفاف ليس فيها دنس أو تعقيد بل بساطة ونقاوة قلب.

  1. الهيكل

“ولم أر فيها هيكلاً،

لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها[22].

أ. لقد طالب الله الشعب القديم أن يقيموا خيمة اجتماع، يجتمع فيها الله مع الناس، خلال الرموز والظلال. ثم عاد فطلب بناء هيكل يحمل معنى وجود الله وسط البشر.

ب. وإذ انحرف اليهود ورفضوا الرب خرب الهيكل بعدما قدم لنا الرب جسده هيكلاً جديدًا (يو 2: 19)، وإذ صرنا نحن من لحمه وعظامه (أف 5: 30)، صرنا به هيكلاً مقدسًا (1كو 3: 16-17)، وأصبحنا بناء الله (1 كو 3: 9).

ج. وفي نفس الوقت سلّمنا الذبيحة غير الدمويّة في خميس العهد وطالبنا أن تُقدم في هيكل العهد الجديد، عربون الهيكل الأبدي.

د. أما في الأبدية فلم يرَ الرسول هيكلاً، لا لأنه غير موجود، بل لأن “الرب الله القادر على كل شيء هو الخروف هيكلها”. إنه هيكل هذا اتساعه وهذه إمكانياته، هيكل لا نهائي سرمدي!

  1. الإضاءة

“والمدينة لا تحتاج إلى الشمس، ولا إلى القمر،

ليضيئا فيها لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها[23].

انعدمت وسائل الإضاءة المادية لأنه قد صار لنا الرب شمسًا وسراجًا.

  1. مجدها

“وتمشي شعوب المخلصين بنورها،

وملوك الأرض يجيئون بمجدهم وكرامتهم إليها.

وأبوابها لن تغلق نهارًا، لأن ليلاً لا يكون هناك.

و يجيئون بمجد الأمم وكرامتهم إليها.

ولن يدخلها شيء دنس،

ولا ما يصنع رجسًا وكذبًا، إلا المكتوبين في سفر حياة الخروف[24-27].

على ضيائها وبنورها يسير كثيرون تجاهها، إذ يقول الرب: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات” (مت 8: 11). يأتون بمجدهم وكرامتهم، أي نازعين كل مجد أرضي وكرامة زمنية من أجلها.

يأتون بإرادتهم لا قسرًا أو إلزامًا، فالأبواب مفتوحة للكل والدعوة للجميع إذ يريد الله أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. يأتون ليجدوا أبوابها لن تغلق، إذ تستقبل الكل بلا محاباة بين غني أو فقير، عبد أو حر. يأتون نهارًا، لأنه لا يدخلها في الظلمة ولا يتسلل إليها من يصنع دنسًا أو رجسًا أو كذبًا.

 

[1] City of God, 22: 27.

[2] أي يخص الحياة الآخرة.

[3] عن القداس الإغريغوري بتصرف.

[4] أغسطينوس، الصلاة الربانية ص 17.

[5] Tertullian: On the Resurrection of the Flesh, 58.

[6] مجلة النور عدد 8 لسنة 1968.

[7] المذاهب 31.

[8] أي ترتسم فينا صورة الله… لا أن نصير موضوع عبادة، بل يعكس الله إشراقاته علينا فنستنير بنوره.

[9] إذ رأينا في أكثر من موضع أن رقم 12 يشير إلى ملكوت الله.

 

تفسير سفر الرؤيا 21 الأصحاح الحادي والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي