فريق اللاهوت الدفاعي

التصنيف: أبحاث

  • هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية - ترجمة ودراسة Patricia Michael
    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    مقدمة

    انتشر بين بعض النقّاد قول يُنسب إلى كليمندس الإسكندري، الفيلسوف واللاهوتي المسيحي من القرن الثاني الميلادي مفاده:

    «كل امرأة يجب أن تشعر بالخزي لمجرّد كونها امرأة» ( “Every woman ought to be filled with shame at the thought that she is a woman.”)

    تُعدّ هذه العبارة من أكثر الاقتباسات تداولًا في سياق الانتقادات الموجّهة إلى التراث المسيحي فيما يتعلق بالمرأة ومكانتها.

    تهدف هذه الدراسة إلى فحص مدى صحة نسبة هذا القول إلى كليمندس الإسكندري، عبر مراجعة دقيقة لمؤلفاته الأصلية، وتحليل السياقات التي تناول فيها المرأة والجنس والجسد. كما تسعى إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تكون نشأت نتيجة تداول هذا الاقتباس خارج سياقه أو بنقل مشوّه.

    يتألف البحث من ثلاث اقسام رئيسية:

    🔴القسم الأول: دراسة نقدية وتحليلية لنظرة كليمندس الاسكندري وكتاباته فيما يخص المرأة

    🔴القسم الثاني: التحقيق في صحة القول المنسوب إلى كليمندس الإسكندري ومطابقته للنصوص الاصلية

    🔴 القسم الثالث: تتبع تاريخي وتحليلي لأصل وانتشار هذا الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري

    ______________________________________

     

    🔴القسم الأول: دراسة نقدية وتحليلية لنظرة كليمندس الاسكندري وكتاباته فيما يخص المرأة

    اولا: نظرة كليمندس إلى المرأة في فكره اللاهوتي والأخلاقي

    يُظهر فكر كليمندس الإسكندري (Clement of Alexandria) اتجاهًا لاهوتيًا وأخلاقيًا متزنًا، بل ومتحرّرًا نسبيًا من التصورات السائدة في عصره فيما يخص المرأة. فعلى خلاف النظرة الدونية التي تبنّتها العديد من المدارس الفلسفية والأنظمة الدينية الوثنية تجاه المرأة، والتي غالبًا ما اعتبرتها أدنى طبيعة من الرجل أو مصدرًا للنجاسة، يقدّم كليمندس تصورًا مسيحيًا أصيلًا يقرّ بالمساواة الروحية والأخلاقية بين الجنسين، ويؤكّد على أهلية المرأة الكاملة لممارسة الفضيلة وبلوغ الكمال والخلاص.

    يرى كليمندس أن الحياة المسيحية، والتعليم الروحي، وممارسة الفضائل، والخلاص، جميعها متاحة للرجل والمرأة على حدٍ سواء. وهو بهذا يعبّر عن وعي مسيحي مبكّر بمبدأ المساواة الروحية بين الجنسين، في مقابل التقاليد الفلسفية الوثنية التي غالبًا ما قلّلت من شأن المرأة.

     

    وفيما يلي أبرز كتاباته في هذا الشأن:

    1- المساواة الكاملة في الفضيلة والخلاص

    يرى كليمندس أن الفضيلة لا تُقسّم بحسب النوع الاجتماعي، بل هي واحدة للرجل والمرأة، وأن دعوة الله للخلاص تشمل كليهما بالتساوي. وهو يصرّح بذلك بوضوح في قوله:

    🔹«فضيلة الرجل والمرأة هي واحدة ونفس الشيء. لأنه إن كان الله واحدًا، فالمسيح واحد أيضًا؛ كنيسة واحدة، حشمة واحدة، عفة واحدة؛ طعامهما مشترك، والزواج متساوٍ… فالحياة التي تُعاش بالبر ليست حكرًا على الرجال، بل هي للرجال والنساء على السواء.»

    (Paedagogus, I.4)

    “The virtue of man and woman is the same. For if the God of both is one, the master of both is also one; one church, one temperance, one modesty; their food is common, marriage an equal yoke… For the life that is lived in righteousness is not for men only, but for men and women alike.”

    كما يشير إلى وجوب ممارسة المرأة للفضائل تمامًا كما الرجل:

    🔹«على المرأة أن تمارس ضبط النفس والبرّ وسائر الفضائل، شأنها شأن الرجل…»

    ( Stromata, IV.8 )

    “Accordingly woman is to practise self-restraint and righteousness, and every other virtue, as well as man…”

    تُعد هذه التصريحات لاهوتية متقدّمة بالنسبة لسياقها التاريخي، إذ ترفض التمييز بين الجنسين في ممارسة الفضيلة، وتُرسّخ مبدأ شمولية البر والخلاص للجميع دون تمييز جنسي.

     

    2- المساواة في الطبيعة الإنسانية والروح

    يؤكّد كليمندس أن المرأة والرجل يشتركان في طبيعة بشرية واحدة، وبأنه لا يوجد اختلافاً جوهريًا بين الجنسين في ما يتعلق بالنعمة والفضيلة والخلاص:

    🔹 «للمرأة نفس طبيعة الرجل، وكلاهما يشترك في نفس الفضيلة ونفس النعمة ونفس الخلاص.»

    (Stromata, IV.19)

    “For the woman has the same nature as the man, and they share in the same virtue, the same grace, and the same salvation.”

    🔹«فيما يختصّ بالطبيعة البشرية، ليست للمرأة طبيعة تختلف عن الرجل، بل هما واحد؛ وكذلك الحال في الفضيلة…»

    ( Stromata, IV.8 )

    “As far as human nature is concerned, woman does not possess one nature and man another … the same virtue is possible for both.”

    🔹«لا يجب أن نخجل من أي من الجنسين… لأن اسم “الإنسان” (anthropos) مشترك بين الرجل والمرأة.»

    ( Stromata, IV.8 )

    “We should not be ashamed of either sex… for the name ‘human being’ (anthropos) is common to both man and woman.”

    ويذهب أبعد من ذلك في تأكيد وحدة الهدف النهائي بين الجنسين:

    🔹«وقد تبيَّن أنّ للمرأة والرجل هدفًا واحدًا ونهاية واحدة من جهة الكمال…»

    ( Stromata, IV.8 )

    “And one aim and one end, as far as regards perfection, being demonstrated to belong to the man and the woman…”

    ويشدد على أن كمال الفضيلة متاح للرجل والمرأة على حد سواء، بل يضرب أمثلة من النساء اللواتي فُقنَ الرجال في الشجاعة والإيمان:

    🔹«وفي هذا الكمال يستطيع الرجل والمرأة أن يشتركا بالتساوي.… فقد بلغت يهوديت كمالًا بين النساء… وأستير بلغت الكمال بالإيمان… وسوسنة فاقت الرجال في الشجاعة.»

    ( Stromata, IV.19 )

    “In this perfection it is possible for man and woman equally to share. …But Judith too, who became perfect among women… Esther, perfect by faith… Susanna… surpassed men in valor.”

    🔹«كثيراتٌ نلن قوّة بنعمة الله، وصنَعْنَ أعمالًا بطولية تُنسب عادةً للرجال.»

    (Stromata, IV.19)

    “Many women have received power through the grace of God and have performed many deeds of manly valor.”

    كليمندس يستشهد بهذه النماذج النسائية البطولية من العهد القديم ليؤكّد أن الكرامة والكمال الخلقي ليسا حكرًا على الرجال، بل هما ممكنان لكلا الجنسين.

     

    3- دعوة المرأة إلى الفلسفة والمعرفة

    في سياق اجتماعي وثقافي كان يُقصي النساء عن مجالات التعليم والتفكير الفلسفي، برز كليمندس الإسكندري بموقف لافت، إذ دعا بوضوح إلى إشراك المرأة في الحياة العقلية والفكرية، وعارض الحصر التقليدي لدراسة الفلسفة في الرجال دون النساء.
    في كتاب (Stromata)، يُقدّم كليمندس حجة منطقية مفادها أن المرأة، بما أنها قادرة على ممارسة فضائل مثل العفة وضبط النفس، وهي فضائل تتطلّب الحكمة، فلا مبرر لافتراض عجزها عن اكتساب الحكمة ذاتها. ومن هنا، يؤكد أن الفلسفة دعوة موجهة للنساء تمامًا كما هي موجهة للرجال:

    🔹«هل يجب على المرأة أن تتفلسف؟ نعم… إذا كانت المرأة قادرة على الحشمة وضبط النفس، وهي فضائل تتطلب الحكمة، فهل لا تكون قادرة على الحكمة نفسها؟… يجب على النساء كما الرجال أن يسعوا إلى الفلسفة.»

    (Stromata, IV. 8 )

    “Ought the woman to philosophize? Yes… If, then, the woman is able to be temperate and self-restrained, which are virtues that require wisdom, will she not be able to be wise? …Women as well as men are to philosophize.”

    يتّضح من هذا النص أن كليمندس لم يكتفِ بإقرار قدرة المرأة على التعقّل والتعلّم، بل طالب بمشاركتها الكاملة في المسيرة الفلسفية، معتبرًا السعي إلى الحكمة أمرًا مشتركًا بين الجنسين.

    لم يكتفِ بالمساواة الروحية، بل طالب بالمساواة الفكرية. واستشهد بنساء شهيرات في التاريخ مثل “ثيانو” الفيثاغورية و”أسبازيا” كأمثلة على قدرة المرأة على التفوق الفكري.

     

    4- دور المرأة وتعاليم العفّة عند كليمندس السكندري

    تبرز في كتابات كليمندس السكندري، لاسيما في مؤلفه الستروماتا (Stromata), رؤية متّزنة تحترم مقام المرأة وتُعلّي من قيمة العفاف ضمن إطار الزواج المسيحي. فقد وقف كليمندس موقفًا نقديًا من بعض الاتجاهات الغنوصية التي حطّت من شأن الزواج، معتبرًا إياه تشريعًا إلهيًا يهدف إلى إنجاب نسل تقيّ، وليس مجرد انغماس في اللذة. يقول في هذا السياق:

    🔹”الزواج طاهر، وإنجاب الأولاد هو عمل مقدس” (Stromata III, 6).

    وفي معرض نقده لبعض الاتجاهات الغنوصية التي مجّدت التبتُّل على حساب الزواج، يؤكّد كليمندس أن البتولية ليست فضيلة مفروضة على الجميع، بل هي خيار يليق فقط بمن وُهِب عدم الشهوة، أما من لم يُمنح هذه العطيّة، فالأفضل له أن يتزوّج بحسب الشريعة:

    🔹«البتولية لِمن لا يشتهي النساء، أما الباقي فليتزوج حسب الناموس.»

    (Stromata III, 15).

    كما يبرز احترام كليمندس للمرأة من خلال إشاراته إلى أدوار خدمية وروحية في حياة الكنيسة الأولى. ففي شهادة ينقلها المؤرخ أوسابيوس القيصري، يشير إلى أن كليمندس تحدّث عن نساء رافقن الرسل في مهامهم التبشيرية، ليس كزوجات، بل كأخوات وخادمات للكلمة وهو ما يعكس تأييده لانخراط النساء في بعض الوظائف الكنسية ضمن الحدود التي قررتها التقاليد الرسولية.

    🔹«بعض النساء كنّ يرافقن الرسل في خدمتهن الإنجيلية، لا كزوجات بل كأخوات وخادمات للكلمة.»

    (Historia Ecclesiastica VI, 14)

    ولم يقف عند هذا الحد، بل عمد كليمندس إلى استحضار شخصيات نسائية بطولية كنماذج يُحتذى بها في الفضيلة والقدوة الاخلاقية. ففي موضع لافت من الستروماتا، يسرد قائمة من النساء اللواتي جسّدن الشجاعة والعفّة، من بينهن: يهوديت، وإستر، ودبّورة، وسارة، وكذلك شخصيات وثنية مثل تيموستراتا (زوجة بريكليس)، وكاميلا من الأساطير اللاتينية (Stromata IV, 19). ويعلّق قائلاً:

    🔹”النساء قد برهنّ أنهن لا يَقِلَلْنَ شرفًا عن الرجال في مضمار الفضائل”.

    (Stromata IV, 19)

    كما يلجأ كليمندس أحيانًا إلى استخدام صور رمزية أنثوية في التعبير عن العناية الالهية. ففي احد المواضع التأملية في كتابه (المربّي) يُشبّه محبة المسيح وحنانه بـ”الحليب الذي يخرج من ثديي الآب”، في إشارة إلى الغذاء الروحي الذي يقدّمه الله لمؤمنيه (Paedagogus I, 6). وتُعدّ هذه الاستعارة تعبيرًا عن رقة وحنان العناية الإلهية، وليست تجسيدًا لأنوثة الله أو طابعًا حرفيًا، بل تُجسّد العناية الإلهية الشاملة، حيث تتم رعاية المؤمنين بالكلمة كما يُغذَّى الأطفال بالحليب.

     

    5- شراكة المرأة الروحية والزوجية بوصفها شراكة مقدّسة

    رأى كليمندس أن المرأة ليست مجرد معين منزلي، بل شريك روحي فعّال للرجل في درب القداسة والخلاص:

    🔹«الزوجة، كما نقول، هي مُعين للرجل. ومن الواضح أنها مُعين في أمور الأسرة والأطفال، ولكن أيضًا وقبل كل شيء، هي شريك له في طريق الحياة إلى الله.»

    هذا التصوّر بحسب اكليمندس يرفع من مقام المرأة من كونها مكمّلة اجتماعيًا فقط، إلى شريكة روحيّة في مشروع الخلاص

    🔹خلاصة فكر القديس كليمندس السكندري
    • مساواة جوهرية: رأى أن الرجال والنساء متساوون في الطبيعة، والروح، والفضيلة، والقدرة على نيل الخلاص.
    • احترام فكري: شجع النساء على طلب العلم والفلسفة، معتبرًا إياهن قادرات على الحكمة تمامًا كالرجال.
    • رفض العار: فكرته عن “العار” كانت مرتبطة بالسلوك غير المحتشم (للجنسين)، وليس بطبيعة المرأة.
    • شراكة مقدسة: اعتبر المرأة شريكًا أساسيًا للرجل في الأسرة وفي الحياة الروحية.

    بإيجاز، تكشف كتابات القديس كليمندس السكندري عن رؤية تكرّم المرأة وتمنحها مكانة لاهوتية متساوية مع الرجل في الإيمان المسيحي. فهو لم يكن صوتًا معاديًا للمرأة، بل مثّل في زمنه موقفًا منصفًا ومضادًا لاتجاهات التهميش السائدة.

    ______________________________________

    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية - ترجمة ودراسة Patricia Michael
    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    🔴 القسم الثاني: التحقيق في صحة القول المنسوب إلى كليمندس الإسكندري ومطابقته للنصوص الاصلية

    يتضمن هذا القسم ما يلي:

    • أولًا: البحث في مؤلفات كليمندس الإسكندري الأصلية
    • ثانيًا: التوثيق من النصوص الأصلية وترجماتها
    • ثالثا: تفنيد المزاعم الغنوصية ونسبة الأقوال المشوهة

     

    أولًا: البحث في مؤلفات كليمندس الإسكندري الأصلية

    بعد مراجعة دقيقة وشاملة لجميع مؤلفات كليمندس الإسكندري المتاحة، لم يتم العثور على أي عبارة تطابق القول المنسوب إليه حرفيًا: «كل امرأة يجب أن تخجل لأنها امرأة». أقرب ما وُجد هو مقطع وارد في كتاب المربّي (Paedagogus II.2.33.4)، حيث يتناول كليمندس موضوع آداب الشرب ويحثّ كلا من الرجال والنساء على اجتناب التصرفات المخزية، مع توصية خاصة للنساء بالتحلّي بالحشمة والحياء. يقول كليمندس في ذلك الموضع ما ترجمته:

    🔹 «لا يليق برجلٍ عاقل أن يصدر عنه تصرف مشين أو صوت غير لائق، وبالأحرى لا يليق ذلك بامرأة، التي يكفيها إدراكها لطبيعتها ووعيها بذاتها لتستلهم الحياء والعفاف.»

    وقد ورد النص اليوناني الأصلي كما يلي:

    «…ᾗ καὶ τὸ συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ, ἥτις εἴη μόνον, αἰσχύνην φέρει.»

    وترجمته الحرفية:

    • τὸ συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ = “وعيها لذاتها”.
    • ἥτις εἴη μόνον = “كونها هي فقط (ماهيتها/طبيعتها)”.
    • αἰσχύνην φέρει = “يُورِث خجلًا/حياءً

    🔹”حتى إن وعيها بذاتها، أي بما هي عليه، يورثها خجلًا/حياءً.”

    هذا المقطع لا يعني بأي حال أن المرأة يجب أن تشعر بالخزي أو العار لمجرد كونها امرأة، بل يشير إلى الحياء كفضيلة أخلاقية طبيعية ترتبط بأنوثة المرأة، لا سيما في سياقات السلوك العام مثل الشرب والسُّكر. وبالتالي، فإن السياق يدور حول ضرورة التحلّي بالاحتشام والانضباط، لا عن ازدراء طبيعة المرأة أو تحقير جنسها.

    علاوة على ذلك، وبعد بحث دقيق في باقي مؤلفات كليمندس مثل (Stromata و Protrepticus) وغيرها، لم يُعثر على عبارة مشابهة أو صيغة تقترب في معناها من هذا القول المنسوب إليه، ما يؤكد غياب أي أساس نصي يدعم هذا الادعاء.

     

    ثانيًا: التوثيق من النصوص الأصلية وترجماتها

    عند الرجوع إلى نص المربّي (Paedagogus) للقديس كليمندس الإسكندري، بحسب طبعة Patrologia Graeca, vol. 8, col. 429، بتحقيق Monsignor Jacques-Paul Migne، يتبين أن المقطع المعني يقع في الكتاب الثاني، الفصل الثاني (Book II, Chapter II). وقد تُرجم هذا النص إلى الإنجليزية ضمن سلسلة Ante-Nicene Fathers، كما ظهرت له ترجمة فرنسية حديثة تعكس المعنى التالي:

    🔹 «لا يليق برجلٍ عاقل أن يصدر عنه تصرف مشين أو صوت غير لائق، وبالأحرى لا يليق ذلك بامرأة، التي يكفيها إدراكها لطبيعتها ووعيها بذاتها لتستلهم الحياء والعفاف.»

    يتّضح من ذلك أن كليمندس يحثّ على الحياء بوصفه فضيلة فطرية إيجابية واخلاقية، لا كإدانة لوجود المرأة أو احتقار لأنوثتها او انتقاص لوجودها. ولا يتضمن هذا النص، ولا غيره من كتاباته أي تعبير صريح أو ضمني يفيد بأن الى انّ “كون المرأة امرأة هو بحد ذاته أمر معيب أو يستوجب الخجل.

     

    ثالثا: تفنيد المزاعم الغنوصية ونسبة الأقوال المشوهة

    في كتابه الستروماتا (Stromata)، يورد كليمندس مقولة منسوبة إلى السيد المسيح في أحد الكتابات الابوكريفية وهو ما يعرف بـ «إنجيل المصريين» (Gospel of the Egyptians)، نصها: «قد أتيتُ لأُخرِب أعمال الأنثى.»

    غير أن كليمندس لم يتبنّ هذا القول كتعليم مسيحي، بل أورده في سياق نقده الحاد لتطرف بعض الغنوصيين الذين رفضوا الزواج والنسل.
    وقد شدّد على أن الخلاص لا يتحقق من خلال “المعرفة الباطنية” الغنوصية، بل من خلال الإيمان البسيط، مؤكّدًا فضائل الزواج والاعتدال بدل الزهد المطلق.
    لذا، فإن استخدام هذه العبارة في هذا السياق هو تمثيل لنقده للغنوصية وليس قبولًا أو دعمًا لها، ولا يمكن اعتبار هذه الأقوال تعبيرًا عن فكر كليمندس، بل هي أمثلة على أقوال نقدها ورفضها.

    🔹الخلاصة

    • لا يوجد في أي من مؤلفات كليمندس عبارة تُفيد أن المرأة يجب أن تشعر بالخزي لكونها امرأة.
    • أقواله المعتمدة تُظهر احترامًا واضحًا للمرأة، وتأكيدًا على مساواتها في الطبيعة والفضيلة والخلاص.
    • يُعدّ كليمندس من أوائل الكتّاب المسيحيين الذين قدّموا رؤية لاهوتية متوازنة تجاه المرأة، تتجاوز بوضوح الموروثات الفلسفية واليهودية التي انتقصت من شأنها.

    ______________________________________

    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية - ترجمة ودراسة Patricia Michael
    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    🔴القسم الثالث: تتبع تاريخي وتحليلي لأصل وانتشار الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري

    يتضمن هذا القسم النقاط التالية:

    • أولا: أصل الاقتباس المزعوم وانتشاره في العصر الحديث
    • ثانيا: تأويلات هذا الاقتباس وآراء باحثين حول تحريف الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
    • ثالثا: التتبّع المرجعي: من ووكر إلى بريفو (Briffault)
    • رابعا: ملخص تحليل الباحث البريطاني روجر بيرس (Roger Pearse) حول الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
    • خامسا: كيف ساهم هذا التحريف في انتشار واسع للاقتباس المشوّه في التاريخ الثقافي المعاصر.
    • سادسا: هل النص المنسوب خطأ إلى كليمندس… أصله عند ترتليان

     

    اولا: أصل الاقتباس المزعوم وانتشاره في العصر الحديث

    يتناول هذا الجزء الجذر النصي للاقتباس المنسوب إلى كليمندس، وتتبع ظهوره في المصادر الثانوية الحديثة، وتحليل السياقات التي استُخدم فيها بغرض نقد موقف كليمندس من المرأة.

    بالنظر إلى أن كليمندس الإسكندري لم يذكر حرفيًا عبارة “كل امرأة ينبغي أن تخجل لأنها امرأة”، يبرز التساؤل حول مصدر هذه الصيغة التي انتشرت في العصر الحديث.

    أقدم الإشارات إلى هذه العبارة تعود إلى القرن العشرين، وتحديدًا إلى كتاب Joseph Lewis المعنون The Ten Commandments (1946)، حيث نُسب القول إلى كليمندس مع الاعتماد على مرجع ثانوي.

    هذا المرجع الثانوي هو كتاب (Henry Charles Lea) بعنوان History of Sacerdotal Celibacy (طبعة 1907)، إلا أنه عند مراجعة الصفحة 320 من هذا الكتاب تُظهر أنه لا يذكر كليمندس أصلًا، مما يشير إلى وجود خطأ في الإسناد أو انتحال في النقل.

    وهكذا، يبدو أن هذه العبارة نشأت عن طريق تحريف أو سوء فهم، وانتقلت عبر كتب ومقالات عديدة دون التحقق من النصوص الأصلية.

     

    ثانيا: تأويلات هذا الاقتباس وآراء باحثين حول تحريف الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري

    1- يرجّح الباحث البريطاني روجر بيرس (Roger Pearse)، وهو باحث معاصر في تاريخ المسيحية المبكرة والأدب الآبائي، وقد عُرف بجهوده الواسعة في نشر نصوص آباء الكنيسة بلغاتها الأصلية، أن العبارة المنسوبة إلى كليمندس الإسكندري “كل امرأة ينبغي أن تخجل لأنها امرأة” ناتجة عن سوء فهم أو ترجمة مشوّهة لمقطع من كتابه المربّي (Paedagogus). ويشير (Roger Pearse) إلى أن هذه الصيغة المحرّفة انتشرت عبر عدة كتب ومقالات دون التحقق من النص الأصلي.

    2- يؤكد (Roger Pearse) ان القوائم التي تهدف إلى تشويه السمعة من خلال الاقتباسات غالبًا ما تُهمِل السياق، وغالبًا ما تختلف في الصياغة ونسبتها إلى أصحابها. واقتباسنا هذا لا يختلف عن غيره في هذا الصدد. فبعضهم يقترح أنه مأخوذ من كتاب (Stromateis) أو المنوّعات (الكتاب الثالث) Miscellanies book 3 لكليمندس، لكنه في الواقع ليس كذلك ويُشير (Roger Pearse) إلى أنّ هذه الصيغة المشوّهة انتشرت في عدد من الكتب والمقالات المعاصرة دون الرجوع إلى النص الأصلي والتحقق من سياقه بدقة.

    3- على سبيل المثال، يوضح (Roger Pearse) أن العبارة وردت ضمن مقال هجومي مليء بالكراهية بعنوان Twenty disgustingly misogynist quotes from religious leaders (عشرون اقتباسًا بغيضا من قادة دينيين) بقلم فاليري تاريكو (Valerie Tarico) نشر على موقع Salon عام 2014، مع إشارة إلى مقطع من كتابه (Paedagogus 2:33:2)، إلاّ أن (Roger Pearse) يؤكد أن الموقع لا يحتوي على النص المذكور بهذا المعنى أو الصياغة المتداولة.

    4- كما يوضّح (Roger Pearse) ايضا إلى أن بعض الكتب الصادرة في الهند تستشهد بالفيلسوف برتراند راسل (Bertrand Russell) كمصدر للاقتباس، لكنه يشير إلى أن هذه الكتب تستند فقط إلى كتيّبه المؤيد للعلاقات غير الشرعية Marriage and Morality (1929)، والذي يخلو تمامًا من أي إشارة إلى كليمندس الإسكندري.

    5- أما فيما يخص مصدرًا أكثر تحديدًا، فيُشير (Roger Pearse) إلى مقال بعنوان “الدين بوصفه جذر التمييز الجنسي” (Religion as the Root of Sexism) للكاتبة باربرا ج. ووكر (Barbara G. Walker)، نُشر في مجلة (Freethought Today) عام 2011. في هذا المقال، يُنسب إلى كليمندس الإسكندري قوله إن “على كل امرأة أن تشعر بالخزي لمجرد كونها امرأة”، كما يُربط هذا القول باقتباس منسوب إلى يسوع في إنجيل المصريين يقول فيه: «لقد أتيتُ لأدمّر أعمال الأُنثى».
    ويضيف (Roger Pearse) أن باربارا ووكر (Barbara G. Walker) ، مؤلفة موسوعة The Woman’s Encyclopedia of Myths and Secrets (1983) وكتاب The Skeptical Feminist، نسبت هذه العبارة إلى كليمندس وربطتها بإنجيل المصريين، مما عزّز الانطباع الخاطئ بعدائها للمرأة.

     

    ثالثا: التتبُّع المرجعي: من ووكر إلى بريفو (Briffault)

    1- عند تتبّع مصدر الادعاء الذي اعتمدت عليه الكاتبة باربرا ج. ووكر (Barbara G. Walker)، يتبيّن أنها استندت إلى ما أورده المؤلف ر. بريفو (R. Briffault) في المجلد الثالث من كتابه The Mothers (Vol. 3, p. 373, New York: Macmillan, 1927). ويُلاحظ أن هذا النقل ليس مستندًا إلى أي من النصوص الأصلية لكليمندس الإسكندري، بل يأتي ضمن سلسلة من الاقتباسات غير المباشرة التي تفتقر إلى توثيق دقيق من المصادر الأولية، وهو ما يُضعف مصداقية الادعاء المنسوب إليه.

    – في هذا الموضع، يورد بريفو الاقتباس التالي:

    🔹«كل امرأة، كما يقول كليمندس الإسكندري، ينبغي أن تشعر بالخزي لمجرد كونها امرأة.»

    2- يُحيل بريفو إلى المرجع التالي لتوثيق هذا الاقتباس المزعوم: كليمندس الإسكندري، كتاب “المربّي” (Paedagogus)، الجزء الثاني، الفصل الثاني، وذلك بحسب طبعة ميغن (Migne) ضمن سلسلة Patrologia Graeca، المجلد الثامن، العمود 429.

    Clement of Alexandria, Paedagogus (The Instructor), Book II, Chapter II, in Patrologia Graeca, Vol. 8, col. 429 (ed. J.-P. Migne).

    3- التحقق من المصدر الأصلي في Paedagogus II.2 (PG 8, col. 429):

    أ- النص اليوناني:

    «οὐδεὶς γὰρ ψόφος οἰκεῖος ἀνδρὶ λογικῷ, ἔτι δὲ μᾶλλον γυναικί, ᾗ καὶ τὸ συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ, ἥτις εἴη μόνον, αἰσχύνην φέρει.»

    يعود فعل ψόφος إلى معنى “الصوت” أو “الجلبة”، وغالبًا ما يشير في السياق الأدبي الأخلاقي إلى الضجيج غير اللائق، كالأصوات أثناء الشرب أو تناول الطعام أو حتى حركة غير مهذبة، لذا يُنظر إليها كرمز للتصرف غير المحتشم.

    • οἰκεῖος = لائق، مناسب، ملائم
    • λογικῷ = العاقل أو صاحب العقل.
    • γυναικί = للمرأة.
    • συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ = وعي المرأة بطبيعتها أو إدراكها لذاتها.
    • αἰσχύνην φέρει = يجلب الحياء/ يثير الخجل.

     

    ب- الترجمة في سلسلة Ante-Nicene Fathers (ANF):

    “Nothing disgraceful is proper for a man endowed with reason; much less for a woman, to whom even the consciousness of her own nature brings a feeling of shame.”

    ج- الترجمة الفرنسية في سلسلة Sources Chrétiennes (SC 108, p. 71):

    “Il ne convient pas de faire du bruit (en buvant), ni à un homme raisonnable, ni encore moins à une femme, à qui le fait d’avoir conscience elle-même de ce qu’elle est, suffit à inspirer de la pudeur.”

    ومن خلال مقارنة الترجمات المعتمدة (الإنجليزية والفرنسية) مع النص اليوناني الأصلي، نرى أنها تتّفق جميعًا على المعنى التالي:

    🔹«لا يليق برجلٍ عاقل أن يصدر عنه صوت مزعج أو تصرف غير لائق، وبالأحرى لا يليق ذلك بامرأة، إذ يكفيها مجرد وعيها بذاتها وطبيعتها لتبعث في نفسها شعور الحياء والعفّة.»

    4- الاقتباس الذي ينسبه بريفو إلى كليمندس الإسكندري لا يرد بصيغته تلك في نصه، بل هو تحوير واختزال مجتزأ لعبارة أطول ذات سياق أخلاقي وسلوكي محدد.

    5- كليمندس يتحدّث هنا عن الحياء الطبيعي المرتبط بالسلوك بوصفه فضيلة طبيعية لدى المرأة، تنبع من وعيها الداخلي بذاتها، لا عن “الخزي” كموقف دوني من طبيعتها الأنثوية.

    6- كما أنه يتناول الحياء الطبيعي المرتبط بالسلوك ضمن سياق الحديث عن اللياقة والاحتشام، لا عن “الخزي” بوصفه حكمًا وجوديًا على طبيعة المرأة.
    وبناءً عليه، فإن النقل الذي يفرغ العبارة من سياقها ويحوّلها إلى تصريح عدائي ضد المرأة يُعد تشويهًا صريحًا للمعنى الأصلي.

     

    رابعا: ملخص تحليل الباحث البريطاني والمختص بتاريخ المسيحية المبكرة والنصوص الآبائية، والشهير بنشر النصوص القديمة بلغاتها الأصلية وتحقيقها روجر بيرس (Roger Pearse) حول الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري

    1. يرى الباحث روجر بيرس (Roger Pearse) أن الاقتباس الشهير المنسوب إلى كليمندس الإسكندري، والذي مفاده أن «كل امرأة يجب أن تشعر بالخجل لمجرد كونها امرأة»، لا يعكس مضمون النصوص الأصلية لكليمندس، بل هو نتاج سوء فهم وتحريف للنص الأصلي.

    2. سياق النص الأصلي

    يشير (Roger Pearse) إلى أن كليمندس، كما سائر آباء الكنيسة، كان يكتب ضمن معايير زمنه، الذي اعتُبر فيه شرب الخمر والسلوك الصاخب للنساء من الممارسات المرفوضة اجتماعيًا.
    ويُبرز أن النص الأصلي في كتاب المربّي (Paedagogus) يتناول بالأساس موضوع السلوك غير اللائق في حالة السُّكر، مع تأكيد خاص على ضرورة شعور الإنسان العقلاني بالخجل والحياء من مثل هذا السلوك، وخصوصًا النساء.
    بهذا المعنى، كان كليمندس يتحدث عن الحياء الطبيعي المرتبط بالسلوك، لا عن “الخزي” كموقف وجودي يُنقص من مكانة المرأة أو طبيعتها الأنثوية.

    3. الهدف الأخلاقي والاجتماعي لكليمندس

    يوضح (Roger Pearse) أن كليمندس والآباء الأوائل كانوا يهدفون إلى رفع مستوى كرامة النساء الأخلاقية والاجتماعية، مهاجمين الممارسات الفاسدة والسلوكيات التي تنال من هذه الكرامة، وليس التقليل من شأن المرأة نفسها.
    وهذا يتوافق مع خطابهم العام الذي يسعى إلى تحسين مكانة المرأة في المجتمع عبر التوجيه الأخلاقي والروحي.

    4. تحريف النص واستخدامه في أجندات فكرية معاصرة

    يشير (Roger Pearse) إلى أن ر. بريفو (R. Briffault) أعاد صياغة النص الأصلي بأسلوب أكثر إثارة وصراحة، بهدف استخدامه كأداة في أجندته الخاصة التي تدعو إلى الترويج للانحلال الأخلاقي، مستغلاً الاقتباس ضمن قائمة صادمة من أقوال الآباء.
    وهكذا، تحولت العبارة إلى “عبارة واحدة لافتة” تستخدم في نقد موجه للتراث الديني والآبائي، بعيدًا عن سياقها الحقيقي.

    5. تحريفات لاحقة وتأثيرها

    يشير (Roger Pearse) كذلك إلى أن التحريفات اللاحقة للنص الأصلي أدت إلى تداول صيغ أكثر حدة واستفزازًا، لا أساس لها في النصوص الأصلية لكليمندس.
    وهذا يشير إلى وجود مشكلات في منهج تتبع المصادر، حيث كثيرًا ما تعتمد الدراسات الحديثة على مصادر ثانوية غير دقيقة أو اختزالات للنصوص الأصلية.

    6. النقد النهائي

    يخلص (Roger Pearse) إلى أن مثل هذه التحريفات لا تخدم الدراسة الأكاديمية الموضوعية، بل تندرج في إطار الاستقطاب السياسي أو الثقافي الذي يضر بفهم التراث الديني والآبائي بشكل صحيح.
    كما يؤكد أن الخطأ لا يبدأ بالضرورة مع الباحثين المعاصرين، بل قد يكون ناتجًا عن اختزالات أو تحريفات أقدم في المصادر الثانوية.

     

    وبالتالي نستنتج من كتاباته بأنّ:

    • الاقتباس المنسوب إلى كليمندس ليس دقيقًا نصيًا أو سياقيًا.
    • النص الأصلي يتحدث عن الحياء والسلوك اللائق لا عن خزي وجودي للمرأة.
    • التحريفات الحديثة استخدمت العبارة لأغراض فكرية وسياسية، مغايرة للسياق الأصلي.
    • ضرورة العودة إلى النصوص الأصلية وتوخي الدقة في تتبع المصادر لمنع سوء الفهم والتحريف.

     

    خامسا: بعد أن أوردنا التدقيق النصي والتاريخي للنص المنسوب إلى كليمندس الإسكندري (Clement of Alexandria)، كما قدمه الباحث (Roger Pearse) ، نتابع كيف ساهم هذا التحريف في انتشار واسع للاقتباس المشوّه في التأريخ الثقافي المعاصر، إذ وجد طريقه إلى عدد من المؤلفات الحديثة دون مراجعة علمية للنص الأصلي.

    فقد ورد الاقتباس الشهير «كل امرأة يجب أن تشعر بالخجل لمجرد كونها امرأة» في كتاب (Misogyny) للمؤلف ديفيد غيلمور (David Gilmore)، الذي استند بدوره إلى مصدر ثانوي أقدم، وهو كتاب (The Fear of Women) الصادر عام 1968 لعالم النفس ولفغانغ ليدرر (Wolfgang Lederer). يُعد عمل ليدرر تحليلًا نفسيًا ولا يمثل دراسة نقدية أكاديمية متخصصة في علم الآبائيات (Patristics).

    تتجلّى المشكلة المنهجية في هذه الدراسات الثانوية التي تعتمد على مصادر غير دقيقة، حيث لا يتعامل (Wolfgang Lederer) مع النصوص الآبائية الأصلية بمنهج نقدي صارم، بل يستخدم اقتباسات أو ملخصات منقولة غالباً ما تكون خارجة عن سياقها الاصلي. وقد أصبحت اقتباساته، رغم ضعف توثيقها، مرجعًا متداولًا في بعض الأعمال النقدية المهتمة برصد مواقف الكنيسة من المرأة دون العودة الدقيقة للمصادر الأصلية لكليمندس الإسكندري أو غيره من آباء الكنيسة.

     

    سادسا: هل النص المنسوب خطأ إلى كليمندس… أصله عند ترتليان

    1- أما المصدر الذي يُستشهد به خطأ لتبرير صورة سلبية للمرأة في التراث الآبائي، فلا يعود في الغالب إلى كليمندس الإسكندري كما يُشاع، بل يقال انه يعود إلى نص شهير للكاتب المسيحي ترتليان في مؤلفه De Cultu Feminarum (“عن زينة النساء”). وقد استند بعض النقّاد إلى هذا النص تحديدًا في اتهام ترتليان بالعداء للمرأة، لا سيما حين استحضر صورة حواء بوصفها “باب الشيطان”، حيث قال:

    🔹«ألا تعلمين أنكِ حواء؟ لا يزال حكم الله معلقًا على جنسك. أنتِ بوابة الشيطان؛ أنتِ أول من خرق ناموس الله؛ أنتِ التي أغويت من لم يكن الشيطان شجاعًا ليهاجمه. لقد دمرتِ صورة الله، الإنسان؛ وجلبتِ الموت إلى العالم.»

    Tertullian, De Cultu Feminarum, Chapter 1:

    “Knowest thou not that thou art Eve? The judgment of God still hangs over thy sex. Thou art the gate of the devil; thou didst first break the law of God; thou didst seduce him whom the devil was not valiant to attack. Thou hast destroyed the image of God, man; and didst bring death into the world.”

    لكن قراءة متأنية تكشف أن هذا الحكم العام غير منصف، لأن هذا الاقتباس غالبًا ما يُنتزع من سياقه الأخلاقي والروحي، ويُحمَّل بدلالات لم يقصدها ترتليان ضمن بنيته اللاهوتية والتربوية.

     

    2- فهم السياق اللاهوتي والروحي

    من بين أكثر مؤلفات ترتليان تعرضًا للانتقاد هو كتابه De Cultu Feminarum، إذ يُتهم فيه بأنه يعبّر عن موقف سلبي تجاه المرأة. غير أن هذا التفسير يتجاهل السياق الزمني والأدبي واللاهوتي الذي كُتب فيه هذا العمل، بل ويُخرجه من إطاره المقصود. ترتليان لم يكتب هذا الكتاب بقصد الإهانة أو الإدانة الأخلاقية للمرأة، بل كان دافعه الأساس هو دعوة النساء المسيحيات إلى التواضع والزهد في الزينة المفرطة، وتوجيه أنظارهن نحو ما هو أثمن وأبقى: الإيمان بقيم الملكوت السماوي (De Cultu Feminarum, I.1–2).

     

    3- تحليل قول ترتليان:

    • الرابط المباشر بالخطيئة: يربط ترتليان كل امرأة بشكل مباشر بخطيئة حواء.
    • الشعور بالذنب والعار: على الرغم من أنه لا يستخدم عبارة “امتلئي بالعار”، إلا أن وصف المرأة بأنها “بوابة الشيطان” وأنها سبب موت المسيح هو دعوة صريحة للشعور بالذنب والعار الوجودي، لمجرد كونها امرأة تنتمي لـ “جنس حواء”.

    لكن هذه الفكرة اللاهوتية، التي تُعدّ خلاصةً لموقف ترتليان، لا يمكن بحالٍ من الأحوال نسبتها إلى كليمندس الإسكندري. فعبارة «المرأة يجب أن تخجل من كونها امرأة» هي تحريفٌ لموقف ترتليان، لا كليمندس، بل وتمثل أيضًا اختزالًا غير دقيقٍ – بل ومشوّهًا أحيانًا – لفكر ترتليان نفسه، كما يظهر في بعض القراءات الحديثة التي عمدت إلى اقتطاع العبارة من سياقها الجدلي واللاهوتي، مما أدى إلى إساءة فهم موقفه الحقيقي.

    فالفكرة المركزية التي يُدافع عنها ترتليان هنا هي أن حياة الإنسان، رجالاً ونساءً، ينبغي أن تنسجم مع جوهر الإيمان المسيحي القائم على ترك الأرضيات والتعلّق بالسماويات. صحيح أنه بدأ بأسلوب حاد، لكن الجزء اللاحق من الكتاب اتخذ طابعًا تربويًا، وأبرز صلة أخوية صادقة، خاصة حين خاطب النساء مرارًا بعبارة sorores dilectissimae (“الأخوات المحبوبات جدًا”)، مما يُظهر علاقته الودّية بهن، لا عداءه لهن.

    لذا،فإن تقييم هذا العمل ينبغي أن يتم وفقًا لسياقه اللاهوتي والزمني، لا من خلال إسقاطات ثقافية حديثة قد تحرّف مقاصده التربوية. فالأسلوب التوبيخي، وإن بدا قاسيًا بمعايير اليوم، كان مألوفًا في العظات المسيحية المبكرة، ويُوجَّه أحيانًا للرجال والنساء على حد سواء بحسب موضع الضعف أو الخطر الروحي.

     

    4- ترتليان: خطاب متوازن في مواضع أخرى

    في المقابل، إننا نجد في كتابات ترتليان الأخرى ما يعكس احترامه للمرأة وتقديره لها، وأوضح الأمثلة على ذلك رسالته Ad Uxorem (“إلى زوجتي”)، التي كتبها بين عامي 197 و206، ويُعد العمل الوحيد الذي يناقش فيه أخلاقيات الزواج. وقد افتتحه بهذه الكلمات:

    🔹”رأيتُ أنه من المناسب، يا شريكتي المحبوبة في الرب، أن أوجه إليك من الآن بعض النصائح حول المسار الذي ينبغي عليكِ أن تسلكيه بعد رحيلي عن هذا العالم، إن سبقْتُكِ إليه؛ وأن أستودعكِ أمانة الالتزام بهذه النصائح.”

     

    تتكرر في هذا النص عبارات تعبّر عن مودّة صادقة مثل:

    • محبوبتي (dilectissime mihi)
    • الأخوات المحبوبات جدًا (sorores dilectissimae)
    • شريكة في الرب (in Domino conserva)

    يدل على شركة روحية تقوم على المودّة والإيمان، كما يبرهن على أن رؤيته للمرأة لم تكن دونية جوهرًا، بل تربوية وسياقية، تحكمها ظروف التوجيه والتعليم الروحي.

    في المجمل، تكشف القراءة النقدية لأعمال ترتليان مثل:

    • عن زينة النساء (De Cultu Feminarum)
    • تغطية العذارى (De Virginibus Velandis)
    • الزواج الأحادي (De Monogamia)

    أن هدفه لم يكن الحطّ من كرامة المرأة، بل توجيهها نحو حياة الفضيلة والقداسة، ضمن معايير روحية صارمة تعبّر عن تصوّره النسكي للإيمان المسيحي.

    وبهذا نستنتج ان القول المنسوب إلى كليمندس السكندري غير موثق إطلاقًا في أعماله، بل يُخالف توجهه العام الداعي إلى مساواة جوهرية بين الرجل والمرأة في الطبيعة والفضيلة والخلاص، والفقرات التي نسبها بعضهم إلى كليمندس الإسكندري — والتي تزعم أن “المرأة يجب أن تخجل من كونها امرأة” — لا أساس لها في نصوص كليمندس، بل تمثل إما تحريفًا أو إسقاطًا خاطئًا.

    أما النصوص التي يتم الاستشهاد بها من ترتليان، فيجب أن تُفهم ضمن أطرها اللاهوتية والتربوية لا من خلال اجتزاءات حديثة. فترتليان، رغم لغته التوبيخية أحيانًا، لم يكن يكنّ عداءً للمرأة، بل كان يرشدها كأخت في الإيمان نحو حياة القداسة.

    🔴 الخاتمة

    يتضح من الدراسة والتحقيق النصي الدقيق أن القول المنسوب إلى القديس كليمندس الإسكندري «كل امرأة ينبغي أن تخجل لأنها امرأة» لا أساس له في كتاباته الأصلية، ولا يتوافق مع توجهه الفكري والروحي الذي يؤكد على المساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة في الطبيعة والكرامة والفضيلة.

    إن هذا الادعاء، الذي شاع نتيجة لسوء فهم وتحريف لمقاطع نصية، وانتقل عبر مصادر ثانوية غير دقيقة، يُعد مثالاً صارخًا على مخاطر اعتماد الاقتباسات المنزوعة عن سياقها أو المنسوبة خطأً إلى شخصيات تاريخية بارزة دون تحقق علمي. مصدر الخطأ ناتج من سوء فهم أو نقل غير دقيق في مؤلفات تحليلية وتبعه تداول غير نقدي من باحثين آخرين.

    ويُظهر تحليل النصوص أن ما ورد في أعمال كليمندس هو دعوة للحياء والفضيلة والأخلاق، لا ازدراء لطبيعة المرأة أو تقليل من قيمتها، وهو موقف يعكس انفتاحًا وتقديرًا مميزًا لمكانة المرأة، لا سيما في ظل الظروف الثقافية والاجتماعية لتلك الحقبة.

    لذلك، فإن تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة واستعادة المعنى الحقيقي للنصوص الأصلية أمر ضروري لفهم دقيق للتراث الفكري والروحي، وللحد من انتشار تحريفات تُستغل لإثارة الفتن وتشويه سمعة شخصيات دينية وأدبية بارزة.

    كليمندس يُعدّ، في سياق عصره، من أكثر آباء الكنيسة انفتاحًا وتقديرًا لمكانة المرأة على المستويين الروحي والفكري، فلا يجوز نسبة هذه العبارة إلى كليمندس السكندري دون دليل نصي، وهذا يعدّ مثالًا واضحًا على خطر تداول “الاقتباسات المنزوعة من سياقها” أو المنسوبة خطأ لكتّاب لم يقولوها مطلقًا.

    ——–

    David D. Gilmore, Misogyny: The Male Malady, Harvard University Press, 2001, p. 173.

    Wolfgang Lederer, The Fear of Women, Harcourt, Brace & World, 1968, pp. 162–163.

    Clement of Alexandria, Paedagogus (The Instructor), in The Ante-Nicene Fathers, Vol. 2, translated by William Wilson, Hendrickson Publishers, 1994 (reprint), Book I, Chapter 4; Book II, Chapter 2.

    Clement of Alexandria, Stromata (Miscellanies), in The Ante-Nicene Fathers, Vol. 2, translated by William Wilson, Book IV, Chapters 8 and 19.

    Sirach 26:25 (Septuagint).

    Tertullian, De Cultu Feminarum (On the Apparel of Women), in The Ante-Nicene Fathers, Vol. 4, translated by S. Thelwall, Book II, Chapter 1.

    Roger Pearse, “Is the quote ‘Every woman ought to be filled with shame…’ really by Clement?”:

    Patrologia Graeca (PG), Vol. 8, col. 429.

    Cambridge University Press, Selected translations from Clement of Alexandria’s works.

    Tertullian. Greek/Latin texts and translations.

    Joseph Lewis, The Ten Commandments, 1946.

    Henry Charles Lea, History of Sacerdotal Celibacy, 1907.

    Barbara G. Walker, The Woman’s Encyclopedia of Myths and Secrets, 2011.

    R. Briffault, The Mothers: A Study of the Origins of Sentiments and Institutions, 1927.

    Catholic library

    memraayhwh.wordpress.

    assets.cambridge

    .wikipedia (Clement of Alexandria)

    Roger Pearse .. Did Clement of Alexandria say that “Every woman should be overwhelmed with shame at the thought that she is a woman”?

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

    هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

  • الاستراتيجية الدفاعية البارعة للكنيسة في العصور القديمة Michael J. Kruger – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    الاستراتيجية الدفاعية البارعة للكنيسة في العصور القديمة Michael J. Kruger – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    الاستراتيجية الدفاعية البارعة للكنيسة في العصور القديمة – ولماذا نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى Michael J. Kruger – ترجمة ودراسة – Patricia Michael

    الاستراتيجية الدفاعية البارعة للكنيسة في العصور القديمة - ولماذا نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى Michael J. Kruger - ترجمة ودراسة - Patricia Michael
    الاستراتيجية الدفاعية البارعة للكنيسة في العصور القديمة – ولماذا نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى Michael J. Kruger – ترجمة ودراسة – Patricia Michael

    من أبرز مزايا التعمّق في دراسة تاريخ المسيحية المبكرة، إدراك أن التحديات التي تواجه الإيمان المسيحي في الزمن المعاصر ليست طارئة أو غير مسبوقة. فعلى الرغم من أن بعض الهجمات الحديثة قد تبدو جديدة في صياغتها أو شكلها—مما يدفع البعض أحيانًا إلى ردود فعل تتّسم بالقلق أو الارتباك—إلا أن الكنيسة الأولى قد واجهت صعوبات مماثلة، بل في كثير من الأحيان كانت أشد وطأة وأكثر جذرية.

    ويُعدّ القرن الثاني الميلادي نموذجًا بارزًا لذلك السياق. فقد كانت الكنيسة آنذاك في طور التأسيس، ما تزال فتية وهشّة، شبيهة بمخلوق حديث الولادة على أراضي السافانا، يخطو خطواته الأولى المرتجفة وسط بيئة معادية لا ترحم. إذ لم تكن الظروف السياسية أو الاجتماعية أو الدينية تميل لصالحها، بل كانت الهجمات على المسيحيين تتوالى من كل جانب، بعنف وسرعة.

    ومع ذلك، لم تقف الكنيسة موقف الدفاع السلبي أو الانكماش. بل استجابت بمبادرة فكرية ولاهوتية جريئة، حيث صاغ القادة المسيحيون حججًا متماسكة، وبلوروا أفكارهم العقائدية، ودخلوا في حوار نقدي مع خصومهم. ومن ثمّ، أُطلق على تلك المرحلة عن جدارة لقب “العصر الذهبي للدفاعيات المسيحية” (The “golden age” of apologetics)

    ترتليان القرطاجي

    من بين العديد من المدافعين عن الإيمان المسيحي في العصور الأولى—وكان عددهم كبيرًا—يبرز ترتليان كأحد ألمع الشخصيات وأكثرهم تأثيرًا. هذا الأب الكنسي من شمال إفريقيا كتب مؤلَّفه الدفاعي الشهير (Apologeticum) نحو عام 197م، وقد تميّزت حججه بمستوى رفيع من العمق المنطقي والوضوح الخطابي، حتى إن قارئها اليوم قد يظن أنها كُتبت في زمننا المعاصر.

    وقد أشار المؤرخ ديفيد رايت (David Wright) إلى أن جاذبية هذا العمل الدفاعي تكمن في “روعة الحُجّة التي لا تزال، حتى يومنا، قادرة على أن تُلهِم القارئ وتثير إعجابه”.

    أما إيفريت فيرغسون (Everett Ferguson)، فقد وصفه بأنه “التحفة الأدبية لترتليان” بلا منازع.

    فما الذي جعل استراتيجية ترتليان الدفاعية بهذه الفاعلية؟

    يمكن تمييز عدد من الخصائص الجوهرية التي ساهمت في نجاح خطابه الدفاعي، وسنستعرض أبرزها فيما يلي:

    المناداة بالمعاملة العادلة

    في السياق الاجتماعي والسياسي لعصر ترتليان، كانت المسيحية هدفًا دائمًا لسلسلة من الاتهامات العامة التي ألقت على أتباعها اللوم في كل واقعة مأساوية. فبسبب امتناع المسيحيين عن تقديم العبادة للآلهة الرومانية، اعتُبروا سببًا مباشراً لغضب الآلهة، وهو ما فسّره المجتمع الروماني على أنه السبب الكامن وراء الكوارث العامة، من أوبئة ومجاعات وهزائم عسكرية.

    وقد أدّى هذا الربط المتعسّف بين المسيحية والكوارث العامة إلى انتشار واسع لأشكال العدالة الغوغائية، حيث كان المسيحيون يتعرضون للاتهام والإدانة دون أي سند قانوني أو محاكمة عادلة. فالاتهام باسم الانتماء الديني وحده كان كافيًا لإصدار الحكم.

    أمام هذا الواقع الجائر، سعى ترتليان في دفاعه إلى تفنيد الأسس الظالمة التي بُني عليها الاضطهاد، مطالبًا السلطات الرومانية بتطبيق مبدأ العدالة الإجرائية. فقد شدّد على أن مجرّد الانتماء إلى “المسيحية” لا يُشكّل تهمة بحد ذاته، بل ينبغي أن يستند أي حكم إلى دليل على ارتكاب فعل جُرمي فعلي. وعندما تُخضع التهم الموجّهة إلى المسيحيين للفحص العقلاني، يتّضح – في نظر ترتليان – أنها تفتقر تمامًا إلى أي أساس واقعي أو قانوني.

    وفي إحدى صوره البلاغية الرفيعة، يلخّص ترتليان المفارقة بقوله:

    “وإنما دليل جهلهم، الذي يُدينهم ويعذرهم في آنٍ معًا على ظلمهم، هو أن الذين كانوا يكرهون المسيحية من قبل، لكونهم يجهلون حقيقتها، ما إن يكتشفوها حتى يُسقطوا فورًا عداوتهم، ومن أعداء يصيرون تلاميذ.”(Apol. 1.6)

    بهذا، ينطلق ترتليان في مناشدته للسلطات العامة والجمهور على السواء، داعيًا إلى الإنصاف العقلي والأخلاقي: “لا تدينونا قبل أن تعرفونا”—وهي عبارة تختزل جوهر دعوته إلى معاملة قائمة على الفهم لا التحامُل، وعلى المعرفة لا الجهل.

    🔸تطبيق على الكنيسة المعاصرة:

    ادعُ حتى أكثر النقّاد عداءً إلى التعرُّف عليك وعلى مجتمعك المسيحي. فكثيرًا ما ندين ما نجهله. ان تقديم وعرض المسيحية من الداخل، لا من خلال مجرد التصورات الخارجية المسبقة عنها، قد يكون استراتيجية مؤثرة وناجحة.

    الحرية الدينية

    كثيرًا ما يُنظر إلى مفهوم “الحرية الدينية” بوصفه ثمرة تطورات فكرية حديثة، ارتبطت بمرحلة ما بعد التنوير وبالتحولات الفلسفية في الغرب الحديث. غير أن هذا التصور يتعرض للطعن من خلال كتابات آباء الكنيسة الأوائل، وعلى رأسهم ترتليان، الذي قدّم دفاعًا لافتًا عن هذا المبدأ في كتابه (Apologeticum).

    فمن اللافت أن استراتيجية ترتليان لم تكن دعوة لإقصاء الأديان الأخرى أو المطالبة بفرض المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية، بل تمحورت حول مبدأ جوهري: وجوب السماح لكل جماعة دينية بأن تعبّر عن إيمانها بحرية، دون خوف من القمع أو الانتقام. لقد نادى بأن تكون العبادة فعلًا حرًّا يصدر عن القناعة الداخلية، لا نتيجة للإكراه أو الضغط.

    وتبرز المفارقة حين نعلم أن هذا النوع من الحرية كان مكفولًا فعليًا لسائر الديانات ضمن النظام الديني المتسامح نسبيًا في روما، لكنّه كان يُسلب على نحو خاص من أتباع المسيح. فبينما سُمح لعبدة الأوثان بممارسة شعائرهم، حُرم المسيحيون من أبسط حقوقهم في التعبّد الحر، وكأن عبادة يسوع المسيح وحدها تُمثّل تهديدًا.

    وقد عبّر ترتليان عن هذا المبدأ بوضوح حين كتب:

    “فليكرّس أحدهم حياته لإلهه، وليقدّم آخر تيسًا ذبيحة. ولكن احذر أن تُضيف سببًا آخر لتهمة عدم التديّن، بأن تُنْتزع الحرية الدينية، وتُمنع حرية اختيار الإله، حتى لا أعود أعبد بحسب ميولي، بل أُجبر على عبادة ما يخالفها.”(Apol. 24.5-6)

    العبارة التي قالها ترتليان تعبر عن دفاعه القوي عن الحرية الدينية وحرية المعتقد، وهي تحوي رسالتين أساسيتين:

    • حرية العبادة الشخصية:

    يقول ترتليان إن لكل إنسان الحق في أن يكرّس حياته لعبادته الخاصة، مهما كان هذا الإله—سواء كان إلهه هو الله الحقيقي الذي يعبده المسيحيون، أو حتى إلهًا من نوع آخر مثل “تيس” (وهو رمز لحيوان يُقدّم في بعض الطقوس الوثنية).

    الرسالة هنا أن الحرية في العبادة يجب أن تُحترم بغض النظر عن طبيعة الإله الذي يختاره الفرد.

    • التحذير من الإكراه الديني:

    يحذر ترتليان من أن تُنتزع هذه الحرية، أي أن يُجبر الإنسان على عبادة إله معين ضد رغبته، لأن هذا يُعتبر سببًا إضافيًا لتهمة “عدم التدين” أو الافتقار إلى التقوى من وجهة نظر المجتمع. بمعنى آخر، عندما تُمنع حرية الاختيار الديني، يتحول ذلك إلى ظلم يعزز الاتهامات ضد المسيحيين ويجعل الوضع أسوأ، لأن الإكراه على العبادة يُعد انتهاكًا لحرية الضمير والعبادة.

    باختصار: ترتليان يدعو إلى احترام حرية المعتقد والعبادة لكل فرد، وينتقد بشدة أي محاولات لفرض العبادة قسرًا، لأن ذلك يزيد من الظلم والاتهامات ضد المسيحيين.

    🔸تطبيق على الكنيسة المعاصرة:

    ينبغي أن تعي الكنيسة اليوم أن مهمة الدفاعيات المسيحية لا تكمن في السعي لفرض العقيدة بالإكراه السياسي أو الاجتماعي، بل في المطالبة المبدئية بحق مزدوج: أولًا، الحق في عبادة السيد المسيح بحرية وكرامة دون اضطهاد، وثانيًا، الحق في تقديم المسيح للآخرين بأسلوب مقنع لا يُقابل بالعقوبات أو المنع. هكذا يكون الدفاع عن الإيمان شهادة للحرية، لا وسيلة للهيمنة.

    التمسك بالأساسيات في الدفاعيات المسيحية

    في عالم الدفاعيات المسيحية، تتعدد القضايا والمواضيع التي يمكن تناولها للنقاش والجدال حولها، ولسوء الحظ، قد نسمح للموضوعات الساخنة في آخر الأخبار أن تتحكم في كل حوار نقوم به.

    غير أن ترتليان يُذكّرنا بأهمية التمسك بالأسئلة الأساسية والجوهرية التي تقوم عليها الرسالة المسيحية، لأنه حين يُحقق النجاح في معالجة هذه القضايا المحورية، فإن الكثير من المسائل الأخرى ذات الطابع الفرعي أو الثانوية يمكن أن تُحلّ وتتضح في ضوئها لاحقًا.

    أما هذه القضايا المحورية بالنسبة لترتليان، فتكمن في نقطتين رئيسيتين:

    • صدق وأصالة الكتاب المقدس
    • هوية المسيح وطبيعته الإلهية

    فيما يخص الكتاب المقدس، قدّم ترتليان دفاعًا متقنًا عن أصالة النصوص، مؤكّدًا أن الكتب المقدسة ذاتها تحمل في طياتها الأدلة الكافية والشهادة على مصدرها الإلهي، إذ يقول:

    “فالكتب المقدسة ذاتها تقدم برهانًا على أنها إلهية.” (Apol. 20.1)

    أما فيما يتعلق بالمسيح، فقد أولى ترتليان اهتمامًا خاصًا لإثبات ألوهيته، مستعينًا بلغة “اللوغوس” (logos) التي استُخدمت من قبل كتّاب سابقين مثل يوستينوس الشهيد، وخصوصًا كما وردت في مقدمة إنجيل يوحنا.

    🔸تطبيق على الكنيسة المعاصرة:

    في خضم الحوارات الدفاعية المعاصرة، يجب على المؤمنين أن يحافظوا على تركيزهم الحاسم على حقيقة كلمة الله وهويّة السيد المسيح. إن استقرت هذه الركائز الجوهرية في الفكر، فإن سائر القضايا والموضوعات الدفاعية يمكن بناؤها عليها بثقة وثبات.

    التحوّل من الدفاع إلى الهجوم في منهج ترتليان:”قلب الطاولة

    على الرغم من أن ترتليان كرس معظم جهوده للدفاع عن المسيحية ضد الانتقادات الموجهة إليها، إلا أنه لم يقتصر على موقف المدافع السلبي. بل على العكس، كان يتخذ أحيانًا موقفًا هجوميًا يظهر من خلاله نقاط الضعف والتناقض في الأنظمة الفكرية والدينية غير المسيحية.

    لقد أدرك ترتليان أن المسؤولية في تقديم مبررات للمعتقدات والسلوكيات لا تقع على عاتق المسيحيين فقط، بل ينبغي أيضًا أن تتحملها الأديان الوثنية. فعندما وُجهت إلى المسيحيين تهم باطلة مثل أكل الأطفال والانحلال الأخلاقي في اجتماعاتهم السرية، لم يكتفِ فقط بالنفي، بل كشف أن هذه الانحرافات كانت شائعة في الطقوس الوثنية التي لم يبدِ الرومان أيّة اعتراضات عليها.

    وبالنسبة لرفض المسيحيين لعبادة الآلهة الرومانية، لم يكتفِ ترتليان بالمطالبة بالحرية الدينية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك ليجادل بأن آلهة الرومان لم تكن آلهة حقيقية بالأساس، وبالتالي فلا يمكن لوم المسيحيين على امتناعهم عن عبادتها.

    🔸تطبيق على الكنيسة المعاصرة:

    لا ينبغي أن تقتصر الدفاعيات المسيحية على الموقف الدفاعي فحسب، بل يجب أن تتضمن أيضًا استراتيجيات وتدابير مدروسة متنوعة. فمن المهم الرد على الاعتراضات، ولكن من الضروري أيضًا اغتنام الفرص لكشف التناقضات أو ضعف التماسك المنطقي في النظم الفكرية والدينية المنافسة.

    الخاتمة

    إذا اقتصر تركيزنا على الهجمات المعاصرة الموجهة إلى الإيمان المسيحي، فقد نقع في وهم الاعتقاد بأننا نواجه تحديات غير مسبوقة في تاريخ الكنيسة. غير أن نظرة متأنية وسريعة إلى مسيرة الكنيسة وتاريخها ، لا سيما خلال القرن الثاني الميلادي، تكشف لنا أن واقع الأمر مختلف تمامًا.

    لقد مثّل القرن الثاني بحق العصر الذهبي للدفاعيات المسيحية، وكان عمل ترتليان بمثابة ذروة هذا العصر وتاجه المضيء. دفاعه اتسم بالعمق والرؤية، إلى حد أنه يبدو كأنه كُتب في زمننا الراهن. فقد دافع بجرأة عن حق المسيحيين في المعاملة العادلة، وحرية المعتقد الديني، ومصداقية الكتاب المقدس، وألوهية المسيح، كما اتسم بشجاعة المبادرة في توجيه النقد الحاد إلى منتقديه من غير المسيحيين، مما مكّنه من قلب الطاولة وموازين النقاش وتحويل الهجوم إلى دفاع حاسم عن المسيحية.

    وبينما كانت استراتيجية ترتليان حاسمة وضرورية في زمنه، فإن قيمتها تزداد إلحاحًا في عصرنا الحديث، وربما أكثر من أي وقت مضى.

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

    The Brilliant Apologetic Strategy of the Ancient Church And Why We Need It Now More Than Ever – Michael J. Kruger

    الاستراتيجية الدفاعية البارعة للكنيسة في العصور القديمة – ولماذا نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى Michael J. Kruger – ترجمة ودراسة – Patricia Michael

  • المخطوطات المبكرة للعهد الجديد: آليات النسخ والنقل والتوزيع، وكيفية حفظ النصوص في سياق نمو الكنيسة الأولى – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    المخطوطات المبكرة للعهد الجديد: آليات النسخ والنقل والتوزيع، وكيفية حفظ النصوص في سياق نمو الكنيسة الأولى – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    المخطوطات المبكرة للعهد الجديد: آليات النسخ والنقل والتوزيع، وكيفية حفظ النصوص في سياق نمو الكنيسة الأولى

    ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    المخطوطات المبكرة للعهد الجديد: آليات النسخ والنقل والتوزيع، وكيفية حفظ النصوص في سياق نمو الكنيسة الأولى - ترجمة ودراسة: Patricia Michael
    المخطوطات المبكرة للعهد الجديد: آليات النسخ والنقل والتوزيع، وكيفية حفظ النصوص في سياق نمو الكنيسة الأولى – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

     

    مقدمة

    يتناول هذا البحث كيفية نسخ ونَقْل مخطوطات العهد الجديد ضمن سياق التوسُّع والنمو الذي شَهِدَتْهُ الكنيسة الأولى، بدءًا من الحقبة الرسوليّة وحتى نهاية القرن الرابع الميلادي، وذلك في ظلِّ ظروفٍ قاسية اتَّسمت بتحديات ثقافية ودينية متعدّدة، فَضْلاً عن تكرار موجات الاضطهاد، وندرة الموارد، والصعوبات اللوجستية المتنوعة.

    رغم هذه العوائق والتحديات، واصلت الكنيسة نموَّها السريع والواسع النطاق عبر أرجاء الإمبراطورية الرومانية الأمر الذي أسْفَرَ عن ازدياد الحاجة إلى النصوص المقدسة التي كانت تُنسَخ يدويًا، ويتم تداولها بين الكنائس والمسيحيين الاوائل، ضمن تفاعل متكامل بين الجهود الجماعية للكنيسة والمبادرات الفرديّة للمؤمنين.

    يركّز هذا البحث على دراسة آليات النسخ اليدويّ، وتداول المخطوطات وانتقالها بين الجماعات المسيحية، مع إبراز الدور الحيويّ الذي قامت به الكنائس المحلية والمسيحيون الأوائل في حفظ نصوص العهد الجديد، إلى أن بلغ تداول الكتابات المسيحية مستوى غير مسبوق من الانتشار بحلول أواخر القرن الرابع الميلادي.

    وتعتمد هذه الدراسة على منهج تاريخي نقدي يستند إلى الشهادات المستقاة من العهد الجديد، إلى جانب وثائق تاريخية مبكّرة ذات موثوقية أكاديمية.

     

    النسخ اليدوي للنصوص في العالم القديم

    على خلاف الطباعة الآلية للكتب في الأزمنة الحديثة، كانت عملية إعداد وتوزيع كتابات العهد الجديد خلال القرون الميلادية الأولى تعتمد اعتمادًا كليًا على الجهد اليدوي. إذ كانت كل نسخة تُعدّ يدوياً على نَحْوٍ فرديّ، غالبًا على يد مسيحي مُلمّ بالقراءة والكتابة، يقوم بنسخها عن نسخة أصلية، تُسمّى في المصطلحات القديمة “أنتيغراف” (antigraph)، والتي تعني النسخة الأصلية أو النموذجية التي يُعاد نسخها.

    في بعض الحالات، كانت الأعمال الأدبية الشهيرة — مثل الإلياذة والأوديسة لهوميروس — تُنسخ بكميات أكبر في وُرَش نسخ جماعية تُعرف باسم “سكريبتوريا” (scriptoria)، حيث يقوم أحد القُرّاء بتلاوة النص بصوت مرتفع على مجموعة من الكتبة الذين يقومون بنسخه في الوقت ذاته. ومع ذلك، لم يكن هذا النمط هو السائد في الكنيسة الأولى، إذ كانت كتابات العهد الجديد خلال القرون الثلاثة الأولى تُنسخ يدويًا بالكامل (per manus)، نسخة تلو الأخرى، إمّا على يد أفراد متعلمين ضمن الجماعات الكنسية، أو بواسطة نُسّاخ شبه محترفين يمتلكون مهارات أساسية في نَسخ الوثائق، إلاّ أنّ هذا النمط من النسخ الجماعي وجد طريقه لاحقًا إلى المجتمعات الرهبانية المسيحية خلال الحقبة البيزنطية.

    لم تكن عملية نَسخ المخطوطات وإعدادها وتداولها في الكنائس الأولى موحّدة أو مركزيّة. ومع ذلك، وبرغم غياب البنية المؤسسية، فقد انتشرت كتابات العهد الجديد بكفاءة ملحوظة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. فقد كانت الكنائس في حاجة إلى نُسَخ من الكتابات الرسولية لاستخدامها في التعليم والعبادة والجدال العقائدي واللاهوتي. ورغم أن المسيحيين الأوائل لم يمتلكوا امتيازات وسائل الاتصال الجماهيري، إلا أنهم حافظوا على كلمة الله وقاموا بنشرها من خلال المبادرات الفردية والتفاني الكنسي.

     

    كيفية انتقال المخطوطات بين الجماعات المسيحية المبكّرة

    خلافًا للاعتقاد السائد بأن النظام البريدي الروماني كان يسهّل نقل الوثائق بسرعة، فإن الكتابات المسيحية لم تكن تُنقل عادةً عبر هذا النظام، بل كان يتم نقلها عن طريق التسليم اليدوي. فَـ”كُورْسُوسْ بُوبْلِيكُسْ” (Cursus Publicus) – وهو النظام البريدي الذي كانت تديره الدولة الرومانية – لم يكن متاحًا للعامّة وايضا لم يكن موثوقًا للاستخدام الشخصي، لا سيما فيما يخصّ الوثائق المسيحية. فقد كانت المراسلات الحكومية تحظى بالاولوية ضمن هذا النظام، كما ان الاستخدام الشخصي كان غالبا ما يكون مصحوباً بالضرائب الباهظة.

    وبدلاً من الاعتماد على هذا النظام الرسمي، كانت المخطوطات تُنقَل بواسطة أفراد موثوق بهم، مثل الاصدقاء، وزملاء في الخدمة، أو المؤمنين المسافرين. ويوثّق العهد الجديد نفسه هذا النمط؛ فرسائل بولس، على سبيل المثال، نُقلت بواسطة رجال مثل تيخيكس (كولوسي 4: 7)، وتيموثاوس (1 تسالونيكي 3: 2)، وأبفروديتس (فيلبي 2: 25). أما سفر الرؤيا، فقد أُرسل إلى الكنائس السبع في آسيا بواسطة سبعة “ملائكة” (سفر الرؤيا 1: 20)، والمقصود بهم ليس كائنات سماوية، بل رسل حقيقيون من البشر.

    وهكذا، ضمنت وسيلة التسليم اليدوي – رغم ما تنطوي عليه من مخاطر – أن تبقى المخطوطات في مأمن وأن يتم تداولها بثقة داخل الجماعة المسيحية الاولى.

     

    نمو الكنيسة وتداعياته على انتشار المخطوطات

    أثّر نمو الحركة المسيحية في القرنين الأول والثاني بشكل مباشر على توزيع كتابات العهد الجديد. بدأت الكنيسة في اورشليم بـ 120 تلميذًا (أعمال الرسل 1: 15)، وسرعان ما شهدت توسعًا سريعًا بانضمام الآلاف في وقت قصير (أعمال الرسل 2: 41، 4:4، 5: 14). وبحلول منتصف القرن الأول، كانت المسيحية قد انتشرت في جميع انحاء يهوذا والجليل والسامرة وسوريا وأجزاء من العالم اليوناني-الروماني.

    كانت كل كنيسة محلية بحاجة إلى نُسَخ مكتوبة من النصوص الرسولية المتداولة آنذاك. ومع بدء انتشار رسائل بولس الرسول (كولوسي4: 16)، أصبح من المعتاد أن تقوم الكنائس بعمل نُسَخ محلية منها. وبحلول عامي 56-57م، كان هناك على الأقل خمس كنائس منزلية في روما (رومية 16: 5 – 15). وفي أعقاب هذا التوسُّع، وخلال فترة اضطهاد نيرون 64-68م، سجّل المؤرخ الروماني تاسيتوس (Tacitus) إعدام “حشد هائل” من المسيحيين في تلك الآونة.

    أدى النمو المتسارع للمسيحية إلى ازدياد الطلب على الرسائل الرسولية والأناجيل بما يفوق قدرة الإنتاج اليدوي المحدودة، التي كانت تقتصر على نَسْخ نُسخة واحدة في كل مرة.

    برزت عدة مراكز رئيسية ساهمت في نَسخ وتداول هذه النصوص. فالإسكندرية، التي كانت تضم عدداً كبيراً من اليهود، شكّلت مركزًا رئيسيًا مهمّاً، ويستدلّ من حالة أبولوس في (أعمال الرسل 18: 24) الى أنّ المسيحية وصلت الإسكندرية مبكّرًا، ربما عن طريق يهود الشتات الذين آمنوا في عيد الخمسين (أعمال الرسل 2: 10).

    أمّا أفسس، فقد اصبحت مركزًا هامًا لنسخ الأناجيل والرسائل، لا سيّما بفضل خدمة بولس الرسول وتيموثاوس (1 تيموثاوس 1: 3-5؛ كولوسي 4: 16).

    كما لعبت أنطاكية في سوريا دورًا حاسمًا كمركز للبعثات التبشيرية إلى مناطق متعددة، حيث كانت نقطة الانطلاق لخدمة القديسين بولس وبرنابا ومن تبعهم من المبشرين في إعلان الإنجيل ونشر المسيحية بين الأمم (أعمال الرسل 13: 1-3). وفي أنطاكية، دُعي التلاميذ “مسيحيين” لأول مرة (أعمال الرسل 11: 26). وبحلول أوائل القرن الثاني، كان حكّام مثل بليني الاصغر (Pliny the Younger) يتعاملون مع وجود مسيحي واسع النطاق، حتى في مناطق لم يزرها بولس قَط مثل بيثينية (Bithynia).

    ومع اتساع رقعة انتشار المسيحية، اتّسع معها تداول كتابات العهد الجديد. لم تكن هذه النصوص تُوزَّع بكميات كبيرة عبر قنوات تجارية أو مكتبات عمومية، بل حُفِظت ونُسِخت وتناقلها المؤمنون الأُمناء، نسخةً تلو الأخرى، من خلال جهود فردية واعية ومتفانية.

     

    تقدير أعداد المخطوطات المبكرة

    إذا افترضنا أن الكنائس كانت تستبدل أسفارها المجلَّدة كل 20 إلى 25 عامًا بسبب التآكل الناتج عن الاستخدام الليتورجي المتكرر، يصبح من الممكن إجراء استقراء تقريبي لحجم النُسَخ المتداولة. وبالاعتماد على تقدير يشير إلى وجود نحو 100 كنيسة بحلول عام 200م، ومع افتراض دورة استخدام تمتد لـ 25 عامًا، يمكن الوصول إلى التقديرات المتحفظة التالية:

    • بحلول عام 100م: حوالي 200 نسخة كنسية من رسائل بولس والأناجيل.
    • وبحلول عام 200م: حوالي 250 إلى 300 نسخة كنسية اضافية.
    • وبحلول عام 300م: أكثر من 1000 نسخة مُجلّدة من رسائل بولس، وأكثر من 1000 نسخة مُجلّدة من الأناجيل.

    تعكس هذه الأرقام الاستخدام الكنسي العام فقط، أمّا المُلكيّة الفرديّة وعمليّات إعادة النسخ الخاصة، فكان من شأنها أن تُضاعف هذه الاعداد بدرجة كبيرة. فقد كان المسيحيون المتعلّمون، ولا سيّما من الطبقات الثريّة، يطلبون احياناً نُسَخًا شخصية، أو يموّلون انتاج نسخًا لفائدة الآخرين.

    وقد شجع آباء الكنيسة مثل إيريناؤس، وكليمندس الإسكندري، وأوريجينوس على القراءة الفردية، مما يشير إلى أن شريحة كبيرة من المؤمنين قد انخرطت في قراءة الكتابات المسيحية المقدّسة على نحو شخصي خارج نطاق العبادة الجماعية.

    فعلى سبيل المثال، أشار أوريجينوس مراراَ عن قيام المسيحيين بقراءة النصوص المقدّسة في منازلهم Homilies on Genesis 2.8. كما شجع كليمندس العائلات على القراءة المشتركة (Paedagogus2.10.96; 3.12.87) اما بامفيلوس، العالِم المسيحي والقس في قيصرية، فقد أنشأ مكتبة للنصوص الكتابية التي تُنسخ وتوزَع على المحتاجين، وهو أمر أكّد عليه القديس جيروم (Against Rufinus 1.9).

     

    اضطهاد دقلديانوس والمساعي لطمس الكتابات المقدّسة

    أدّى الانتشار الواسع لكتابات العهد الجديد إلى جعل الأدب المسيحي هدفًا مباشرًا خلال اضطهاد دقلديانوس الذي بدأ عام 303م. ولأول مرة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، لم يُستهدف المسيحيون بالاعتقال والإعدام فحسب، بل جرت أيضًا محاولات منهجية لتعقُّب نصوصهم المقدسة وتدميرها عمدًا. ففي 23 فبراير من عام 303م، صدر مرسوم إمبراطوري في نيقوميديا (Nicomedia) يقضي بهدم الكنائس وإحراق الكتابات المسيحية. سعى دقلديانوس من خلال ذلك إلى فرض وحدة الإمبراطورية عبر إحياء الديانة الرومانية التقليدية، وجعل من القضاء على الأساس الكتابي للمسيحية محورًا مركزيًا في هذا المسعى.

    يروي يوسابيوس، الذي عاصر تلك الأحداث، في كتابه تاريخ الكنيسة:

    “لقد أُلقيت الكتب المقدسة الملهمة في وسط الأسواق لتلتهمها النيران” (Ecclesiastical History 8.2.1).

    وأكد المؤرخ و. هـ. سي. فريند (Wilfred Howard Charles Frend) شمولية الحملة الرومانية بقوله:

    “في جميع أنحاء الإمبراطورية، شرعت السلطات في حرق الكنائس المسيحية وجمع نُسخ الكتابات المقدسة”.

    امتثل بعض المسيحيين وسلّموا ما كان لديهم من نُسخ، بينما قاوم آخرون بشجاعة، مفضلين الاستشهاد على التفريط بكلمة الله. ومن هؤلاء، على سبيل المثال، الأسقف فيليكس من ثيبيوكا (Bishop Felix of Thibiuca)، الذي رفض تسليم ما في حوزته من نُسخ مقدسة، مفضلًا الموت على التفريط بها. في المقابل، سلّم آخرون أعمالًا غير قانونية بدلًا من النصوص المقدسة، أو أخفوها في المنازل والكهوف.

    تشير بعض الشهادات إلى أساليب حفظ هذه النصوص. ففي مدينة قَفْطَ (كُوبْتُوسَ، Coptos) بمصر، أخفى أحد المسيحيين كتابات فيلو التي تتضمن اقتباسات من الأناجيل داخل فجوة في الجدار. كما وُزّعت المخطوطات في سيرتا (Cirta)، وهي مدينة قديمة في شمال إفريقيا، بين القراء المحليين تفاديًا للمصادرة.

    تشهد هذه الروايات على عمق التبجيل والتقدير الذي أبداه المؤمنون تجاه كلمة الله، وحرصهم الشديد على صونها وحمايتها من الاندثار.

    على الرغم من شدة الاضطهاد، نجت العديد من المخطوطات. وتشهد مجموعتا برديات بيتي وبودمر (The Beatty and Bodmer papyri collections)، اللتان يعود تاريخهما إلى القرنين الثاني والثالث، على صمود المجتمعات المسيحية وحرصها على حفظ نصوصها المقدسة. وشملت هذه المجموعات مخطوطات كاملة أو شبه كاملة نجت من محاولات الإتلاف والحرق. أما أضخم مجموعة محفوظة من برديات الكتاب المقدس فهي تعود إلى أوكسيرينخوس (Oxyrhynchus) — المدينة المصرية القديمة — والتي تقدم رؤية لا مثيل لها حول انتشار المخطوطات.

     

    أوكسيرينخوس (Oxyrhynchus): دليل على الانتشار الواسع

    أسفرت الاكتشافات الأثرية في مدينة أوكسيرينخوس، وهي مدينة قديمة في مصر، عن العثور على 46 بردية تحتوي على أجزاء من العهد الجديد، يعود معظمها إلى الفترة بين عامي 200 و400 ميلادي، مع وجود بعض البرديات التي يرجع تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي (مثل: P52، P90، P77، P103، P104).

    “تعكس هذه البرديات مزيجًا من الاستخدام العام والخاص؛ فبعضها كُتب بوضوح ليتناسب مع القراءات الكنسيّة، من حيث استخدام الحروف الكبيرة وأسلوب الكتابة الرسمي، في حين يُظهر بعضها الآخر طابعًا شخصيًا وغير رسمي، ممّا يشير إلى استخدامات فرديّة.

     

    • أمثلة البرديات المرجح استخدامها في سياقات العبادة الليتورجية:

    P1, P5, P15+P16, P23, P30, P39, P48, P77+P103, P90, P95, P104, P108, and P109.

     

    • أما البرديات التي تعكس استخداما فردياً (شخصياً) فتشمل:

    P9, P17, P18, P24, P106, and P107

    يشير التفاوت في جودة النَّسخ وتنوُّع الصِّيَغ والأساليب إلى الانتشار الواسع لنصوص العهد الجديد، بما يتجاوز نطاق النُسّاخ المحترفين من رجال الدين أو الرهبان. فقد شاركت الكنائس والمؤمنون الأفراد على حد سواء في عملية نسخ النصوص وقراءتها، والمحافظة عليها، مما يعكس حرصًا جماعيًا دؤوبا في نقل الكلمة المقدسة وصيانتها عبر الأجيال.

     

    النهضة والتوسُّع بعد اضطهاد ديقلديانوس

    بعد مرسوم ميلانو الذي أصدره قسطنطين عام 313م، لم تعد الكتابات المسيحية محظورة بل أصبحت محميّة من قِبَل الدولة. وقد كلّف الامبراطور قسطنطين المؤرخ يوسابيوس بإعداد خمسين مخطوطة كاملة من الكتاب المقدس لكنائس القسطنطينية (Life of Constantine 4.36). وكانت هذه لحظة غير مسبوقة في تاريخ الكنيسة، إذ أصبح إنتاج الكتابات المقدّسة مدعومًا من الإمبراطورية.

    بحلول عام 400م ، بلغ عدد الأبرشيات حوالي 400 ابرشية. ووفقًا لتقدير جيه. دوبلاسي (J. Duplacy) فقد تم إنتاج ما بين 1500 إلى 2000 مخطوطة للعهد الجديد باللغة اليونانية في القرن الرابع، أي بمعدل يتراوح بين 4-5 مخطوطة لكل أبرشية. وهذا يُمثّل قفزة نوعية في وفرة المخطوطات وتوحيدها.

    في أوائل القرن الخامس، قام ثيودوريتوس القورشي (Theodoret of Cyrrhus) بإزالة نحو 200 نسخة من “الدياطسارون” (Diatessaron) لتاتيان من منطقته، واستبدلها بمخطوطات مستقلّة للأناجيل الأربعة—وهو ما يشير الى أن مخطوطات الأناجيل الأربعة كانت متوفرة على نطاق واسع، حتى في المناطق النائية نسبيًا.

     

    الخلاصة: الحفاظ على الكتابات المسيحية من خلال انتشارها

    بحلول نهاية القرن الرابع الميلادي، كانت الكتابات المسيحية قد حققت انتشارًا واسعًا وغير مسبوق في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية.

    فعلى الرغم من الصعوبات التي واجهتها في بداياتها—من غموض واضطهاد ونقص في الموارد والقيود المادية القاسية—فقد جرى نسخ العهد الجديد وتمَّ تداوله وتقديره من قِبَل الكنيسة المسيحية التي كانت تشهد توسعًا مستمرًا وسريعًا.

    لقد ساهم هذا الانتشار، إلى جانب جهود وتفاني المؤمنين الأوفياء الذين تناقلوا هذه النصوص من يدٍ إلى يدٍ، ومن قلبٍ إلى قلبٍ، في ضمان عدم ضياع كلمات السيد المسيح ورسله أو اندثارها.

    فمن المدن الصغيرة النائية في آسيا الصغرى، إلى الأوساط النخبوية والطبقات الراقية في القسطنطينية، ومن القرّاء الذين كانوا يطالعون النصوص بطريقة غير معلنة في أوكسيرينخوس إلى القُرّاء في كنائس أنطاكية الذين كانوا يتلون النصوص المقدّسة مجاهرةَ أمام الجماعات المسيحية —كان الحفاظ على كتابات العهد الجديد ثمرة تفانٍ، وإيمان عميق، وقناعة راسخة من المسيحيين الأوائل الذين خدموا الكلمة في ظروف استثنائية.

     

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

    The Distribution of Early Manuscripts: New Testament Transmission, Church Growth, and Textual Preservation

    المخطوطات المبكرة للعهد الجديد: آليات النسخ والنقل والتوزيع، وكيفية حفظ النصوص في سياق نمو الكنيسة الأولى – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

  • هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ – تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك – آرثر دانيال

    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ – تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك – آرثر دانيال

    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟
    تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك[1]

     

    ترجمة وتعليق: آرثر دانيال

    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك
    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك

     

    تحميل البحث بصيغة PDF

     

    الفصل الأول: النقاش الحالي حول النص الأصلي للعهد الجديد:[2]

    يبدأ الفصل بالإشارة إلى التغير الجوهري الذي طرأ على تعريف النص الأصلي للعهد الجديد. فبعدما كان البحث التقليدي يهدف إلى الوصول إلى نص واحد “نص المؤلف” هو نص الكُتّاب الأصلي، تحول الآن إلى البحث في عدة أنواع من النصوص عبر مراحل تاريخية مختلفة مثل:

    • النص السابق لنص المؤلف (pre-authorial)
    • نص المؤلف (authorial)
    • النص القانوني (canonical)
    • النص التفسيري أو النص ما بعد القانوني (postcanonical/interpretive).

    وقد أطلق إلدون إيب (Epp) هذا التصنيف في مقاله حول “تعدد المعاني لمصطلح النص الأصلي”،[3] معتبرًا أن أي دراسة لتكوين أو تعديل نصي على أي مستوى تدخل ضمن نطاق النقد النصي.[4]

    في هذا السياق ظهر منهج Coherence-Based Genealogical    Methodالذي أوجد تصنيفات جديدة:

    • نص المؤلف (Authorial text): النص الذي كتبه المؤلف نفسه.
    • النص الأُولَيِّ (Ausgangstext): نص افتراضي أعيد بناؤه كما كان قبل بداية نسخه.
    • نص النموذج الأقدم (Archetypal text): أول مخطوطة بدأ منها التقليد النصي للمخطوطات المتبقية.

    يُعتقد أن النص الأُولَيِّ لا يوجد في أي مخطوطة فعلية، بل يُعاد تكوينه من شواهد متفرقة. ووفقًا لـ Wachtel وMink، فإن النص الابتدائي يهدف إلى استعادة النص الذي سبق نص النموذج الأول ويفترض أن يكون أقرب لنص المؤلف، لكنه يبقى افتراضيًا حتى يُثبت عكس ذلك.

     

    نتائج هذا التحول:

    • النقد النصي الحديث لم يعد يهدف إلى استعادة النص الأصلي بالمفهوم التقليدي، بل يهتم بدراسة كيف ظهرت القراءات المختلفة.
    • بعض النقاد يلومون المطبعة أو الإصلاح البروتستانتي لنشر فكرة أن هناك نصًا أصليًا بلا أخطاء (نص معصوم في مخطوطاته الأصلية)
    • يزعمون أن فكرة النص الأصلي الخالي من الخطأ لا أساس تاريخي لها قبل العصور الحديثة.

    أثر ذلك على الإيمان المسيحي: يحذر الكاتب من أن هذه التحولات لها تبعات خطيرة:

    • غياب نص معياري مستقر قد يؤدي إلى إعادة تكوين النص حسب الهوى.
    • يؤدي ذلك إلى زعزعة اللاهوت المسيحي وإضعاف الممارسات الدينية المبنية على نص مقدس مستقر.

     

    الرد على اعتراضات بارت إيرمان:

    1. الادعاء الأول “نحن لا نملك الأصول”
    • صحيح أننا لا نملك المخطوطات الأصلية (autographs)، لكنها لم تكن الهدف بحد ذاته، بل الكلمات التي احتوتها.
    • فقدان الوثائق لا يعني ضياع النص، بوجود نسخ متعددة يمكننا إعادة بناء النص الأصلي بدقة.[5]

     

    1. الادعاء الثاني “لدينا نُسخ مليئة بالأخطاء”
    • نعم، هناك أخطاء، لكنها في الغالب غير مقصودة (مثل أخطاء البصر والسمع).
    • النسبة الكبرى من النص (حوالي 94%) مستقر بشكل كبير، والخلافات في 6% فقط وغالبًا غير مؤثرة على المعنى أو العقيدة.

     

    1. الادعاء الثالث “أغلب النسخ تعود لقرون بعد الأصل”
    • صحيح، هناك فجوة زمنية، لكن النصوص أظهرت استقرار نصي واضح، في الواقع، حسب كلام مايكل هولمز، نص العهد الجديد مستقر بشكل عام (على المستوى الكبير)[6].
    • شواهد مثل المخطوطات البردية أثبتت دقة النقل بنسبة تفوق 90% بحسب الدراسات.

     

    1. الادعاء الرابع “هناك آلاف الاختلافات بين النسخ”
    • في الحقيقة معظم هذه الاختلافات شكلية (إملائية، نحوية)، ولا تؤثر على المعنى، والاختلافات التي تؤثر على المعني أو الترجمة قليلة جدا.

     

    عن عصمة الكتاب المقدس:

    • عصمة النص لا تعتمد على وجود النسخ الأصلية بل على إلهام النص ذاته.
    • العصمة هي امتداد لمفهوم الوحي الإلهي (كل الكتاب موحى به من الله – 2 تيموثاوس 3:16).
    • الله أوحى بالكلمات، واستخدم شخصيات الكتّاب دون إلغاء بشريتهم لضمان خلو النص من الخطأ.

     

     

    الدليل على أن الكُتاب كانوا يعلمون أنهم يكتبون كلام الله المقدس:

    • نصوص مثل 1 تسالونيكي 2:13، 1 كورنثوس 14:37، و2 بطرس 3:15-16 تؤكد إدراكهم أنهم يكتبون كلام الله.
    • بولس يساوي في 1 تيموثاوس 5:18 بين نص من التوراة (تثنية) وكلام المسيح (لوقا)، معتبرًا كليهما “كتابا مقدسا”.

     

     

    دور الكنيسة المبكرة:

    • الكنيسة نظرت مبكرًا للأسفار كنصوص مقدسة وتعاملت معها باحترام شديد.
    • واجهت الكنيسة محاولات التحريف من الهراطقة أمثال مرقيون وفالنتينوس.
    • نشأت محاولات للحفاظ على النص من خلال القراءة العلنية والاقتباس المكثف في كتابات الآباء.

     

    في الختام:

    • التقليد النصي للعهد الجديد مستقر بدرجة كبيرة ولا توجد عقيدة مهددة بسبب الاختلافات.
    • النقد النصي خادم للعصمة لأنه يساعد في استعادة كلمات الله بدقة.
    • الهدف هو الاقتراب قدر المستطاع من النص الذي كتبه الرسل بإلهام الروح القدس.

     

    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك
    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك

    الفصل الثاني: الانتقائية العقلانية والنص الأصلي للعهد الجديد:[7]

    يبدأ الكاتب بيتر جاري بتأكيد أن نص العهد الجديد هو من أكثر نصوص العصور القديمة موثوقية من حيث التوثيق، إذ وصل إلينا عبر: (1) آلاف المخطوطات اليونانية، و(2) مئات الترجمات القديمة (كاللاتينية، السريانية، القبطية)، و(3) اقتباسات آباء الكنيسة المبكرين.

    لكنه يوضح أن هذه الشواهد رغم كثرتها لا تتفق دائمًا، مما يفرض الحاجة إلى منهج علمي نقدي لحسم الاختلافات واستعادة النص الأصلي.

     

     

    ما هي الانتقائية العقلانية؟

    • الانتقائية العقلانية (Reasoned Eclecticism) هي المنهج المهيمن في نقد نصوص العهد الجديد منذ عدة قرون.
    • تُدرَّس في الكليات والمعاهد اللاهوتية، وتستخدمها اللجان المشرفة على ترجمات الكتاب المقدس وتقوم على:
    • الأدلة الداخلية: تحليل أسلوب المؤلف، تراكيب لغوية، المفردات، والاحتمالات العقلية لوقوع الناسخ في خطأ معين.
    • الأدلة الخارجية: دراسة شواهد المخطوطات، من حيث تاريخها، جودتها، أصلها الجغرافي، وعلاقاتها المتبادلة.

    والهدف الأساسي هو استنتاج القراءة الأصلية التي تفسّر كيف نشأت القراءات الأخرى.

     

     

     المناهج المنافسة:

    • أولوية النص البيزنطي (Byzantine Priority):
    • يعلي من شأن النص البيزنطي لأنه الأكثر عددًا في الشواهد.
    • يفترض أن الأغلبية تعكس نصًا أقدم وأكثر دقة بسبب أمانة النسّاخ.
    • يرفض فكرة أن الأغلبية يمكن أن تكون مخطئة في مقابل الأقلية.

    مثال: في 1 يوحنا 23:2 النص البيزنطي يحذف الشطر الثاني (من يعترف بالابن، يكون له الآب أيضًا) رغم وضوح كونه محذوفًا نتيجة السهو، وقد اختار انصار النص البيزنطي القراءة الأقصر لكون أغلب المخطوطات تدعمها فقط وليس لأي سبب آخر.

     

    الانتقائية الشاملة (Thoroughgoing Eclecticism):

    • لا تفضل أي مخطوطة أو عائلة نصية وتعتبرهم متساوون في القيمة.
    • تركّز على الأدلة الداخلية وحدها: أسلوب الكاتب، احتمالات النساخ، تركيب الجملة. ولا تعتمد على الأدلة الخارجية تقريبا.
    • تعتبر أن معرفة علاقات المخطوطات غير يقينية فلا يُعوّل عليها.

    خطرها: الاعتماد المفرط على الحكم الذاتي للنقاد حول أسلوب المؤلف، كما أن النتائج تثبت خطئها، على سبيل المثال: وفقًا للدراسات فإن المخطوطة الفاتيكانية قرائتها صحيحة بنسبة 74%، بينما مخطوطة كـ 044 صحيحة بنسبة 54% وهذه الإحصائية وفقًا للمعاير الداخلية فقط، مما يدحض اعداء أنصار منهج الانتقائية الشمولية أنه لا توجد مخطوطة أفضل من أخرى.

     

     

     مزايا الانتقائية العقلانية:

    • تعتمد على معلومات راسخة بدلاً من الافتراضات أو الجهل بعلاقات المخطوطات. فهي تعتمد على ما نعرفه وليس على ما نجهله،
    • على عكس منهج أولية النص البيزنطي فإنه قائم على عدم وجود شهود مبكرين بيزنطيين (هم يقولون أن المخطوطات المبكرة كانت بيزنطية لكن اندثرت والمخطوطات السكندرية القديمة حاليا هي مجرد تلاعب ولا تمثل النص الأصلي أو النص الأقدم).
    • وأيضًا على عكس الانتقائية الشمولية التي هي قائمة على عدم معرفتنا بالعلاقات بين المخطوطات، فكلا المنهجين قائم على ما ما نجهله (من وجه نظرهم)[8] أما الانتقائية العقلانية فهي قائمة على الأدلة المتاحة.
    • تعترف بأن بعض المخطوطات أفضل من غيرها لكنها لا تقدس أي شاهد.
    • توازن بين الأدلة الخارجية والداخلية بدلاً من إهمال أحدها.
    • لا تفترض أبدًا أن الأغلبية دائمًا صحيحة (كما في النص البيزنطي) ، ولا ترفض الشواهد القوية (كما في الانتقائية الشاملة).

     

     

    الاعتراض الشائع: “نص فرانكشتاين (Frankenstein)”أي نص هجين مركب غير موجود في مخطوطة بعينها: [9]

    ينتقد البعض (مثل روبنسون، وهو من أنصار النص البيزنطي) أن الانتقائية العقلانية تنتج نصًا مركبًا لا يوجد في أي مخطوطة واحدة، يدّعي هؤلاء أن ذلك يهدم سلطة النص لأنه تركيب حديث.

    الرد:

    • هذا الاتهام متناقض مع اتهام آخر (من انصار النص البيزنطي) يقول إن الانتقائية تقدس وتعتمد على مخطوطات بعينها مثل B و א (الفاتيكان والسينائي)، فكيف يكون المنهج يقدس مخطوطة بيعنها وفي نفس الوقت هو نص هجين؟
    • الهدف هو استعادة ما كتبه المؤلفون، لا إعادة إنتاج مخطوطة تاريخية بعينها فكون النص المُعاد بناءه نص مركب هذا يثبت أن المنهج مترابط ومتناسق داخليًا، فهو ينطلق من مبدأ أن كل المخطوطات أصابها فساد اثناء علمية النقل ويجب على الناقد ألا يفضل مخطوطة بعينها أو مجموعة مخطوطات أو عائلة نصية بل يتعامل في البداية مع الكل بشكل محايد ومع النتائج نحدد أي المخطوطات أو العائلات النصية أفضل من غيرها لمساعدتنا في تقييم بعض الخلافات موضع النزاع الشديد، والنتائج النهائية تثبت أن هناك بعض المخطوطات أفضل (مثل السينائية والفاتيكانية وأغلب البرديات) وهناك عائلات نصية أفضل من غيرها (مثل النص السكندري).

     

     

    الخلاصة: الانتقائية العقلانية هي:

    • ليست عبودية للمخطوطات القديمة، وليست وثوقية عمياء بالأغلبية، ولا تجاهلاً للشواهد الخارجية.
    • تعتمد على مقاربة متوازنة تحليلية، تقارن القراءات وتنتقي ما يُفسر تطور بقية القراءات.
    • لا تدعي الوصول إلى اليقين المطلق، لكنها تعتبر أفضل أداة حالية لاستعادة نص المؤلف.

     

    في النهاية، يدعو الكاتب للابتعاد عن الإفراط في الثقة أو الإفراط في الشك، ويرى أن الانتقائية العقلانية أفضل السبل العلمية لاستعادة كلمات الوحي الأصلية بدقة.

     

    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك
    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك

     

    الفصل الثالث: منظور أولوية البيزنطي للنص في تحديد أصالة النص الأصلي (الأوتوغراف):[10]

     يركّز روبنسون في البداية على أن النقد النصي للكتاب المقدس ليس نشاطًا علميًا مجردًا، بل هو ممارسة روحية تتعامل مع “كلمة الله”، ومن ثم فإن ضبط النص بدقة أمر بالغ الأهمية للاهوت المسيحي.

     

    يحدّد روبنسون ثلاث مدارس رئيسية في النقد النصي: الانتقائية العقلانية (Reasoned Eclecticism)، والانتقائية الشاملة (Thoroughgoing Eclecticism)، وأولوية النص البيزنطي (Byzantine Priority).

    ويقول إن نسبة الاتفاق بين النص البيزنطي والنص النقدي هي 94%، مما يعزز الثقة في أن النص الأصلي ما يزال قائمًا بدرجة عالية أيا كان المنهج الذي تتبعه.

     

     

     ما هي أولوية النص البيزنطي؟

    يرفض روبينسون تعريف أولوية النص البيزنطي بأنه مجرد تفضيل للقراءة الأغلبية في المخطوطات البيزنطية، بدلًا من ذلك، يطرح أن النص البيزنطي هو النص الأصلي الأسبق زمنًا، وأن بقية النصوص (النص السكندري والنص الغربي) تمثل انحرافات عنه، سواء بشكل واعٍ (مراجعة) أو عن طريق عملية تطور غير موجهة.

    ويقول إن المدارس النقدية الأخرى تفترض أن النص البيزنطي هو نتاج متأخر، بينما يرى هو أن النص البيزنطي نشأ قبل القرن الرابع، ويوجد العديد من القراءات البيزنطية (سواء كانت بيزنطية خالصة أو مشتركة مع عائلة أخرى) الموجودة في البرديات القديمة.

     

     

    ينتقد روبنسون فكرة أن النص البيزنطي هو نتاج عملية تطور بطيئة وغير مركزية، مشيرًا إلى أن:

    • لا يوجد تفسير مقنع لكيفية تحقيق وحدة نصية كبيرة كهذه عبر قرون ومناطق متباعدة بدون إدارة مركزية، فكيف يمكن أن يكون النص البيزنطي نصا مستقرا نوعا ما وفي نفس الوقت هو نتاج تنقيح متباعد؟
    • حتى المشاريع الرسمية مثل نسخة جيروم (الفولجاتا) لم تنجح في تحقيق هذا المستوى من التوحيد، رغم أن الفولجاتا كانت تحظى بدعم كنسي إلا أن عندم الاتساق يظهر في مخطوطاتها على عكس النص البيزنطي.
    • لذلك فإن فكرة أن النص البيزنطي هو “النص الموحد عبر الزمن دون تدخل رسمي” تتحدى المنطق التاريخي.

     

    يوضح روبنسون أن أولوية النص البيزنطي لا تعني دائمًا اختيار القراءة الأغلبية، بل تعني أن هذا الشكل النصي كان موجودًا منذ البداية (النص البيزنطي). النصوص الأخرى بما في ذلك الإسكندرية تمثل انحرافات لاحقة أو مراجعات محلية. هذا التفسير يضع النص البيزنطي كـ “المعيار المرجعي” التاريخي وليس كمجرد نتاج أغلبية عددية.

    يناقش أيضا التنوع داخل المخطوطات البيزنطية نفسها، مشيرًا إلى أن هذا لا ينفي وجود إجماع نصي واسع، يوضح أن النص البيزنطي يتكوّن من تيارات متعددة مثل Kx وKr وKc لكنها تحافظ على بنية أساسية مشتركة. فقط عندما يكون هناك انقسام حاد داخل هذه التيارات يُلجأ إلى معايير أخرى لاتخاذ القرار (وها يدل أن النص البيزنطي ليس نصا مسيطرا عليه من الكنيسة، ورغم ذلك هو مستقر)

     

     

     مشاكل الانتقائية:

    • لا توجد قاعدة موضوعية لاختيار القراءات: يُنتقد المنهج الانتقائي لأنه يعتمد على تقديرات الباحث الذاتية في اختيار القراءة الأصلية. فبدلًا من الالتزام بسلسلة مخطوطات معينة أو تقليد نصي واضح، يتم الجمع بين قراءات من مصادر متعددة وفق ما يراه المحرر “أفضل”، ما يفتح الباب أمام التحيّز والتقدير الشخصي.
    • إنتاج نص “Frankenstein” غير موجود في أي مخطوطة: أحد أخطر الانتقادات التي يوجهها روبنسون هو أن المنهج الانتقائي يؤلف نصوصًا هجينة (Hybrid Texts) لا توجد كاملة في أي مخطوطة تاريخية واحدة، بل يتم انتقاؤها من مصادر مختلفة. هذا يؤدي إلى ما يسميه البعض بـ”نص فرانكنشتاين”، أي نص مركّب لم يوجد يومًا ما في التداول المسيحي التاريخي. “النتيجة هي نص مركّب ليس له وجود فعلي عبر التاريخ الكنسي ولا في أي مخطوطة موجودة.”
    • الاعتماد المفرط على النصوص المبكرة النادرة: ينتقد أيضًا الاعتماد الزائد على عدد محدود من المخطوطات المبكرة (مثل السينائية والفاتيكانية والبرديات) على حساب آلاف المخطوطات البيزنطية المتأخرة، مما يعطي وزنًا غير متوازن لشهود نصيين أقل عددًا وأقل تمثيلًا للاستمرار التاريخي.

     

     

    ما الذي يقدمه أولية النص البيزنطي في المقابل؟

    • استقرار النص البيزنطي على مدى قرون: منذ القرن الرابع الميلادي، حافظت المخطوطات البيزنطية على نص ثابت وموثوق عبر الإمبراطورية البيزنطية. أن نسبة التوافق الداخلي بين آلاف المخطوطات البيزنطية مذهلة (حوالي 94–95%).
    • تمثيل حقيقي لنص الكنيسة: النص البيزنطي هو النص الذي استخدمته الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الشرقية لأكثر من ألف عام. هذا يجعله النص الذي عاش في العبادة، والتعليم، والوعظ، وليس مجرد افتراض نقدي.
    • وجود هيكل نصي متماسك: رغم وجود فروق طفيفة داخل التيارات البيزنطية Kx، Kr، Kc، فإنها تشترك في بنية أساسية واضحة ومتماسكة. يشير روبنسون إلى أن هذا يثبت أن النص لم يتطور عبر العشوائية، بل عبر تقليد محفوظ ومنضبط.
    • يتسق مع النقل الطبيعي :(Normal Transmission) بخلاف المنهج الانتقائي الذي يفترض أن النص الأصلي فُقد ويجب “إعادة إنشائه” وهو عبارة عن قراءات متناثرة هنا وهناك، يرى روبنسون أن النص البيزنطي ينقل النص بشكل طبيعي ومتماسك منذ الجيل الرسولي. المخطوطات القليلة والمنعزلة (مثل المخطوطات السكندرية) هي نتاج “انحراف محلي”، وليست النص السائد الأصلي.[11]

     

     

     في النهاية يختم روبينسن بصلاة اقتبسها من ويستكوت:

    “أيها الرب المبارك، الذي بعنايتك الكاملة كُتبت كل الأسفار المقدسة وحُفظت لأجل تعليمنا، امنحنا نعمة أن ندرسها كل يوم بصبر ومحبة. قوي نفوسنا بملء تعليمها الإلهي. أبعد عنّا كل كبرياء وعدم توقير. قدنا في أعماق حكمتك السماوية، وبمراحمك العظيمة، قُدنا بكلمتك إلى الحياة الأبدية، بواسطة يسوع المسيح مخلّصنا. آمين.”[12]

     

    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك
    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك

    الفصل الرابع: حل ستورز لمشكلة النص الأصلي كما يتضح في أفسس 1:1، متى 22:5، ويوحنا 13:3:[13]

     

     منهج ستورز:

    يعرض ديفيد آلان بلاك دفاعًا عن منهج ستورز (Harry Sturz) في نقد النصوص، الذي يعتبر محاولة توفيقية بين المدارس المختلفة، خصوصًا بين: منهج الأغلبية (Byzantine Priority) والانتقائية العقلانية (Reasoned Eclecticism)

    ويرى بلاك أن منهج ستورز هو الحل الأنسب لمشكلة تحديد النص الأصلي للعهد الجديد.

     

     

    ما هو منهج ستورتز؟

    • يسعى منهج ستورز إلى احترام جميع التيارات النصية المعروفة (الإسكندرية، الغربية، البيزنطية) بحيث يعتبرهم كلهم تيارات نصية نشأت في القرن الثاني.
    • لا يعطي أولوية مطلقة لأي تيار نصي بمفرده.
    • يرفض الإقصاء المسبق للنص البيزنطي من الدراسة العلمية.
    • يرى أن النص البيزنطي يحتوي على قراءات أصيلة مبكرة لا يجب تجاهلها.

     

    مبادئ المنهج:

    • كل شاهد نصي (بيزنطي أو غيره) يجب تقييمه بناءً على أدلته الخاصة وليس بناءً على افتراضات نظرية حول قيمته (غالبا ما يتم اعتبار المخطوط ذات قيمة أقل بمجرد معرفة أنه بيزنطي، والعكس، غالبا ما يعتبر الشاهد ذات قيمة عالية بمجرد معرفة أنه سكندري).
    • التيارات النصية تمثل تقاليد مختلفة لكنها جميعها تتصل بالنص الأصلي في نقاط معينة.
    • المطلوب ليس اختيار تيار واحد، بل إعادة بناء الصورة الكاملة من جميع التيارات مجتمعة.

     

    الفرق بين منهج ستورز والمناهج الأخرى

    • لا يفرض تفضيلًا مسبقًا (كما في البيزنطي أو الانتقائية العقلانية). لا تقل “الإسكندري أقدم إذن هو الأفضل”، ولا تقل “البيزنطي أغلب إذن هو الأفضل”، بل اعتبر أن كل تقليد نصي يمثل فرعًا له جذور تعود إلى النص الأصلي بدرجة ما.
    • لا يُقصي أي تقليد نصي، ويطالب بإعادة تقييم قيمة النص البيزنطي خصوصًا.
    • يهدف إلى إعادة بناء نص متوازن يعكس التنوع التاريخي للنقل.

     

     

     أمثلة تطبيقية:

    • أفسس 1:1:

    (بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، إِلَى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ)

    تضيف أغلب المخطوطات عبارة “في أفسس” بينمها تحذف أقدم المخطوطات نفس العبارة (مثل السينائية، الفاتيكانية والبردية 46)

    • الأدلة الخارجية: توجد العبارة في أغلب المخطوطات مما يعني أنها كانت منتشرة، بالإضافة لوجودها في النص الغربي مما يعني أن الحذف هو من أفضل مخطوطات النص اسكندري (وليس كلها)، مما يعني أن القراءة الأطول هي الموزعة جغرافيا.
    • الأدلة الداخلية: ليست حاسمة من وجهة نظر الكاتب، لكنه يجد مبررا لماذا يمكن لناسخ أن يحذف هذه العبارة (باعتبار أنها كانت اصلية وتم حذفها في وقت لاحق): وهي أن القُراء حاولوا أن يجعلوا لرسائل بولس طابع عام، واجهت الكنيسة الأولى مشكلة مع خصوصية رسائل بولس (أي انها أُرسلت حصرا لأفسس)، ويوجد عدة أمثلة مثلا في رومية 1:7، ورومية 1:15 حيث حذفت بعض المخطوطات عبارة “في رومية”.

    لذا القراءة الأفضل هي القراءة الأطول “في أفسس” مع فتح باب للنقاش.

     

    • متى 22:5:

    (وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ)

    تحذف المخطوطات القدمية كلمة “باطلًا” (مثل البردية 64 والسينائية والفاتيكانية) بينما تضيف أغلب المخطوطات هذه العبارة.

    يقول ميتزجر: “رغم أن القراءة التي تحتوي على εἰκῇ (باطلا/بلا سبب) منتشرة منذ القرن الثاني، إلا أن من الأرجح أنها أُضيفت من قبل النُساخ لتخفيف صرامة كلام يسوع، لا أنها حُذفت لأنها غير ضرورية.”[14]

    وهذا يعارض رأي الكاتب كما سأوضح.

    • الأدلة الخارجية: كما في المثال السابق، القراءة الأطول موزعة جغرافيا بشكل كبير فيهي مدعومة بأغلب المخطوطات والعائلات النصية: النص البيزنطي والغربي والقيصري وبعض مخطوطات النص السكندري، بينما القراءة الأقصر (حذف “باطلا”) هي حصريا للتقليد السكندري.
    • الأدلة الداخلية: مرة أخرى مثل المثال السابق يراها الكاتب غير واضحة، لكنه يجد مبرر لماذا يمكن للناسخ أن يحذف هذه الكملة: يمكن تفسير مسألة وجود كلمة “بلا سبب” (εἰκῇ) في متى 5:22 بطريقتين متقابلتين. فمن جهة، يُعرف يسوع بأسلوب تعليمي قاطع ومباشر، وكثيرًا ما يستخدم صياغات مطلقة في تعاليمه. ومع ذلك، هذا لا يعني أنه لا يستخدم شروطًا توضيحية أو قيودًا ضمنية. في نفس الإصحاح (متى 5:11)، نلاحظ أن التطويب لا يُمنح لأي شتيمة، بل تلك التي تُقال “كذبًا” ضد التلاميذ. أي أن يسوع هنا يميز بين أنواع مختلفة من الاضطهاد، ويؤكد أن ليست كل الإهانات أو المعاناة تُعتبر بركة، بل فقط تلك المبنية على افتراء.

    هذا التوجه ليس غريبًا عن باقي أسفار العهد الجديد، فبطرس في رسالته الأولى (3:17–4:15) يُقر بأن المسيحيين قد يعانون أحيانًا بسبب أخطاءهم، وليس فقط بسبب تمسكهم بالحق. انطلاقًا من ذلك، من غير المستبعد أن يكون يسوع في متى 5:22 قد استخدم بالفعل تقييدًا لعبارته بوجود “سبب” للغضب، كما هو الحال مع استخدامه لعبارة “إلا لعلة الزنا” في متى 5:32 كاستثناء لعدم الطلاق.

    بالتالي، هناك احتمال أن أحد النُساخ قد حذف كلمة εἰκῇ من النص، ظنًا منه أن وجودها قد يُفسر بشكل متساهل مع الغضب، فيجعل النص أقل صرامة، مما يتناقض مع أسلوب يسوع المعتاد. وفي هذه الحالة، يكون النص الأصلي قد احتوى على كلمة “بلا سبب”، وأن الحذف جاء في محاولة “لتشديد” العبارة بدلًا من “تليينها”، وهو عكس ما يفترضه بعض النقاد. هذا يُبرز احتمالًا معقولًا أن القراءة الأقصر ليست الأصلية، بل هي نتيجة تدخل تحريري من ناسخ أراد أن يُظهر تعليم يسوع بأقصى درجات الصرامة، حتى على حساب الدقة النصية.

    لذا فإن القراءة الأطول (باطلا) هي غالبا القراءة الأصلية.

     

    • يوحنا 13:3:

    (وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ)

    تحذف المخطوطات المبكرة عبارة “الذي هو في السماء” (مثل السينائية والفاتيكانية البردية 66 و75) بينما تضيف أغلب نفس العبارة.

    • الأدلة الخارجية: القراءة الأطول موزعة جغرافيا فهي مدعومة من النص الغربي والبيزنطي والقيصري وبعض المخطوطات والآباء الإسكندريين، بينما لا تحظى القراءة الأقصر إلا بدعم من المخطوطات السكندرية الرئيسية.
    • الأدلة الداخلية: الحجة الداخلية لقراءة “الذي هو في السماء” في يوحنا 3:13 تتضمن عدة عناصر مترابطة. أولًا، القراءة الأطول تُعد أصعب من حيث المعنى، لأنها تُظهر يسوع كمن هو في السماء وعلى الأرض في آنٍ واحد، وهذا يفسر لماذا قد يشعر بعض النسّاخ بالحاجة لحذفها أو تعديلها لتجنب الالتباس. ثانيًا، يوحنا يُعرف بأسلوبه الذي يستخدم تراكيب مشابهة، مثل “الذي هو في…”، مما يجعل العبارة منسجمة لغويًا مع نمط الإنجيل. ثالثًا، لاهوت يوحنا يدعم هذا النوع من التصريحات، فالمسيح عنده هو الكلمة الأزلي الذي تجسّد، دون أن يفقد علاقته بالله أو وجوده الإلهي، ما يجعل العبارة “الذي هو في السماء” تعبيرًا طبيعيًا عن هذه العقيدة. وأخيرًا، حذف العبارة يمكن تفسيره بسهولة على أنه نتيجة لمحاولة تلطيف أو توضيح قول صعب، في حين يصعب تفسير إضافتها لو لم تكن أصلية. لهذه الأسباب، تُعتبر القراءة الأطول أكثر انسجامًا مع أسلوب يوحنا وتعليمه.

    لذا فالقراءة الأطول “الذي هو في السماء” هي القراءة الأصلية.

     

    خلاصة المنهج:

    • لا يمكن اعتبار أي مخطوطة يونانية فردية مطابقة للنص الأصلي.
    • لا يمكن اعتبار أي مجموعة مخطوطات أو نوع نصي معين ممثلًا للنص الأصلي (سواء كان سكندري أو بيزنطي).
    • لا يمكن اعتبار أي طبعة مطبوعة من العهد الجديد اليوناني مطابقة للنص الأصلي.
    • لا يمكن اعتبار أي ترجمة إنجليزية وحدها ممثلة للنص الأصلي.
    • عند تساوي العوامل الأخرى، فإن القراءات المدعومة من معظم الأنواع النصية تكون على الأرجح أقرب إلى الأصل.
    • الأدلة الداخلية لها دور مهم، لكن أقل من الأدلة الخارجية.
    • المنهج “ستورزي” (Sturzian) مثل “الانتقائية الصارمة” يرفض تفضيل أي نوع نصي دون مبرر، لكنه يميز نفسه بجعل الدليل الخارجي أساسًا حاسمًا، بينما يُعتبر الدليل الداخلي مجرد تأكيد داعم.
    • يشبه المنهج “ستورزي” الانتقائية المعقولة (reasoned eclecticism) في أنه يستخدم كلا الدليلين الداخلي والخارجي، لكنه يفضل الدليل الخارجي.
    • يقدّر هذا المنهج النص البيزنطي، مثل منهج أولوية النص البيزنطي، لكنه لا يمنحه الأولوية المطلقة كما يفعل أصحاب هذا الرأي.
    • المنهج المقترح يجمع بين الحذر في التعامل مع الأدلة وتقدير لتعددها، ويرفض الاعتماد على مصدر واحد، سواء كان مخطوطة أو طبعة أو ترجمة.

     

     

    ملحق الخلافات النصية المذكورة في الفصل الأخير

     

    أفسس 1:1

    א2 A B2 D F G K L P (Ψ* illegible) Ψc 075 0150 0278 33 81 88 104 181 256 263 326 330 365 424* 436 451 459 614 629 630 1175 1241 1319 1573 1852 1877 1881 1912 1962 1984 1985 2127 2200 2464 2492 2495 Byz Lect

     itar itb itc itd itdem itdiv ite itf itg ito itr itx itz vg 

    syrp syrh

    copsa copbo

     goth arm eth geo slav 

    Ambrosiaster Victorinus-Rome PsIgnatius Chrysostom Pelagius Theodorelat Cyril Ps-Jerome Theodoret Cassiodorus John-Damascus ς

    τοῖς ἁγίοις τοῖς οὖσιν ἐν Ἐφέσῳ καὶ πιστοῖς

     

    إلى القديسين الذين في افسس والمؤمنين

    p46 א* B* 6 424c 1739 

    Marcionaccording to Tertullian  Marcionaccording to Epiphanius Origenvid (Ephraem)

    mssaccording to Basil

    τοῖς ἁγίοις τοῖς οὖσιν

    καὶ πιστοῖς

     

    إلى القديسين والمؤمنين

     

     

     

     

    متى 22:5

    p64 א* B Ω 372 1292 1424mg 2174vid 2737 

    itaur vg 

    ethms 

    Gospel of the Nazarenes Ptolemy Justin Tertullianvid Origen Theodore-Heraclea Chromatius Jerome Theodoreaccording to Apollinaris Augustine3/4 Cassian Ps-Athanasius mssaccording to Apollinaris Greek mssaccording to Augustine

    ὅτι πᾶς ὁ ὀργιζόμενος τῷ ἀδελφῷ αὑτοῦ ἔνοχος

     

    إن كل من يغضب على أخيه يكون مستوجب الحكم

     

    א2 D E K L W Δ Θ Π Σ 0233 f1 f13 28 33 157 180 205 565 579 597 700 892 1006 1010 1071 1079 1195 1216 1230 1241 1242 1243 1342 1365 1424 1505 1546 1646 Byz Lect 

    ita itb itc itd itf itff1 itg1 ith itk itl itq vgms

    syrc syrs syrp syrh syrpa

    copsa copmae copbo 

    goth arm ethTH geo slav 

    Diatessaron Irenaeus Cyprian Eusebius Hilary Lucifer Basil Apostolic Constitutions Ps-Justin Chrysostom Augustine1/4 Cyril Speculum Theodoret mssaccording to Origen mssaccording to Apollinaris mssaccording to Jerome ς

    ὅτι πᾶς ὁ ὀργιζόμενος τῷ ἀδελφῷ αὑτοῦ εἰκῆ ἔνοχος

     

    إن كل من يغضب على أخيه باطلا (بلا سبب) يكون مستوجب الحكم

     

     

     

     

    يوحنا 13:3

    p66 p75 א B L T Wsupp 083 086 0113 33 1010 1241 

    copsa copbo(pt) copach2 copfay 

    geo2 

    Diatessaron Origenlat(2/4) Adamantius Eusebius Gregory-Nazianzus Apollinaris GregoryNyssa Didymus Epiphanius3/4 Jerome1/3 Cyril14/16 (Cyril1/16 θεοῦ) Theodoret1/4

    εἰ μὴ  ἐκ τοῦ οὐρανοῦ καταβάς υἱὸς τοῦ  ἀνθρώπου.

     

    إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان

     (A* omit ὢν) Ac E G H K N Δ Θ Π Ψ 050 (063 l751(1/2) θεοῦ for ἀνθρώπου) f1 f13 28 157 180 205 565 579 597 700 892 1006 1009 1071 1079 1195 1216 1230 1242 1243 1253 1292 1342 1344 1365 1424 1505 1546 1646 2148 2174 Byz Lect

     ita itaur itb itc itf itff2 itj itl itq itr1 (ite syrc syrpal vg 

    syrp syrh 

    copbo(pt) 

    arm eth geo1 slav 

    Hippolytus Hippolytus Novatian Origenlat(2/4) Origenlat Eustathius Jacob-Nisibis Zeno ὃς ἦν) Ambrosiaster Aphraates Hilary Lucifer Basil Amphilochius Ambrose Epiphanius1/4 Chrysostom Chromatius Jerome2/3 Augustine Nonnus Paul-Emesa Cyril1/16 Ps-Dionysius Hesychius Theodoret3/4 John-Damascus ς

    εἰ μὴ  ἐκ τοῦ οὐρανοῦ καταβάς υἱὸς τοῦ ἀνθρώπου ἀνθρώπου ὁ ὢν ἐν τῷ οὐρανῷ

     

    إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء

     

    [1] Black, D. A., & Shah, A. P. (Eds.). (2023). Can we recover the original text of the New Testament? Wipf and Stock Publishers.

    [2] Abidan Paul Shah, “The Current Debate Over the Original Text of the New Testament,” in Can We Recover the Original Text of the New Testament?, ed. D. A. Black and Abidan Paul Shah (Eugene, OR: Wipf and Stock Publishers, 2023), chap. 1.

    [3] Eldon J. Epp, “The Multivalence of the Term ‘Original Text’ in New Testament Textual Criticism,” Harvard Theological Review 92, no. 3 (1999): 245–281.

    [4] في رأي الشخصي: الاحتمال الأول لـ “النص الأصلي” الذي هو النص السابق لنص المؤلف (pre-authorial) لا يمكن للنقد النصي أن يتعامل معه أصلا، المقصود بمصطلح “النص السابق لنص المؤلف” هو المصادر التي أعتمد عليها الكتاب لتكوين نصهم، على سبيل المثال في متي ولوقا سيكون هذا النص هو المصدر “Q”، ومثل هذه النصوص لا يمكن للنقد النصي أن يتعامل معها، في الحقيقة هذا اختصاص النقد الأعلى وليس الأدنى. الاحتمال الثاني: نص المؤلف، وهو النص الذي كتبه المؤلف بخط يده، وهذا أيضًا لا يمكن استعادته أو إعادة تكوينه، وهذا لسبب منطقي جدا وهو أن اسفار العهد الجديد كانت تمر بعد تأليفها بعملية تحريرية غالبا على يد تلميذهم، ونحن نعلم أن انجيل يوحنا وأعمال لوقا وأغلب رسائل بولس مرت بهذه العملية، فكيف نعيد نص المؤلف وهو لم ينشر أصلا؟ أو بمعنى أخر كيف يمكننا أن نعيد بناء نص المؤلف ولم تتبق لنا أي مخطوطة له.

    والاحتمال الأقرب هو أننا نعيد بناء “النص القانوني” أو النص المُحرر edited text وهو التعريف الصحيح لـ “النص الأصلي” وهو يمكن الوصول إليه.   

    [5] التقليد النصي للعهد الجديد غني جدًا بحيث يجعلنا شبه متأكدين أننا نعيد صياغة النص الأصلي بدقة، نمتلك مخطوطات يونانية قديمة جدا تقليدها النص يعود لمنتصف القرن الثاني، مخطوطات موزعة جغرافيا بشكل كبير بالإضافة إلى الكم الهائل من الترجمات والاقتباسات الآبائية، كل هذا يجعلنا متأكدين من أن الصياغة الأصلية للعهد الجديد حُفظت هنا أو هناك، ودور الناقد هو الترجيح بينهم.

    [6] “First, it is evident that we are dealing with a situation that involves a mixture of both fluidity and stability; a key issue is the relationship between the two. On the one hand, there is evidence of variation (sometimes substantial) in the process of scribal transmission; on the other hand, there are also evident factors favoring the stability of the textual transmission. Second, with the possible exception of the gospel of Luke and of Acts (where the differences between the “Alexandrian” and “Western” textual traditions are considerably greater than they are elsewhere in the New Testament), there is little if any evidence of any major disruption to the text. Third, apart from the endings of Mark and of Romans,68 variation during the time period in view affects a verse or less of the text.69 nearly all In short, we appear to be dealing with a situation characterized by macro-level stability and micro-level fluidity.”

    Michael W. Holmes, “The Text of the New Testament in the Second Century: Witnesses and Tendencies,” in The Early Text of the New Testament, ed. Charles E. Hill and Michael J. Kruger (Oxford: Oxford University Press, 2012), 57-58.

    [7] Peter J. Gurry, “Reasoned Eclecticism and the Original Text,” in Can We Recover the Original Text of the New Testament?, ed. D. A. Black and Abidan Paul Shah (Eugene, OR: Wipf and Stock Publishers, 2023), chap. 2.

    [8] أي أنه من وجهة نطر أولية النص البيزنطي، كان هناك مخطوطات بيزنطية مبكرة لكن اندثرت، وهذا الزعم لا يقبله باقي المناهج. ووجهة نظر الانتقائية الشمولية فإننا لا يمكننا أن نعرف العلاقات بين المخطوطات، وهذا الزعم ترفضه باقي المناهج.

    [9] في الحقيقة هذا الادعاء عارٍ من الصحة، وفقا لبيانات Editio Critica Maior القائمة على CBGM: تتفق المخطوطة الفاتيكانية مع النص الأولي بنسبة 96% في الرسائل الكاثوليكية، وبنسبة 96.5% في أعمال الرسل، وبنسبة 96.8% في مرقس. كما يتفق نص الأغلبية مع النص الأولي في أعمال الرسل بنسبة 91.5%، وفي مرقس بنسبة 88.7%، وفي سفر الرؤيا بنسبة 99.2%. نسب الاتفاق العالي تدحض ادعاءات المشككين وأصحاب فكرة “النص الهجين”.

    http://intf.uni-muenster.de/cbgm2/Comp4.html

    https://ntg.uni-muenster.de/

     

    [10] Maurice A. Robinson, “A Byzantine-Priority Perspective Regarding the Recognition of Autograph Originality,” in Can We Recover the Original Text of the New Testament?, ed. D. A. Black and Abidan Paul Shah (Eugene, OR: Wipf and Stock Publishers, 2023), chap. 3.

    [11] في وجهة نظري هذه الادعاءات خاطئة ولو بشكل جزئي، نعم يوجد قراءات بيزنطية مبكرة تعود للقرن الثاني والثالث، ونعم رسخ منهج ويستكوت وهورت فكرة “احتقار النص البيزنطي” وأننا يجب أن نعيد النظر في أهمية النص البيزنطي وفي ادعاءات ويستكوت وهورت، لكن كل هذا لا يثبت أن النص البيزنطي هو النص الأصلي، في الحقيقة لا يوجد أي بردية نصها بيزنطي ولا يوجد أي مخطوطة نصها بيزنطي في الأناجيل قبل القرن الخامس، ولا يوجد مخطوطة نصها بيزنطي خارج الأناجيل نصها بيزنطي قبل القرن التاسع. لا يمكن في الحقيقة اثبات أن النص البيزنطي (ككتلة واحدة) قديم، وإن اكتشفت بردية تعود للقرن الثاني نصها بيزنطي، فهذا لا يثبت صحة منهج نص الأغلبية، بل هذا يدعم نظرية ستورز (سيتم مناقشتها في الفصل القادم).

    [12] Brooke Foss Westcott, “Devout Reverence,” in Some Lessons of the Revised Version of the New Testament (London: Hodder and Stoughton, 1897), 420.

    [13] David Alan Black, “A Sturzian Solution to the Problem of ‘Original Text’ as Illustrated by Eph 1:1, Matt 5:22, and John 1:18,” in Can We Recover the Original Text of the New Testament?, ed. D. A. Black and Abidan Paul Shah (Eugene, OR: Wipf and Stock Publishers, 2023), chap. 4.

    [14] Bruce M. Metzger, A Textual Commentary on the Greek New Testament, 2nd ed. (Stuttgart: Deutsche Bibelgesellschaft, 1994), 11.

    هل يمكننا استعادة النص الأصلي للعهد الجديد؟ تلخيص وتعليق على كتاب عبيدان بول شاه وديفيد آلان بلاك

  • عبارة “إله من إله” في قانون الإيمان هل تشير لتعدد الالهة ؟ عبدالمسيح

    عبارة “إله من إله” في قانون الإيمان هل تشير لتعدد الالهة ؟ عبدالمسيح

    عبارة “إله من إله” في قانون الإيمان هل تشير لتعدد الالهة ؟ عبدالمسيح

    عبارة "إله من إله" في قانون الإيمان هل تشير لتعدد الالهة ؟ عبدالمسيح
    عبارة “إله من إله” في قانون الإيمان هل تشير لتعدد الالهة ؟ عبدالمسيح

    مقدمة

    عبارة «إله من إله» تشير الي ان كلاً من اقنوم الآب والابن لهم نفس الجوهر الالهي الواحد فكلمة اله لا تشير الي اله منفصل بل تشيل الي ماهية الابن اللاهوتية للرد علي قول اريوس ان الابن مخلوق فهي اشارة الي ان الابن له نفس طبيعة الآب من ناحية الجوهر وأنهما من نفس الجوهر أو الطبيعة الواحدة. وهي تُشبه العبارة: «إنسان من إنسان»، أي إنسان مولود من إنسان آخر، يشترك معه في نفس الطبيعة. فـ”الولادة” تعني الإصدار أو الانبثاق الطبيعي، أي أن يلد الواحد مَن هو على نفس طبيعته.مع عدم تشبيه الله بالمركبات لان الله ليس مركب كالانسان ولكن للاستدلال العقلي وليس للقياس بالله.

    شيث (Seth) هو مولود من آدم (Adam). وكلاهما من نفس الطبيعة البشرية، ولهذا نقول: إنسان من إنسان. كذلك، الابن مولود من الآب. وكلاهما يشتركان في نفس الطبيعة الإلهية. أقنوم إلهي من أقنوم إلهي. ولهذا تقول العقيدة: “إله حق من إله حق”.

    خلفية تاريخية

    النزاع الآريوسي

    في بداية القرن الرابع الميلادي، نشأ خلاف عقائدي خطير داخل الكنيسة عندما بدأ آريوس (256-336م) في الإسكندرية بالتعليم بأن ابن الله مخلوق من الآب، وأنه أقل منه في الجوهر والمكانة. ادّعى آريوس أن هناك وقتاً لم يكن فيه الابن موجوداً، وأن الآب وحده هو الإله الحقيقي غير المخلوق.

     

    مجمع نيقية وقانون الإيمان النيقاوي – سنة ٣٢٥م

    يُعتبر قانون الإيمان النيقاوي أحد أهم الوثائق في تاريخ المسيحية، والذي صدر عن المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325م (Council of Nicaea I) بدعوة من الإمبراطور قسطنطين الأول. جاء هذا المجمع كاستجابة للجدل اللاهوتي الحاد الذي أثاره آريوس، الكاهن الإسكندري، حول طبيعة المسيح وعلاقته بالآب. ووضع المجمع قانون الإيمان هذا لإرشاد الكنيسة في ما يخص اللاهوت، والكريستولوجيا (عقيدة المسيح)، والتعليم عن الثالوث القدوس.

    وقد دار جدل كبير حول استخدام مصطلح هوموأوسيوس (ὁμοούσιος – Homoousios) أي: “واحد في الجوهر”. حتى عند صياغته، لم يحظَ قانون الإيمان بموافقة كاملة من جميع الحاضرين، وسرعان ما تعرّض للهجوم، وتمت مراجعته لاحقًا في مجمع القسطنطينية الأول سنة ٣٨١ م (Council of Constantinople I – 381 AD).

     

    النص الأصلي لقانون الإيمان سنة ٣٢٥م

    نؤمن بإله واحد، الله الآب، ضابط الكل، خالق كل الأشياء، ما يُرى وما لا يُرى.

    وبربٍّ واحد يسوع المسيح، ابن الله، المولود من الآب، [الابن الوحيد، أي من جوهر الآب، إله من إله،] نور من نور، إله حق من إله حق؛ مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر.

    الذي به كان كل شيء [ما في السماء وما على الأرض]؛

    الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل وتجسد، وتأنس؛

    وتألم، وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات؛ وصعد إلى السماوات،

    ومن هناك يأتي ليدين الأحياء والأموات.

    ونؤمن بالروح القدس.

     

    الإدانة المضافة في نهاية النص (الموجَّهة ضد تعاليم آريوس)

    أما الذين يقولون: “كان هناك وقت لم يكن فيه”، أو “لم يكن قبل أن يُولد”، أو “صُنع من العدم”، أو “هو من جوهر أو طبيعة أخرى”، أو أنّ “ابن الله مخلوق”، أو “قابل للتغيير” أو “للتحول” – فهؤلاء تُدينهم الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية.

     

    دور الكنيسة القبطية في المجمع

    لعبت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بقيادة البابا إسكندر البطريرك العشرين (312-326م) وخلفه القديس أثناسيوس الرسولي (326-373م)، دوراً محورياً في مقاومة الآريوسية والدفاع عن الإيمان الأرثوذكسي. كان القديس أثناسيوس، الذي حضر المجمع كشماس مع بطريركه، من أبرز المدافعين عن الطبيعة الإلهية للمسيح. ورغم صغر سنه ورتبته، برز أثناسيوس في المجمع كمفكر ولاهوتي قوي، وتميّز بوضوح عقيدته، خاصة في نقطتين:

    • تأكيد لاهوت الابن:

    دافع بشدة عن أن الابن هو “مولود غير مخلوق”، “مساوٍ للآب في الجوهر” (ὁμοούσιος τῷ Πατρί)، رافضًا الطرح الآريوسي القائل بأنه “كان هناك وقت لم يكن فيه الابن”.

    • صياغة جوهر قانون الإيمان:

    يُعتقد أن القديس أثناسيوس لعب دورًا محوريًا في صياغة الألفاظ الأساسية في قانون الإيمان النيقاوي، لا سيما عبارة:

    “نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر”

    التي تهدف إلى تأكيد أن الابن ليس مخلوقًا بل مولودًا من نفس جوهر الآب.

    أصل عبارة “إله من إله” من الإنجيل

    عبارة “إله من إله” لها جذورها في إنجيل يوحنا ١:١، حيث يُقال أن معرفة الله لذاته وتعبيره عن نفسه هو كونه “إله”. أي أن “الفكر الإلهي عن نفسه” كان هو الله، أو كما تقول الترجمات الإنجليزية الشائعة: “وكان الكلمة الله” (The Word was God).

     

    الكلمة اليونانية المستخدمة هنا هي لوغوس λόγος وفي المقطع الأخير من يوحنا 1:1c وأيضًا في يوحنا 1:18a، تأتي الكلمة بلا أداة تعريف (anarthrous)، ومع ذلك تُترجم إلى الإنجليزية كاسم علم: “God” أي الله.

    يوحنا ١:١: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.”

    الخلفية اليهودية لمفردة لوغوس “الكلمة – λόγος”

    لم يكتب القديس يوحنا الإنجيلي هذه الآية من فراغ، بل كانت لديه خلفية يهودية ساعدته على التعبير عنها. في أيامه، كان مفهوم “اللوغوس – λόγος” معروفًا جيدًا، خاصة في اليهودية الهيلينية في فترة الهيكل الثاني.

    هذا المفهوم يتضح في الترجمة السبعينية (LXX) وفي بعض الكتابات اليهودية الدينية بين العهدين. وبسبب انتشار هذا المفهوم، استخدمه يوحنا ليشرح البشارة.

    آيات من العهد القديم في الترجمة السبعينية LXX التي تُشكل أساس يوحنا ١:١-٣

    لدينا العديد من الآيات في العهد القديم والتي استند إليها القديس يوحنا الإنجيلي في استخدام كلمة لوغوس، منها:

    1. تكوين ١:١
    2. مزمور ٤٥:١
    3. مزمور ٣٣:٦
    4. أمثال ٨:٢٢–٣٠

    معنى لوغوس

    الكلمة اليونانية “لوغوس” لها معانٍ متعددة، منها: الكلمة، الخطاب، الرسالة، الخطة، والعقل/المنطق. والمعنى يُفهم بحسب السياق. في يوحنا ١:١، اللوغوس يُشير إلى الفكر الإلهي الداخلي والتعبير الذاتي لله، أي أن الكلمة هي تعبير خارجي عن معرفة الله لذاته. وهذا يعبر عنه هكذا:

    المفكِّر = الله

    الفكر = الله

    إذن، نحن أمام الله الذي يعرف نفسه، ويفكر في نفسه، ويعبّر عن نفسه بالكلمة، وهذه الكلمة ليست شيئًا مخلوقًا، بل هي “إله من إله”، كما تُعلِن العقيدة النيقاوية (The Nicene Creed) والتي نسميها أيضاً قانون الإيمان.

    التعبير اللاهوتي: الله في ذاته ومن ذاته — الله يعرف نفسه بكُليّة ذاته، وتعبيره الذاتي أو كلمته هو إله مثله، له نفس الجوهر الإلهي. الله لا يظن عن نفسه أنه إله جزئي، بل يرى نفسه على أنه الله بالكامل.

    أمثال ٢٣:٧: “لأَنَّهُ كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هكَذَا هُوَ. “

    وفقًا لإنجيل يوحنا ١:١، الكلمة (الابن) هو “إله من إله”، فهو ذات الفكر الإلهي، التعبير الكامل عن ذات الله، ولهذا فهو الله بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

     

    تحليل عبارة “إله من إله” من المنظور الأرثوذكسي

    تؤكد الكنيسة الأرثوذكسية أن عبارة “إله من إله” تشير إلى وحدة الجوهر (الأوسيا oύσiα) — أي الوجود الحقيقي البسيط غير المحدود — بين الآب والابن. هذا يعني أن الابن ليس إلهاً منفصلاً أو مختلفاً عن الآب، بل هو من نفس الجوهر الإلهي، مما يؤكد على الوحدة الجوهرية في الثالوث المقدس. ويقول البابا شنودة الثالث في كتابه “قانون الإيمان” في تفسير هذه العبارة:

    إله حق، أي له طبيعة الله بالحق. وليس مثل الذين دعوا آلهة بمعنى سادة، وليسوا هم آلهة بالحقيقة.

    ويذكر أيضاً في موضع آخر:

    ولكن السيد المسيح هو إله حق، أي له كل صفات الألوهية:
    فهو أزلي خالق، قادر على كل شيء، موجود في كل مكان، غير محدود.. فاحص القلوب والكلى، قدوس، رب الأرباب، غافر الخطايا.. إلى آخر كل تلك الصفات الخاصة بالله وحده.

    ويفسر التقليد القبطي من جهته هذه العبارة كتأكيد على أن العلاقة بين الآب والابن أزلية وليست زمنية. فالابن “من” الآب لا يعني أن هناك وقتاً لم يكن فيه الابن موجوداً، بل يشير إلى العلاقة الأقنومية الأزلية داخل الذات الإلهية الواحدة.

    تعبر هذه العبارة عن مفهوم الولادة الإلهية الأزلية، حيث يُولد الابن من الآب منذ الأزل وإلى الأبد. هذه الولادة ليست جسدية أو زمنية، بل هي ولادة روحية أزلية تحافظ على وحدة الطبيعة الإلهية.

    كما واجهت الكنيسة القبطية فكرة التبني التي تقول إن المسيح إنسان تبناه الله. عبارة “إله من إله” تؤكد على الطبيعة الإلهية الحقيقية للمسيح وليس مجرد التبني. كما أن كلمة (إله) هنا ليست مجرد لقب كما قيل عن آلهة الأمم أو كما قيل عن بعض البشر.

    في الليتورجيا الإلهية، تُتلى عبارة “إله من إله” في كل قداس إلهي في الكنيسة، وتحديداً أثناء تلاوة قانون الإيمان. هذا التكرار اليومي يؤكد على أهمية هذا التعليم في الحياة الروحية والعبادية للمؤمنين.

    في التعليم الآبائي، طور القديس أثناسيوس، الذي يُلقب بـ”عمود الإيمان”، تفسيراً عميقاً لهذه العبارة في كتاباته ضد الآريوسيين. أكد على أن الابن “من جوهر الآب” وليس “من لا شيء” كما ادّعى آريوس. وواصل القديس كيرلس الإسكندري (376-444 م) التقليد الأثناسي في تفسير العبارة، مؤكداً على وحدة الطبيعة الإلهية بين الآب والابن، مما ساهم في مقاومة النسطورية لاحقاً.

    في التقليد الرهباني، تبنى الآباء الرهبان في مصر هذا التعليم وجعلوه جزءاً من تأملاتهم اليومية. الأنبا مقار الكبير والأنبا باخوم وغيرهم من آباء البرية المصرية أكدوا على أهمية فهم هذه الحقيقة الإيمانية في الحياة الروحية.

    على مستوى العقيدة، تساهم عبارة “إله من إله” في تأسيس العقيدة الثالوثية السليمة، حيث تحافظ على التوازن بين وحدة الله وتمايز الأقانيم. هذا التوازن أساسي في الفهم الأرثوذكسي للثالوث.

    أما من الناحية الروحية، تؤكد العبارة على أن المسيح الذي نعبده ونصلي إليه هو إله حقيقي، مما يبرر العبادة المسيحية ويعطيها معناها العميق. كما تؤكد على أن الخلاص الذي قدمه المسيح هو خلاص إلهي حقيقي.

    كذلك على مستوى الكرازة، تستخدم الكنيسة هذه العبارة في الكرازة والتعليم لتأكيد ألوهية المسيح أمام التحديات المعاصرة، سواء من الديانات الأخرى أو من التيارات الليبرالية داخل المسيحية.

     

    الخلاصة

    تمثل عبارة “إله من إله” في قانون الإيمان النيقاوي حجر الزاوية في التعليم الأرثوذكسي حول ألوهية المسيح. هذه العبارة، التي وُلدت من صراع لاهوتي عميق في القرن الرابع، تستمر في لعب دور مركزي في الحياة العقائدية والروحية والليتورجية للكنيسة.

    من خلال تأكيدها على وحدة الجوهر بين الآب والابن، تحافظ هذه العبارة على التوازن الدقيق في فهم الثالوث، بينما تقاوم في الوقت نفسه الانحرافات العقائدية التي تهدد جوهر الإيمان المسيحي. التقليد الكنسي، المتجذر في تعاليم القديس أثناسيوس والقديس كيرلس، يواصل الدفاع عن هذا التعليم وتطبيقه في الحياة المعاصرة.

    إن فهم هذه العبارة ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو في صميم الإيمان الأرثوذكسي والحياة الروحية للمؤمنين. فهي تؤكد على أن المسيح الذي نعبده هو الإله الحقيقي، وأن الخلاص الذي قدمه لنا هو عمل إلهي حقيقي قادر على تحويل حياتنا وضمان أبديتنا.

     

    المراجع:

    1. شرح لاهوتي لعبارة “إله من إله” في قانون الإيمان النيقاوي – رابط: https://christianity.stackexchange.com/a/40068
    2. ملخص تاريخي لمجمع نيقية الأول وصياغة قانون الإيمان سنة 325م – Church History 101 – “Fourth Century Church History – The Council of Nicea (325 AD)” – رابط: https://www.churchhistory101.com/century4-p8.ph
    3. كتاب “قانون الإيمان” لقداسة البابا شنودة الثالث، الأنبا تكلا – الباب الخامس عشر – رابط: https://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books/His-Holiness-Pope-Shenouda-III-Books-Online/35-Kanoun-El-Iman/Christian-Faith__15-Truth.html

    بحث وكتابة: عبدالمسيح

    عبارة “إله من إله” في قانون الإيمان هل تشير لتعدد الالهة ؟ عبدالمسيح

  • هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

    هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

    هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

    هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ - Patricia Michael
    هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

    دراسة نقدية في تقييم الشهادات التاريخية وموثوقيتها بين مناهج البحث الأكاديمي ومعايير القضاء الحديث.

    🔴المقدمة

    تُعَدّ شهادات شهود العيان من المصادر الأساسية في إعادة بناء الوقائع التاريخية، إلا أن غياب إمكانية استجواب هؤلاء الشهود في العصر الحديث يطرح تساؤلات حول مدى موثوقية هذه الشهادات، خاصةً عندما تُستخدم كدليل في الدراسات الأكاديمية والقضائية. تستعرض هذه الدراسة النقدية الفروق الجوهرية بين معايير تقييم الشهادات في البحث التاريخي ومعايير الاستجواب في القضاء الحديث، مع التركيز على أهمية اعتماد منهجيات البحث العلمي الرصين في تحليل الوثائق التاريخية. كما تناقش الدراسة كيف يمكن الجمع بين الدقة الأكاديمية والإنصاف المنهجي لتقييم مصداقية الشهادات التاريخية، مع إبراز دور السياقات الزمنية والثقافية في هذا التقييم.

    كثيرًا ما يُثار سؤال جوهري عند دراسة النصوص التاريخية والدينية القديمة، خاصّة تلك التي تُوثّق أحداثًا محوريّة: كيف يمكن الوثوق بشهادة لم يَعُد ممكنًا استجواب صاحبها؟ وهل تظل هذه الشهادة مُعتبرة إذا تعذّر إخضاعها للفحص القضائي المباشر؟

    يُثير هذا السؤال إشكالًا بالغ الأهمية، لا سيَّما عند تقييم الوثائق التاريخيّة والدينيّة القديمة. تكْمُن اهمية هذا الطَّرح في تسليطه الضوء على الفرق الجوهري بين معايير الإثبات القانونية المعتمدة في المحاكم، وبين منهجيات التقييم المتَّبعة في الدراسات التاريخية والروايات الكتابية.

    وتزداد إشكالية هذا الطَّرح، لأنه يُستخدَم أحيانًا – عن قصد أو غير قصد – كأداة لنزع المصداقية عن روايات الأناجيل، بذريعة غياب إمكانية إخضاع الشهود الأصليين للفحص القضائي المباشر. غير أن هذه الدعوى، على الرغم مما قد تُوحي به من انسجام ظاهري مع المبادئ القضائية، فإنها ترتكز على أسس منهجيّة هشّة عند مقارنتها بالمفاهيم المعتمدة في مجال البحث التاريخي، لا سيّما من حيث عدم ملاءمة تطبيق الفحص القضائي، وفق قواعد المحاكم الحديثة، على مثل هذه الشهادات في هذا السياق.

    فمبدأ استجواب الشهود (Cross-Examination) يُعدّ من الركائز الجوهرية في الأنظمة القانونية الحديثة، إذ يكفل للمدعى عليه الحق في اختبار مصداقية الشهود ومراجعة دقّة أقوالهم امام المحكمة. ولا شك أن هذا المبدأ يُعتبر من أبرز الضمانات القانونية لحماية حقوق المتهمين. ولكن، حين يُنتزع هذا المعيار من سياقه القضائي الصارم ويُطبَّق خارج نطاقه القانوني، وخاصة في ميدان دراسة الوثائق التاريخية، فإنّه يُثير إشكالات منهجيّة عميقة، تزداد حدّتها عندما يُطبَّق بصورة حرفية على نصوص دينية وأدبية ذات طابع سَرْدي، كما هو الحال مع الأناجيل، ممّا يُفضي في النهاية إلى قراءة متعسّفة تفتقر إلى الموضوعية والمنهجية.

    ⚫ في كتابه (Divinity of Doubt: The God Question) الصادر عام 2011، وجّه المدّعي العام الأمريكي الشهير فنسنت بوجليوسي (Vincent Bugliosi) مجموعة من الاعتراضات تجاه التوجُّهات الإيمانية والإلحادية على حدٍّ سواء. من أبرز تلك الاعتراضات تشكيكه في أهليّة شهادات شهود العيان الواردة في الأناجيل، معتبراً أنها لا تصلح كأدلّة موثوقة، ومبرراً ذلك بعدم إمكانية إخضاع أصحابها اليوم لعملية الاستجواب القضائي المباشر كما تقتضي الأنظمة القانونية الحديثة؛ إذ يرى أن الأناجيل لا تفي بمعايير الإثبات القضائية المعتمدة في المحاكم الجنائية، وبالأخص مبدأ استجواب الشهود حضوريا، والذي يُعد شرطًا أساسيًا لقبول الشهادة كدليل مُعْتبر، وهو ما دفعه إلى الطعن في موثوقية هذه الشهادات من منظور قانوني وقضائي.

    وأضاف بوجليوسي (Vincent Bugliosi) انَّ القاعدة العامة في الأنظمة القضائية الحديثة تفترض – مع استثناءات نادرة وتقييدات صارمة – ضرورة حضور الشاهد شخصيّاً الى المحكمة للإدلاء بشهادته، ليتسنّى للمتهم ممارسة حقه في استجواب الشاهد (Cross-examination). ويهدف هذا الاجراء القانوني إلى تقصّي احتمالات أي تحيُّز مُحتمل أو تبايُن في الأقوال، ويعدّ من الضمانات الجوهريّة لحماية حقوق المتهمين وضمان نزاهة الاجراءات القضائية.

    استنادًا إلى هذا الإطار القانوني الذي يشترط – كما يوضّح بوجليوسي – حضور الشاهد شخصيًا لإتاحة إمكانية استجوابه، يرى بوجليوسي (Vincent Bugliosi) أن تعذّر استدعاء كُتّاب الأناجيل اليوم واستجوابهم يُسقِط عن رواياتهم صفة الشهادة القانونية المقبولة. وبناءً على هذا التصوُّر، لا يجوز – في نظره – الاستناد إلى تلك الروايات لإثبات الادعاءات المسيحية المتعلقة بالأحداث التي وقعت في القرن الأول الميلادي. ووفق هذا المنطق، تُعتبر شهاداتهم، بحسب رأيه، مفتقرة إلى الحد الأدنى من الموثوقية المعترف بها في أي سياق قضائي معاصر.

    بعد استعراض ما طرحه بوجليوسي من افكار وافتراضات تشكّك في شهادات شهود العيان، لا بد من التأكيد على أن هذه الافتراضات تنطوي على إسقاطٍ غير دقيق لمبدأ قانوني على سياقٍ مغاير، إذ يؤدي الخَلْط المنهجي بين متطلبات الإثبات في القضايا الجنائية وبين معايير التحقُّق في البحث التاريخي إلى استنتاجات غير موضوعية. فثمّة اختلاف جوهري بين ما تقتضيه المحاكم الجنائية من قواعد إجرائية لحماية المتهم، وبين المناهج والأدوات التي يعتمدها المؤرخون في تقييم الوثائق والروايات التاريخية ذات الطابع السَّرْدي أو الأدبي.

    في النظام الجنائي، تُطبّق معايير دقيقة بالغة الصرامة لقبول الشهادات، من أبرزها اشتراط وجود شهود عيان أحياء يمكن استجوابهم أمام المحكمة، وذلك بهدف تمكين المتهم من تفنيد الأدلة والشهادات المُقدَّمة ضده. هذه المعايير تقوم أساسًا على حماية حقوق المتهم، حيث يُفضَّل في كثير من الحالات تطبيق مبدأ “الشك يُفسَّر لصالح المتهم” مقابل السعي الى تحقيق العدالة العقابية الكاملة، تفاديًا لاحتمال إدانة بريء. وتُجسِّد هذه الحماية الصارمة حرص النظام القضائي على تجنّب الظلم، ولو كان ذلك على حساب الوصول إلى الحقيقة الكاملة.

    غير أن هذا الإطار القضائي، وإن كان مُبرّرًا ومشروعًا في نطاقه، لا يَصْلُح كمعيار عام لتقييم الكتابات التاريخية ومصداقيتها، لأن النصوص التاريخية والدينية ذات الطابع الأدبي، تخضع لمناهج تقييم تختلف عن تلك المُعتمَدة في المحاكم. ومثال على ذلك الأناجيل التي بطبيعتها الأدبية والتاريخية، لا تندرج ضمن حقل الشهادات القضائية بالمعنى القانوني. وبالتالي، لا يجوز إخضاعها لمعايير الإثبات القانونية المُطبَّقة في المحاكم، إذ يؤدي تطبيق هذه المعايير عليها حرفيًا إلى نتائج غير منطقية، تتمثل في استبعاد غالبية مصادر المعرفة التاريخية التي نعتمد عليها لفهم الماضي.

    ففرض معايير المحاكم الجنائية على الوثائق التاريخية والدينية، بما فيها الاناجيل، يؤدي إلى إقصاء كمّ هائل من الأدلة ويعيق قدرتنا على إعادة بناء السَرْديّة التاريخية. ولهذا، فإن المعايير القضائية بطبيعتها أشد صرامة مما يتطلّبه البحث التاريخي النقدي.

    إن ذلك يُسلِّط الضوء على الخطأ الكامن في التوسُّع بتطبيق معيار قانوني دقيق على مجال بحثي مختلف في طبيعته وغايته ومنهجه. فالمعيار القانوني ليس سوى أداة إجرائية وُضعت لحماية المتهمين من الإدانة الجائرة، ولم يُصمَّم قط ليكون وسيلة لفهم التاريخ أو تفسير النصوص الدينية.

    ولو طُبّق هذا المعيار الجنائي الصارم، الخاص بالمحاكمات الحديثة، على السجلات التاريخية، لانتهينا إلى نتيجة عَبَثيْة مفادها أنه لا يمكن الوثوق بأي رواية تاريخية ما لم يكن لدينا شهود عيان أحياء يمكن استجوابهم أمام القضاء. وبذلك، فإنَّ الإصرار على اعتماد شرط “الشاهد الحي القابل للاستجواب” كمعيار لقبول الشهادة، يُفضي عمليًا إلى تقويض المعرفة التاريخية من جذورها، ويشكّل تعسُّفًا منهجيًا يؤدي إلى استبعاد الغالبية العظمى من السجلات التي تشكّل مصادرنا الأساسية لفهم الماضي.

    ويكفي ان نتصوّر تبعات هذا المعيار عندما نُسقطه على أمثلة ملموسة من التاريخ لندرك مدى عَبَثيَّته ونتائجه غير المعقولة، اذ سيصبح من المتعذّر تصديق أي حدث من أحداث التاريخ. فهل يُعقَل – على سبيل المثال – أن نرفض شهادات هيرودوت أو ثيوسيديديس بشأن الحروب القديمة، أو نشكّك في مصداقية بطليموس أو يوليوس قيصر، لمجرّد عدم وجودهم على قيد الحياة للمثول أمام المحاكم للاستجواب، أو لتقديم توضيحات بشأن كتاباتهم والدفاع عن صحتها؟ بل إن هذا المعيار القضائي، لو وُضع قيد التطبيق بشكل مُطلق، سيطال أيضاً روايات التاريخ المعاصر، بما في ذلك ما سجّلته شخصيات موثوقة مثل كوري تين بوم (Corrie Ten Boom) وغيرها من الشخصيات المرموقة، مما يجعل موثوقية كافة المصادر التاريخية مهدّدة بالشك والرفض.

    والأخطر من ذلك، أن تطبيق هذا المعيار خارج سياقه القانوني لا يؤدي فقط إلى تقويض التاريخ الأكاديمي، بل ينسف أيضًا الذاكرة الإنسانية ذاتها. إذ أن جانبًا كبيرًا مما نعرفه عن عائلاتنا وماضينا القريب قد وصل الينا من خلال روايات شهود لم يعودوا على قيد الحياة، ولا يمكن إخضاعهم اليوم لأي نمط من أنماط الاستجواب القضائي. فإذا أُقْصِيَت هذه الشهادات لمجرد غياب أصحابها، فإننا لا نفقد الماضي فحسب، بل نفقد وسائل الوصول إليه أيضًا.

    إن المعيار القانوني، بوصفه أداة إجرائية تهدف إلى حماية حقوق المتهم، لا يَصلُح أن يُتّخذ مقياسًا في ميدان الدراسات والأبحاث الدينية والتاريخية. فلو اعتُمد مبدأ “الشاهد الحي القابل للاستجواب” كمعيار عام لإثبات الوقائع الماضية، لما تبقّى لدينا تاريخ يمكن الوثوق به او الاستناد اليه. بل إن اعتماد هذا المنهج في التفكير من شأنه أن يُفْضي إلى حالة من الشك المنهجي الشامل، تعجز في ظلّها معظم العلوم الإنسانية عن أداء دوْرها المعرفي، إذ تقوم هذه العلوم بطبيعتها على تحليل روايات ونصوص تعود إلى شهود لم يَعُد حضورهم ممكنًا.

    ولعل المفارقة اللافتة هنا أن فنسنت بوجليوسي (Vincent Bugliosi) نفسه كان طرفًا في واحدة من أبرز القضايا القانونية في التاريخ الأمريكي الحديث، وهي محاكمة تشارلز مانسون عام 1970 (Charles Manson murder trial). فقد ترأس بوجليوسي فريق الادّعاء الذي تمكّن من إدانة مانسون، زعيم طائفة دينية متطرفة تورطت في سلسلة جرائم وحشية في أواخر الستينيات، من بينها مقتل “شارون تيت” (Sharon Tate) وعدد من الضحايا الآخرين.

    وقد استند الادّعاء في هذه القضية إلى شهادة شاهد عيان بارز، “ليندا كاسابيان” (Linda Kasabian)، إحدى أعضاء الطائفة التي لم تشارك مباشرة في أعمال القتل، وكانت شهادتها حاسمة في إثبات الإدانة.

    لكن، إذا افترضنا أننا نعيش بعد مرور مئة عام على المحاكمة، فهل سيكون من المنطقي رفض شهادة كاسابيان لمجرّد عدم قدرتنا آنذاك على استجوابها؟ وهل يجوز التشكيك في سجلاّت المحكمة بدعوى احتمال تعرضها للتحريف أو الإهمال؟ كيف يمكننا حينها التأكد من أن استجواب الشهود جرى وفق الأصول، أو أن تفاصيل جوهرية لم تُهمَل خلال سَيْر المحاكمة؟

    من المؤكد أن أحدًا من شهود أو أطراف القضية الأصلية لن يكون على قيد الحياة حينذاك لتوضيح أي غموض، ومع ذلك لا نشكّك في صحّة مَحاضِر المحكمة أو صدق الشهادات، طالما أن النظام القانوني قد دوّن شهاداتهم وصادَق عليها ضمن إطار اجرائي مطابق للمعايير القانونية في حينه.

    وفي هذا السياق، تبرز إشكاليّة منهجية مهمّة، تتمثّل في الافتراض القائل بأن الشهادات تفقد موثوقيّتها لمجرّد غياب أصحابها. غير أنّ هذا الافتراض لا ينسجم حتى مع الواقع القانوني ذاته، إذ تُعدّ الوثائق القانونية الرسمية، المدوّنة والموقّعة، موضع ثقة ما دامت قد جُمعت وفقًا لضوابط قانونية معترف بها ضمن سياقها الزمني. ولذلك، لو طبّق بوجليوسي على سجلاّت محاكمته الشهيرة ذاتها نفس المعيار الذي يدعو إلى اعتماده في تقييم روايات الأناجيل، لأدّى ذلك إلى تقويض شرعيّة ما أنجزه هو نفسه داخل قاعة المحكمة. وهذا يُوضّح لنا عملياً، مدى خطورة إسقاط معيار قانوني دقيق، مصُمّم خصيصًا لبيئة قضائية، على مجالات لا تنتمي إليه ولا تتناسب مع طبيعته، كالدراسات التاريخية أو النصوص الدينية.

    بناءً على ذلك، فإن التعامل المنهجي مع السَّرْدِيّات التاريخيّة والدينيّة لا يقتضي تجاهُل التقييم النقدي، بل يستدعي استخدام أدوات ملائمة لطبيعة هذا الحقل المعرفي، ويشمل ذلك فحص زمن كتابة الشهادة، ومدى قربها من الحدث، وتعدّد الشهادات وتوافقها، وتماسك التفاصيل، والاتّساق الداخلي، وغياب المؤشّرات التي تدل على التزوير أو التحريف المتعمّد، إلى غير ذلك من المعايير التي يعتمدها الباحثون في تقييم المصداقية للكتابات التاريخية والدينية.

    وإذا ثَبُت – من خلال هذه الوسائل – أن كتّاب الأناجيل كانوا شهود عيان، أو نقلوا عن شهود مباشرين، وأنهم سجّلوا الأحداث بأمانة ودقة وحِرْص، فإننا نمتلك حينها كل المبرّرات العقلانية للثقة بشهاداتهم، حتى وإن لم يكن بمقدورهم اليوم المثول أمام محاكم العصر الحديث.

    🔴التحليل الختامي بين النقد المنهجي والاستنتاج العام

    تُجمع العديد من الدراسات المعاصرة على أن معيار استجواب الشهود (cross-examination) المُعتمد في المحاكم الحديثة لا يصحّ تطبيقه حرفيًا على تقييم الروايات التاريخية، لا سيّما النصوص الدينية القديمة.

    ▪️في مقاله “?Can A Witness Be Trusted If He Can’t Be Cross-Examined”، يوضح (J. Warner Wallace) الفرق الجوهري بين المعايير القضائية المستخدمة في المحاكم، وبين المعايير المنهجية المتّبعة في البحث التاريخي، مؤكداً ضرورة عدم تحميل النصوص التاريخية عبء تطبيق معايير المحاكم الحديثة.

    ▪️وفي سياق مماثل، يشرح (Simon Greenleaf) في كتابه الكلاسيكي “The Testimony of the Evangelists” أن تقييم مصداقية الشهادة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية والقانونية وأساليب التوثيق والنقل المعمول بها في زمن كتابة الشهادات، بدلاً من الاقتصار على نماذج الاستجواب القضائي المباشر التي تُطبق في المحاكم الحديثة؛ إذ يعالج (Greenleaf) قضية شهادات الإنجيليين من منظور قانوني تقليدي، لكنه يفعل ذلك ضمن الإطار الزمني والمعياري لعصرهم، لا وفق الإجراءات القضائية المعاصرة.

    ▪️كما يُعزّز (Richard Bauckham) في كتابه “Jesus and the Eyewitnesses” أهميّة تطبيق أدوات النقد التاريخي الخاص في تحليل الأناجيل، معتبرًا إياها شهادات شهود عيان موثوقين، ويطوّر أطروحة قوية تفيد بأن هذه الروايات بُنيت على شهادات مباشرة، ممّا يجعلها جديرة بالاعتبار التاريخي الجاد.

    ▪️من جهته، يشدّد (Craig Blomberg) في كتابه “The Historical Reliability of the Gospels” على ضرورة تطبيق معايير تاريخية مثل التقارب الزمني وتعدُّد المصادر بدلاً من اعتماد المعايير القضائية الحديثة وفَرْض آلياتها.

    ▪️امّا (Gary Habermas) و(Michael Licona ) فيقدمان في كتابهما “The Case for the Resurrection of Jesus”دراسة تحليلية متعمّقة ترتكز على ما يُعرف بـ”منهجُ الحقائقِ الْحَدِّيَّةِ” (minimal facts approach)، وهو منهج يعتمد على معايير البحث التاريخي الرصين بدلاً من النماذج القضائية الصارمة، ويستند إلى وقائع مدعومة بإجماع واسع بين الباحثين، بغضّ النظر عن خلفياتهم الدينية أو الفلسفية.

    ▪️في المقابل يطرح (N. T. Wright) في كتابه “The Resurrection of the Son of God” رؤية فلسفية ولغوية تُبرز التمايز العميق بين متطلّبات الإثبات القانوني في المحاكم، ومعايير الفهم التاريخي، معتمداً على مثال القيامة. يُميّز Wright بوضوح بين ما يُطلب لإثبات قضية قانونية أمام المحكمة، وما يُعتبر تفسيراً عقلانياً ومقبولاً ضمن السياق التاريخي واللاهوتي، مؤكداً على ضرورة تمييز السياقات وتكييف أدوات التقييم تبعاً لها.

    ◼️وفي ختام دراستنا، نصل إلى نتيجة مفادها أن الموقف المنهجي السليم يقتضي عدم اعتماد المعايير والإجراءات القضائية الصارمة المعمول بها في المحاكم الجنائية كمرجع لتقييم الوثائق التاريخية والدينية، ولا سيّما في ما يتعلق بسَرديّات الأناجيل. إنّ استبعاد الشهادات القديمة ورفضها لمجرّد عدم إمكانية استجواب الشهود الأصليين أمام المحاكم المعاصرة يُعدّ تعسفًا وانحرافاً منهجياً يقوّض إمكانية الوصول الموضوعي إلى الحقيقة التاريخية، بل ويؤدي – منطقيًّا – إلى تفكيك السجلّ البشري بأكمله، بما في ذلك الأسس المعرفية التي يستند إليها النقّاد أنفسهم في تشكيل فهمهم لتاريخهم الفردي والجماعي، حيث تُعدّ شهادات شهود العيان الموثوقة من أبرز المصادر التي يعتمدها المؤرخون في إعادة بناء الوقائع التاريخية وتفسير دلالاتها الدينية والإنسانية.

    إنّ المنهج العلمي المنضبط يتطلّب إخضاع الشهادات التاريخية – بما في ذلك الشهادات ذات الطابع الديني – للفحص النقدي وفق معايير البحث التاريخي، مثل التقارب الزمني من الحدث، وتعدّد المصادر، وتماسك التفاصيل، وغياب المؤشّرات الدالّة على التزوير أو التلاعب المنهجي. وبناءً على هذا المنظار النقدي، تظلّ روايات الأناجيل المتعلّقة بحياة السيد المسيح وموته وقيامته وصعوده قائمة، وتستحقّ الاعتبار كوثائق تاريخية ذات مصداقية عالية في الدراسات الأكاديمية والتاريخية الجادّة، لا سيّما وأن كتّابها إمّا كانوا شهود عيان للأحداث أو نقلوا رواياتهم عن شهود مباشرين، في إطار مجتمعي كان يحفظ التقليد الشفهي بعناية ويُخضعه للتحقّق الجماعي.

    وعليه، فإنّ استبعاد هذه الشهادات لمجرّد غياب أصحابها اليوم عن المثول أمام محاكم حديثة، يُعدّ انحرافًا عن مقتضيات التقييم التاريخي الرصين، ويفتقر إلى الإنصاف المنهجي.

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

    Wallace, J. W. Can A Witness Be Trusted If He Can’t Be Cross-Examined? Cold Case Christianity.

    Bauckham, R. (2006). Jesus and the Eyewitnesses: The Gospels as Eyewitness Testimony. Eerdmans.

    Blomberg, C. (1987). The Historical Reliability of the Gospels. InterVarsity Press.

    Greenleaf, S. (1846). The Testimony of the Evangelists to the Truth of the Gospel History. Baker Book House.

    Habermas, G., & Licona, M. (2004). The Case for the Resurrection of Jesus. Kregel Publications.

    Wright, N. T. (2003). The Resurrection of the Son of God. Fortress Press

    هل يمكن الوثوق بشهادة شاهد العيان في غياب امكانية استجوابه؟ – Patricia Michael

  • “حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ (إشعياء 35:6): شهادة حية على موثوقية الوحي الإلهي وفاعليته في التاريخِ البشري. ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    “حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ (إشعياء 35:6): شهادة حية على موثوقية الوحي الإلهي وفاعليته في التاريخِ البشري. ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    “حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ (إشعياء 35:6): شهادة حية على موثوقية الوحي الإلهي وفاعليته في التاريخِ البشري. ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    "حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ (إشعياء 35:6): شهادة حية على موثوقية الوحي الإلهي وفاعليته في التاريخِ البشري. ترجمة ودراسة: Patricia Michael
    “حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ (إشعياء 35:6): شهادة حية على موثوقية الوحي الإلهي وفاعليته في التاريخِ البشري. ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    🟤 المقدمة:

    منذ قرون بعيدة، نَطَق النبي إشعياء بكلمات نبويّة مُدهشة تصف زمناً سيحلُّ فيه الشفاء الجسدي والتجديد الروحي؛ زمناً يُبصر فيه الأعمى، ويقفز فيه الأعرج كالأيّل، ويتحوَّل فيه القفر إلى موضع فَيْض وحياة، إذ تنبأ بكلمات تحمل في طيّاتها وعدًا عميقًا يتجاوز التوقعات البشرية حيث قال:

    “حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ، لأَنَّهُ قَدِ انْفَجَرَتْ فِي الْبَرِّيَّةِ مِيَاهٌ، وَأَنْهَارٌ فِي الْقَفْرِ.” (إش 35: 6).

    لم تكن هذه النبوءة مجرد تعبيرات شاعرية، بل كانت إعلانًا عن تدخُّل إلهي حقيقي سيتجسّد في التاريخ. هذه النبوءة– شأنها شأن سائر النبوءات الكتابية – تحمل في طيّاتها إشارات واضحة إلى عمل الله الخلاصي والتدخُّل الإلهي في مجرى التاريخ، لا سيّما فيما يخص العصر المسياني، حيث يُستعلَن التدبير الإلهي داخل التاريخ البشري من خلال أعمال ظاهرة للعيان.

    يتناول هذا المقال كيف تحقّقت نبوءة إشعياء النبي بدقّة مُعجزيّة في زمن تجسُّد السيد المسيح، ثم امتدَّ تحقيقها في زمن الرُّسل الأطهار، مما يُبرز وحدة الإعلان الإلهي بين العهدين القديم والجديد، ويُظهر أن ما تنبأ به الأنبياء قد تحقّق حرفيًا من خلال اعمال السيد المسيح وتلاميذه من بعده، ليبقى هذا التحقيق شهادة حيّة على صدق الوحي وفاعلية الكلمة الإلهية عبر التاريخ.

    🟤 أولا: نبؤة اشعياء النبي

    “حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ، لأَنَّهُ قَدِ انْفَجَرَتْ فِي الْبَرِّيَّةِ مِيَاهٌ، وَأَنْهَارٌ فِي الْقَفْرِ.” (إش 35: 6).

    تشير هذه النبوءة، التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، إلى تحوُّلات جذرية وعميقة جداً تصاحب قدوم العصر المسياني، وتتجلّى في تدخُّل إلهي مباشر في الواقع البشري، من خلال آيات شفاء وتجديد روحي يتجاوز نواميس الطبيعة.

    يتميّز التصوير البلاغي لإشعياء في هذه النبوءة ببُعدٍ لاهوتي فريد:

    فالأبكم لا يقتصر على النُّطق، بل يُرنّم، والأعرج لا يكتفي بالمشي، بل يقفز كالأيّل – وهي صُور تُجسّد فرح الخلاص ومجد الاستعلان الإلهي في التاريخ.

    🟤 ثانيًا: تحقيق النبوءة في أيام تجسُّد السيد المسيح

    في سياق تأكيد هويّة السيد المسيح بوصفه المسيّا المنتظر الذي تتحقّق فيه النبؤات، يُقدّم لنا متّى الانجيلي مشهدًا يُظهر بوضوح أن أعمال السيد المسيح كانت شهادة حيّة على تحقيق النبوءات.

    فعندما كان يوحنا المعمدان في السجن وسمع بأعمال السيد المسيح أرسل اثنين من تلاميذه ليسألاه: «أنت هو الآتي، أم ننتظر آخر؟»

    (متى 11: 2 – 3)

    “أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟»

    لم يُجب السيد المسيح بإعلان نظري أو تصريح لاهوتي مباشر عن هويّته، بل أحال السائلين إلى أعماله التي تُجَسّد ما تنبأ به الأنبياء، لتكون هذه الأعمال الإلهية شهادة حيّة – تلك الشهادة التي سبق أن أشار إليها إشعياء النبي في نبوءته.

    (مت 11: 4-6).

    فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».

    تُعيد هذه الكلمات صدى نبوءة إشعياء، لا سيَّما في تفاصيلها الحيّة؛ فالأعمى يُبصر، والأعرج يمشي — تمامًا كما سبق وتنبأ اشعياء النبي، وبذلك، يرتبط النص الإنجيلي ارتباطاً وثيقاً بالنص النبوي، مُبيّناً أنّ زمن تحقيق الوعد قد بدأ فعليّاً خلال تجسّد السيد المسيح.

    إن السيد المسيح لا يُعلن سلطانه بالأقوال فقط، بل بالأعمال التي تُجسّد الإعلان الإلهي للعالم. وهكذا، فإنّ النبوءة التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، والتي تتحدث عن تحوّلات عجائبية في زمن المسيّا، تحققت في ملء الزمان بالتجسّد الإلهي. فمعجزات السيد المسيح وأعماله ليست أحداثًا منفصلة أو استعراضات لقدرات إلهية، بل علامات تحمل دلالة نبويّة، تُثبت أن الوعود الإلهية قد بدأت تدخل حيّز التنفيذ، وأن السيد المسيح هو التجسيد الحيّ لتلك الوعود؛ الإله المتجسّد، الفاعل في العالم.

    🟤 ثالثا: استمرارية تحقيق نبوءة إشعياء في عصر الكنيسة الأولى (أعمال الرسل)

    من الملاحظ أن اشعياء النبي لا يقتصر في نبوءته على الاشارة الى شفاء العُمي والصُم، بل يقدّم بُعْدًا لافتاً يتَّسم بدقّة تعبيريّة بالغة ذات دلالة لاهوتية عميقة: فالأبكم لا ينطق فًحَسْب، بل “يترنّم”، والأعرج لا يمشي فقط، بل “يقفز كالأيّل” (إشعياء 35: 6). وبذلك، لا يمكن فهم هذه الدقّة التعبيرية والصياغة الدقيقة في النبوءة بوصفها تصويرًا بلاغيًا أو مبالغة أدبيّة، بل باعتبارها دلالات نبوية واضحة تُشير إلى علامات زمن المسيّا، كما تبلورت في الذهن النبوي في العهد القديم.

    وعند الانتقال إلى العهد الجديد، نجد أن تأسيس الكنيسة بعد صعود السيد المسيح إلى السماء—وهو حدث اشار اليه المسيح بوضوح في مواضع متعددة (متى 16: 18–19؛ متى 18: 17؛ متى 26: 29؛ أعمال الرسل 1: 3) — جاء مترافقًا مع عمل آيات ومعجزات أُجريت على ايدي الرُّسل بقوة سماوية أكدت صدق الرسالة الإلهية.

    ويقدّم لنا القديس لوقا في سفر أعمال الرُّسل، سِجلاً لتاريخ الكنيسة الناشئة، حيث يُورد فيه في الأصحاح الثالث معجزة شفاء الأعرج عند باب الهيكل، وهي حادثة تُعدُّ تحقيقًا مباشرًا ودقيقًا لنبوءة إشعياء:

    (أع 3: 1-10)

    “وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعًا إِلَى الْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ الصَّلاَةِ التَّاسِعَةِ. وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ الْهَيْكَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «الْجَمِيلُ» لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْهَيْكَلَ. فَهذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ الْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَةً. فَتَفَرَّسَ فِيهِ بُطْرُسُ مَعَ يُوحَنَّا، وَقَالَ: «انْظُرْ إِلَيْنَا!» فَلاَحَظَهُمَا مُنْتَظِرًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا شَيْئًا. فَقَالَ بُطْرُسُ: «لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!» وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَهُ، فَفِي الْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ، فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى الْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ اللهَ. وَأَبْصَرَهُ جَمِيعُ الشَّعْبِ وَهُوَ يَمْشِي وَيُسَبِّحُ اللهَ. وَعَرَفُوهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ لأَجْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَابِ الْهَيْكَلِ الْجَمِيلِ، فَامْتَلأُوا دَهْشَةً وَحَيْرَةً مِمَّا حَدَثَ لَهُ.”

    🔸دقّة تحقيق النبوءة في سفر أعمال الرُّسل «حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيّل»:

    1- استجابة معجزيّة تفوق مضمون الأمر

    يلاحظ القارئ في هذا النص أن بطرس الرسول، عند مخاطبته للرجل الأعرج، أمره قائلاً: “بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!» وهي دعوة للقيام بفعل أساسي كان مستحيلاً عليه القيام به منذ ولادته. غير ان القديس لوقا، بدقته المنهجية، يضيف تفصيلًا لافتًا للغاية يتمثّل في أن الرجل لم يكتفِ بالمشي، بل “قفز” ايضاً.

    (أع 3: 7–8)

    “فِي الْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ، فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى الْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ اللهَ.”

    يبرز القديس لوقا عنصر المفاجأة الإلهية ويُظهر أن فعل الله لا يقتصر على الحد الأدنى من المطلوب، بل يتجاوز التوقعات ويُظهر ملء النعمة والقدرة.

    1. تحقيق دقيق لنبوءة إشعياء

    هذا التفصيل الدقيق ليس مجرّد إضافة سَرْديّة عفوية أو تصويرًا أدبيًا بلاغيًا، بل يُعدّ تحقيقًا دقيقًا مباشراً لنبوءة إشعياء القائلة: «حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيّل» (إش 35: 6).

    إن الأفعال الواردة في النص مثل وَثَبَ، وَقَفَ، وَصَارَ يَمْشِي، وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ اللهَ، تُحاكي بدقّة التعبيرات التي استخدمها إشعياء النبي، بما يشير إلى أن ما دوّنه القديس لوقا لم يكن مجرّد استدعاء أدبي لِنَصٍّ نَبَويٍّ، بل تسجيل دقيق لحَدث واقعي يحمل صدى نبوءة تحقّقت حرفيّا.

    1. النبوءة كامتداد للتاريخ الخلاصي

    غير أن هذا التوافق اللفظي والدلالي لا يُختزل في مجرّد استيفاء شكلي للنبوءة، بل يكشف امتدادًا للفعل الإلهي في تاريخ الخلاص؛ ليس بوصفه تكرارًا حرفيًا لوعود اشار اليها الوحي، بل كثمرة لزمن الخلاص الذي ابتدأ في المسيح ويظلّ فاعلًا وممتدًا في حياة رُسُله وخدمتهم.

    المعجزة إذًا تتجاوز حدود الإدراك الحسّي لتصبح علامة لاهوتية تُظهر أمانة الله في وعوده، وعمله المتواصل في التاريخ بطرق ملموسة ومجيدة.

    1. النبوءة كحدث تاريخي لا مجاز بلاغي

    تكتسب هذه “ٱلدِّقَّةُ ٱلسَّرْدِيَّةُ” أهميتها اللاهوتية من كونها تربط حدثاً تاريخياً في العهد الجديد بنبوءة مسيانية تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. فالنبوءة هنا ليست مجرّد مجازاً ادبياً أو وعود غامضة ورؤى عامّة، بل هي تنبؤ دقيق لتحوُّل جوهري وحقيقي سيحدث في المسار الانساني بفعل التدخُّل الالهي.

    1. تحولًا جذريًا يمسّ جوهر الكائن البشري.

    من الناحية الروحية، ترمز عبارة “القفز كالأيّل” إلى حرية داخلية وانطلاق جديد. فالقفز هنا لا يُفهم فقط بوصفه حركة جسدية، بل كتعبير عن فرح عميق، حياة مُفعمة، وتحرُّر من قيود العجز والمرض، ونبوءة عن تعافٍ شامل يشمل الإنسان بكليّته.

    هذا التفصيل يعكس أيضًا طبيعة المسيح الذي يُعيد تشكيل الإنسان ولا يقتصر على ازالة الأعراض فَحسْب، بل يُحدث تحولًا جذريًا يمسّ جوهر الكائن البشري. الرجل الأعرج لا يكتفي بتحقيق الحد الأدنى، بل ينتقل إلى القفز النشيط، وهو ما يرمز إلى فرح فيّاض وحياة متجددة، وقدرة فائقة على الحركة بعد عجز مزمن.

    نحن لسنا أمام شفاء جسدي فحسب، بل أمام خَلْق جديد، يعكس العمل الالهي الفدائي الذي لا يُرمّم ما قد تهدَّم فقط، بل يجدّد ويُنشىء كياناً جديداً. إن الله لا يقتصر على إحداث شفاء اعتيادي، بل يحوّل الإنسان إلى كائن جديد يعبّر عن التحرر والفرح، وكأنّ حركته إعلان عن بدء زمن جديد، قَوامه الحريّة والشفاء الشامل، روحيًا وجسديًا.

    1. الإنجيل كتحقيق ملموس للوعد

    يُبرز هذا التفصيل الطبيعة الفريدة للإنجيل، بوصفه إعلانًا إلهيًا ملموسًا يُجسّد وفاء الله بوعوده ضمن التاريخ البشري. فالإنجيل لا يقدّم مجرد فكرة نظريّة أو تأمل لاهوتي، بل يدوّن أحداثًا واقعية تؤكّد موثوقية الوحي وفاعليته التاريخية، وفي هذا الإطار ومن خلال توثيقه لهذا الحدث بتفاصيله الدقيقة، يُحقّق القديس لوقا غايته اللاهوتيّة في رَبْط العهد الجديد بجذوره في العهد القديم، مظهرًا أن التجسُّد والفداء لا يقومان على مفاهيم روحية مجرّدة، بل يتجليّان كوقائع تاريخية مُعلنة ومثبّتة.

    1. تحقيق النبوءة كعلامة لعمل الله التاريخي

    بناء على ذلك، يمكن القول إن هذه الدقّة في الوصف ليست صدفة عابرة او مجاز بلاغي، بل هي تأكيد مقصود أن النبوءة قد تحققت فعليّا، حيث يظهر الله من خلالها بصفته خالقاً ومحرّراً، يُفعّل وعوده القديمة بطريقة تتّسم بالوضوح والتميُّز. هذا يدفع القارئ إلى إدراك أنّ الكتاب المقدس، بتفاصيله الدقيقة، ليس مجرد سجل تاريخي عابر، بل هو وحي إلهي حيّ يتخطّى حدود الزمن، ليصل إلى الأبدية ويعلن مجد الله الحيّ.

    🟤رابعا: البعد اللاهوتي للوحي النبوي

    يبقى السؤال اللاهوتي الأساسي: كيف أمكن لنبي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد أن يتنبأ بمثل هذا التفصيل الدقيق لمعجزة ستتحقّق في القرن الأول الميلادي؟ إنّ هذا المستوى من الدقّة لا يمكن تفسيره ضمن إطار التوقعات البشرية المجرّدة او التخمينات التاريخية، بل هو شاهد على الطبيعة الإلهية للوحي الكتابي.

    فالأنبياء لم يكونوا مجرّد ناقلين لأفكار شخصية أو اجتماعية، بل كانوا وسطاء مميزين تكلّموا بوحي إلهي، كما يؤكد الرسول بطرس في رسالته:

    (2 بط 1: 21).

    “لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.”

    وهكذا تتجلّى النبوءات الكتابية كتعبير عن خطة إلهية متكاملة، لا كتوقّعات بشرية أو تكهّنات تاريخية، بل كأعمال إلهية تتحقّق عبر الزمن، شاهدةً على صدق الإعلان الإلهي في شخص يسوع المسيح، الذي جاء ليُتمّم كل ما كتب عنه الأنبياء، كما قال: هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ».” (لو 24: 44)

    🟤الخاتمة:

    تُظهر دراسة النبوءات الكتابية وتحقيقها التاريخي وحدة وتكامل خطة الله الخلاصية عبر الزمن، ممّا يؤكّد الطابع الإلهي للوحي المقدس. إذ تتجاوز النبوءات كونها توقعات بشرية أو تخمينات تاريخية، لتكون إعلانًا كاشفًا عن مشيئة الله الثابتة التي تتجسّد في مجيء السيد المسيح وتدخُّل الله الفاعل في مجرى التاريخ. هذه الحقيقة تحث الباحثين على الاعتراف بالكتاب المقدس كمصدر موثوق للمعرفة الإلهية، كما تعزز قوة الأدلة التاريخية والنبوية، مما يُرسّخ أسس الدفاعيات المسيحية في مواجهة الشكوك والانتقادات المعاصرة.

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

    Miller, Dave. The Bible Is from God: A Sampling of Proofs. Montgomery, AL: Apologetics Press, 2003. [see chapter four: “Messianic Anticipations – The Lame Shall Leap”].

    France, R. T. The Gospel of Matthew. New International Commentary on the New Testament. Grand Rapids: Eerdmans, 2007.

    Keener, Craig S. The IVP Bible Background Commentary: New Testament. Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 1993.

    Oswalt, John N. The Book of Isaiah: Chapters 1–39. New International Commentary on the Old Testament. Grand Rapids: Eerdmans, 1986.

    “حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالإِيَّلِ (إشعياء 35:6): شهادة حية على موثوقية الوحي الإلهي وفاعليته في التاريخِ البشري. ترجمة ودراسة: Patricia Michael

  • التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) - ترجمة ودراسة: Patricia Michael
    التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

     

    🟥الجزء الثاني (يمكنك قراءة الجزء الأول من هنا: هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ ج1 – ترجمة ودراسة: Patricia Michael)

     

    ◼️مقدمة

    في الجزء الأول من هذه الدراسة، تناولنا الشبهات الشائعة التي تلاحق مفهوم الإيمان المسيحي، خاصة تلك التي تصوُّره على أنه تصديق أعمى غير مبني على أساس معرفي أو عقلاني وكأنه قفزة في الظلام. وقد اوضحنا كيف أن هذا التصوُّر السائد لا يعكس الجوهر الحقيقي للإيمان المسيحي، بل هو تحريف يُبسّط ويقلّل من عمق العلاقة المعرفية والروحية التي يقيمها المؤمن مع الله.

     

    أما في هذا الجزء الثاني، فسوف ننتقل إلى تحليل النص الأساسي في رسالة العبرانيين (11: 1)، الذي يقدم تعريفًا متوازنًا ودقيقًا للإيمان. وسنتطرّق إلى التحليل اللغوي واللاهوتي للنص، موضحين كيف أن الإيمان المسيحي، وفق هذا النص، هو بُنية معرفية وروحية متينة، تتجاوز التصديق الأعمى، وتتأسّس على يقين موضوعي مدعوم بعلاقة حيوية مع الله وتجربة تاريخية ثابتة.

     

    بهذا الانتقال، نؤسّس لفهم أعمق للإيمان المسيحي، لا كاعتقاد عاطفي أو شعور عابر، بل كمعرفة واعية تجمع بين الروح والعقل، وتشكّل أساسًا صلبًا للثقة والرجاء في الحياة المسيحية

     

    ◼️ أولا: بين الجوهر والبرهان: تحليل ὑπόστασις وἔλεγχος في تعريف الإيمان (عب 11: 1)

     

    كثيرًا ما يُساء فهم الإيمان المسيحي على أنه حالة عاطفية مُبهمة أو تصديق دون دليل، لا سيما في الثقافة الحديثة التي تضع الإيمان في مقابل المعرفة والعقل. غير أن العهد الجديد، وبخاصة في (عب 11: 1)، يقدّم مفهومًا مغايرًا. ففي هذا النص، يُعرَّف الإيمان بأنه:

    وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى. (عب11: 1)

    “Ἔστιν δὲ πίστις ἐλπιζομένων ὑπόστασις, πραγμάτων ἔλεγχος οὐ βλεπομένων.”

    يتطلّب هذا التعريف الرجوع إلى اللغة اليونانية الأصلية لتحليل المُصطلحين المفتاحيين للنص: ὑπόστασις (hypostasis) وἔλεγχος (elenchos)، وكَشَف خلفيتهما الفلسفية واللاهوتية، لفهم الإيمان الحقيقي لا كبديل عن المعرفة، بل كامتداد أعمق لها، قائم على الإعلان الإلهي والثقة الموضوعية.

     

    ◼️ثانياً: التحليل الدلالي للمصطلحات اليونانية “semantic analysis”.

     

    ✝Ὑπόστασις (Hypostasis)

    يشير هذا المصطلح حرفيًا إلى “ما يقوم عليه الشيء”، أي الأساس أو الجوهر الثابت. يُترجم أحيانًا إلى substance (كما في ترجمة الملك جيمس KJV) للدلالة على الكيان الحقيقي والثابت، وأحيانًا إلى assurance (كما في ESV وNASB) للدلالة على اليقين والثقة الراسخة.

    في الفلسفة اليونانية، كان المصطلح يُستخدم للدلالة على الجوهر او الكيان الحقيقي الذي يقوم وراء الظواهر المتغيّرة. وبالتالي فإن استخدام الكاتب لهذا المصطلح يشير إلى أن الإيمان ليس مجرد أمل أو توقّع، بل هو يقين موضوعي يقوم على أساس راسخ من وعود الله الثابتة.

    يؤكد معجم BDAG المعنى الفلسفي العميق لهذا المصطلح بقوله:

    “the essential or basic structure/nature of an entity, substantial nature, essence, actual being.”

    وبناءً على ذلك، يُقدَّم الإيمان هنا على أنه يقين موضوعي راسخ بحقيقة الأمور المرجوّة، وليس مجرد شعور عاطفي غامض أو توقُّع غير مستند إلى أساس.

     

    ✝Ἔλεγχος (elenchus / elenchos)

     

    يعني هذا المصطلح “البرهان المنطقي” أو ” الدليل العقلي”(وليس مجرّد اثبات عشوائي)، وقد استُخدم على نطاق واسع في الجدل الفلسفي الكلاسيكي، لا سيما في محاورات أفلاطون (مثل Apology وEuthyphro)، وفي كتابات أرسطو، حيث يشير إلى التفنيد المنطقي المؤسَّس على العقل.

    في هذا السياق، لا يُفهم الإيمان بوصفه تصديقًا أعمى، بل كاقتناع عقلاني مبني على دليل داخلي ومنطقي، يتجاوز حدود الرؤية الحسيّة إلى واقع أعمق غير مرئي.

    وبناءً على ذلك، يُقدَّم الإيمان هنا على أنه يقين موضوعي راسخ بحقيقة الأمور المرجوَّة، وليس مجرَّد شعور عاطفي غامض أو توقُّع غير مستند إلى أساس.

     

    ◼️ثالثاً: البعد السياقي في الرسالة إلى العبرانيين

     

    يأتي هذا التعريف للإيمان في سياق لاهوتي محدّد، يُبرز عمق معناه اللغوي والروحي كما سبق وأوضحنا من خلال تحليل المصطلحين ὑπόστασις (hypostasis) وἔλεγχος (elenchos).

     

    ففي الإصحاح العاشر الذي سبق وأشرنا اليه في الجزء الاول، يناقش الكاتب أوقات الشدة والاضطهاد التي يبدو فيها أن الله غائب عن واقع الألم. في مثل هذه الظروف، يدعو الكاتب إلى التمسُّك بالثقة في الله، ليس كتجاهل للواقع، بل كردّ مبني على اختبارات سابقة لأمانة الله وتحقيقه لوعوده.

     

    هكذا، يُصبح الإيمان فعلًا مبنيًا على الذاكرة والوعي، مستندًا إلى جوهر يقيني ثابت (ὑπόστασις)، ومُثبتًا بعقلانية وواقعية (ἔλεγχος) في ذاكرة شعب الله والمؤمنين في العهدين، مما يجعل الحاضر منفتحًا على الرجاء، ويُقيم أساسًا متينًا للثقة في الله وسط تحديات الواقع.

     

    ◼️رابعا: البُعد الدفاعي والمعرفي للإيمان

     

    يتّضح من التحليل اللغوي والسياقي أن الإيمان في الفكر الرسولي لا يُقدَّم كنقيض للعقل، بل كشكل من أشكال المعرفة اليقينية المرتكزة على إعلان موثوق. ومن ثمّ، يُمكن تقديم الإيمان كمفهوم دفاعي ضد التهمة الشائعة بأن المسيحية تدعو إلى التصديق الأعمى.

     

    فالإيمان بحسب ما يقدّمه كاتب الرسالة إلى العبرانيين (11: 1)، ليس افتراضًا عاطفيًا أو تصديقًا أعمى، بل هو ὑπόστασις – “الجوهر الثابت” أو “الأساس الموضوعي” لما يُرجى؛ أي يقين حقيقي استباقي لوعود لم تتحقّق بعد، وهو كذلك ἔλεγχος – “البرهان العقلي–الروحي” لما لا يُرى؛ أي دليل داخلي راسخ يتجاوز الحس دون أن يتناقض معه.

    إنه التقاء بين المعرفة العقلية والمعرفة الكاشفة، يُنتج يقينًا روحيًا متجذرًا في الواقع التاريخي والوعد الإلهي.

    بهذا المفهوم، يُقدَّم الإيمان كموقف معرفي قائم على إعلان موثوق، ومُدَعَّم بتاريخ من أمانة الله، ليُصبح ردًّا عقلانيًا–لاهوتيًا على فكرة أن المسيحية تقوم على تصديق بلا دليل، أو إيمان منفصل عن الواقع.

     

    ◼️خاتمة

     

    الإيمان المسيحي، كما يقدّمه النص في (عبرانيين 11: 1)، لا يقوم على شعور داخلي عابر أو تصديق أعمى، بل على بُنية معرفية راسخة، تتجسّد في ὑπόστασις (الجوهر الثابت) وἔλεγχος (البرهان المنطقي).

    ويكشف هذا التعريف أن الإيمان، بحسب التصوُّر الرسولي، ليس موقفًا شعوريًا ذاتيًا ولا مجرّد تصديق دون أساس، بل هو نَمَط معرفي متكامل يرتكز على إعلان إلهي موثوق، ويتجذّر في خبرة تاريخية ملموسة، ويتجاوز في الوقت ذاته حدود الإدراك الحسّي والعقلي المجرّد نحو أفق غير منظور.

    لذلك، لا يُطرح الإيمان في تضاد مع العقل، بل بوصفه نوعًا من المعرفة يتجاوز العقل دون أن ينقضه. فهو يجمع بين موضوعية الحقيقة المُعلَنة ويقينية البرهان الداخلي، مُؤسِّسًا علاقة معرفية متبادلة بين الإنسان والله، قوامها الثقة في الأمانة الإلهية حتى في لحظات الألم أو الشك أو الصمت الإلهي الظاهري.

    وبهذا المعنى، لا يُختزل الإيمان المسيحي في تجربة باطنية أو معتقد فردي، بل يُقدَّم كمعرفة روحية مؤسَّسة على تفاعل حيّ مع الوحي الإلهي. إنّه يقين يُغذّي الرجاء، ويمنح صاحبه ثباتًا في مواجهة الشكوك والتجارب، حتى في غياب ما يُعدّ دليلًا مباشرًا أو محسوسًا.

     

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

    Bauer, W., Danker, F. W., Arndt, W. F., & Gingrich, F. W. A Greek-English Lexicon of the New Testament and Other Early Christian Literature (3rd ed.). Chicago: University of Chicago Press, 2000.

    Nestle-Aland. Novum Testamentum Graece (28th ed.). Stuttgart: Deutsche Bibelgesellschaft, 2012.

    The Holy Bible: English Standard Version (ESV). Wheaton, IL: Crossway, 2016.

    Hornblower, S., Spawforth, A., & Eidinow, E. (Eds.). The Oxford Classical Dictionary (4th ed.). Oxford: Oxford University Press, 2012.

    Various Editors. The Cambridge Companions to Religion and Classics Series. Cambridge: Cambridge University Press.

    التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

  • هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ ج1 – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ ج1 – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ ج1 – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ - ترجمة ودراسة: Patricia Michael
    هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

     

    🟥الجزء الأول (يمكنك قراءة الجزء الثاني من هنا: التحليل اللغوي واللاهوتي لتعريف مفهوم الإيمان في (العبرانيين 11: 1) – ترجمة ودراسة: Patricia Michael)

     

    مقدمة

    بحكم عملي كمحقق جنائي على مدى أكثر من خمسة وعشرين عامًا، كان الاعتماد على الأدلّة جزءًا أساسيًا من مهنتي وشخصيتي. وقد تشكل لديّ مع مرور الوقت مَيْلٌ تلقائيٌ للبحث عن القرائن والتحقق من الفرضيات قبل قبول أي ادّعاء. ومع ذلك، أجد نفسي أحيانًا أتساءل: “هل توجهاتي الاستدلالية تُفضي إلى نوعٍ من التحيّز أو التشويش قد يُشوّه — ولو بشكل غير مقصود — طريقتي في قراءة الكتاب المقدس واستيعابه؟ هل أقوم بتفسير النصوص من منظور مُسْبق يفترض أن الإيمان لا بد أن يكون قائمًا على البرهان؟ وهل أتعامل مع النصوص المقدّسة من خلال عدسة الإيمان المرتكز على الدليل فقط؟”

    لا ينبغي أن يُفاجَأ أحد بكوني مؤمنًا بالدليل؛ فأنا في النهاية مُحقّق، وقد أصبح هذا النهج جزءًا لا يتجزأ من مسيرتي المهنية طوال خمسة وعشرين عامًا. أعتقد أن ذلك صار جزءًا من تكويني. لكن هذه التساؤلات دفعتني إلى إعادة النظر، بتأنٍّ وصدق، في المفهوم الكتابي للإيمان. وقد توصلت، بعد سنوات من البحث والتأمل، إلى قناعة راسخة مفادها أن الإيمان، كما يقدّمه الكتاب المقدس، ليس إيمانًا أعمى أو قفزة في الظلام، بل هو ثقة عقلانية مستندة إلى أدلّة واضحة يمكن التحقق منها، ثقة معقّدة تتفاعل بعمق مع ما يُقدَّم من شواهد.

    فعلى سبيل المثال، دعا يسوع مستمعيه إلى تصديق رسالته بناءً على تعاليمه وأعماله ومعجزاته، والتي قدّمها كبرهان ودليل ملموس على صحّة أقواله واثبات ألوهيته:

     

    (يو 14: 11)

    “صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا.”

     

    وعلاوة على ذلك، مَكَثَ يسوع اربعين يومًا مع التلاميذ بعد قيامته، وقدّم لهم العديد من البراهين المقنعة التي تؤكد حقيقة قيامته وأَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ.

     

    (أعمال الرسل 1:1-3).

    1 اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ، عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ،

    2 إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ، بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ.

    3 اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ.

     

    لقد تناولت مِراراً في كتاباتي هذا المنهج الاستدلالي في فهم طبيعة الايمان المسيحي، وخلُصْتُ الى نتيجة مفادها أنّ الايمان — كما يُقدّمه الكتاب المقدس— هو “ثقة عقلانية تستند الى ادلة موضوعية ملموسة”، وهذا ما يتجلّى بوضوح في النصوص التي تُبرز طبيعة الايمان المسيحي، بوصفه تجاوبا مع اعلان إلهي مدعوم بالبراهين.

    ومع ذلك، ما زلت اتلقّى احيانا رسائل من مستمعي البودكاست الذين يتساءلون عن طبيعة الإيمان المسيحي، هل هو فعلًا يستند إلى براهين كما أؤمن وأدّعي؟ أم أن الكتاب المقدس يقدم مفهوما مختلفًا – ربما أقرب إلى “الإيمان الأعمى” الذي لا يطلب او يحتاج الى دليل؟

     

    وإليكم مثالاً شائعًا عن هذه التساؤلات، ارسلها إليْ أحدُ المستمعين حيث يقول:

    “جيم، أود أن تساعدني في توضيح نقطة تشغل ذهني وتثير حيرتي. انا أميل إلى الاتفاق مع منهجك الاستدلالي الذي يستند على الأدلّة في فهم الكتاب المقدس، ودائمًا ما أشعر بالإحباط عندما يُعرّف البعض الإيمان على انه مجرد تصديق أعمى دون أساس.

    ومع ذلك، أجد انّ هناك بعض النصوص الكتابية التي تبدو -للوهلة الاولى- وكأنها تدعم هذا المفهوم، مما يدفعني الى التساؤل: كيف يمكن التوفيق بين هذه النصوص وبين منهجك الاستدلالي الذي يعتمد على الأدلّة والمنطق والبرهان؟

    على سبيل المثال، يقول كاتب الرسالة الى العبرانيين في مستهل الاصحاح الحادي عشر:

    “وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.” (عب 11: 1).

    كثيرًا ما يُستشهد بهذا النص من الرسالة إلى العبرانيين بوصفه مثالًا على إيمان قد يُفهَم على أنه لا يستند إلى دليل، بل يقوم على الرجاء والثقة في أمور غير منظورة دون حاجة إلى شواهد محسوسة او براهين موضوعية، ومن هنا، يرى البعض أنه يُعبّر عن مفهوم “الإيمان الأعمى” الذي لا يستند إلى ما يمكن التحقُّق منه أو الاستدلال عليه منطقيًّا.

    فكيف توفّق بين هذا النص ومنهجك الاستدلالي القائم على الادلة في فهم الكتاب المقدس؟”.

     

     الرد:

     

     أولا: السياق الأدبي لفهم النص:

    غالبا ما يتم الاستشهاد بالنص الوارد في (الرسالة الى العبرانيين11: 1) للدلالة على ان الايمان المسيحي يقوم على “الثقة والرجاء دون دليل”. غير ان هذا الفهم الشائع يتغاضى عن السياق الأدبي للنص، الذي يلعب دورا حاسمًا وجوهريًا في تحديد طبيعة الايمان المقصود ومرجعيته، ومن ثمّ فإنّ فهم المعنى الدقيق لهذا النص يقتضي دراسته في ضوء السياق المباشر الذي يسبق الإصحاح الحادي عشر، وتحديدًا في خاتمة الإصحاح العاشر، وكذلك في ضوء السياق الأوسع للرسالة.

    يقول النص:

    “وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.” (عب 11: 1).

    ولفهم هذا التعريف فهماً دقيقًا، لا بد من وضعه ضمن سياقه الأدبي المباشر حيث يقدّم الكاتب في ختام الإصحاح العاشر تمهيدًا لاهوتيًا ونفسيًا يعكس الحاجة الملحّة إلى الإيمان في ظل المعاناة والاضطهاد، وبالتالي فالتعريف الوارد في مطلع الإصحاح الحادي عشر لا يُطرح بوصفه جملة عرضية أو فكرة مبتورة، بل ينبثق من سياق متكامل يشدّد فيه الكاتب على ضرورة الثبات والصبر والثقة في الله ومعاملاته السابقة وسط الشدائد. وبهذا، لا يُقدَّم الايمان هنا كمفهوم نظري مجرّد، بل كاستجابة عقلانية وواعية تنبع من اختبار سابق لأمانة الله، وتقوم على رجاء راسخ، لا على تصديق أعمى أو إيمان منفصل عن الواقع.

    عند الرجوع إلى الإصحاح العاشر الذي يسبق مباشرة تعريف الإيمان في مطلع الإصحاح الحادي عشر، نجد أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يختتم حديثه بتشجيع المؤمنين على الثبات في إيمانهم، داعيًا إياهم إلى الصبر والاحتمال على الرغم من “التعييرات” و”الضيقات” التي تعرَّضوا لها أو شهدوها، فيقول:

    (العبرانيين10 :36)

    لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللهِ تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ.

    ويؤكد لهم ان المؤمنين لا ينتمون الى فئة أولئك الذين يرتدّون إلى الهلاك، بل الى الذين يثبتون ويثابرون في الايمان من اجل اقتناء وخلاص نفوسهم، حيث يقول:

    (العبرانيين 10: 39)

    وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ الارْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ الإِيمَانِ لاقْتِنَاءِ النَّفْسِ.

    في هذا السياق، يقدّم الكاتب في مطلع الإصحاح الحادي عشر تعريفًا للإيمان، فيقول:

    “وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.” (عب 11: 1).

    هنا يُقدَّم الإيمان باعتباره ثقة راسخة بما يُرجى، ويقينًا قائمًا على أمور غير منظورة بَعْد. هذا الإيمان لا يُفهم كتصديق أعمى او قبول غير عقلاني بل هو ثقة راسخة في ما يُرجى ويقيناً مبنياً على وقائع موضوعية تتمثَّل في وعود الله، وتاريخ أمانته وتدخله الفعلي في الاحداث. فالإيمان بحسب الكاتب، ليس بديلًا عن الدليل، بل هو استجابة عقلانية واعية مبنية على مصداقية الله كما أُعلنت وأختُبِرت من خلال تدخلاته وأعماله السابقة عبر الاجيال.

    وعليه، فانّ السياق العام للنص يُبرز أهمية الإيمان كوسيلة لتجاوز المصاعب والتحديات، قائمة على شواهد حقيقية حاضرة في ذاكرة المؤمنين، وليس كتصديق غير مبرر او قفزة في المجهول. فكثيرًا ما يُساء فهم هذا النص على أنه تأكيد لفكرة “الإيمان الأعمى”؛ أي الإيمان الذي لا يستند إلى دليل، بل يقوم على الثقة المجرَّدة في أمور غير منظورة لمجرّد كونها غير مرئية. غير أن هذا النص بحسب الكاتب يُبيّن أن هذا الفهم لا ينسجم مع السياق الأوسع للرسالة، ولا سيما مع ما ورد في خاتمة الإصحاح العاشر، والذي يتضمن دعوة صريحة إلى:

     

    • الثبات في وجه الضيق والاضطهاد

    (العبرانيين 10: 32 – 33)

    وَلكِنْ تَذَكَّرُوا الأَيَّامَ السَّالِفَةَ الَّتِي فِيهَا بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ.

    مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ، وَمِنْ جِهَةٍ صَائِرِينَ شُرَكَاءَ الَّذِينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هكَذَا.

     

    • الثقة بالوعود الالهية رغم غياب مظاهر تحقّقه في الحاضر

    (العبرانيين 10: 35).

    فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ الَّتِي لَهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ.

     

    • التحلّي بالصبر

    (العبرانيين 10: 36)

    لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللهِ تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ.

     

    من هنا، يتضح أن الإيمان الذي يتحدث عنه الكاتب ليس “قفزة في الظلام”، بل هو موقف روحي وعقلي نابع من رجاء مبني على اختبارات سابقة لأمانة الله، وعلى أسس منطقية وموضوعية. فـ”ما لا يُرى” لا يعني ما هو بلا أساس، بل ما لم يُرَ بَعْد، لكنه مؤسَّس على ثقة في الله الحيّ، العامل في تاريخ البشرية.

    وهكذا، فإن اختزال النص إلى تعريف يدعو لـ”الإيمان الأعمى” يُفقده أبعاده اللاهوتية والاختبارية، ويبتعد عن فكر الكاتب الذي يؤسس الإيمان على “تاريخٍ حَيٍّ” من العلاقة مع الله، اختبره المؤمنون، ويستند إليه رجاؤهم في الحاضر والمستقبل.

     

     ثانيا: العلاقة بين الإيمان والأمور غير المنظورة؟ وهل يشير ذلك الى غياب الدليل؟

    الجواب ينبع من صميم النص وسياقه؛ إذ لا يقدّم الكاتب الإيمان بوصفه “ثقة عمياء في غياب الأدلّة”، بل استجابة عقلانية واعية مبنية على مُعطيات تاريخية وروحية سابقة. فالإيمان لا يتناقض مع الدليل، بل يرتكز عليه؛ إذ يثق المؤمنون بما لم يُرَ بَعْد، استنادًا إلى وعود الله التي أثبتت مصداقيتها عبر أزمنة متكررة، وفي مواقف ملموسة عايشوها بأنفسهم أو تناقلتها جماعة المؤمنين.

    فـ”غير المنظور” هنا لا يعني “غير المعقول”، بل يشير إلى ما لم يتحقَّق بَعْد في إطار الزمن الحاضر رغم تأخُّر ظهوره، وبالتالي، لا يُشير وصف الإيمان بأنه اقتناع “بأمور لا تُرى” إلى غياب الدليل، بل يعبّر عن اللحظات التي يشعر فيها الإنسان بغياب حضور الله، رغم ثبات وجوده الدائم. في مثل هذه الأوقات، يُدعى المؤمنون إلى التمسُّك بثقة عقلانية لا تستند إلى مشاعر لحظية أو رؤى آنية، بل إلى سِجِلٍّ إلهي سابق من الأمانة، يثبت أن ما لم يُرَ بَعْد لا يَقلُّ يقينًا عمّا تم اختباره بالفعل سابقاً.

    في هذه اللحظات الصعبة، حين يبدو الله صامتًا أو غائبًا، يبرُز التساؤل: أين الله في هذه الظروف؟ ولماذا لا نشعر بتدخله؟

    يؤكّد كاتب الرسالة الى العبرانيين أن خلاص الله ورعايته وحضوره ثابت ومستمر، داعياً المؤمنين إلى الثقة بأن الله لم يغِب عنهم أو يتخلّى عنهم، وأن عمله الإلهي يظل فاعلًا في حياتهم، مهما اشتدت المِحَن.

     

    ثالثًا: الثقة المستندة إلى الأدلّة في العهدين القديم والجديد

    ولكن ما الذي يبرّر هذه الثقة، وعلى ماذا تستند؟

    الثقة هنا ليست ايماناً أعمى، بل تستند الى سِجِلٍّ موثوق من أعمال الله التي شهدها المؤمنون عبر التاريخ. فالإيمان لا يُعتبر قفزة في الظلام، بل استجابة عقلانية وواقعية مبنية على تدخلات الله المثبتة تاريخياً. هذه الأعمال الإلهية، الموثّقة في الكتاب المقدس، تشكّل دليلاً ملموسًا على أمانة الله، مما يمنح المؤمنين أساسًا عقلانيًا ووجدانيًا للثقة في وعوده.

    الجواب يكمن في أمانة الله عبر التاريخ. فالإيمان والثقة التي يدعو إليها الكاتب لا يقومان على مجرّد اعتقادات بلا سنَد، بل مبنيان على اختبار حيّ وثمرة تجربة توثّق أمانة الله المتجلية في أحداث التاريخ الكتابي. إن الإيمان هنا ليس قفزًا في الظلام، بل استنادًا إلى سِجِلٍّ إلهي حافل من الأمانة المتكررة، يقوم على ما يمكن تسميته بـ”السابقة الإلهية”. وهذا السِّجِلُّ المتكرر المتجدد لأمانة الله يُكوِّن مرجعية موثوقة، تمنح المؤمن أساسًا عقلانيًا ووجدانيًا للثقة في ما لم يُرَ بَعْد.

     

    لذلك، كان تذكير شعب الله بأعماله السابقة، من إنقاذهم من مصر إلى حمايتهم في أوقات الضيق، دليلاً عملياً على قدرته ووفائه بوعوده.

    أما في العهد الجديد، فكانت معجزات المسيح وأقواله وقيامته تمثل برهاناً قاطعاً على ألوهيته ومصداقية وعوده.

    إذاً، لم يكن الإيمان لدى المؤمنين مبنياً على خيالات أو تكهنات، بل على أحداث تاريخية موثوقة تكشف أمانة الله وحضوره الفعلي في حياتهم. وبناء عليه، يدعو كاتب الرسالة الى العبرانيين المؤمنين إلى الثقة بالله، مستندين إلى هذه الأدلة التاريخية، حتى حين يغيب حضور الله الظاهر أو لا يشعر به الإنسان أو عندما تكون رحمة الله أو حضوره في مواقف معينة غير مرئية أو غير ملموسة، يُطلب منهم أن يتذكّروا الأدلّة والشهادات السابقة على أمانته، مما يُثبّت إيمانهم في مواجهة الشكوك والتحديات.

    إن أعمال الخلاص التي أتمّها الله في الماضي — من إنقاذ الشعب من مصر إلى قيامة المسيح — ليست مجرد أحداث تاريخية عابرة، بل تأكيدات مرئية وملموسة على قدرة الله وحضوره الفعّال في العالم والتاريخ. وهكذا، فإن الكاتب لا يُطالب بالإيمان الأعمى، بل بإيمان يستند إلى تاريخ حافل بتدخلات الله المتكررة التي تُثبت أمانته، وتؤكّد حضوره ومصداقيته، وهو ما يشكّل قاعدة أساسية ومتينة للإيمان بما لم يُرَ بَعْد.

    حتى كاتب الرسالة نفسه يُدرك أن اليقين لا ينبع من فراغ، واليقين الذي يدعونا إليه لا يأتي من الخيال، بل هو مستند إلى الأدلة الموثوقة على أمانة الله في العهد القديم، والدليل القوي على ألوهية المسيح وأعماله في العهد الجديد.

     

    الخلاصة

    الإيمان، كما يقدّمه كاتب الرسالة إلى العبرانيين، ليس استسلامًا أعمى أو تصديقًا بلا أساس، بل هو ثقة راسخة تستند إلى تاريخ عمل الله وسِجِلٍّ إِلَهِيٍّ موثوق من وعوده المتحقِّقة وافعاله السابقة. فعندما يدعو الكتاب المقدس إلى الإيمان بأمور “لا تُرى”، فإنه يحثُّ على الاتكال على ما قد تم اختباره ومعاينته في تاريخ تعاملات الله مع شعبه والمؤمنين به.

    الإيمان المسيحي ليس قفزة في الظلام، بل هو استجابة عقلانية ووجدانية معًا، تعتمد على أدلة موضوعية وشواهد تاريخية ملموسة. فكاتب العبرانيين يُرسّخ هذا المفهوم بأنّ الإيمان بوصفه موقفًا يربط الحاضر بالماضي، ويتطلّع الى المستقبل بثقة قائمة على أمانة الله المستمرة.

    وهكذا، يُفهم الإيمان المسيحي بأنه موقف يقوم على الثقة الثابتة بالله، مدعومًا بسِجِلٍّ إِلَهِيٍّ موثوق، واستجابة عقلانية مبنية على حقائق سابقة تعزز الثقة بالوعود المستقبلية، حتى في لحظات الغياب الظاهري للدلائل.

     

     الخاتمة

    تؤكّد العديد من الدراسات والمقالات اللاهوتية المعاصرة أن الإيمان المسيحي لا يقوم على أساس الإيمان الأعمى أو القبول غير المبرّر، بل هو إيمان يُبنى على أدلّة وشواهد وتجارب مُعاشة تُعزّز الثقة العقلانية. هناك فرق كبير بين الإيمان الحقيقي والإيمان الأعمى، فالإيمان الحقيقي هو استجابة واعية ومستنيرة للدلائل التي يُقدّمها الله، كما يظهر في النصوص الكتابية التي تعرض علامات واضحة وأحداثًا تاريخية تُثبت صحة الرسالة المسيحية.

    إنّ الإيمان لا ينشأ من فراغ أو فرضية عشوائية، بل من علاقة مستمرة وتجربة شخصية مع الاله الحيّ، تستند إلى وعد ملموس وتجارب واقعية، مما يجعل الإيمان قائمًا على المعرفة والتصديق العقلاني وليس على ظلمة الجهل أو الغموض. وفي هذا السياق، يبرز مثال إبراهيم كأحد أبرز نماذج الإيمان في الكتاب المقدس، فقد كان ايماناً وعيًا مستنيرًا نابعًا من إعلان إلهي واضح، وعلاقة حيّة وتجارب ملموسة مع الله. لقد آمن بإله يتواصل ويعلن نفسه، ويَعِد، ويُوفي، ويؤدّب، ويتدخّل، ويقيم العهد، ويُتممّ المواعيد — أي بإله موثوق، له سِجِلٍّ سابق في حياته وتجارب تراكمية مرَّ بها.

    فالإيمان لا يُعتبر قفزة في الظلام، بل مبني على تاريخ موثوق لتدخُّلات إلهية ملموسة، وتجارب روحية وشخصية تعزز مصداقية الايمان وتثبت أمانة الله وثبات وعوده عبر الأزمنة.

     

    ليكن للبركة

     

    Patricia Michael

    Doesn’t the Bible Say True Faith is Blind? J. Warner Wallace

    Does God Expect us to have blind faith?

    Blind Faith: Is it Biblical?

    هل الإيمان الحقيقي تصديق أعمى؟ – أليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس؟ – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

  • كاتب سفر إشعياء – تفنيد الفرضيات النقدية حول تعدد الكتّاب في سفر إشعياء النبي – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    كاتب سفر إشعياء – تفنيد الفرضيات النقدية حول تعدد الكتّاب في سفر إشعياء النبي – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    كاتب سفر إشعياء – تفنيد الفرضيات النقدية حول تعدد الكتّاب في سفر إشعياء النبي – ترجمة ودراسة: Patricia Michael

    كاتب سفر إشعياء - تفنيد الفرضيات النقدية حول تعدد الكتّاب في سفر إشعياء النبي - ترجمة ودراسة Patricia Michael
    كاتب سفر إشعياء – تفنيد الفرضيات النقدية حول تعدد الكتّاب في سفر إشعياء النبي – ترجمة ودراسة Patricia Michael

    المقدّمة

    يُعدّ سفر إشعياء أحد أعظم الاسفار النبوية في الكتاب المقدّس في العهد القديم وأكثرها تأثيرًا. ومع ذلك، فقد كان هذا السفر محور نقاش وجَدَل أكاديمي طويل الأمد حول كاتبه. من بين الانتقادات التي أثيرت حوله هو الادّعاء بأن السفر لم يُكتب بالكامل بواسطة النبي إشعياء بن آموص، بل هو ثمرة مساهمات متعددة وعمل مشترك لعدة كتّاب عاشوا في ازمنة تاريخية مختلفة.

     

    ادّت هذه الفرضية الشائعة بين النقّاد، إلى تقسيم السفر إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

     

    – إشعياء الأول (First Isaiah) (الاصحاحات 1-39): يُنسب هذا الجزء إلى إشعياء النبي نفسه (اشعياء بن آموص)، وأنه كتب هذه الاصحاحات خلال القرن الثامن قبل الميلاد. يتناول هذا القسم التحذيرات الموجهة إلى مملكة يهوذا والنبوءات عن الشعوب المجاورة.

     

    – إشعياء الثاني (Deutero-Isaiah) (الاصحاحات 40-55): يعتقد النقاد أن هذا القسم كُتب في وقت لاحق، خلال فترة السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد. ويرى أصحاب هذه الفرضية أن أسلوب الكتابة ومحتوى هذه الاصحاحات يشيران إلى كاتب آخر، عاش أثناء السبي وركز على الوعود بالخلاص والعودة إلى أرض إسرائيل.

     

    – إشعياء الثالث (Trito-Isaiah) (الاصحاحات 56-66): يفترض النقاد أن هذا الجزء كُتب بعد العودة من السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد. يتناول هذا القسم بناء الهيكل الجديد والأمل في المستقبل، ويزعم النقاد أن هذه الاصحاحات تعكس سياقًا اجتماعيًا وسياسيًا مختلفًا عن بقية السفر.

     

    في ضوء هذه التحديات، تبرز أسئلة محورية:

    كيف يمكن الرد على الفرضيات النقدية التي تنادي بتعدد الكتّاب؟ وهل توجد أدلة كتابية وتاريخية تدعم فكرة وحدة سفر إشعياء وإسناده بالكامل إلى النبي إشعياء بن آموص؟

    هذه الأسئلة تستدعي فحصًا دقيقًا للأدلة النصية، والتحليل التاريخي، والمواقف اللاهوتية التي تعيد تقييم أسس هذه الفرضيات النقدية.

     

     أساس الخلاف: لمحة حول التطور التاريخي للجَدَل حول هوية كاتب سفر إشعياء.

     

    من الضروري أن ندرك أن الجدل حول هوية كاتب سفر إشعياء لم يظهر إلاّ بعد قرون عديدة من كتابة هذا السفر. كانت المجتمعات اليهودية والمسيحية على حد سواء تقبل بإجماع واسع أن النبي إشعياء بن آموص هو الكاتب الوحيد للسفر بأكمله.

     

    يمكن تتبع بداية هذا التحول في هذا الرأي إلى القرن الثاني عشر الميلادي، عندما أثار المفسر اليهودي ابراهام ابن عزرا (Abraham Ibn Ezra) لأول مرة تساؤلات حول وحدة سفر إشعياء. ووفقًا للموسوعة اليهودية Encyclopedia Judaica, ألمح ابن عزرا الى أن الجزء الأخير من السفر (الاصحاحات 40-66) قد لا يكون من كتابة النبي إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد، بل من عمل نبي آخر عاش خلال فترة السبي البابلي.ورغم أن ابن عزرا لم يُصرّح بذلك صراحة، إلا أن تلميحاته الغامضة فتحت الباب أمام قراءات لاحقة شكّكت في وحدة السفر.

     

    في القرن الثامن عشر، طور العالم اللاهوتي الألماني يوهان كريستوف دوديرلين (Johann Christoph Döderlein) هذا الاتجاه، حيث قدّم رأيًا مفاده إن نبوءات إشعياء المتعلقة بالسبي البابلي لا يمكن أن تكون قد كُتبت قبل وقوعها.ومنذ ذلك الحين، تبنّى العديد من العلماء النقديين المعاصرين هذا الرأي، الذي يفيد بأن سفر إشعياء هو نتاج مساهمات متعددة، ويُنسب إلى كتّاب مختلفين عاشوا في فترات تاريخية مختلفة.

     

    أصبحت هذه النظرة أكثر شيوعًا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وما زالت تحظى بقبول واسع لدى العديد من النقاد حتى اليوم. تعتمد الحجّة الأساسية لهؤلاء النقاد على أن الفصول الأخيرة لسفر اشعياء (40–66) تعبّر بوضوح عن السياق التاريخي لفترة السبي البابلي والعودة اللاحقة إلى أورشليم، وهي فترة جاءت بعد وفاة إشعياء النبي بفترة طويلة. ويرى هؤلاء النقّاد أن التحديد الدقيق للأحداث المستقبلية في هذه الفصول يشير إلى أنها كُتبت بعد وقوع تلك الأحداث، أي بأثر رجعي، وبالتالي فهي – في نظرهم – لا تنتمي إلى زمن إشعياء، بل أُلحقَت فيما بعد بـالسفر.

     

    لكن هل هذا الاستنتاج منطقي وصحيح من وجهة نظر كتابية؟

    في ظلّ هذا الجَدَل القائم حول وحدة سفر إشعياء ونسبته الى النبي إشعياء بن آموص ككاتبٍ منفردٍ للسفر، تبرز الحاجة الماسّة إلى تحليل متكامل يستعرض الأبعاد المختلفة التي يستند اليها النقاش النقدي واللاهوتي على حد سواء. تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك الفرضيات النقدية الحديثة التي تشكّك في وحدة السفر، وذلك عبر دراسة تفصيلية متعددة الزوايا تجمع بين التحليل النصي، واللاهوتي، والشهادات الكتابية.

     

     ولتحقيق هذا الهدف، ستعتمد هذه الدراسة على خمسة محاور رئيسية تشكّل الهيكل المنهجي لتحليل وتفنيد تلك الفرضيات النقدية.

     

    1- المنظور النقدي الحديث بشأن كاتب السفر وتحدّيه لطبيعة النبوءة الكتابية:

    في هذا المحور، يتم تحليل الأسس النقدية التي يعتمد عليها النقّاد الرافضون لنسبة الاصحاحات (40–66) إلى إشعياء بن آموص، ودراسة تبعات هذا الرفض على فهم النبوءة والوحي كما يقدمه الكتاب المقدس.

     

    2- دليل على الوحدة في سفر إشعياء – نظرة فاحصة على اللغة والمضمون:

    في هذا المحور، نُجري تحليلًا للتناسق الداخلي للنصوص، بما في ذلك العبارات والتصورات اللاهوتية المشتركة بين الأجزاء المختلفة للسفر، بهدف دعم فرضية وحدة السفر.

     

    3- شهادة العهد الجديد – نظرة السيد المسيح والرُّسل إلى وحدة السفر:

    في هذا المحور نسلّط الضوء على تعامُل السيد المسيح والرسل مع سفر اشعياء كوحدة متكاملة، دون أي تمييز بين أجزائه أو إشارة إلى تعدّد كُتّابه، مما يعزز مصداقيته النبوية ووحدته النصية.

     

    4- مخطوطات البحر الميت والأدلة التاريخية __ دعم إضافي لوحدة السفر:

    نستعرض في هذا الجزء ما تقدّمه مخطوطات البحر الميت من شواهد تدعم الرؤية التقليدية لنسبة السفر إلى نبي واحد، وتُظهر قانونيته المبكرة بوصفه سفرًا موحّدًا منسوبًا للنبي إشعياء.

     

    5-تحقيق النبوءات في سفر اشعياء: بابل كنموذج لتحقيق النبوءات:

    تُختتم هذه الدراسة بالمحور الخامس، الذي يتناول تحقيق النبوءات في سفر اشعياء، لا سيّما النبوءات المتعلقة ببابل كدراسة حالة تبرز موثوقية النبوءة، وتُعزّز من فرضية وحدة السفر.

     

    إن هذا التقسيم المنهجي لا يهدف فقط إلى دحض فرضيات “أشعياء الثاني” و”أشعياء الثالث”، بل يسعى إلى ترسيخ فهم سليم لطبيعة الإعلان الإلهي كما يُقدّمه الكتاب المقدس، مُظهِرًا اتّساقه الداخلي عبر العصور، وشهادته لنفسه بوصفه كلام الله الموحى به.

     

     اولا: المنظور النقدي بشأن كاتب سفر إشعياء وتحدّيه لطبيعة النبوءة الكتابية

     

    انّ النقاد الذين ينكرون أن النبي إشعياء كتب الاصحاحات (40-66) يعتمدون في موقفهم على فكرة أن هذه الاصحاحات تحتوي على نبوءات دقيقة جدًا عن أحداث مستقبلية، مثل السبي البابلي وعودة الشعب إلى أورشليم. ويعتقد هؤلاء النقاد أن هذه الدقة لا يمكن أن تكون نبوية (أي كُتبت قبل حدوثها)، بل يزعمون أنها كُتبت بعد وقوع الأحداث،مما يدفعهم إلى رفض نسبتها للنبي إشعياء الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد، وبالتالي، فإن هذا الإنكار لا يتوقف عند التشكيك في أن إشعياء هو كاتب السفر، بل يمتد ليطال جوهر النبوءة الكتابية نفسها.

     

    إن المنظور النقدي الذي يشكّك في نسبة (الاصحاحات 40-66) إلى النبي إشعياء يتحدّى جوهر النبوءة الكتابية. فالنقّاد الذين ينكرون أن إشعياء هو كاتب هذه الاصحاحات يجادلون بأنه لا يمكن لأحد أن يتنبأ بأحداث مستقبلية محددة وبتلك الدقة. ينبع هذا الاعتقاد من رؤية بشرية للعالم تستبعد إمكانية الوحي الإلهي. ومع ذلك، فإن النبوءة الكتابية، بطبيعتها، تؤكد أن الله بصفته كليّ العلم والسيادة يستطيع أن يكشف عن الأحداث المستقبلية لأنبيائه.

     

    -فيما يلي بعض النقاط الأساسية التي يجب أن نشير إليها في هذا السياق:

     

    أ- الشهادة الكتابية حول النبوءة وتأكيد الكتاب على قدرة الله على إعلان أحداث المستقبل.

     

     (إشعياء 42: 9) يعلن الرب قائلاً:

    هُوَذَا الأَوَّلِيَّاتُ قَدْ أَتَتْ، وَالْحَدِيثَاتُ أَنَا مُخْبِرٌ بِهَا. قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ أُعْلِمُكُمْ بِهَا».

     

     (اشعياء 46: 9-10)

    اُذْكُرُوا الأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ الْقَدِيمِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي. مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ، وَمُنْذُ الْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ، قَائِلًا: رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي.”

     

    هنا، يتجلّى جوهر النبوءة الكتابية: فالله، الكائن خارج الزمن، يستطيع أن يُعلن عن أحداث مستقبلية لم تحدث بعد بكل صدق ويقين.

     

    ب- الاثر اللاهوتي لانكار النبوءات

     

    تقوم النبوءة، بحسب الكتاب المقدس، على قدرة الله على إعلان أحداث مستقبلية لأنبيائه بوحي إلهي. ومن ثمّ، فإن التشكيك في نسبة هذه الاصحاحات الاخيرة للنبي إشعياء بحجّة دقتها في وصف احداث مستقبلية ينطوي ضمنيًا على إنكار مفهوم النبوءة الإلهية وهذا لا يطعن في وحدة السفر فحسْب، بل يشكّك ايضا في مصداقية الشهادة الكتابية بأكملها حول مفهوم النبوءة.

     

    ج- الرد اللاهوتي على هذا النقد

     

    لا تصمد اعتراضات النقّاد أمام الحقيقة اللاهوتية التي يُعلنها الكتاب المقدس،فاله الكتاب المقدس غير مقيّد بالزمن ولا يخضع للحدود البشرية. وقدرته على إعلان الأحداث المستقبلية تتماشى تماما مع صفاته وطبيعته في كونه كليّ العلم وكليّ السيادة. وكما يقول بطرس الرسول:

    “لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (2 بط 1: 21).

     

    هذا الإعلان يؤكد أن مصدر النبوءة ليس الإنسان، بل الله نفسه، مما يُبطل كل اعتراض يرتكز على حدود الإدراك البشري أو استحالة التنبؤ الدقيق بالمستقبل.

     

    لذلك، لا يمكننا ابدا رفض العناصر النبوية في سفر إشعياء استنادًا إلى رؤية إنسانية تنكر التدخل الإلهي في التاريخ.

     

    ثانيا: دليل على الوحدة في سفر إشعياء ___ نظرة فاحصة على اللغة والمضمون

     

    يجادل النقاد بأن الاختلافات في الأسلوب والمضمون بين الاصحاحات في (إشعياء1-39) والاصحاحات في (إشعياء 40-66) تشير إلى وجود كتّاب متعددين. ومع ذلك، فإن الفحص الدقيق للنص يكشف عن اتّساق ملحوظ في اللغة والمضمون والطرح اللاهوتي، وكلها تشير إلى كاتب واحد.

     

    أحد الأدلّة الأكثر إقناعًا على وحدة سفر إشعياء وأن كاتبه واحد هو الاستخدام المتكرر لبعض العبارات، على سبيل المثال: عبارة “قدوس إسرائيل”. تظهر هذه العبارة اثنتي عشرة مرة في الاصحاحات في (إشعياء 1-39) وثلاث عشرة مرة في الاصحاحات في (إشعياء 40-66)، ومن المثير للاهتمام أن هذا المصطلح يظهر ست مرات فقط في بقية اسفار الكتاب المقدس العبرية. يعكس التكرار اللافت لهذا الوصف الفريد ليهوه اتساقًا واضحًا في النص، مما يؤكد وجود كاتب واحد لسفر إشعياء بأكمله.

     

    -بالإضافة إلى ذلك، يحتوي كلا القسمين من إشعياء على أشكال تعبيرية متشابهة، مثل:

     

    أ- صورة امرأة حبلى تُقارب الولادة: (إشعياء 26: 17؛ اشعياء 66: 7)

     

     (إش 26: 17).

    “كَمَا أَنَّ الْحُبْلَى الَّتِي تُقَارِبُ الْوِلاَدَةَ تَتَلَوَّى وَتَصْرُخُ فِي مَخَاضِهَا، هكَذَا كُنَّا قُدَّامَكَ يَا رَبُّ.”

     

     (إش 66: 7)

    “قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا الطَّلْقُ وَلَدَتْ. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْمَخَاضُ وَلَدَتْ ذَكَرًا”.

     

    ب- ومفهوم “السكّة والطريق” (إشعياء 11: 16 ؛ اشعياء 35: 8)

     

     (إش 11: 16)

    “وَتَكُونُ سِكَّةٌ لِبَقِيَّةِ شَعْبِهِ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ أَشُّورَ، كَمَا كَانَ لإِسْرَائِيلَ يَوْمَ صُعُودِهِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ”.

     

     (إش 35: 8)

    “وَتَكُونُ هُنَاكَ سِكَّةٌ وَطَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: «الطَّرِيقُ الْمُقَدَّسَةُ». لاَ يَعْبُرُ فِيهَا نَجِسٌ، بَلْ هِيَ لَهُمْ. مَنْ سَلَكَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى الْجُهَّالُ، لاَ يَضِلُّ”.

     

    ج- تظهر صهيون كرمز لاهوتي بشكل متكرر ومتّسق في نصوص السفر، حيث تُذكر 29 مرة في (الاصحاحات 1-39) و18 مرة في (الاصحاحات 40-66)، مما يعزز بقوة الفرضية القائلة ان السفر من كتابة نبي واحد فقط لسفر اشعياء.

     

    وتؤيد موسوعة الكتاب المقدس القياسية الدولية هذا الرأي، فإن الأسلوب الفريد والتعبيرات المميزة التي تتخلل سفر إشعياء بأكمله تدعم بشكل قوي فرضية أن السفر موحى به من الله ومن كتابة نبي واحد، مما ينسجم مع الأدلة التي تثبت وحدة النص.

     

    ثالثا: شهادة العهد الجديد ___ نظرة السيد المسيح والرُّسل حول وحدة سفر إشعياء.

     

    يشكّل العهد الجديد دليلاً قويًا يدعم وحدة سفر إشعياء، حيث يُنسَب النص بأكمله إلى النبي إشعياء دون أي تمييز بين أقسامه المختلفة. يستند هذا الاستنتاج الى إشارات مباشرة من يسوع المسيح ورسله الذين تعاملوا مع السفر كوحدة متماسكة، مما يعكس إيمانهم الراسخ بوحدته.

     

    أ- شهادة السيد المسيح:

    في (انجيل لوقا 17:4-21)، نرى السيد المسيح، خلال حضوره في المجمع، يقرأ من سفر إشعياء، مقتبساً من (اشعياء 61: 1 – 2)

     

    “فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ». ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ».

     (لو 4: 17-21).

     

    النص المقتبس من اشعياء: “رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، (إش 61: 1-2).

     

    يظهر من هذا الاقتباس أن يسوع اعتمد على النص النبوي بوصفه جزءًا من سفر إشعياء الموحَّد، دون الإشارة إلى أي تمييز داخلي أو تعدد في الكتّاب. إن قراءته لهذا المقطع وتأكيده على تحقيق ما كُتب فيه في شخصه، يمنح النص سلطة إلهية تفسيرية، ويُضفي على وحدة السفر مصداقية نهائية من منظور المسيح ذاته، مما يعزز الموقف القائل بأن السفر بكامله منسوب إلى النبي إشعياء.

     

    ب- شهادة الانجيليين:

    في (انجيل متى 3: 1-3) نجد تأكيدا اضافيا على وحدة سفر إشعياء:

    وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلًا: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».

     

    ينسب متى الإنجيلي هذه النبوءة بوضوح إلى انها مقتبسة من سفر “إشعياء النبي”، دون أي تلميح إلى تقسيم السفر أو تعدد الكتّاب:

     

     (إش 40: 3).

    “صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: «أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا.”

     

    إن الاستشهاد المباشر بهذا النص من سفر إشعياء وربطه بشخص يوحنا المعمدان دون تمييز أو تحفُّظ يعكس قبولًا عامًا لوحدة السفر ونسبته للنبي إشعياء. فهذا التوافق بين نصوص العهدين يعزز الرؤية القائلة بأن إشعياء هو كاتب السفر بأكمله، إذ يتعامل كتبة العهد الجديد مع السفر كوحدة متكاملة منسوبة إلى نبي واحد.

     

    ج- شهادة بولس الرسول:

    يشير بولس الرسول في رسائله الى نصوص من سفر إشعياء، مقتبسًا من إشعياء 53 وإشعياء 65 في (رومية 10: 16، 20) (رومية 15: 12)

     

    “لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟»” (رومية 10: 16).

     

    ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ: «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي» (رومية 16: 20)

     

    وَأَيْضًا يَقُولُ إِشَعْيَاءُ: «سَيَكُونُ أَصْلُ يَسَّى وَالْقَائِمُ لِيَسُودَ عَلَى الأُمَمِ، عَلَيْهِ سَيَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ». (رومية 15: 12)

     

    يتّضح من هذه الاقتباسات أن بولس الرسول يقتبس من مواضع متعددة في سفر إشعياء، دون أن يميّز بين أقسام السفر أو يشير إلى اختلاف في المصدر أو تعدد الكُتّاب. بل إنه ينسب جميع هذه النصوص إلى النبي إشعياء بصيغة واحدة متّسقة، مما يدل على قبوله الضمني بوحدة السفر ونسبته إلى نبي واحد.

     

    نستنتج مما سبق أن كتبة العهد الجديد، الموحى إليهم، قد تعاملوا مع سفر إشعياء كوحدة أدبية ولاهوتية متكاملة منسوبة إلى نبي واحد دون أدنى إشارة إلى تقسيم داخلي أو تعدد في الكتّاب; فقد اقتبسوا من مواضع متفرقة من السفر، ونسبوا جميعها إلى إشعياء النبي، مما يعكس فهماً موحداً للسفر بأكمله. وبما أن الرب يسوع ذاته، ومعه رسله، قد اعتمدوا هذا السفر على هذا النحو، فإن شهادتهم التي تحمل سلطانًا إلهيًا تُعدّ دليلاً حاسمًا يعزّز الإيمان بوحدة السفر وموثوقيته كوحي إلهي متكامل منسوب الى كاتب واحد.

     

    رابعا: مخطوطات البحر الميت والأدلة التاريخية __ دعم إضافي لكون سفر إشعياء منسوبًا لنبي واحد

     

    إلى جانب الأدلة الداخلية للكتاب المقدس، تقدّم الشهادات التاريخية والمخطوطات دعمًا متينًا للرأي القائل بأن سفر إشعياء هو عمل نبوي موحَّد منسوب إلى نبي واحد، لا الى مجموعة من الكتّاب المتأخرين كما تفترض بعض النظريات النقدية الحديثة.

     

    ويُعدّ اكتشاف مخطوطات البحر الميت في القرن العشرين نقطة تحوُّل محورية في دراسة نصوص العهد القديم، إذ اتاحت هذه المخطوطات القديمة مادة قيّمة للغاية لتحليل قضايا التدوين والنقل النصي للأسفار المقدسة.

     

    ومن بين هذه المخطوطات تبرز مخطوطة سفر إشعياء المعروفة باسم (1QIsaa)، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد، بوصفها شاهدًا مادياً مميزاً يعزز فكرة وحدة السفر ونسبته إلى نبي واحد.

    ما يميز هذه المخطوطة هو التسلسل النصي المتّصل بين الاصحاحين 39 و40، دون وجود أي فاصل او مؤشر بنيوي يدل على وجود انقسام او ما يوحي ببدء قسم جديد — خلافاً لما يدّعيه بعض النقاد الذين يرون في الاصحاح 40 بأنه انطلاقة لقسم جديد يُطلق عليه اصطلاحا “إشعياء التثنوي” (Deutero-Isaiah). على العكس من ذلك، يظهر هذا الإصحاح في المخطوطة في استمرارية طبيعية ضمن العمود ذاته، مما يدلّ بوضوح على أن النساخ القدماء تعاملوا مع السفر بوصفه وحدة متكاملة غير مجزّأة، هذا الترابط الداخلي يشكّل دليلًا نصياً قوياً يُفنّد مزاعم التعددية، ويعزّز الرواية التقليدية التي تنسب السفر بأكمله إلى إشعياء بن آموص.

     

    ما كشفته مخطوطة قمران الشهيرة (1QIsaa) يتقاطع مع ما ذهب اليه العديد من المفسرين المحافظين الذين دافعوا بقوة عن وحدة سفر إشعياء ونسبته إلى نبي واحد.

    فقد أشار John N. Oswalt في تفسيره لسفر إشعياء إلى أن الانتقال من الإصحاح 39 إلى 40 لا يكشف عن أي انقطاع بنيوي أو تحوّل في الهوية الأدبية للنص، بل يُفهم كتطوّر طبيعي في رسالة النبي نفسه ضمن اطار تاريخي ولاهوتي موحَّد.

     

    كما شدّد E. J. Young، استنادًا إلى التحليل الداخلي والتقليدين اليهودي والمسيحي، على أن السفر منسوب إلى إشعياء منذ قرون دون اعتراض يُذكر.

     

    ويضيف Gleason L. Archer بُعدًا نقديا حيث يرى ان فرضيات النقّاد حول “إشعياء التثنوي” لا تستند إلى أدلة نصية حاسمة، بل إلى افتراضات منهجية نشأت في سياقات فكرية متأخرة، وليست مبنية على ادلة نصية حاسمة او مخطوطات موثوقة ولا تعكس واقع النقل النصي القديم.

     

    وإلى جانب الشهادة المخطوطية القيّمة التي تمثلها مخطوطة (1QIsaa)، تبرز شهادة تاريخية ذات دلالة بالغة وردت في مؤلف “الآثار اليهودية” للمؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس، حيث يشير إلى أن الملك الفارسي كورش اطّلع على نبوات النبي إشعياء التي سبقته بأكثر من قرنين من الزمان. يقول يوسيفوس في هذا السياق:

    “عرف كورش هذه الأمور من خلال قراءته لسفر النبوءة الذي تركه إشعياء قبل مائتين وعشر سنوات.”

     

    تشهد هذه العبارة على إقرار تاريخي قديم بوحدة السفر وتاريخه المبكر، وتعكس فهمًا راسخًا في التقليد اليهودي بأن نبوات إشعياء دُوّنت في القرن الثامن قبل الميلاد، وهذا بدوْرهِ يُضعف الطروحات النقدية التي تفترض وجود كتّاب لاحقين، ويعزز بالمقابل الاسناد التاريخي للسفر إلى نبي واحد هو إشعياء بن آموص.

     

    إن هذا التوافق بين الدليل النصي القديم ومضمون شهادة يوسيفوس التاريخية يُمثل تقاطعًا هامًا بين الدليل المادي والقرائن الأدبية التقليدية، مما يوفّر أساسًا قويًا للدفاع عن وحدة السفر في وجه النظريات النقدية الحديثة، التي غالبًا ما تقوم على فرضيات أدبية أو منهجية غير مدعومة بشواهد مادية أو سياقات زمنية موثقة.

     

    “وبالتالي، فإن التماسك النصي الملحوظ في أقدم مخطوطات سفر إشعياء، إلى جانب ما أوردته المصادر التاريخية القديمة بشأن معرفة ملوك فارس بنبوءات إشعياء، يُعزّز بصورة متكاملة ما خَلُصَت إليه دراسات متعددة من أن هذا السفر يُمثّل وحدة نبوية متماسكة، مكتوبة بوحي إلهي، وتحمل بصمة مؤلف واحد هو النبي إشعياء بن آموص، لا نتاجًا تراكمياً لمجموعة من الكتّاب المتأخرين، كما تفترض بعض القراءات النقدية المعاصرة القائمة على فرضيات أدبية ومنهجية تفتقر إلى التأييد النصي أو التاريخي الكافي.”

     

    خامسا: تحقيق النبوءات في سفر اشعياء: بابل كنموذج لتحقيق النبوءات

     

    تُعدّ الإشارات المتكررة إلى بابل كقوة عالمية مهيمنة في (الاصحاحات 40–66) من سفر إشعياء من أبرز الحجج التي يعتمد عليها المشككون في إسناد هذه الأجزاء إلى النبي إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد. اذ يُفترض بحسب النقّاد، أن بروز بابل كإمبراطورية عالمية لم يتحقق إلاّ في القرن السادس ق. م، أي بعد زمن إشعياء بأكثر من قرن من الزمان. وقد دفع هذا التصوّر الزمني بعض هؤلاء النقّاد إلى افتراض أن هذه الاصحاحات قد كُتبت لاحقًا، على يد كاتب آخر عاش في زمن السبي البابلي أو بعده، وليس على لسان النبي إشعياء نفسه.

     

    غير أن هذا الاعتراض يغفل طبيعة النبوة الكتابية التي تتميز بتقديم الاحداث المستقبلية بصيغة الماضي او الحاضر للدلالة على حتمية وقوعها ويقين تحقيقها وسلطان الاعلان إلهي.

     

    فعلى سبيل المثال، نجد في (إشعياء 13: 19)، وصفاً لبابل بأنها “بهاء الممالك”، وذلك في سياق نبوءة تتناول مجدها المستقبلي وسقوطها اللاحق، رغم ان بابل، في زمن اشعياء النبي لم تكن قد أصبحت بعد القوة العالمية المهيمنة كما عُرفت لاحقا. النص يقول:

    “وَتَصِيرُ بَابِلُ، بَهَاءُ الْمَمَالِكِ وَزِينَةُ فَخْرِ الْكِلْدَانِيِّينَ، كَتَقْلِيبِ اللهِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ” (إشعياء 13: 19)

     

    انّ استخدام صيغة الماضي أو الحاضر في عرض أحداث مستقبلية سِمة أدبية مميزة للنصوص النبوية في الكتاب المقدس، وتهدف إلى التأكيد على يقينية تحقيق الوعد الإلهي وسلطان الإعلان النبوي، وليس إلى الإيحاء بأن كاتب النص يعيش في زمن لاحق لتلك الأحداث، كما يزعم بعض النقّاد. فالنبوءة، بطبيعتها، لا تسعى إلى عكس واقع تاريخي معاصر للنبي، بل تعلن عن حقائق مستقبلية بصيغة مؤكدة ومقررة، وغالبًا ما تُصاغ بلغة تحقق فعلي، بحيث يُعرض الحدث وكأنه قد وقع أو على وشك الوقوع، وذلك لإبراز حتميته وموثوقية التدبير الإلهي ومواعيده المعلنة.

     

    يشبه هذا الاسلوب الكثير من النبوءات في مواضع أُخرى في الكتاب المقدس مثل (رؤيا 21: 5 – 6)، حيث يصف يوحنا الرائي الأحداث المستقبلية بلغة تأكيدية حاسمة تشير إلى اليقين التام بحتمية وقوعها:

     

    “وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا!» وَقَالَ لِيَ: «اكْتُبْ: فَإِنَّ هذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ». ثُمَّ قَالَ لِي: «قَدْ تَمَّ! أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانًا.”

     (رؤيا 21: 5 – 6)

     

    وكذلك يقول الرب ايضا في (إشعياء 42: 9):

    هُوَذَا الأَوَّلِيَّاتُ قَدْ أَتَتْ، وَالْحَدِيثَاتُ أَنَا مُخْبِرٌ بِهَا. قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ أُعْلِمُكُمْ بِهَا».

     

    هذا إعلان واضح عن طبيعة النبوة الكتابية، بوصفها إعلانًا مسبقًا لما لم يحدث بعد، من خلال علم الله الكامل بالمستقبل، الذي يُعبّر عنه بسلطان إلهي لا يتزعزع.

     

    إن جوهر النبوءة الحقيقية يكمن في القدرة على إعلان الأحداث المستقبلية بسلطان إلهي ويقين لا يتزعزع، ومن هذا المنطلق، فإن نبوءة اشعياء بشأن صعود بابل لا تُعدّ دليلًا على وجود كاتب لاحق، بل هي شهادة على موثوقية النبوءة ودقتها ومصدرها الالهي، وتؤكد أن ما كُتب إنما كُتب بوحي من إله كليّ العلم والمعرفة بالمستقبل يعلن النهاية منذ البداية.

     

    الخاتمة:

    تتضافر الأدلة النصية والتاريخية الى جانب الاتّساق الادبي واللاهوتي الداخلي لسفر إشعياء لتعزيز الرؤية التقليدية التي تنسب السفر بأكمله إلى النبي إشعياء بن آموص، حيث ان الاعتراضات التي يثيرها بعض النقاد حول الاصحاحات 40–66 تتغافل عن طبيعة النبوءة الكتابية، وتتجاهل الشهادات الواضحة الواردة في الكتاب المقدس، فضلًا عن المعطيات التي تقدّمها السجلات التاريخية القديمة..

     

    يبقى سفر إشعياء، بما يحتويه من نبوءات دقيقة ورسائل لاهوتية عميقة، عملاً متماسكًا في بنيته وموحى به إلهيًا، شاهداً على سيادة الله على مجرى التاريخ، ودليلاً على قدرته الفائقة في إعلان النهاية منذ البداية. وهكذا، يظهر السفر كوحدة أدبية ولاهوتية متكاملة، نابعة من وحي إلهي، جاء على لسان النبي اشعياء بن آموص وليس ثمرة مساهمات متعددة لكتّات لاحقين.

     

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

     

    How Many “Isaiahs”? A Question of Prophetic Authorship and Unity in the Book of Isaiah

    Oswalt, John N. The Book of Isaiah, Chapters 1–39. Grand Rapids: Eerdmans, 1986.

    Oswalt, John N. The Book of Isaiah, Chapters 40–66. Grand Rapids: Eerdmans, 1998.

    Young, Edward J. The Book of Isaiah. 3 vols. Grand Rapids: Eerdmans, 1965–1972.

    Archer, Gleason L. A Survey of Old Testament Introduction. Chicago: Moody Press, 2007.

     

    ليكون للبركة

    Patricia Michael

    كاتب سفر إشعياء – تفنيد الفرضيات النقدية حول تعدد الكتّاب في سفر إشعياء النبي – ترجمة ودراسة: Patricia Michael