أبحاث

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة16 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة16 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة16 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة16 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة16 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

العظة السادسة عشر

” ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله ” (رو28:8).

          1 ـ يبدو لي أنه يتكلم في هذا الجزء، عن أولئك الذين يتعرضون للمخاطر، وليس هذا فقط، لكنه يُشير أيضًا إلى الأمور التي قيلت قبل هذه. لأن القول بأن ” آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا” وأن ” كل الخليقة تئن ” وقوله: “بالرجاء خلصنا ” و” نتوقعه بالصبر” و” لسنا نعلم ما نصلي لأجله[1]. كل هذه الأقوال قيلت للذين يتعرضون للأخطار، فهو يُعلّمهم بألا يعطوا اهتمامًا أكثر بالأشياء التي يعتقدون بأنها تحقق منفعة، بل يجب أن يفضلوا عليها الأمور التي هى بحسب الروح. خاصة وأن كثيرًا من تلك الأمور التي تبدو لهؤلاء أنها نافعة تتسبب مرات كثيرة في حدوث خسارة كبيرة. إذًا من الواضح أن الراحة، والتخلص من الأخطار، والحياة في أمان، هى التي يسعى إليها هؤلاء.

          والمدهش لهؤلاء ما اتضح، من أن الأمان هو ليس في طلب الراحة بالطريقة التي يتصورونها ـ وهذا ما حدث للمطوب بولس نفسه ـ لقد عرف فيما بعد، أن الأمور النافعة هى في تتميم مشيئة الله، وإذ عرف هذا فقد امتثل لهذه المشيئة. وهو الذي تضرع إلى الله ثلاث مرات أن يُخلّصه من الآلام، لكن حين سمع الله يقول: ” تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل[2]. فإنه كان يُسر عندما يُطرد ويُشتم ويعاني من آلام لا تُشفى “لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والإضطهادات [3]. ولهذا قال “لسنا نعلم ما نصلي لأجله“، ونصح الجميع بأن يسمحوا للروح القدس أن يُتمم فيهم مشيئة الله. خاصةً وأن الروح القدس يعتني بنا جدًا.

          إذًا بعدما أعدَّهم بكل الطرق، أضاف ما قاله لكي يدفعهم إلى أن يكون لهم فكر مستقيم. لأنه ” نحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله “. لكن عندما يقول “كل” فهو يقصد تلك التي تبدو مؤلمة. لأنه سواء كانت ضيق، أم فقر، أم سجن، أم جوع، أم موت، أم أى شئ آخر يحل بنا، فإن الله قادر أن يحول كل هذا إلى العكس. لأن هذه هى قوته التي لا توصف، أى أن يجعل ما كان يبدو ثقيلاً، يصير خفيفًا لأجلنا، ويحوله لتثبيتنا. ولهذا تحديدًا لم يقل إن الذين يحبون الله لا يأتي عليهم شئ من الأشياء، بل إنها “تعمل معًا للخير” بمعنى إنه يستخدم هذه الأمور السيئة لمسرة من تُكاد لهم الدسائس، وهذا ما يعد أعظم بكثير من أن يمنع الشرور من أن تأتي، أو أن يمحوها عندما تحدث. هذا ما صنعه في أتون بابل (مع الفتية الثلاثة). لأنه لم يمنع إلقاءهم في الأتون، ولا أطفأ اللهب عندما ألقوا هؤلاء القديسين، بل تركهم يشاهدون المعجزة التي صنعها معهم في هذا الأتون.

          وقد صنع معجزات مماثلة مع كل الرسل. فإن كان في مقدور أولئك الذين يسلكون بحكمة، أن يحولوا طبيعة الأمور إلى ما هو عكسها، لكنهم فضّلوا أن يعيشوا في فقر وبهذا صاروا أكثر غنى من الأغنياء، وأكثر بهاءً منهم، رغم أنهم لا ينالوا تقديرًا مناسبًا، هكذا سيصنع الله مع أولئك الذين يحبونه، ليس مثل هذا فقط، بل وأكثر جدًا من هذا. إذًا الأمر يحتاج فقط إلى محبة حقيقية لله، وكل الأمور الأخرى ستتحقق. فتلك الأمور التي تبدو أنها ضارة لهؤلاء، هى في الحقيقة نافعة لهم، أما بالنسبة لأولئك الذين لا يحبون الله، فإن الأمور التي تبدو نافعة لهم، ستكون ضارة. إذًا فقد سبَّب ظهور المعجزات وأيضًا فلسفة التعليم واستقامة العقيدة، ضررًا بالنسبة لليهود، فإنهم بسبب هذه المعجزات زعموا أن الرب يصنعها بقوة الشيطان، بينما كان ينبغي أن يحدث العكس بسبب هذه المعجزات، ولأجل هذه المعجزات شرعوا في أن  يقتلوه. أما اللص الذي صُلب معه، والذي سُمر، وأُهين، وعانى شرورًا كثيرة، فإنه لم يخسر مُطلقًا، بل بالحرى ربح الكثير جدًا.

          أرأيت كيف أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله؟ إذًا بعدما تكلم عن هذا النعيم الوافر، الذي يفوق الطبيعة الإنسانية بكثير، والذي يبدو للكثيرين أن تحقيقه أمر مستحيل، فإنه أكد عليه بقوله:    ” الذين هم مدعون حسب قصده “. إذًا انتبه للدعوة التي قيلت. لماذا لم يدعُ الجميع من البداية، ولا حتى بولس نفسه لم يدعه مع الآخرين مباشرةً؟ ربما يبدو لك أن هذا التأجيل كان غير نافع؟ كلاّ لقد أظهر العكس، من جهة الأمور ذاتها، إن التأجيل كان مفيدًا. إن الله لا يريد أن يهب كل شئ في الدعوة، لأنه لو حدث هذا، لكان اليونانيون واليهود قد اختلفوا. إذًا لو كانت الدعوة وحدها كافية، فلأى سبب لم يخلص الجميع؟ ولهذا يشرح الرسول بولس أن الأمر لا يتعلق بالدعوة فقط، بل أن إرادة أولئك المدعوين كان لها دور في الخلاص. لأن الدعوة لم تكن إجبارية ولا قهرية. فالمؤكد أن الجميع دُعوا، لكن ليس الجميع أطاعوا.

 

2 ـ ” لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه .. ” (رو29:8).

          أرأيت مقدار الكرامة؟ فإن هؤلاء قد صاروا أبناء بالنعمة بواسطة ذاك الذي هو بالطبيعة الابن وحيد الجنس. ولهذا لم يكتفِ بقوله “مشابهين”، لكنه أضاف ” ليكون هو بكرًا “. ولم يتوقف هنا أيضًا، لكنه أضاف إلى هذا ” بين اخوة كثيرين “، لأنه أراد بكل هذا أن يظهر بوضوح مدى القرابة. كل هذا يجب أن تعتبر أنه قيل بحسب التدبير. فلأنه إله فهو وحيد الجنس. أرأيت مقدار ما وهبنا إياه؟ إذًا يجب ألا تتشكك من جهة خيرات الدهر الآتي. لأنه في موضع آخر قد بيّن عناية الله، إذ يقول إن هذه الأمور قد سبق وقررها الله هكذا. فالبشر يشكّلون آرائهم من خلال الواقع المنظور، أما الله فقد قرر هذه الأمور منذ القديم، ومن البداية كانت هذه هى إرادته من جهتنا.

 

” والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا والذين دعاهم فهؤلاء برَّرهم أيضًا ” (رو30:8).

هذا حدث بمعمودية التجديد “والذين برّرهم فهؤلاء مجدهم أيضًا“. وهذا حدث بالنعمة والتبني.

 

” فماذا نقول لهذا ” (رو31:8).

وكأنه قال، لا تحدثني بعد عن الأخطار والمكائد التي تصدر من الجميع. فعلى الرغم من أن البعض يتشكك في أمور الدهر الآتي، إلاّ أنهم لا يستطيعوا أن يقولوا شيئًا فيما يتعلق بالخيرات التي تحققت بالفعل دون نقاش، أى من حيث إن الله منحك البر والمجد من البداية من فرط محبته لك. لأنه بالحقيقة قد منحك إياه، بواسطة الأمور التي تبدو لك مُحزنة. وما تعتقد أنه علامة عار، أى الصليب والجلدات والقيود، صارت هى نفسها سبب فائدة لكل المسكونة. تمامًا مثلما حدث بخصوص آلام المسيح، إذ بالرغم أنها تبدو كئيبة إلاّ أنه حوّلها لتعطي طبيعتنا الحرية والخلاص، هكذا إعتاد أن يصنع بتلك الأمور التي تعانيها، مستخدمًا آلامك من أجل مجدك وسعادتك.

إن كان الله معنا فمن علينا “. وهل هناك من هو ليس ضدنا؟ لأن المسكونة هى ضدنا، والطغاة، والشعوب، والأقارب والساكنون معنا في وطن واحد. لكن هؤلاء الذين هم ضدنا بهذا القدر الكبير، هم أبعد من أن يؤذونا لأنهم دون أن يقصدوا صاروا هم سببًا لتتويجنا ولخيرات لا تُحصى، طالما أن حكمة الله، تُحوّل هذه المكائد لتصير لخلاصنا ومجدنا. أرأيت كيف أنه لا يوجد أحد ضدنا؟ لأن أيوب أيضًا قد جعل كل ما هو ضده يصير مجدًا، أى من حيث إن الشيطان كان قد تسلَّح ضده. خاصة عندما حرّض ضده الأصدقاء، والزوجة، والعبيد، وأصيب بجروح، ومصائب أخرى لا تعد. ولكن لا شئ على الإطلاق سبّب له ضررًا. وهذا كله لم يكن شيئًا جسيمًا بالنسبة له، على الرغم من أنه كان جسيمًا في حد ذاته بصورة كبيرة، إلاّ أن أيوب كان أعظم، لأن كل شئ انتهى إلى منفعته. فالله كان في جانبه، وما كان يبدو ضدًا له تحول إلى فائدته. وهذا حدث في حالة الرسل. خاصة وأن اليهود والأمم والمعلمين الكذبة، والقادة، والجموع، والمجاعات والفقر، وأمور أخرى عديدة كان من الممكن أن تؤثر على مسيرتهم، لكن لم يتغلب عليهم أى شئ. لأن هذه الآلام هى التي جعلتهم مُشرقين، ومُمجدين، وعظماء أمام الله والناس.

إذًا فكَّر في الكلام الذي قاله الرسول بولس للمؤمنين، الذين هم بالحقيقة مُطوبين، الأمر الذي لا يملكه حتى الذي يرتدي التاج. لأنه بالنسبة لبولس، كان الكثيرون ضده من بربر، ومُسلحين، وأعداء يهاجمونه، وحراس متسلطين وقساة عليه، وكان كثيرون من المواطنين يثورون ضده باستمرار، وأمور أخرى لا تُعد، لكن المؤمن الذي يتبع بدقة مشيئة الله، لا يستطيع إنسان، ولا شيطان، ولا أى شئ آخر، أن يُثيره أو يقلقه. لأنه إن نزعتَ عنه الأموال، فإنك تقدم له أجرًا، ولو أسأت إليه عن طريق شائعات مشينة، تجعله أكثر بهاءً أمام الله، ولو ألقيته في مجاعة سيكون مُمجدًا بالأكثر وسيكون تعويضه أكثر. ولو سلّمته إلى الموت ـ وهو الأمر الذي يُعد أكثر فزعًا من كل شئ ـ فقد اخترت له إكليل الشهادة.

إذًا ماذا يمكن أن يُعادل هذه الحياة، عندما لا يوجد شئ يمكن أن يُسبب لنا ضررًا، بل إن هؤلاء الذين يُعدون لنا المكائد، هم في الحقيقة يحققون لنا منفعة؟ لا تتكلم عن ما يصنعه معنا الذين يقدمون لنا إحسانًا، ولهذا قال: ” إن كان الله معنا فمن علينا “.

3 ـ ثم بعد ذلك لم يكتفِ بكل ما قيل، بالإشارة إلى برهان المحبة العظيمة لنا، الأمر الذي يُكرره فيما بعد، هذا أيضًا يشير إليه هنا، أى يُشير إلى تقديم الابن ذبيحة. لأنه ليس فقط قد برّرنا ومجّدنا وجعلنا مشابهين صورة ابنه، بل أنه لم يشفق على ابنه، وهذا من أجلنا. ولهذا أضاف قائلاً:

 

” الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شئ ” (رو32:8).

          وهنا يستخدم الكلمات بروعة وحماس شديدين، لكي يظهر محبة الله. كيف إذًا يتركنا الله نحن المحبوبين لديه، وهو الذي لأجلنا لم يُشفق حتى على ابنه، بل سلَّمه إلى الموت لأجلنا؟ تأمل مقدار الصلاح الإلهي الذي يظهر في عدم الإشفاق على ابنه، بل ويُسلّمه للموت، ويُسلّمه لأجلنا، نحن الوضعاء، والجاحدين، والأعداء، والمجدفين. “كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شئ”؟ ما يقوله يعني الآتي: إن كان قد وهبنا ابنه، وليس فقط قد وهبنا إياه، بل وسلّمه للذبح، إذًا لماذا تشك في الأمور الأخرى، طالما أنك قد أخذت السيد؟ لماذا تتشكك أو تتحير من جهة ممتلكاته، طالما أن لديك السيد الرب نفسه؟ ذاك الذي أعطى أعظم ما عنده لأعدائه، ألا يعطي الأشياء الأقل لأصدقائه؟

 

” من سيشتكي على مختاري الله ”؟ (رو33:8).

          هنا الكلام موّجه إلى أولئك الذين يقولون إن الإيمان لا يُفيد مطلقًا، وإلى أولئك الذين يتشككون في حقيقة التبرير. ولاحظ كيف أنه ألجمهم سريعًا عند هذا المقام الذي اختاره لهم. ولم يقل من سيشتكي على عبيد الله، ولا على مؤمني الله، لكن ” على مختاري الله ” لأن الإختيار هو دليل الفضيلة. إذًا لو أن أحد رياضي الفروسية إختار الخيول المناسبة للطريق فلن يستطع أحد أن يشتكي عليه، فإن إشتكى عليه أحد يصبح مثارًا للسخرية، بالأكثر جدًا عندما يختار الله النفوس، فإن أولئك الذين يشتكون عليهم، هم مثارًا للسخرية.

 

” الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين ” (رو34:8).

          لم يقل إن الله يغفر الخطايا، بل قال ما هو أكبر بكثير جدًا، أن    ” الله هو الذي يُبرر “. لأنه حين يعلن القاضي براءة أحد، وبالأخص مثل هذا القاضي، فأية مصداقية تكون للشاكي؟ وبناء عليه، فليس من الصواب أن نخاف من التجارب، لأن الله هو الذي يقف معنا، وهذا قد أوضحه من خلال كل ما فعله، ولا أن نتردد أمام الهذيان اليهودي، لأن من المؤكد أن الله قد إختارنا وقد برّرنا، والأكثر دهشة، أنه برّرنا بذبح ابنه.

          إذًا من سيحاكمنا، في الوقت الذي فيه توّجنا الله، وذُبح المسيح لأجلنا، ولم يُذبح فقط، بل أيضًا يشفع فينا؟ المسيح هو الذي مات بل بالحرى قام أيضًا، وهو أيضًا عن يمين الله حيث يشفع فينا، لأنه عاد إلى مقامه، لم تتوقف رعايته لنا، ولا يزال يحتفظ لنا بنفس المحبة. لأنه لم يكتفِ بالذبح فقط، بل أنه يقدم نموذجًا أعظم للمحبة، أى أنه لا يصنع فقط ما يريده هو، بل أنه يتشفع لنا من أجل هذا الأمر. لأن هذا فقط ما أراد أن يُعلنه، بعبارة أن يتشفع، متحدثًا بطريقة أكثر إنسانية وتسامحًا، لكي يبين محبته. إذ أن عبارة “لم يشفق”، إن لم نفهمها بهذا المعنى، فسيلحق بعدم الفهم معاني غير ملائمة. ولكي تعرف أن هذا هو ما أراد أن يبيّنه، بعدما قال أولاً إنه “عن يمين الله”، أضاف أنه “يشفع فينا”، حين أظهر المساواة في الكرامة، حتى أنه بعبارة “يشفع فينا”، يتضح أن ذلك لا يُعد دليل نقصان أو تقليل، بقدر ما هو دليل محبة فقط.

          لأن ذاك الذي هو الحياة في ذاته، ومصدر كل الخيرات، ومُعطي الحياة، وكل الأمور الأخرى، كيف هو في احتياج أن يشفع لنا، ولصالحنا؟ إنه يشفع بسلطانه، إذ بينما نحن يائسون ومحكوم علينا، خلّصنا من هذا الحكم، وبرَّرنا، وجعلنا أبناء، وقادنا إلى أعلى درجات الكرامة، وحقق لنا كل ما لم نكن نتوقعه أبدًا، وطالما أنه حقق كل هذا، ورفع الطبيعة الإنسانية إلى العرش الملوكي، هل سيحتاج أن يتوسل، حتى يجعل أمورنا على ما يرام؟ أرأيت كيف أنه يتضح لنا من كل الإتجاهات أن عبارة “أن يشفع”، لم يقلها لأى شئ آخر إلاّ لكي يُظهر محبته الشديدة والغنية لنا؟ بالإضافة إلى ذلك فمن الواضح أن الآب يطلب من البشر أن يتصالحوا معه. ” إذ نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا[4]. ولكن على الرغم من أن الله يطلب، وأن بعض الناس هم سفراء عن المسيح، فإننا لا نقصد هنا شيئًا غير مستحق لتلك الكرامة، بل أمرًا واحدًا فقط نجنيه من كل ما قيل، وهو المحبة الكبيرة. هذا إذًا ما ينبغي أن نفعله هنا في هذه الحياة. إذًا إن كان الروح يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها، وأن المسيح مات ويشفع فينا، وأن الآب لم يُشفق على ابنه بسببنا، واختارك وبرَّرك، فلماذا تخاف بعد؟ لماذا ترتعب طالما أنك تتمتع بهذا القدر من المحبة الكبيرة، وهذه العناية الكبيرة؟!

          ولهذا، فإنه بعدما أظهر عناية الله الفائقة، يضيف الكلام اللاحق بكل جرأة، ولم يقل إنكم مُجبرون وينبغي أن تحبوه هكذا (كما أحبكم)، بل كمَن صار في الله، كما يتضح من شرحه لهذه العناية غير الموصوفة، إذ يقول:

 

” من سيفصلنا عن محبة المسيح كما هو مكتوب إننا من أجلك نمات كل النهار ” (رو35:8ـ36).

          أما أنه لم يقل “محبة الله”: هذا أمر لا يعنيه أن يدعوه المسيح أو أن يدعوه الله. ” أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف”. انتبه إلى حكمة المطوب بولس. لأنه لم يذكر تلك الأمور التي في حياتنا اليومية والتي صِرنا لها عبيدًا، أى محبة المال، وشهوة المجد، والغضب، بل أنه ذكر تلك التي هى أكثر ألمًا بكثير من هذه الأمور، والتي هى قادرة أن تُخضع الطبيعة نفسها، ومرات كثيرة تُشتت الذهن، وبدون إرادتنا، وهذا ما يُشير إليه، بالضيقات أى الآلام. لأنه على الرغم من أن ما قيل هو قليل، إلاّ أن كل كلمة هى مكثفة إذ تحمل مجموعة لا تُحصى من التجارب. لأنه عندما يقول “ضيقة” فهو يقصد سجونًا، وقيودًا، وتشهيرًا ونفيًا، وكل المتاعب الأخرى، مُشيرًا بكلمة واحدة، إلى كل الآلام الإنسانية بشكل عام. لكنه يحتقر كل هذه الآلام. ولهذا فهو يعرضها بصيغة سؤال، كما لو كانت أمرًا لا اعتراض عليه، لأنه لا يوجد شئ يمكن أن يفصل ذاك، الذي تمتع بمحبة كبيرة وعناية كبيرة عن محبة المسيح.

[1]  رو18:8، 22، 24، 25، 26.

[2]  2كو9:12.

[3]  2كو10:12.

[4]  2كو20:5.

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة16 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)