Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

نبوات المسيح في سفر أشعياء – الجزء الثاني

نبوات المسيح في سفر أشعياء – الجزء الثاني

نبوات المسيح في سفر أشعياء

 

هذا هو الجزء الثاني، لقراءة الجزء الأول برجاء الضغط هنا

سادساً: رفض المسيا المدعو من الله 

” الرب من البطن دعاني. من أحشاء أمي ذكر اسمي… أما أنا فقلت عبثاً تعبت باطلاً وفارغاً أفنيت قدرتي. لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي” إشعياء 49: 1-4.

أولاً: المدعو من الله.

“الرب من البطن دعاني. من أحشاء أمي ذكر اسمي” هذه كلمات المسيا نفسه. وقد وضعها الله على قم إشعياء النبي، لينطق بها نبوياً. وهذه النبوة تتناغم مع نبوة الميلاد العذراوي “هوذا العذراء…. وتدعو اسمه عمانوئيل” إشعياء 7: 14.

ونحن هنا أمام إشارة عن أم وليس أب. وهذا قد تحقق في السيد المسيح، عندما ظهر الملاك ليوسف في حلم في وقت حمل العذراء، وقال له “لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع. لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” متى 1: 20 23. (لاحظ قوله “من أحشاء امي”).

ثانياً: رفضه

“أما أنا فقلت عبثاً تعبت باطلاً وفارغاً أفنيت قدرتي. لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي”. هنا نبوة عن حزن المسيا وما سيتكبده من مقاومة ورفض. هذا المسيا المدعو من الله، الكامل الذي بلا عيب، سيرفضونه لأنهم ابغضوه بلا سبب…. ويظهر كما لو كان المسيا تعب باطلاً ولم يجن ثمراً لعمله، فقساوة اليهود حصلت جزئياً لكي يدخل الأمم، ثم بعد ذلك تدخل البقية الباقية من شعب إسرائيل… لكن المسيا لا ييأس على الإطلاق ويحتفظ برجائه “لكن حقي عند الرب وعمل عند إلهي”.

ومن العهد الجديد نشاهد منظراً واقعياً في حياة السيد المسيح، الذي يمكننا أن نجد فيه تحقيق هذه النبوة، ففي بستان جثسيماني نسمعه يقول “حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يُقال لها جثسيماني قال للتلاميذ اجلسوا ههنا حتى أمضي وأُصلي هناك. ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت” متى 26: 36-38.

لقد أُرسل إلى شعب إسرائيل، وبشّر بينهم ثلاث سنوات ونصف: وعظهم – شفى أمراضهم – أقام موتاهم – أشبعهم ….. إلخ، وأعلن لهم عن نفسه إنه هو المسيا، ومع ذلك رفضته الأمة اليهودية وبشدة، وانطبق عليهم القول “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله” يوحنا 1: 11.

ما زال المسيح مرفوضاً

حتى وقتنا هذا، ما زال الرب يسوع مرفوضاً – كمسيا – عند شعب إسرائيل، ويقولون: لو أن يسوع الذي جاء هو بالفعل المسيا الحقيقي، لكان كل أجدادنا في أيامه قد قبله. إشعياء النبي يقول بكل وضوح، أن المسيا سيُرفض أولاً (هذا ما سبق وشرحناه). والرفض هو إعلان صريح، كونه أحد أسباب التصديق بمسيانيته. بمعنى آخر، رفض الأمة اليهودية للرب يسوع، يُقيم الدليل حقيقة، أنه هو المسيا، لأن النبوات قالت بذلك.

كان غاية هذا الرفض، هو أن الله يُحضر الخلاص للأمم… أي إلى أن يدخل ملء الأمم، وإلى زمن محدد. يذكر الرسول يولس هذه الحقيقة، مستشهداً بإشعياء 65: 1-2، قائلاً: “ثم إشعياء يتجاسر ويقول وُجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عنى. أمّا من جهة إسرائيل فيقول طول النهار بسطت يديّ إلى شعب معاند ومقاوم” رومية 10: 20-21. ويذكر سفر أعمال الرسل، نفس هذا الرفض على لسان يعقوب الرسول قائلاً “سمعان (بطرس) قد أخبر كيف افتقد الله أولاً الامم ليأخذ منهم شعباً على اسمه.

وهذا توافقه أقوال الأنبياء كما هو مكتوب، سأرجع بعد هذا وأبني أيضاً خيمة داود الساقطة” إعمال الرسل 15: 13-16. أيضاً، بولس وبرنابا قالا “فجاهر بولس وبرنابا وقالا كان يجب أن تُكلَّموا أنتم أولاً بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه للأمم ” أعمال الرسل 13: 46.

هذا الرفض سيستمر حتى تكمل الكنيسة عددياً من جهة الأمم… عند هذه النقطة، سيتعامل الله مرة أخرى مع شعب إسرائيل، وتدخل البقية إلى حظيرة الكنيسة، كما ذكر بولس الرسول ذلك في رسالة رومية “أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الامم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل” رومية11: 25-26.

سابعاً: آلام المسيا وموته

” السيد الرب فتح لي أُذناً وأنا لم أُعاند. إلى الوراء لم أرتد. بذلت ظهري للضاربين وخدّيّ للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق” إشعياء 50: 5-6.

“هوذا عبدي يعقل يتعالى يرتقي ويتسامى جداً. كما اندهش منك كثيرون. كان منظره كذا مُفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم” إشعياء 52: 13-14.

” من صدّق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب. نبت قدامة كفرخٍ وكعرقٍ من أرض يابسة لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به.

لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شُفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحدٍ إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتةٍ أمام جازيها فلم يفتح فاه.

أما الرب فسُرّ بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم. يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع. وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع فيم المذنبين” إشعياء 53: 1-12.

ليس غريباً أن نسمع من الرابيين، حتى اليوم، قولهم: أن هذه الآيات من سفر إشعياء لا تتكلم عن المسيا، بل عن آلام شعب إسرائيل من جراء ظُلم شعوب الأمم الوثنية لهم. ويذهبون بعيداً، لدرجة أنهم يقولون: أن هذا التفسير هو مطابق لنظرة التقليد اليهودي القديم. عند هذه النقطة، هم يعتمدون كلية على جهل سامعيهم بما ورد في الكتابات اليهودية القديمة مثل: التلمود Talmud – المشناه Mishnah – الجمارا Gemara – المدراش Midrash، بكافة أنواعها. في حين أن أغلب كتب التراث والتقليد اليهودي القديم تُصرّح بعكس ذلك…

أول من نادى بالقول، بأن هذه النبوات من سفر إشعياء، تخص شعب إسرائيل وليس المسيا – هو رابي راشي RaSHi، في حوالي سنة 1050 ميلادية. كل الرابيين ما عدا راشي -بلا استثناء – يرون أن هذه المقاطع من سفر إشعياء تصف آلام المسيا كشخص فردي. وعندما اقترح راشي، أن إشعياء يتكلم عن شعب إسرائيل، أطلق شرارة جدال عنيف مع الرابيين المعاصرين له. أشهر هؤلاء هو الرابي رامبام RaMBam (يُطلق عليه أحياناُ ميموندس Maimonides)، قرر أن راشي كان على خطأ فادح في اقتراحه هذا، الذي هو ضد ما ورد في كتب التقليد اليهودي القديم.

وعندما بدأ اللاهوتيون المسيحيون، في استخدام هذه المقاطع من سفر إشعياء، كنبوة عن المسيا في كتاباتهم، وجد عدد كبير من الرابيين في اقتراح راشي طريقة جذابة لمقاومة التعاليم المسيحية. وبعد أن بحثت في كُتب الصلوات المستعملة في المجامع اليهودية، اكتشفت ظاهرة عجيبة هي: أن هذه المقاطع من سفر إشعياء لا تُقرأ على الإطلاق في المجامع اليهودية على الشعب – سواء في السبوت أو في الأعياد – وأن القراءات المنتظمة التي تُقرأ على الشعب تقفز من إشعياء 52: 12 إلى إشعياء 54، … طبعاً الآن عرفنا السبب.

في حديثنا عن إشعياء 49، قلنا إن المسيا سيُرفض أولاً من الأمة اليهودية ولكن في وقت ما سيقبلونه. هنا في إشعياء 52: 13-15 \ إشعياء 53: 1-12، نجد بعض الآيات تتحدث بعودة اليهود إلى الله وقبولهم للرب يسوع – كمسيا – والذي ما زال في حكم المستقبل.

عندها سيعترف القادة اليهود بإخفاقهم في التعرّف على المسيح في مجيئه الأول، ويندمون، ولسان حالهم يقول: محتقر فلم نعتد به – لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله – وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا – تأديب سلامنا عليه – وبحبره شفينا. هذا هو اعتراف قادة اليهود، عندما يؤنون بالرب يسوع في الوقت المحدد… سيستعملون نفس آيات إشعياء في اعترافهم.

والمدقق في إشعياء 52، 53 سيجد أن وصف آلام المسيا، لم تُسجّل على أساس أنها حدث في الماضي وما زال يحدث في الحاضر، ولكن على أنها تُشير إلى حدث سيتم في زمن المستقبل. بمعنى آخر، نقول إن إشعياء 52، 53 يُخبر عن شيئين:

أ – وصف آلام المسيا، كحدث سيتم في المستقبل …. بعد زمن غي مُعلن.

ب – اعتراف قادة الشعب اليهودي، بما فعلوه بالسيد المسيح – المسيا الحقيقي – ثم قبوله فيما بعد.

فكيف إذاً، يقول راشي RaSHiK، أن ما ورد في إشعياء 52، 53 هو وصف لآلام شعب إسرائيل على يد الأمم الوثنية. هذا ما سنشرحه الآن بالتفصيل.

1 – الجلد – اللطم – البصق

“الرب فتح لي أُذناُ وأنا لم أُعاند. إلى الوراء لم أرتد. بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق” إشعياء 50: 5-6.

من هذه الآيات يتضح أن المسيا يعلم مُسبّقاً ما سيأتي عليه من آلام، فالمتحدث هنا هو المسيا نفسه، وليس إشعياء الذي يسرد ما سيحدث للمسيا. ورغم علم المسيا بما سيأتي عليه من قادة اليهود، إلا أنه لا يخاف من مواجهة هذه الآلام أو يهرب منها “وأنا لم أعاند. إلى الوراء لم أرتد. وجهي لم أستر عن العار”. وهذا ما تم بالضبط وتحقق في السيد المسيح، فعندما أتت الساعة، تقدم الرب يسوع بإرادته وحده وسلّم نفسه إلى مُعذبيه… حتى قبل الصليب، لم يكن يقابل ثورة القادة اليهود وحقدهم عليه بأي نوع من العنف … حتى في أثناء محاكمته الدينية والمدنية، لم يفتح فاه…  فنقرأ في العهد الجديد:

– “وأخذ الاثني عشر وقال لهم ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان، لأنه يُسلّم إلى الأمم ويُستهزأ به ويُشتم ويُتفل عليه ويجلدونه…. ” لوقا 18: 31.

– “ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام… ” يوحنا 18: 22.

– ” والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه. وغطّوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين تنبأ من هو الذي ضربك” لوقا 22: 63- 64.

– ” فابتدأ قوم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ويقولون له تنبأ. وكان الخدام يلطمونه” مرقس 14: 65.

– ” حينئذ أطلق لهم باراباس. وأما يسوع فجلده وأسلمه ليُصلب” متى 27: 26.

2 – أصبح منظره مشوهاً

“هوذا عبدي يعقل ويتعالى ويرتقي ويتسامى جداً. كما اندهش منك كثيرون. كان منظره كذا مُفسَداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم” إشعياء 52: 13-14.

“هوذا عبدي”: الله نفسه هو الذي يتحدث عن المسيا كعبد. وقد ربط إشعياء قول الرب هذا، بما قاله سابقاَ في إشعياء 42: 1 “هوذا عبدي الذي أعضده. مختاري الذي سُرّت به نفسي. وضعت روحي عليه ليخرج الحق للأمم”. وهنا نسأل لماذا ذكر الله القول “هوذا عبدي” مرة أخرى وبالذات قبل وصف الآلام التي ستكبدها المسيا؟ وللإجابة نقول:

أ – الله يريد أن يقول بأن الشخص الذي قلت عنه من قبل، بأني أعضدّه – مختاري – سُرّت به نفسي – وضعت روحي عليه: هو هو نفس هذا الشخص الذي سيتألم. هو إنسان وإله في نفس الوقت، حسب القصد الإلهي الأزلي لخلاص البشر (تكلمنا سابقاً عن هذا في شرح إشعياء 11: 1-2)

ب – في وصفه لآلام المسيا، يتكلم عن آلم جسدية ستقود أخيراً إلى الموت “جعل نفسه ذبيحة إثم – سكب للموت نفسه – أُحصي مع أثمة” إشعياء 53: 10-12. فكيف يقول رابي راشي، أن هذه الآلام تصف شعب إسرائيل… هل يُقر راشي أن شعب إسرائيل تألم ومات.

أما عن قوله “كان منظره كذا مفسداً”، فهو يصف بدقة متناهية منظر وجه الرب يسوع بعد أن تخضب بالدم واختلط بتراب الأرض، عندما سقط تحت حمل الصليب أكثر من مرة في طريق الآلام. أضف إلى ذلك كدمات الوجه النابجة من لطمه ولكمه، والأشواك المدببة التي انغرست في جبينه الطاهر وهي تُدمي. فكان فعلاً منظره مُفسداً…

3 – من أجل آثامنا

“من صدّق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب. نبت قدامة كفرخٍ وكعرقٍ من أرض يابسة لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شُفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحدٍ إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا” إشعياء 53: 1-6.

الآية الأولى من إشعياء 53 تبيّن عدم إيمان شعب إسرائيل بالمسيا، وسوف لا يصدقون بشارة المسيح لهم… بالرغم من أن آلام المسيا هي من أجلهم إلا أنهم سوف يرفضونه، ويعتبرون أن هذا الشخص إنسان مضروب من الله…

من جهة أخرى، إن سبب عدم إيمان شعب إسرائيل به كمسيا، هو: كيف يرون المسيا، ملكهم المنتظر – ابن داود- المفروض أن يأتي في مجد عظيم ويجلس على عرش أبيه، يرونه بهذا المنظر “لا صورة له ولا جمال – محتقر ومخذول من الناس” وهذا ما سجّله لنا العهد الجديد: السيد المسيح وُلد فقيراً، في قرية صغيرة – عاش فقيراً كنجار مع يوسف – تربى في مدينة الناصرة، تلك المدينة المحتقرة من الناس – كان بلا مأوى يرتاح فيه – علاوة على اتضاعه الشديد ووداعته وتسامحه – أيضاً منظره وقت الصليب… كل ذلك جعلهم يعثرون فيه ويحتقرونه. وقد ورد في الأناجيل العديد من الآيات بخصوص ذلك. نذكر منها التالي:

– ” أليس هذا ابن النجار … فمن أين لهذا هذه كلها. فكانوا يعثرون به” متى 13: 55-57.

– ” قال يسوع للجموع كأنه على لصٍ خرجتم بسيوف وعصي” متى 26: 55.

-” إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به” متى 27: 42.

أثناء أحداث الصلب وما قبلها، لم يفهم شعب إسرائيل أن آلام المسيح هذه هي من أجلهم – ومن أجل العالم كله – لكن اعتبروها لعنة من الله على هذا الشخص “ونحن حسبناه مضروباً من الله ومذلولاً” …. أما حين يؤمنون بالمسيح، في الوقت المعيّن، سيقولون نفس ذلك الكلام، لكن أسفاً وإعتذاراً.

قبل إيمانهم به يقولون: لا صورة له ولا جمال فننظر إليه – رجل أوجاع ومختبر الحزن – محتقر فلم نعتد به.

لكن بعد إيمانهم به سيقولون آسفين: أحزاننا حملها – أوجاعنا تحملها – مجروح لأجل معاصينا – مسحوق من أجل آثامنا – الرب وضع عليه إثم جميعنا – هذه الأمة اليهودية، التي كانت سابقاً تكره وتحتقر هذا الشخص المتألم، الآن فهموا إنه تألم نيابة عنهم… اعتقدوا أنه تألم من أجل خطاياه هو، ولكن الآن أدركوا حقيقة أنه تألم من أجلهم هم ومن أجل خطاياهم.

والسؤال الذي نوجهه إلى RaSHi هو: كيف يتألم شعب إسرائيل من أجل شعب إسرائيل؟! يبدو أن السؤال غير منطقي، لكن عدم المنطقية هذه ناشئة من قوله هو: أن هذه الآلام الواردة في إشعياء 52، 53 هي آلام شعب إسرائيل على يد الأمم الأخرى. 

ما معنى أن يقول شعب إسرائيل الذي يتألم: أحزاننا حملها – أوجاعنا تحملها – الرب وضع عليه إثم جميعنا… إلخ. مَنْ هو الذي وضع عليه الرب إثم الشعب!!! مَنْ حمل أحزان مَنْ!! مَنْ جُرح من أجل مَنْ!! مَنْ سُحق من أجل مَنْ!! واضح أن اقتراح راشي غير منطقي.

قواعد اللغة العبرية وتفسير راشي

في قواعد اللغة العبرية – كما في باقي اللغات – يُوجد مُفرد ويُوجد جمع. المفرد، يُستخدم في الحديث عن شخص واحد فقط. أما الجمع فيستخدم في الحديث عن مجموعة أشخاص. فإذا وجدت في جملة واحدة كل من المفرد والجمع معاُ، فهذا يعني أن الحديث مُوجه إلى فئتين: شخص (مفرد) + مجموعة أشخاص (جمع).

في إشعياء 52، 53، نجد شخصاً مخاطباً بالمفرد ومجموعة أشخاص تُخاطب بالجمع، في نفس الآية: فعلى سبيل المثال:

المفرد في: لا صورة له ولا جمال – رجل أوجاع – كمستر عنه وجوهنا – فلم نعتد به – حسبناه مصاباً – مضروباً من الله – تأديب سلامنا عليه – الرب وضع عليه إثم جميعنا – جعل نفسه ذبيحة – سكب للموت نفسه.

الجمع في: فنشتهيه – كمستر عنه وجوهنا – لم نعتد به – أحزاننا – أوجاعنا – نحن حسبناه – معاصينا – آثامنا – تأديب سلامنا عليه – شفينا – كلنا كغنم ضللنا – إثم جميعنا.

وليلاحظ القارئ العزيز: في كل الآيات الواردة في إشعياء 52، 53 أن كل مفرد يعقبه جمع وكل جمع يعقبه مفرد. بناء على ذلك، فإن الشخص المشار إليه بالمفرد هو المسيا أما الأشخاص المشار إليهم بالجمع، فهم شعب إسرائيل أو قادة اليهود، هل يُخفى على راشي والذين يرددون أقواله، هذه الحقيقة!!

4 – لم يفتح فاه

 “ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” إشعياء 53: 7.

في الأناجيل الأربعة، لا توجد أية إشارة لدفاع المسيح عن نفسه في أثناء محاكمته المدنية أو الدينية، بل تُركّز الأناجيل على صمته. فعلى سبيل المثال نقرأ التالي:

– ” فقام رئيس الكهنة وقال له أما تجيب بشيء. ماذا يشهد به هذان عليك. وأما يسوع فكان ساكتاً” متى 26: 62.

– ” وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يُجب بشيء. فقال له بيلاطس أما تسمع كم يشهدون عليك. فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجًب الوالي جداً” متى 27: 12- 14.

– ” وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جداً لأنه كان يُريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة وترجّى أن يرى آية تُصنع منه. وسأله بكلامٍ كثير فلم يُجبه بشيء” لوقا 23: 8- 9.

في كل تاريخ شعب إسرائيل المُسجل في العهد القديم أو في كتب التاريخ لم نقرأ قط أن شعب إسرائيل ظلم أو تألم، وصمت ولم يفتح فاه…. هذه الحقيقة معروفة جيداً عن هذا الشعب… صعب جداً على هذا الشعب أن يسكت أو يصمت تجاه ظُلم أو اضطهاد. ولا نجد أبداً في العهد القديم – في كل أسفاره – أن شعب إسرائيل سكت ولو مرة واحدة على أية مضايقات لاقاها من شعوب أخرى.

حتى في التاريخ الحديث لهذا الشعب، لم نسمع أبداً أنهم سكتوا تجاه أية آلام أو متاعب جاءت عليهم من الخارج.. بل على العكس يردوا الصاع صاعين … ويكتبوا مئات الكتب التي تصف حالتهم ومتاعبهم، ويملأوا الجرائد بالمقالات. وأكبر شاهد على ذلك، هو الوضع الحالي لإسرائيل في المنطقة.. أين صمتهم!! أين القول: ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه.

إذاً، هذه النبوة – الصمت تجاه الآلام – لا يمكن بأي حال أن تنطبق على شعب إسرائيل، ولا في القديم ولا في الحديث. إنها بالتحديد شخص المسيا.

5 – موت المسيا وموت إسرائيل

” من الضغطة ومن الدينونة أًخذ. وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء. أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش ” إشعياء 53: 8- 9

لقد جاز المسيح الآلام واحتملها إلى النهاية، ومن هول هذه الآلام والعذابات، أدت به إلى الموت. كذلك، استعمل إشعياء النبي التعبير ” قُطع من أرض الأحياء” ليشير إلى أن موته لم يكن عادياً – كأي ميتة أخرى – بل عن طريق صدور حكم قضائي بالإدانة إنه مستحق الموت، وقد تم تنفيذ هذا الحكم بميتة بشعة. وقد أكد ذلك فأردف يقول ” ضُرب من أجل ذنب شعبي”.

من جهة أخرى، كان موته بناء على محاكمة قانونية، مظهرها الخارجي هو قادة اليهود والرومان… أما واقعها الفعلي، فهو قضاء إلهي عادل، ليس من أجل خطاياه هو أو لذنبٍ عمله، ولكن ” من أجل ذنب شعبي”…. فهو أي المسيا “لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش”، ولكن ” من أجل ذنب شعبي”، والشعب هنا يُقصد به شعب إسرائيل.

أما الآية التاسعة، فتخبرنا عن دفن المسيا. فقد حُكم عليه كمجرم مستحق الموت، ولذا فمن المتوقع له أن يُعطى قبر وسط المجرمين “وجُعل مع الأشرار قبره”. رغم ذلك، الله يتدخل ….. كيف؟ لقد قرر القادة اليهود أن يُدفن في قبور الأشرار والمجرمين، لأنه يُعتبر في نظرهم مجرماً، لكن الله يُقرر أن يدفن مع الشرفاء “ومع غني عند موته”.

هذا ما تم بالفعل عند موت السيد المسيح، وبعد أن أنزلوه عن الصليب، نقرأ في إنجيل متى “ولما كان المساء جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف. وكان هو أيضاً تلميذاً ليسوع. فهذا تقدم إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع. فأمر بيلاطس حينئذ أن يُعطى الجسد. فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي. ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة” متى 27: 57-60.

والسؤال الموجّه إلى راشي وأتباعه هو: أين هو قبر شعب إسرائيل الذي مات!!

6 – ذبيحة إثم

“أما الرب فسرّ أن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم” إشعياء53: 10.

هذه الآية تكشف عن تدبير الله الأزلي لخطة الخلاص. فلا اليهود ولا الرومان لهم أي دور في خطة الخلاص، بل على العكس كانت نياتهم شريرة إزاء صلب المسيح، هي التخلّص منه. مشيئة الله سُرّت لأن تسحقه بالحزن، والمسيا ذاته “جعل نفسه ذبيحة إثم”. الوحيد القادر لتقديم الخلاص للعالم، هو الله. فلم يكن موت المسيح مصادفة، ولا هو عمل يُجبر عليه بالقوة بتاتاً، ولكن هو جزء من خطة شاملة وضعها الله لخلاص البشر.

أما عن التعبير “ذبيحة إثم”، فله خلفية كتابية ذات معنى عميق… هذه الخلفية تعتمد على مبدأ كتابي هو: لا توجد مغفرة لخطية بدون سفك دم. وكأجراء مؤقت، وُضع نظام الذبائح الحيوانية، لكن هذه الذبائح كانت فقط تغطي الخطية ولا تمحوها. كذلك فإن دم هذه الحيوانات لم يقو إلا على طهارة الجسد فقط “لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد. فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب يُطهرّ ضمائركم من أعمال ميتة” عبرانيين 9: 13- 14.

إن دم الحيوانات لا يُقدس إلى طهارة الجسد فقط، ومن أجل هذا كانت عودة الجسد إلى النجاسة تحتاج إلى إعادة سفك دم ذبائح جديدة متكررة. وكان هذا التكرار الممل يُشير إلى عجز واضح وقصور عن تكميل الطهارة وتقديس الضمير وإعادة سلامة النفس، ونقاوتها… فكان تكرارها إشارة وكناية عن ضرورة مجيء ذبيحة كاملة، تُكمل ما عجزت عنه هذه الذبائح “دم المسيح الذي بروح أزلي…”.

لأن الطهارة الحقيقية ليست في طهارة الجسد فقط، بل طهارة الضمير والقلب أيضاً. وسفك الدم الإلهي هو الذي يقود إلى طهارة الجسد والنفس والروح. ولذلك أشار الوحي الإلهي له بالقول “إن جعل نفسه ذبيحة إثم… حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين”.

من جهة أخرى، كانت الذبيحة سابقاً، تُقدم حيوانية، على كونها غير قابلة للخطية والتعدي، ولذلك أمكن أن تُوضع بديلاً عن الخاطئ المعترف بخطيته. أي أن براءتها من الخطية براءة كاملة، جعل موتها معتبراً فدية أو ذبيحة حقيقية. وعدم قابليتها للخطية، إشارة إلى السيد المسيح الذي لم يُخطئ قط، لذا قيل عنه “على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش” – ” لم أجد فيه علّة للموت” لوقا 23: 22.

من ذلك نفهم أن كل هذه الذبائح الدموية، كانت مؤقتة وتحمل إشارات ورموز لحمل الله الذي بلا عيب، الذي يحمل خطية العالم كله “حمل خطية كثيرين”. لقد قال رب المجد بفمه الطاهر “من منكم يبكتني على خطية” يوحنا 8: 46.

حتى ذبائح “يوم الكفارة”، التي كانت تُقدم من أجل رئيس الكهنة نفسه، والكهنة والشعب، للتكفير عن خطاياهم التي عملوها طوال السنة.. حتى هذه أيضاً، غير كافية، بدليل تكرارها كل سنة. كل ذلك لتبين أنها وقتية والغرض منها انتظار يوم الكفارة الحقيقي…

إلى ذبيحة المسيح الكاملة والتي قُدمت مرة واحدة، وقادرة على محو الخطية تماماُ – مهما كانت – وعلى مدى الدهور، بل أيضاً تُقدس الجسد والنفس والروح. يقول يوحنا الحبيب في رسالته “ودم يسوع المسيح ابنه يُطهرنا من كل خطية” يوحنا الأولي 1:7 – “يسوع المسيح وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً” يوحنا الأولى 2: 2

والسؤال الذي لم يُجب عليه راشي حتى الآن: كيف قدّم شعب إسرائيل نفسه ذبيحة إثم عن شعب إسرائيل!!

7 – قيامته

“يرى نسلاً تطول أيامه ومسرّة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع. وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين… لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة ” إشعياء 53: 10-12.

تُعلن النبوة صراحة قيامة المسيا، والدليل على ذلك هو: إذ كيف بعد أن يقول “جعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته… جعل نفسه ذبيحة إثم” يقول بعدها مباشرة “يرى نسلاً تطول أيامه ومسرّة الرب بيده تنجح”. لقد مات المسيا، فكيف يستطيع أن يرى هذا النسل الروحي؟ ويؤكد أيضاً بقوله “تطول أيامه”. كل هذا يشرح بوضوح حدث القيامة. وعندما يعلن إشارة واضحة أنه سيقوم من الأموات. بعد القيامة سيرى المسيا نجاح هدف إرساليته “مسرة الرب بيده تنجح”.

وقد التقط بولس الرسول هذه النبوة، وعبرّ عنها بالروح القدس، قائلاً “ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمّلِهِ يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي فجلس في يمين عرش الله” عبرانيين 12: 2. فالمسيا يُدرك جيداً أن بموته كذبيحة إثم، سيبرر كثيرين “وعبدي البار بمعرفته يُبرر كثيرين”.

مما سبق يتبيّن

من إشعياء 52، 53، يتضح لنا أن هذه النبوات تُشير إلى المسيا، وليس شعب إسرائيل. يمكننا أن نوجز الأسباب في النقاط التالية:

1 – في تفسيرات كل الرابيين القدامى – باستثناء RaSHi – كان الاتجاه العام، هو أن هذه النبوات تخص المسيا كشخص.

2 – استعمال الضمائر في صيغة المفرد ثم يعقبها الضمائر في صيغة الجمع مباشرة، والعكس في نفس الآية.

3 – على مدى الأصحاحين، المسيا يُصور على أنه شخص مفرد، وليس شعب. كما لا نجد مجاز أو صفة بارزة تُشير إلى شعب إسرائيل.

4 – آلام المسيا، هي آلام تطوعية (بإرادته وحده)، أيضاً صمت المسيا تجاه هذه الآلام…. هاتان الحقيقتان، لم تتحققا على الإطلاق في شعب إسرائيل: لا في الماضي ولا في الحاضر، وحتى يومنا هذا.

5 – المسيا سيموت من أجل “ذنب شعبي”. ومعروف أن شعب إشعياء النبي هو الشعب اليهودي. إذاً، هناك تمايز بين المسيا وشعب إسرائيل. إذ كيف يموت الشعب اليهودي من أجل ذنب الشعب اليهودي.

6 – المسيا تألم ومات وهو بريء وخالٍ من أي ذنب أو خطية “لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش”. لكن شعب إسرائيل، وإن تألم أو عانى. فهو يتألم من أجل خطاياه “كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد عن طريقه” – “ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا عليّ… تركوا الرب استهانوا بقدوس إسرائيل ارتدوا إلى الوراء. على م تُضربون بعد. تزدادون زيغاناُ. كل الرأس مريض وكل القلب سقيم” إشعياء 1: 1-8.

7 – آلام المسيا وموته كانت نيابة وبديلاً عن آخرين… بينما شعب إسرائيل لم يتألم نيابة عن الأمم الأخرى، بل مجازاً نقول عن طريق الأمم الأخرى.

8 – بآلام المسيا وبموته، قدّم التبرير والخلاص، لهؤلاء الذين يؤمنون به ويقبلونه. بينما شعب إسرائيل لم يفعل هذا للأمم الأخرى.

9 – المسيا مات ودفن وقبره موجود، لكن شعب إسرائيل ما زال حياً يُرزق.

10- المسيا قام بعد موته، ولكن إن كان شعب إسرائيل ما زال حياً، فإنهم لا يحتاجون إلى قيامة.

نبوات المسيح في سفر أشعياء – الجزء الثاني

Exit mobile version