قرأنا لك

قرأنا لك: عندما لا تمطر السماء (2) – فيليب يانسي – أ/ أسعد حنس

قرأنا لك: عندما لا تمطر السماء (2) – فيليب يانسي – أ/ أسعد حنس

عندما لا تمطر السماء
عندما لا تمطر السماء

الجزء الأول

تكوين12 يوضح تغيير هائل. فلأول مرة منذ أيام آدم، تقدم الله لا ليعاقب، بل ليُطلق حركة خطة جديدة للتاريخ البشري. إذ قال الله لإبراهيم صراحة “فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَة وَأُبَاركُكَ وَأُعَظِّمْ اسْمَكَ، وَتَكُونُ بَرَكَةٌ… وَتَتَبَارَكْ فِيكَ جَمِيع قَبَائِل الأَرْضِ”. يبدأ الله بجنس جديد مفروز عن الآخرين جميعًا، قَبِلَ إبراهيم وعود الله وغادر دياره مهاجرًا إلى بلاد كنعان. ولكنه أحس بخيبة أمل مرة بالله، فرغم أنه شهد معجزات وأضاف ملائكة في بيته وشاهد رؤى غامضة، ولكن خيَّمَ الصمت المحير سنوات طويلة، فرغم أن الله أمره بأن يمتلك الأرض إلاَّ أنه وجد كنعان جافة وأهلها يهلكون جوعًا، فهرب إلى مصر. ورغم أن الله قال له أن نسله مثل نجوم السماء لا يُحصى إلاَّ أنه في سن الخامسة والسبعين ظل يأمل في خيمة ملئى بأصوات أولاد يلعبون، ولمَّا لم يحدث فعند بلوغه سن الخامسة والثمانين؛ نفذ خطة دعم مع أمَّة عنده، ولما بلغ التاسعة والتسعين بدا الوعد يظهر ولما برر الله له ذلك، ضحك إبراهيم في حضرته وصار أيضًا التي كان لها من العمر تسعون. لقد كانت ضحكة سخرية وألم أيضًا، وأخذ الله يراقبهما وهما يطعنان في السن حتى الشيخوخة، ماذا أراد الله من ذلك؟ لقد أراد الله إيمانًا وكان ذلك هو الدرس الذي تعلمه إبراهيم أخيرًا. إذ تعلم أن يؤمن لمَّا لم يبقَ سبب يدعو إلى الإيمان، إنه الإيمان المنافي للمنطق.

تكرر نفس النموذج مع اسحق؛ إذ تزوج بامرأة عاقر، وحذا حُذوه ابنه يعقوب فهما أيضًا اختبرا وهج الإعلان الإلهي الذي مالبث أن أعقبه زمان انتظار قاتم وموحش ماكان ليملأه شيء سوى الإيمان، هذا الإيمان هو ما ثمَّنَه الله، وسرعان مابات جليًّا أن الإيمان هو أفضل طريقة يعبر بها البشر عن حبهم لله.

هناك تغييرًا ملحوظًا في كيفية تواصل الله مع خاصته. فأول الأمر ظلَّ على مقربة منه، ماشيًّا في الجنة معه، معاقبًا خطاياهم الفردية، متكلمًا إليهم مباشرة، متدخلاً في أمورهم دائمًا، ولكن في زمن يعقوب كانت الرسائل أكثر غموضًا بكثير، حُلم ملغز ظهر فيه سلم، ومباراة مصارعة حتى الفجر، وفي آخر سفر التكوين، تلقى رجل اسمه يوسف الإرشاد بأكثر الطرق فجائية وغرابة فتكلم الله إلى يوسف بوسيلة تمثلت بأحلام فرعون مصري مستبد. فقد فسر حلمًا لإخوته، فرموه في بئر وصدَّ مراودة جنسية، فزُجَّ في سجن مصري وهناك فسَّر حلمًا آخر لإنقاذ حياة سجين زميل إلاَّ أنه نسيه. فهل خطرت في بال يوسف أسئلة مثل:

هل الله ظالم؟

أهو صامت؟

أهو مختبئ؟

أُفتتح سفر الخروج بجمهور من بني إسرائيل يكدُّون ويكدحون عبيدًا تحت إمرة فرعون معادٍ لهم، ولكن خلال 400 سنة لم نسمع قط عظة مما يؤكد مشاعر الخيبة عند الشعب خلال تلك الفترة فلا شكَّ أن العبيد العبرانيون في مصر شعروا بخيبة أمل شديدة من جهة الله حتَّى أصبح وعد الله وقسمه لإبراهيم ثم اسحق ثم يعقوب كحكاية خيالية. 400 سنة من الصمت. وجاء موسى فأولاً، ظهر الله في علِّيقة ملتهبة، معرفًا موسى بنفسه بالاسم. وتكلم الله بصوت عالٍ، ومن ثَمَّ أطلق الله أوسع عرض للقدرة الإلهية شهده العالم على الإطلاق عشر مرات تدخل الله على نطاق هائل بحيث لا يمكن لأي شخص فرد في مصر أن يشك في وجود إله العبرانيين. وعلى مدي الأربعين سنة التالية، سنيِّ الارتحال التائه في البرية، حمل الله شعبه كما يحمل الأب ابنه. أطعمهم، وكساهم، ورسم خط ارتحالهم اليومي، وخاض حروبهم.

إن استجابة بني إسرائيل لهذا التدخل المباشر توفر تبصرًا هامًا في الحدود الطبيعية لكل قدرة. ففي وسع القدرة أن تفعل كل شيء، ولكن أهم شيء أنها لا تستطيع التحكم في المحبة. فالضربات العشر في الخروج تبيِّن قدرة الله على فرعون مصري ولكن التمردات الكبيرة العشرة المذكورة في سفر العدد تبيِّن عجز القدرة عن إحداث ما رغب الله فيه أكثر الكل، ألا وهو المحبة والأمانة من قِبَل شعبه. فكل مشاهد القدرة الإلهية لم تحمل الشعب على الوثوق بالله واتباعه.

فالمحبة لا تعمل بموجب قواعد القدرة وهذا يساعدنا على تعليل إحجام الله أحيانًا عن استخدام قدرته، فهو خلقنا كي نحبه، ولكن معجزاته لا تفعل شيئًا يؤول إلى تعزيز تلك المحبة، فكما يقول دوجلاس جان هول “ليست إشكالية الله أنه لا يقدر أن يفعل أمورًا معينة، بل إشكالية الله أنه يحب. فالمحبة تعقد حياة الله كما تعقد كل حياة”.

حتى إنَّ إله الكون، عندما تُزدَرى محبته، يشعر على نحو ما بالعجز، شأنه شأن أب خسر ما يثمنه أقصي تثمين. انظر حزقيال 16 وكذلك تثنية 31، نجد أن الله البصير علم مصير بني إسرائيل المأسوي واطلع موسى على ما فعله الشعب من عبادة العجل، فلقد اشتاق الله أن ينجح العهد “يَا لَيْتَ كَان َ قَلْبَهُمْ كَانَ هَكَذَا فِيهُم حَتَّى يتَّقُونِي وَيَحْفَظُوا جَمِيعَ وَصَايَاي كُلْ الأَيَّامِ، لِكَي يَكُونُ لَهُمْ وَلأَوْلادِهمْ خَيّْر إِلَى الأَبَدِ”. وعصيانهم أنبأ به الله مقدمًا باستجابته الخاصة “وَأَنَا أَحْجُبُ وَجْهِي فِي ذَلِكَ اليَوْم”. وكأن الله أبو مدمن مخدرات لا يقوى على إيقاف ولده عن تدمير ذاته.

ثم كلف الله موسى بمهمة غريبة جدًا في تثنية 31 “اكْتُبُوا لأَنْفُسِكُمْ هَذَا النَشِيد، وَعَلِّمْ بَنِي إِسْرَئِيل إِياه لَكَيْ يَكُونُ شَاهِدًا عَلَيْهُم” فلقد كان النشيد كمرثاة ينظمها محبٌ أٌحزن إلى حد الهجر، إنه أغرب نشيد أُنشد على الإطلاق إذ لم تكن فيه فعلاً أية كلمات أمل، بل ترددت فيه أصداء دينونة فحسب، وبذلك النشيد تقدموا إلى داخل أرض الآباء، إذ أن كونهم شعب اختاره الله كان له ثمنه، فمثلما وجد الله الإقامو وسط شعب خاطئ أمرًا شبه مستحيل، كذلك تمامًا وجد بنو إسرائيل العيش مع إله قدوس أمرًا شبه مستحيل، كما نشأت مشكلة أخطر بكثير، فكلما اقترب الله نحو شعبه أكثر، شعروا بأنهم أكثر ابتعادًا عنه. لقد أرسى موسى نظامًا محكمًا من الطقوس لابد منه للاقتراب إلى الله، فقد كان في وسع بني إسرائيل أن يروا بينة واضحة على حضور الله في قدس الأقداس، إنما لم يجرؤ أحد على الدخول، فتلك العلاقة الشخصية بالله تمتع بها بنو إسرائيل ولكنهم قالوا “إنَّنَا فَنَيْنَا وَهَلَكْنَا. قَدْ هَلَكْنَا جَمِيعًا! كُلْ مَنْ إِقْتَرَبَ إِلَى مَسْكَنْ الْرَبَّ يَمُوت. أَمَا فَنَيْنَا تَمَامًا؟” تث18.

فقد حاول بني إسرائيل أن يعيشوا مع رب الكون الحاضر في وسطهم بصورة مرئية؛ ولكن في آخر الأمر نجا شخصان فقط بعد معاينة الحضرة الإلهية من بين الآلاف المؤلفة الفارة من مصر بابتهاج، إنهما يشوع وكالب.