أبحاث

سر القبر الفارغ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

سر القبر الفارغ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

سر القبر الفارغ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟
سر القبر الفارغ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

سر القبر الفارغ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

والآن ما سرّ هذا القبر الفارغ المختوم؟ سـؤال يسـتحثُنا للإجـابة عليه، وهو ما سـأعالجه في هذا الفصـل.

في هذه القصة أشياء تؤثر فيَّ أعمق تأثير، وهي ليست من الأشياء الثانوية التافهة التي يمكن إغفالها او التغاضي عنها، ولكنها أشياء تمسُّ المشكلة في الصميم. ولست أؤمن، ولا يسعني أن أؤمن، أن جسد يسوع الناصري رقد في بستان يوسف الرامي في أية فترة من الزمن معاصرة لقومة المسيحية ونشأتها الأولى.

وإذا استطاع إنسان أن يدلّنا على وثيقة واحدة من وثائق العصر الأول التي عالجت صلب يسوع ودفنه، تُلمح ولو من بعيد، إلى أن الجسد كان ثاوياً في القبر، فأنا من جانبي لا أتورّع عن أن أقيم لهذا التلميح وزناً، فهو تكأة، وإن تكن هزيلة مرضوضة، يقوم عليها بعض الشك، على أن الوثائق كلها شديدة الصلابة قوية الإجماع على صدق هذا المظهر الخارق الذي تبدّى للعيان في فجر يوم القيامة.

وسواء رجعنا إلى بشارتي متى ولوقا من بشائر الإنجيل، أو إلى ما يسمونه بشارة بطرس غير القانونية خارج الإنجيل، أو إلى بشارة يوحنا أو وثيقة عمواس التي بقيت من آثار لوقا، أو بشارة مرقص أقدم أسفار الإنجيل – في هذه كلها نصطدم بشهادة قوية ثابتة تدلّ على اختفاء الجسد. ولو كان الأمر عكس ذلك، ولو أنه طُلب إلينا أن نؤمن بشيء أنكرته الوثائق كلها التي بقيت على الأجيال.

لما تردّدنا في التشبُّث بهذا الإنكار واتخاذه دليلاً قوياً لا سبيل إلى تفنيده. على أن بين أيدينا وثائق ومؤلفات من مصادر عدّة تناولناها من عصور بعيدة، وكتبها أشخاص تفاوتت أمزجتهم، ومن وجهات نظر مختلفة، عن سير الحوادث – وليس فيها مطلقاً أي تلميح أو تصريح يغاير الحقائق التي أثباتها مرقص في بشارته، وهو أول رواة هذه القصة وأسبقهم في التاريخ. ولست أشك أن هذا الإجماع الصارخ من جانب الكُتّاب والمؤلفين يلقى ما يستحقه من التقدير لدى كل باحث منصف.

على أن هناك آخر أبعد غوراً من هذه الشهادة التي أجمع عليها هذا الإجماع الرائع كل الكتّاب والمؤلفين. ولست أدري كيف يقدر أبرع النقاد المحدثين على مواجهته دون أن يعيروه شيء من الاضطراب والقلق الفكري، وأعني بذلك صمت الآثار صمتاً رهيباً عن الإشارة إلى قبر يسوع في التاريخ اللاحق لموته.

وإنه لغريب حقاً أن يصمت علم الآثار هذا الصمت الطويل الرهيب إزاء بقعة كان لها بلا شك قدسية وحرمة في نفوس ألوف من الناس خارج دائرة المؤمنين المسيحين أنفسهم. ألم يوجد وقتها من يرمق بعين التوقير والاحترام القبر الذي ضمّ بين جنباته جسد أعظم معلم عرفه شعب إسرائيل بعد عصر الأنبياء؟

ألم يكن لأمثال يوسف الرامي، ونيقوديموس الحبر اليهودي، نظائر واخوان بين الجماهير العاملة التي زحمت يوماً ما سفن الصيد في بحيرة الجليل، وعجّت بهم من قبل طرقات كفرناحوم وقانا والناصرة؟ لا شك أنه إلى جنب كل امرأة أو رجل وقع تحت تأثير التلاميذ، مائة غيره أو غيرها ممن لم تخطر بأذهانهم فكرة عن القبر، ولكن قلوبهم تثقّلت بالأسى والشجن والتفجع إزاء موت المسيح المكبر قبل الأوان.

ومع كل هذا فإنك تنقّب عبثاً عن إشارة أو تلميح أو همسة تستخلص منها أن سيلاً من الحجيج دلف إلى ذلك القبر الصامت في خلال السنوات الأربع التي نادى فيها المسيحيون بعقيدتهم الغريبة داخل أسوار مدينة أورشليم. ولسنا نسمع أي صدى خافت لجدل أو حوار بين الكثيرين الذين عرفوا الحقائق كما هي، ولا بين القليلين المضللين الذين نادوا بما لا يؤمنون به. فتُرى لماذا تبقى على الزمن ما نتخيله أغرب عقائد المسيحية وأبعدها عن التصديق، دون أن تترك وراءها أثراً لنظرية تباينها، كنا ننتظر بحكم المعقول أن تطغى عليها وتنتصر دونها؟

بل خذ المشكلة من وجه آخر ودُرْ حولها كيفما شئت: وهنا أطلب إلى القارئ الكريم ان يجلس في هدأة غرفته ويفكر تفكيراً رزيناً جدّياً في مسألة لها مع بساطتها قدرها العظيم: لماذا صادرت أورشليم ذاتها مركز القيادة لهذه الدعاية الغريبة عن القيامة، والي قُدّر لها فيما بعد أن تُذاع في أقصى أطرف الإمبراطورية الرومانية؟ لماذا فُضِّلت أورشليم على كفرناحوم أو الناصرة مثلاً؟ وهناك أسباب لا حصر لا تحملنا على الظن أن أسطورة واهية مثل قيامة يسوع بالجسد – هذا على فرض أنها أسطورة – كانت تلقى مرتعاً خصيباً في ربوع الجليل الطيبة اللينة، ولكنها تذبل في المنطقة التي كان بها القبر الحقيقي؟

وغير خافٍ أن أورشليم كانت دائماً معادية للمسيح، ناقمة عليه رافضة له، بينما كان الجليل موطنه الذي حَنا عليه ورحب به. والذين أحبوه أشد الحب، وبكوه أمرّ البكاء، هم الذين استوطنوا هذا الإقليم الضاحك الباسم، وما انقضت أربعة عشر يوماً على حادثة الصلب حتى كان بطرس وأندراوس وغيرهما من الصحابة الرسولية قد هرعوا إلى شطئان تلك البحيرة حنيناً إلى صناعتهم القديمة الشريفة.

ولنماشِ أصحاب المزاعم ونفترض جدلاً أن رؤيا سيدهم قد لاحت لواحد منهم او ربما لكلهم. فلماذا لم تنشأ جماعة المؤمنين هذه – التي كان أساس إيمانها الرؤى والأحلام! – في الجليل، وتضرب أصولها العميقة في تلك الأرض الطيبة اللينة، في ذل الإقليم الذي كان موطن يسوع الروحي، والذي دوت في ربوعه تعاليمه، وسرى فيها سحر شخصيته؟ لماذا ينجذب كل الذين سحرتهم هذه الفورة إلى أورشليم انجذاب الفولاذ إلى المغناطيس؟ ولماذا تزهر هذه العقيدة غير المعقولة في الوسط الذي أُنكرت فيه، وتتأصل وتتماسك أمام الذين افتروا عليها وجحدوها؟

ليس لهذه الأسئلة إلاّ جواب واحد، هو الذي يتماشى مع الإجماع الرائع في القصة ومع منطق الحوادث التاريخية ومطاليبها – هو أن قصة زيارة النسوة الحقيقية التي لا كذب فيها – قصة تروي الوقائع عارية، وتمثل حقائق التاريخ أصدق تمثيل في أبسط عبارة.

وحين نقبل قصة النسوة واقعة تاريخية صادقة، لا أسطورة مختلقة في عصر متأخر، نتميز بين ثنايا رواية مرقص مميزات خاصة تدمغها بطابع الصدق والحق:

انظر أولاً إلى شخصيات النسوة اللواتي زُرن القبر: كنا نحسبه غريباً حقاً ألاً يفكر أحد في أداء الواجب الأخير لصديق كريم ودود مثل المسيح. وكنا نحسبه أغرب من هذا لو أن الباكين عليه كانوا من غير النساء، أو غير اللواتي ذكرت القصة أسماءهن. والحق أن هؤلاء النسوة بالذات يناسبنَ الموقف أتمّ مناسبة، لأن يسوع كان سيدهنّ ومعلمهنّ، وكنّ له تابعات مخلصات.

فلو كان قيل لنا أن كلوديا بروشلا، أو لعازر، أو حتى نيقوديموس، هم الذين قاموا بهذه الزيارة الخفيّة للقبر، لكنا نرتاب في الأمر بعض الريبة، إذا انتفت الأدلة القوية التي تسند القصة. ولكن مَن كان أولى بهذه الخدمة الأليمة على النفس للزعيم المائت من أمهات صحابته، والمرأة التي انتشل حياتها من وهدة البؤس والشقاء؟

أجل، حين نقبل هذه القصة حقيقة تاريخية، نراها مؤسسة على دعائم صلدة، هي دعائم الإختبار البشري المحض.

ونظرة أدقّ إلى القصة نستبين منها صدقها إذا حسبناها واقعة تاريخية، وبطلانها إذا اعتبرناها أسطورة مختلقة. فإن البشير مرقص يقول إن النسوة هربنَ مهرولات بعد اللقاء الذي أفزعهنّ عند القبر، والأسلوب الذي يوصف به هذا الهرب يدل على ذعر وهلع: “خرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهنّ، ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنّ خائفات….

ولسنا نعرف الكلمات التي ختم بها الكاتب هذه العبارة، لأن هذا الأثر الشهير الخالد ينقطع فجأة عند هذا النقطة. على أنه مهما تكن الألفاظ الختامية فإن المعنى واضح من سياق الكلام. فالنسوة قد قررن فيما بينهنّ – بعد أن شهدنَ الدفن عصارى يوم الجمعة – أن يقمنَ بواجب التكريم والمحبة نحو يسوع في الصباح الباكر من يوم الأحد. وكانت زيارتهن خفية. ويرجع بعض هذا التستُّر إلى أن البستان كان ملكاً خاصاً كما هو المرجح. والأغلب أنهم كنّ خائفات من الكهنة وزعماء اليهود. وإنكار بطرس لسيده في فناء رئيس الكهنة أقرب دليل على الخطر الذي كان يتعرض له مَن تربطه صلة – ولو من بعيد – بصحابة ذلك الناصري، في تلك الساعات العنيفة الجامحة التي أُطلقت فيها الشهوات والنزوات عن عقالها.

بدأ النسوة السير حسب تدبيرهنّ السابق قبيل الفجر، في ساعة يقلُّ فيها المارة ويخلو البستان حسب تقديرهنّ. ولم يكنّ يتوقعن أي شيء خارق للعادة. انحصر كل همهنّ في الحجر الذي عرفن من قبل حجمه، وخشينّ ألا يقدرن على دحرجته. وبعد أن أدار النسوة أبصارهن ذات اليمن وذات الشمال لئلا يكشف أحد أمرهنّ، تقدمن بهدوء نحو القبر، ولكن بعد دقائق معدودات كنت تراهنّ هاربات مهرولات من مدخل البستان إلى الطرق العام.

هذه هي قصة مرقص في عبارتها الصريحة، تصّور واقعة من الحياة أصدق تصوير. وما يعتريها من نقص كأسطورة مختلقة. هو أقوى دليل على صدقها التاريخي. فذُعر النساء ورعبهنّ وعجزهنّ عن الوقوف واستقصاء جليّة الخبر، وتقهقرهنّ السريع وصمتهن الخائف. كل هذه تبدو عناصر غريبة في قصة اختلقها الراوي بعد ثلاثين سنة من وقوع الحادث لإثبات عقيدته. ولكن حين ننظر إليها كحقيقة تاريخية، نحسُّها كنسيم من الحق يهفهف ليناً وادعاً في جو البستان، في ذلك الصباح الرائع في تاريخ الإنسانية.

ونرى في هذه المسألة حقيقتين بارزتين من الحقائق التاريخية اليقينية: أولاهما أن طائفة من النسوة من صحابة يسوع ذهَبن إلى القبر في الساعات المبكرة من صباح الأحد. والثانية أنهن هربن من البستان في حالة من الذعر والهلع. ويخيُل إليّ أننا مضطرون إلى التسليم – بغض النظر عما روته بشارة مرقص – بأن النسوة لقينَ إنساناً عند القبر، وهو ما يعلل اضطراب أعصابهن وفرارهن السريع – فلو كان البستان خاوياً مهجوراً، ولو كنّ قد وجدن فقط القبر خالياً (أو حتى مختوماً ومغلقاً)، لوقفن حائرات مذهولات، ولما هربن خائفات مذعورات. ولكن ظهور إنسان في تلك الساعة المريبة هو الذي صدم أعصابهن فهرولن لا يلوين على شيء. وأرجو أن يقف القارئ عند هذه النقطة متأملاً مفكراً:

وإنه طبيعي أن يضطرب المرء ويجزع حين يلقى فجأة وعلى غير انتظار إنساناً آخر في داخل قبر وفي ساعة مريبة من ساعات الفجر الغابشة. فإن موقفاً كهذا يحفل بطبيعة الحال بشتى الاحتمالات المرعبة. وينشأ عنه ذلك الجزع العقلي والأدبي الذي أشار إليه مرقص في روايته. وغير خافٍ أن هذا الزيارة إلى القبر كانت مجازفة خطيرة حافلة بكل أنواع المخاطر، ولم يقع اختيار النسوة الأمينات المخلصات على ساعة الفجر صدفة واتفاقاً، ولم يكن ذكر الرواة لها تدبيراً مفتعلاً لحبك القصة، إنما كانت الفرصة الذهبية السانحة لهنّ، وكل دقيقة تمضي بعد شروق الشمس تجعلهن أكثر عُرضة للخطر. ومن بدء الأمر خاف النسوة لئلا يراهنّ أحد، وهذا هو المعنى الذي تحمله رواية البشير مرقص.

إذن نقف الآن وجهاً لوجه أمام حقيقة شائقة حقاً، ونرى القصة كيفما قلّبناها تشعّ بنور الحق والصدق. وأنت إذ تقرأها لا تحسها قصة مبتكرة كُتبت بعد سنوات طوال لتسند النظرية المسيحية عن القيامة، بل تتمثلها ذكريات صريحة أصلية عن حدث وقع فعلاً. الحق أن القصة كما دُونت في بشارة مرقص، ذلك الأثر القديم الخالد، ليست إلاّ من الحقائق التاريخية المحضة، ولن نفهم مشكلة القيامة فهماً صحيحاً حتى ندرك أن قصة مغامرة النسوة في الذهاب إلى القبر كما روتها تلك الوثيقة التاريخية القديمة تمثل أصدق تمثيل الوقائع التي جرت، لا من حيث ذهاب النسوة فقط وهربهن عند رؤية شخص آخر هناك، بل أيضاً من حيث أن المكان الذي ذهبنُ إليه هو القبر الأصلي الذي وُضع فيه جسد يسوع.

والذي أرجوه أن يخلو القارئ بنفسه إلى مكان هادئ ويفكّر في الأمر ويستخلص ما يجره إليه تفكيره من نتائج منطقية. وليذكر قبل لكل شيء أن كل الفروض والمزاعم التي أثارها ألدّ أعداء المسيحية وأصلب النقّاد عوداً، ممن حاولوا تعليل مظاهر القيامة من أقدم العصور – كلّهم قد افترضوا أساسياً، هو خلّو القبر الأصلي من جسد المسيح.

ومن الغريب أيضاً أنه لم يفكّر أحد في أن يواجه صحابة يسوع – وخصوصاً النسوة – بذلك الإنسان الذي عرف يقيناً ما حدث، لأنه كان هناك شاهد في البستان في صباح ذلك اليوم. فإن كان ذلك الشاب الذي تخيّله النسوة في البستان هو البستاني، فلماذا لم يُسأل، وعنده الخبر اليقين لأنه شاهد عيان؟ فإنه ليس معقولاً أن يذكر مواجهته لثلاث من النسوة المذعورات في ساعة كهذه غير منتظرة، وللغرض الذي جئن من أجله.

أجل، كان هناك الشاب الذي يمكن له أن يدلي بالقول القاطع. فهل يجوز لنا أن نتصور – مع وجود هذا الدليل – أن أعداء صحابة المسيح، وهم كثيرون، يغفلون عن مثل هذا التفكير، ويفلت من أيديهم دليل حاسم كهذا؟

لا نظن ذلك. وهذا الجواب وحده كافٍ لدحض النظرية القائلة إن النسوة أخطأن في التعرف

إلى القبر. وحسبُ القارئ أن يفكّر في السنوات الأربع التي نشطت فيها الدعاية فلقيت نجاحاً باهراً، وأن يفكّر في المناقشات الأسبوعية والمنازعات الجدلية في مجامع اليهود، وفي الحوار والنقاش بين الأفراد عن حقيقة المسيح أهو المسيا أو غيره، وأن يفكّر في الصدوقيين ذوي الكرامة والمقام الرفيع الذين لم يألوا جهداً في كبح جماح الدعوة وطمس معالم القضية، وفي قوة المقاومة التي ثارت فجأة يغذيها عقل منطقي جبار وعزيمة عنيدة صلبة. هو عقل شاول وعزيمته….

حَسْبُ القارئ أن يفكر في هذا الأشياء التاريخية البارزة، ثم يفكّر أن الدليل الذي كان في مقدوره أن يقضي على كل هذه الفقاقيع، لا يبعد أكثر من نصف ميل يقطعه الكهنة لاستنطاق البستاني!!!

وأنا مقتنع شخصياً أنه لم يكن مستطاعاً لأية جماعة من الرجال أو من النساء، تنادي في أورشليم بتعليم منطوٍ على خلّو القبر، ما لم يكن ذلك القبر خالياً حقيقة. فالحقائق كانت كلها قريبة إلى الأذهان، والقبر كان ملاصقاً للحياة التي عجّت بهذه الدعوة الغريبة. ولم يكن في مقدور أية وسيلة من وسائل الإقناع في العالم أن تشتري هذا الصمت الرهيب الذي التزمته الآثار والعاديات، ولا ذلك الإجماع الرائع المؤثر الذي نلمسه في الوثائق التاريخية. وليس يقدر على الظفر بهذا كله إلاّ الحق الأبلج في صراحته وبساطته.

وأريد هنا أن ينتبه القارئ أيضاً إلى نقطة غريبة مليئة بالمعاني في القصة، ما أظن أنها لقيت من الرعاية والتفكير ما تستحقه. تلك هي حادثة الشاب الذي قيل عنه في رواية البشير مرقص إنه أفزع النسوة إذ رأينه داخل القبر. ولم يترك البشير مرقص في روايته شكاً في موضع ذلك الشاب، فلا حاجة بنا إلى أن نسأل أكان الشاب واقفاً على مقربة من القبر أم كان يعمل على مسافة منه، لأن الراوي يقول في صريح اللفظ عن النسوة إنهن “لما دخلن رأين شاباً جالساً عن اليمين”. فكأنه كان محجوباً عن الأنظار، ولم يُكشف أمره إلا حين همّ النسوة بالدخول إلى القبر. ومن هنا كان فزعهنّ وهربهنّ.

ولو كان ذلك الشاب البستاني المعيّن هناك، ولو كان يعمل في تلك الساعة في العراء، لما أقبل النسوة نحو باب القبر، بل كنّ يترددن ويقفن على مسافة منه حتى لا يراهنّ، بل لفكرن في العودة متخفيات متسللات. على أن هذه ليست الصورة التي ترسمها رواية مرقص، فإنها تمثّل فزعاً طارئاً حلّ بهنّ، وذعراً أخذهنّ وهنّ غافلات عند باب القبر، ما لم يكنّ متأهبات له.

وإذا كان عنصر المفاجأة والذعر من مقّومات الصورة التي رسمها البشير مرقص، فماذا عسانا نقول عن مهمة ذلك الزائر، وماذا كان يفعل في ذلك المكان؟ إن داخل القبر المظلم المهجور، لا يصحُّ أن يكون مكاناً يستريح فيه عامل منهوك القوى في ساعة الفجر الباكر.

وإذا كان هو البستاني فماذا كان يفعل داخل القبر، وقد كان في وسعه أن يستريح خارجه في مكان ظليل يستروح نسمات الفجر العليلة؟ وما الحاجة إلى طلب الراحة في جّو القبر الخانق، بعد أن تكون قد بزغت أنوار الفجر من الشرق؟ ليس هناك سبب مفهوم يحمل إنساناً بشرياً عادياً على اللجوء إلى غرفة من غرف الموت الرطيبة وفي ساعة غير منتظرة، إلا إذا كان ذلك الإنسان قد جاء وفي نفسه غرض معين، مسوقاً إلى القبر بدافع قويّ واهتمام شديد.

وما من شك أن هذا الاهتمام الشديد بالقبر ومَن فيه هو الذي يعلل ذهاب الشاب إلى القبر في ساعة كهذه، ثم جلوسه في داخله. وما من شك أن فكرة عنيفة قد ألحّت عليه وهو في ذلك القبر الفارغ، لا سيما حين رأى الأكفان موضوعة في مكانها والجسد ليس ملفوفاً فيها. ونقدر أن نتصوره جالساً مستغرقاً في التفكير في هذه الظاهرة الغريبة، وإذا به يسمع وقع أقدام وهمسات أصوات. وبعد لحظة يقع على المشهد ظل امرأة تطلُّ من الخارج، فيظلم النور الضئيل الباهت المنبعث من الباب، ويخرج الشاب سريعاً ليرى من القادم، فإذا بثلاث نسوة مضطربات يجرين في خوف وحيرة.

وهناك سبب آخر أقوى من هذا يحملنا على اليقين أن المكان الذي زاره النسوة لا يمكن أن يكون إلا قبر المسيح الأصلي. ولا ريب أن مريم المجدلية وصاحباتها قد روين قصتهن عند سنوح أول فرصة حرصاً على سلامتهن وسلامة التلاميذ. ومن السخف والحماقة أن يزعم إنسان أن ثلاثاً من النسوة (بينهن اثنتان قد شارفتا على دور الكهولة) يجزْن اختباراً عنيفاً كهذا، وله أثره العميق في عقولهن، دون أن يقلنَ شيئاً عنه لأقرب الناس إليهنَّ، ولا ريب أن التلاميذ كانوا على علم بالقصة قبل يوم الخمسين المشهور.

وهنا نصطدم بحقيقة لها خطورتها التاريخية العظيمة، وهي أن التلاميذ لم يلجأوا إلى هذه القصة كدليل على قيامة المسيح. فأنت لا تجد كلمة واحدة عن اختبار النسوة في كل عظات يوم الخمسين، يوم بدأت الحركة المسيحية سيرها التاريخي الظافر.

كما أنك لا تجد أية إشارة إلى هذا الاختبار في كل الخطب التي سجلها سفر الأعمال، وكأنما قد تأيد صكُّ الكتمان هذا بذلك الصمت الغريب عن هذا الحادث في رسائل الإنجيل، ومنها رسالة بولس إلى كورنثوس، التي كنا ننتظر أن نجد فيها تلميحاً إلى حادث النسوة عند كلامه عن القيامة.

وإنه لمن الغريب حقاً أن نلحظ في كل هذه المؤلفات والرسائل إغفالاً لهذا الحادث يكاد يبلغ حد التعمد في الإخفاء والكتمان. ومع ذلك فإن لوقا البشير الذي لعب دوره في عمل الكنيسة الأولى، والذي كان رفيقاً لبولس في رحلاته شهوراً طوالاً، عرف القصة لأنه رواها في بشارته. كذلك عرفها مرقص الذي قضى أيضاً مع بولس زمناً.

فما علّة الكتمان الملحوظ لمظهر أخّاذ من مظاهر القيامة، قُدّر له أن يكون فيما بعد من أحب الذكريات المسيحية وأروعها؟ ولماذا نجد قصة النسوة على نقيض ذلك قد احتلت مكانتها الرفيعة عند ظهور كتب السيرة التي وضعها البشيرون وسجلوا فيها الحوادث والأحاديث التي استخلصوها من ذكريات الكنيسة مما نُقش بأحرف من نور على أذهان الأنصار والتابعين؟ أراني أمام تعليل واحد يحلُّ هذا الاشكال حلاً مرضياً مقنعاً:

لنعُد إلى الساعات الأولى من صباح القيامة. وهناك أسباب – لا تخفى عن كل من يقرأ بشائر الإنجيل الكريم بإمعان – تحملنا على الظن أن الرسالة التي حملتها مريم المجدلية إلى المدينة بُعيد الفجر، لم يكن مؤدّاها أن يسوع قام، بل أن الجسد قد نُقل لأسباب لا تعلمها. وهذا هو الذي تشهد به رواية الإنجيل على لسان إحدى النسوة بعد دقائق معدودات من وقوفهن أمام القبر الفارغ.

وهنا نتصور النسوة الثلاث يركضن مهرولات بأقصى سرعتهن، بعد ذلك الاختبار المخيف عند القبر، نحو الطريق العام. وهنَّ لم يكنَّ في سنّ واحدة. فالمجدلية كانت شابة قوية، بينما كانت الأخريات والدتين لرجلين ناضجين في السنّ. فبعد أن بلغنَ الطريق العام، رأينَ أن تتقدم إحداهن مسرعة لإخبار التلاميذ، ويكاد يكون محققاً أن المجدلية هي التي تطوعت لهذه الخدمة لخفة حركتها وصغر سنها، تاركة المرأتين الأخريين تسيران وراءها على مهل. وبعد دقائق من هذا المشهد نقراً عن امرأة لاهثة مضطربة تطرق على باب دار في أورشليم، لتلقي رسالتها التاريخية المأثورة: “أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه”.

تلك كانت الرسالة، التي جاءت بها المجدلية إلى التلميذين بطرس ويوحنا وهي إن دلت على شيء، فعلى يأس ولهفة. ثم أني أميل إلى الظن أن المرأتين الأخريين المتقدمتين في السنّ، بعد أن رجعتا إلى البيت، روتا لصديقاتهما قصة كاملة مما حدث وخاصة عن الزائر الغريب الذي سبقهنَّ إلى القبر. وليس من المستبعد أن يكون قد خطر ببالهن أن ذلك الشاب هو ملاك من السماء. هذا يعلل البيان الصريح في قصة عمواس التي رواها البشير لوقا في قوله:

“…بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِرًا عِنْدَ الْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ” (لوقا 24: 22، 23).

وهكذا تقضّت الساعات الأولى من الصباح في غمرة من الحيرة والاضطراب والتساؤل حول معنى الحوادث التي جرت في البستان.

ولو أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لأتخذ سير التاريخ طريقاً آخر. لأنه لم يكن شك في أن التلاميذ كانوا بطبيعة الحال يقبلون شهادة النسوة كبرهان قوي بعد أن يكونوا قد اقتنعوا أن الرب قام، وكانوا أيضاً يبحثون في هوّية الشاب الذي وُجد عند القبر، بل أن حادث اللقاء الغريب كله في البستان كان يُوضع على بساط الجدل والمناقشة….

على أن الحوادث، حسب قول رواة الإنجيل، قد اتخذت طريقاً غير هذا، فإنه قبل أن ترتفع شمس الضحى، ذاعت إشاعة في طرقات المدينة وأسواقها، من مصادر مسئولة بين حرس الهيكل، مؤداها أن التلاميذ سرقوا جسد الناصري (متى 28: 11-15).

وكانت ضربة ظالمة قاسية هوت فجأة على رؤوس نفر مضطرب من الناس لم يلمّوا شعثهم بعد الهرب في ليلة الخميس. وقد هدّدت هذه الإشاعة الكاذبة سلامة كل من يمتّ بصلة إلى الناصري من قريب أو بمن بعيد. فاضطر التلاميذ في مساء ذلك اليوم أن يجتمعوا خفية وراء أبواب مغلقة. وفي تلك الليلة كما تقول الأحاديث المسندة، بدأ المسيح يظهر لهم من عالم الخلود، في عالم الحسّ والشعور.

ومع الاضطراب الذي اعترى القوم الذين شهدوا هذه الحوادث وسمعوها، فإن حقيقة واحدة تبدو صافية صفاء البلّلور، هي خلو القبر من الجسد. وحين ندرك هذا، نفهم الأسباب التاريخية التي دعن إلى اخماد قصة النسوة والسكوت حيالها.

والذي أراه أن اختبار النسوة لم يُلجاً إليه كدليل في المناقشات التي دارت بين المسيحيين واليهود في ذلك العصر الأول لسببين:

أولهما أن قصة النسوة لا تبرهن في الواقع على شيء ينكره الجانب الآخر. فإنّ كل ما نخرج به من القصة هو أنه حوالي الساعة السادسة من صباح الأحد لم يكن جسد يسوع في القبر حيث وضعه يوسف الرامي، فما فائدة القصة في إثبات واقعة كانت شائعة بين الناس، وقد اتخذها الأعداء مادة لتهمة خطيرة ضد التلاميذ أنفسهم؟

والثاني أن القصة تحمل بين ثناياها نقطة ضعف لقضية التلاميذ، وذلك لأنها تعترف أن فريقاً من صحابة يسوع كانوا فعلاً على مقربة من القبر في ساعة مريبة وفي ظروف تدعو إلى إثارة الشبهات.

ولا يخفى أن في الاعتراف خطراً على التلاميذ في ظروفهم الخاصة. ومن أصول الدفاع السليم في تهمة خطيرة أن يُثبت الإنسان عدم وجوده في المكان والزمان اللذين وقعت فيهما الجريمة. فإذا أُتهم أحدهم مثلاً بجريمة قتل في مدينة القاهرة، واستطاع أن يثبت بالدليل أنه في ساعة ارتكاب الجريمة كان نائماً في بيته في الإسكندرية، أو غائباً في مدينة القدس مثلاً، فمن المرجح جداً أن يُطلق سراحه.

أما إذا اعترف في التحقيق بأنه كان يجول على مقربة من المكان الذي وقعت فيه الجريمة بُعيد وقوعها، وأنه كان يبحث فعلاً عن الشخص المقتول، فإن هذا الاعتراف يقّوي الشبهة ضده ويزيد مصاعب محامية الذي يتولى الدفاع عنه عشرة أضعاف.

هذا هو الموقف، كما أفهمه، الذي كان فيه أتباع يسوع. فلقد أُتهموا علانية بأنهم سرقوا الجسد. ولم يكن من الميسور دحض تهمة كهذه، حتى لو توفّرت لهم حرية القول والظهور بين الناس، فما قولك وقد كانوا مختفين وراء أبواب مغلّقة؟ وكيف يرون من أصالة الرأي، وهم على تلك الحال من الذعر والخوف أمام تهمة شنيعة، أن يعترفوا جهارً أن النسوة منهنّ كنّ عند القبر؟ أليس في هذا الاعتراف تسليم السلاح للخصوم الذين كانوا يذيعون بين الناس أن المسيحيين باعترافهم كانوا يحومون حول البستان في ساعة الفجر، وهذا دليل يثبت عليهم تهمة سرقة الجسد.

وكل باحث منصف في القضية يرى أن الظروف قضت على التلاميذ أن لا يكثروا من التحدث عن زيارة النسوة إلى القبر في ذلك الأسبوع الأول الذي كانت تترصّدهم فيه المخاطر وتبطن لهم الأيام ما كانوا يجهلون من حادثات. ومن الغريب أن تمنّع المسيحيين الأولين عن الإشارة بزيارة النسوة للقبر قد امتدّ زمناً في السنين الأولى من تاريخ المسيحية.

وأنت لا تقرأ الفصول الأولى من سفر الأعمال وبياناتها المفصلة عن الدعاية المسيحية البدائية، إلاّ ويأخذك العجب من اختفاء كل نزاع وجدل في موضوع القبر. ولو كان هناك شك في اختفاء الجسد، لاضطر المدافعون عن العقيدة المسيحية بقوة ضغط الحوادث إلى وضع قصة النسوة في مقدمة الأدلة، وكان عليهم، قبل السير في دعايتهم، القضاء على هذه الشكوك أولاً بكل ما ملكت أيديهم من أدلة الإثبات.

على أن التلاميذ لم تعوزهم الحالة إلى التورط في مثل هذا النزاع العقيم، فإن حقائق القبر الفارغة كانت معروفة بحيث أحسّوا أن حملتهم تلقى أوفر النجاح في أورشليم ذاتها حيث كان القبر الفارغ المهجور. وبهذا هان عليهم (كما يؤخذ من سفر الأعمال) أن يركّزوا جهودهم في الأمرين الجوهريين اللذين شطرا اليهودية شطرين وهما: أن يسوع هو المسيا الموعود به، وأنه قد أُقيم بيمين الله القادرة. ولم يكونوا يستطيعون أن يبلغوا هذا الطور في دعايتهم الأولى، لو لم تكن قد صارت قصة القبر الفارغ حقيقة مفروغاً منها، معلومة للقريب والبعيد.

وهكذا نرى كيف نُسيت قصة مغامرة النسوة إلى القبر إلى جانب الحقائق الجوهرية الأخرى التي قررتها الحوادث. ولم تبق ذكراها إلاّ في عقول النسوة أنفسهنّ، لأنهن هنّ اللائي دبّرنَ القيام بخدمة إنسانية كريمة لجسد سيدهن في ساعة تعرّضن فيها للخطر وسوء المصير. وكانت القصة معروفة أيضاً للتلاميذ أنفسهم، وما من شك أنهم كانوا يتناقلونها في الساعات الهادئة التي كانوا يلقّنون فيها التعليم الجديد للكنيسة الناهضة. وكان من آثار تلقين القصة في كنائس أوروبا وآسيا أن رواها الكُتّاب في بشائر الإنجيل، على أنها وراء إثباتها في السفر المقدس، الحقائق التاريخية الصريحة التي لا تُمارى.

وحين ندرك هذا كله، نستطيع أن نفهم بعض المعنى الذي تضمنته تلك الوثيقة العجيبة التي أطلقت عليها في بحثي اسم بشارة مرقص البدائية. فإنه بعد سنوات حينما أخذت تزول الآمال في مجيء المسيح السريع كما كانوا يتوقعون، وحينما أخذت الكنيسة تستقر في وضعها التاريخي، أحسّ القوم بحاجتهم إلى تدوين الحوادث البارزة في سيرة يسوع وموته. وكانت أولى تلك السير بشارة مرقص الشهيرة. وإن كان كتبها يوحنا مرقص، فهو بلا شك أَوْلَى الناس بكتابة هذه السيرة وخاصة فصولها الختامية. فقد كان من أهل أورشليم، وقضى سني شبابه في فترة من التاريخ عاصفة مضطربة.

ويبدو لنا من دقة سرده للحوادث، وإخلاصه في تسجيل التفاصيل الصغرى – أنه ثقة وحُجّة في حوادث الأسبوع الأخير. فلا يستطيع، إلاّ كاتب واقف على بواطن الأمور وخفايا الحوادث، أن يرسم تلك الصورة البديعة التي انعكست عليها أنوار القمر الفضية في بستان جثسيماني. وفي قصة مغامرة النسوة دقائق وصفية تدلُّ على أن كاتبها يكتب عن ثقة وصدق.

وقد آمن مرقص أن يسوع لم ينبئ مقدماً بموته فقط، بل بقيامته أيضاً. وآمن أيضاً أنه صرّح بهذا قبيل موته في طريقه إلى جثسيماني. وبهذه الأفكار التي اختلجت في عقله، وبالمعلومات التي استقاها من مصادر وثيقة، صاغ قطعة رائعة من الأدب الوصفي التاريخي، وهي تمتاز عن زميلاتها بإيجازها في الموضوع الجوهري، وبصفاء أسلوبها في السرد القصصي.

فهو يصف اليقظة في البستان، والقبض في منتصف الليل، بألفاظ مستندة إلى الحقائق الصريحة، ثم يسرد بيانات رائعة صافية عن المحاكمة أمام قيافا، وسقطة بطرس، والمحاكمة الرومانية، والطريق إلى الجلجثة، والصلب. كل هذا بأسلوب رائع في بساطته، أخاذ في عمق تأثيره، حتى أن القارئ يحسّ، على حد قول أحد كتّاب الإنكليز، أن الحجارة تتدحرج عليه.

ثم يصف كيف ذهب يوسف الرامي، في الساعة التي بلغت فيها المأساة ذروتها، إلى بيلاطس ملتمساً أن يُؤذن له بدفن جسد الميت، وكيف اقتفى النسوة الباكيات الحزينات خطى الرامي ليعرفن موضع الدفن، وكيف أُحكم الحجر الكبير على باب القبر في الساعة التي غًرُبت فيها الشمس. ويصف أيضاً كيف أعدّ النسوة الحنوط والأطياب في فجر الأحد وذهبن إلى القبر.

وفي بحث ما يعقب هذا، ينبغي ألاّ ننسى أن مرقص كان يسجل كتابةً اختبارات يوم القيامة ربما لأول مرة. ولأن قصة النسوة لم تلقَ العناية الأولى بين الدعايات التي نادى بها الرسل الأولون، فقد انفسح المجال لاختلاف كبير في الرأي والعقيدة إزاء ما حدث فعلاً عند القبر. لذلك كانت مهمّة شاقة دقيقة تلك التي تصدّى لها مرقص حين أراد أن يسجل كتابة حوادث تلك الأيام. وقد كان شاباً يافعاً في وقت الصلب، فكان أحد الأحياء الباقين القليلين في الكنيسة الأولى. وهو قد عاش في أورشليم أثناء ذلك الأسبوع الخطير المفعم بالحوادث – وعرف جوهر الحقيقة كما عرفها التلاميذ الأصليون.

إنّه كان من المستغرب ألاّ يعمد النسوة إلى إذاعة نبأ القيامة سريعاً، واستدعاء أورشليم كلها لرؤية القبر، ولكن مرقص عرف الحقائق. ولكي يشبع هذه الرغبة في المتسائلين كتب عبارة تبدو مقتضبة، قال:

“لم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات….”

وقد كُتب الشيء الكثير تعليقاً على هذا الآية، وأراد الكاتبون أن يثبتوا أن النسوة صمتن صمتاً مطبقاً وكفى. ولسنا ننكر أن هذا الموقف غريب من جانبهنّ، ولكن ها هي الكلمات تنطق بما حدث ولا تخفي تحتها معاني أخرى.

وليس حقاً ما يذهب إليه بعض النقاد حين يزعمون أن صمت النسوة كان بلا قيد ولا شرط. فإن البشير أضاف عبارة، كأنما أراد أن يجيب على ما قد يجول بفكر من يقرأ روايته من تساؤل. فقد يقول الناس: “إن النسوة قد كشفن القيامة في ساعة مبكرة من صباح الأحد، فلماذا لم يوقظن كل أورشليم لتشهد ما رأين؟” ومرقص يجيب على هذا التساؤل: “لم يَقلن شيئاً لأنهم كن خائفات….”

فإلى قائمة الشهود الذين كنا نفحص شهادتهم في هذه الفصول – بطرس الصياد الذي وقف في صدر المعركة في أورشليم، وكُتاب البشائر لوقا ومتى ويوحنا، ويعقوب العادل، وشاول الطرسوسي، ومؤلفي أسفار الأبوكريفا غير القانونية وبشارتي بطرس ونيقوديموس، بل شهادة الحجر الأصمّ ذاته – إلى هذه كلها نضيف أخيراً شهادة أخرى هي شهادة مرقص في بشارته التي نعتبرها أشهر وثيقة موجزة العبارة في عالم الأدب والتاريخ.

فصول كتاب من دحرج الحجر

سر القبر الفارغ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !