الردود على الشبهات

ادراك يسوع لالوهيته – هل كان يعلم يسوع أنه الله؟ – بن ويزرنجتون

ادراك يسوع لالوهيته - هل كان يعلم يسوع أنه الله؟ - بن ويزرنجتون

ادراك يسوع لالوهيته – هل كان يعلم يسوع أنه الله؟ – بن ويزرنجتون

ادراك يسوع لالوهيته - هل كان يعلم يسوع أنه الله؟ - بن ويزرنجتون
ادراك يسوع لالوهيته – هل كان يعلم يسوع أنه الله؟ – بن ويزرنجتون

ادراك يسوع لالوهيته – هل كان يعلم يسوع أنه الله؟ – بن ويزرنجتون

استاذ العهد الجديد بمعهد آسبرى اللاهوتى
استاذ العهد الجديد بجامعة القديس اندراوس
ترجمة: إرسالية اميركا الشمالية

هل كان يسوع يؤمن بأنّه ابن الإنسان؟

يعتقد معظم الدارسين ويجزمون، بغض النظر عن انتماءاتهم وقناعاتهم، بأنّ يسوع استخدم مصطلح “ابن الإنسان” للدلالة على نفسه. وتوجد هذه العبارة في جميع شرائح مصادر الأناجيل سواء فكّرنا بشكل خاص في المواد المميّزة الموجودة في مرقس ولوقا ومتى ويوحنا، أو حتى في المواد المشتركة التي استقاها متى ولوقا معاً من مصدر واحد.

وتشير الأدلة الصريحة المعتمدة على شهادات متعددة إلى أن يسوع استخدم هذه العبارة عن نفسه مراراً عديدة. أما السؤال الأهم من ذلك فهو، ماذا عنى يسوع عندما تكلم عن نفسه أنه ابن الإنسان مراراً وتكراراً، وخاصة في ضوء قلة استخدامه للألقاب الأخرى؟

اتبّع اللاهوتيون في العصور الوسطى وحتى في بعض الأزمنة المعاصرة تقليداً يقول بأن عبارة ابن الإنسان تشير عادة إلى إنسانية المسيح في حين أن عبارة، “ابن الله” تشير إلى لاهوته. لكنّ هذا الأمر ليس صحيحاً تماماً إذا ما أدركنا أن يسوع يستقي الأفكار من النبي دانيال عندما يعبّر عن هويته للسامعين اليهود.

إن الجملة العبرية بِن أَدَم (والتي تعني حرفيا ابن آدم) والموجودة بكثرة في حزقيال، تترجم أحياناً “ابن الإنسان” لكنها بالحقيقة ليست مصدر استخدام يسوع للعبارة. لكن بالمقابل فقد تكلم يسوع الآرامية، وفيها توجد عبارة بارنشا التي تعني حرفياً “ابن لكائن بشري” (وليس ابناً لذكر بالتحديد) وهي تشكل الخلفية التي اعتمد عليها يسوع في استخدامه للعبارة. وتأتي هذه الجملة من دانيال 7: 13-14 ويوجد جدل كبير حول كيفية تفسير هذا النص الهام.

فهل إنّ شخص ابن الإنسان هذا يلتقي بالله، القديم الأيام في السماء أو على الأرض؟ أما الجواب عن هذا السؤال فهو الأخير لأن مجيء الله في يوم الدينونة الأخير إلى الأرض موصوف دائماً في هذه النبوات كأمر يجري على الأرض وليس في السماء. وهكذا فإن جملة “شبه ابن إنسان آتياً على سحاب السماء” تشير إلى مجيئه من السماء إلى الأرض بعد أن تتم إقامة عرش الله للقضاء على الأرض. ويُمنَح شخص ابن الإنسان هذا قوة وسلطاناً على جميع الناس ويتحدث النص عنه بأن جميع البشر سيعبدونه. إضافة إلى ذلك فالنص يخبرنا بأن سلطانه وملكوته يدومان إلى الأبد.

توجد عدة مظاهر هامة لهاتين الآيتين تساعدنا في فهمنا ليسوع : 1) يأتي ابن الإنسان هذا من السماء إلى الأرض ليدين الأرض ويبسط سلطانه على الجميع؛ 2) مكتوب عنه أن الجميع سيعبدونه؛ و3) ملكوته موصوف بأنه أبديّ وهذا وعد مختلف عن الذي أعطي لداود في 2 صموئيل 7 حيث يخبرنا بأن سلالته ستملك دائماً. فهنا نجد عوضاً عن ذلك بأن الوعد هو وعد شخصيّ ومعطى بشخص واحد وهو سيملك إلى ما لانهاية.

علاوة على ذلك، يجب أن نلاحظ أن دانيال 7: 13-14 هما الآيتان الوحيدتان في العهد القديم اللتان نقرأ فيهما عن ابن الإنسان وملكوت الله معاً، و تردّدت هاتان العبارتان على فم يسوع بتكرار كبير خلال فترة خدمته. وهنا نجد مفتاحاً آخر يشير إلى أن هذا هو النص الأهم من العهد القديم الذي اعتمد عليه فهم يسوع لهويته الشخصية.

أما الأسئلة التي يجب أن نسألها عن دانيال 7: 13-14 وهو مقطع نبويّ كتبه شخص يهودي، فهي، أي نوع من البشر يمكن أن يملك إلى الأبد في ملكوت إلهي معطى له من الله، وأي إنسان يقبل اليهود بأن يعبدوه، خاصة في ضوء الانتقاد الشديد لعبادة الأباطرة الوثنيين في بابل وفارس والمذكورة في الأصحاحات السابقة من دانيال (انظر دانيال 5: 5 على سبيل المثال)؟ أما الجواب على ذلك فهو أنه إنسان إلهي وأبدي معاً الذي يمكن أن يُدعى أيضاً ابن الإنسان.

بكلمات أخرى، إنه شخص إلهيّ يستحق العبادة كما إنه بشريّ أيضاً على حد سواء. ويمكن عبادة هذا الشخص بدون التعدي على مبدأ التوحيد الإلهي عند اليهود. يمكننا الآن بعدما سبق أن ننظر إلى النصوص المتعددة المتعلقة بابن الإنسان في الأناجيل في ضوء جديد.

إن المكان البديهيّ الذي ينبغي أن نبدأ منه هو في النص الموجود في مرقس 14: 62 حيث يجزم يسوع بأنه المسيح اليهودي وابن المبارك، ولكنه يحوّل سريعاً الحديث إلى العبارة المفضلة لديه وهي ابن الإنسان فيقول، “وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ،” (الجزء الأخير من الآية اقتباس مباشر من دانيال 7).

ويتحدّث يسوع هنا عن مجيئه الثاني، فعوضاً عن محاولتهم إدانته، ستنقلب الأعمدة وسيراه ديّانوه الحاليون بمن فيهم قيافا آتياً لدينونتهم. وقد فهم قيافا هذا المعنى بشكل تام إذ شقّ ثوبه بعدما قال يسوع هذا وصرخ معلناً أن يسوع جدّف. لاحظوا أنه لم يصرخ بالتجديف مباشرة بعد موافقة يسوع على أنه المسيح ابن الله. فتصريح يسوع بأنه المسيا اليهودي لم يكن تجديفاً لأن معظم اليهود الأولين كانوا يعتقدون بأن المسيا سيكون إنساناً ممسوحاً ومعيناً من الله كالملك الشرعي على كرسي داود ولكنه ليس الله.

أما عندما صرّح يسوع بأنه سيلعب دور الرب الآتي للدينونة الأخيرة فذلك حتى على اليهود كان معتبراً بأنه تجديف لأن الله وحده هو الذي يُنتظَر أن يأتي للدينونة في اليوم الأخير بناء على كل توقعات نبوات العهد القديم عن يوم الرب (انظر يو 2: 1-11).

يوجد نص آخر يركّز بشكل أكبر على الناحية البشرية في المسألة ويرد في مرقس 10: 45، ” لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ.” ويبدو بأن محتوى هذه الآية هنا مزيج هام من الأفكار الواردة في دانيال 7: 13-14 ومن أناشيد الخادم وخاصة الموجودة في إشعياء 53: 1-12. لاحظوا لغة “المجيء” لابن الإنسان والتي تشير إلى القصد الذي من أجله أتى إلى الأرض (وهذا يعني بأنه كان موجوداً قبل أن يأخذ الشكل البشريّ على الأرض).

ولاحظوا أيضاً لغة الفداء، حيث يفدي البشرية الساقطة من العبودية من خلال ذبيحة موته. ويوجد أيضاً عنصر الذبيحة النيابية أو الكفارة هنا فالواحد، يسوع، سيموت عوضاً عن كثيرين (وبالتحديد عن باقي البشرية جمعاء- والمفارقة هنا هي بين الواحد والكثيرين لا بين الكثيرين والجميع). وهذا يشير بدوره إلى أن يسوع كان ينظر إلى نفسه كمن يقدم نفسه ذبيحة بلا عيب. والمثير في الأمر أن يسوع نفسه لم يضطر للموت عن خطاياه الذاتية لأنه لم يخطئ أبداً وهذا بالضبط ما جعله الإنسان الوحيد القادر أن يقدم نفسه فداء وكفارة عن كثيرين.

هناك قول آخر مثير وهام عن ابن الإنسان موجود في مرقس 2: 10، ” وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا.” وينقسم الدراسون لهذا المقطع حول ما إذا كانت الجملة هي من تأليف مرقس أو أنها قول تفوه به يسوع بنفسه. ولكن في كلا الحالتين ما يجدر بالذكر هو أن فكرة أن من يدعو نفسه ابن الإنسان يبيّن أن لديه سلطاناً (على كل الأرض) أن يغفر الخطايا.

وكما قال منتقدو يسوع ، الله وحده يقدر على غفران الخطايا، لأنهم لم يدركوا معنى ما فعله يسوع عندما قال ذلك. وقد اتبع يسوع هذه الطريقة غير المباشرة بشكل متكرر؛ فهو لم يصرح مباشرة بأنه الله لكنه يعلن هنا بشكل غير مباشر بأن لديه قوة إلهية وسلطاناً من الله الآب أن يغفر الخطايا حتى بدون إقامة الذبيحة اللاوية. لذلك ينبغي التساؤل، أي إنسان هو هذا؟ أما الجواب فهو إنه إنسان وإله على حد سواء.

يوجد نص إضافي هام في مرقس 2: 28 ” إِذًا ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً.” نرى في اللاهوت اليهودي بأن الله حتماً هو خالق الكون وهو الذي أقام نموذج السبت في البداية إذ استراح في اليوم السابع (انظر تك 1). فبما أن الله خلق السبت فهو وحده رب السبت أيضاً، وأما يسوع هنا فإنه يعلن كابن الإنسان بأنه ربٌ على السبت. وبذلك يصّرح بأنه يستطيع إعادة تفسير معنى السبت بأنه اليوم المثالي لمنح المرضى راحة من أمراضهم حتى ولو كان فعل ذلك يشكل عملاً بحسب تعريفات العهد القديم.

وبكلام آخر فقد شعر يسوع كابن الإنسان بأنّه يستطيع أن يعيد كتابة قوانين السبت. لماذا؟ لأنه عندما جاء عمل الله الخلاصي واخترق التاريخ البشري من خلال المسيح أصبح يسوع رباً على السبت وعلى تطبيقه الصحيح.

وباستطاعتنا قول المزيد من ضمن سياق هذه الأفكار إذا ما أردنا الغوص في نصوص أخرى تتعلق بابن الإنسان في الأناجيل. لكن ما سبق ذكره يكفي ليبين لنا أهمية الأقوال بشأن ابن الإنسان في فهمنا لهوية يسوع المسيحانية كما أدركها هو بنفسه.

 

ابن الله

إنّ التركيز على ما أعلنه يسوع جهاراً فقط بشأن هويّته هو أحد الأخطاء الكبيرة في علم الدفاعيّات المسيحيّة. فبالحقيقة إنّ هويّة المرء وما يعلنه هو عن نفسه أمران مختلفان تماماً. أمّا في وضع يسوع فإنّ ما أعلنه عن نفسه بين الناس هو جزء صغير مما علّم به يسوع حلقة أتباعه الداخليّة الذي كان بحد ذاته جزءاً صغيراً ممّا كان يسوع يؤمن به بشأن هويّته الشخصيّة والذي ظهر في طرق مختلفة بما فيها حالات قليلة من تصاريحه العلنيّة.

علاوة على ذلك يجب أن نفهم طبيعة الثقافة التي عاش فيها يسوع. فهو لم يكن يعيش في مجتمع غربي حديث حيث يتمّ التركيز على الذاتيّة الفرديّة والاجتهاد لإعلاء شأن الفرد.

لكنّ هويّة المرء كانت تُحَدّد تبعاً لعلاقاته الرئيسيّة في المجتمع. ولنلاحظ بأنّ معظم الألقاب التي وصف بها يسوع مُعَرفّة في الواقع بتعابير علاقيّة. فيسوع هو الابن في علاقته مع الله، وهو الابن في علاقته مع البشر، وهو الممسوح من الله (وهو معنى كلمة مسيح)، كما أنّه الربّ في علاقته مع الذين يسود عليهم، وهو أيضاً الابن في علاقته مع داود.

لم يَسْعَ المسيح جَدِّياً لأجل إعلان هويّته مباشرة في إسرائيل أمام الغرباء ولعلّ أحد الأسباب الرئيسيّة لذلك هو أنه أراد أن يتحاشى سوء فهمهم له في عالم ينظرون فيه نظرة غير طبيعية وغير مرغوب فيها لمن يميّز نفسه عن الجماعة، وهكذا على سبيل المثال، حتى مع تلاميذه سألهم يسوع من يقول الناس إني أنا؟ (مر ٨׃٢٧). ففي الحضارة التي عاش فيها يسوع كان الشعب عادة يعرّفون أنفسهم عن طريق الآخرين وعن طريق القبيلة التي هم جزء منها.

وغالباً ما تشير جملة “ابن الله” في الأبحاث المسيحية المعاصرة إلى الطبيعة الإلهية علماً بأنها لم تكن تعني ذلك إلا نادراً في التاريخ اليهودي القديم. فمن الصحيح أن الملائكة في بعض الأحيان دُعَُوا بأبناء الله (انظر تك ٦׃٢) لكن عندما الحديث عن “ابن الله” بين اليهود بشأن كان يشير إلى الملك الممسوح من الله. يوضح تماماً المزمور الثاني على سبيل المثال أن الحديث هو عن الملك الداودي الذي كان يُمْسَح من قبل رئيس الكهنة أثناء عملية تتويجه كملك.

“قَامَ مُلُوكُ الأَرْضِ، وَتَآمَرَ الرُّؤَسَاءُ مَعًا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ… الرَّبُّ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ… أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي” عندها يعلن الملك بنفسه ” إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ” (مز ٢׃٢–٨). لا شك بأن الآيات الأخيرة مألوفة لأنها اقتبست جزئياً عند معمودية يسوع (انظر مر ١׃١١ والمقاطع المشابهة.) فقد كان يعتقد في اليهودية بأن الملك له علاقة خاصة مع الله وأنه في الواقع ابن الله بالتبني الذي يتم أثناء تتويجه.

والمثير للانتباه بشكل خاص في نص مرقس ١׃١١ هو أن الجملة الثانية “اليوم أنا ولدتك” غير مذكورة لأن مرقس لم يرد بأن يقترح بأن يسوع قد نال التبني كابن الله فقط أثناء معموديته لكن المعمودية كانت الفاصِل الذي ثبّت فيه الآب هوية الابن التي كانت عنده دائماً والتي أراد أن يعلنها جهاراً الآن.

إلا أنه لا يوجد أدنى شك في أن يسوع لم ينظر إلى علاقته مع الله على أنها مماثلة لعلاقة الملك داود بالله. فمن جهة يخبرنا هذا اللقب الكثير عن علاقة يسوع بالله عندما صلى إليه أبّا التي هي في الآرامية عبارة الدلال والتي تعني “يا أعز أب” (انظر مر ١٤׃٣٦، أبّا ليست كلمة عامية، ولا تعني “بأبّا.”) وبصراحة يصعب شرح هذا الأمر إذا كان يسوع يرى نفسه فقط على أنه ملك أو شخصية يهودية لأنه ما من يهودي ولا حتى الملك نفسه قبل أيام يسوع صلى إلى الله بكلمة “يا أعز أب” فذاك يعبر عن ألفة غريبة بين الاثنين.

ولنلاحظ بأن الله نادراً ما يدعى بالآب في العهد القديم، ولم يُصَلَّ له أبداً بعبارة أبّا. ذلك أمر جديد، ويعلن أمراً خاصاً بشأن الكيفية التي كان يسوع ينظر لعلاقته مع الله فيها. فقد آمن يسوع أن لديه علاقة مميزة وحميمة مع الله الآب. وما يفاجئنا أكثر هو أن يسوع علّم تلاميذه بأن يصلوا إلى الله على أنه “أبّا” وذلك لإعطائهم علاقة حميمة مع الله بخلاف العلاقات التي كانت لهم معه من قبل.

لذلك نجد في من أقدم مخطوطات العهد الجديد ورسائل بولس أماكن متعددة يقول فيها بولس بأن المسيحيين يجب أن يصلوا لله قائلين “أبّا،” إذ إن الروح القدس بالحقيقة هو الذي يدفعهم لفعل ذلك لأنهم أصبحوا أبناء وبنات لله مثل يسوع وإن على درجة أقل وذلك من خلال علاقتهم مع يسوع. (انظر غل ٤׃٦؛ رو ٨׃١٥.) ولا شك أن أول كلمة في الصلاة الربانية التي علّمها يسوع لتلاميذه في الآرامية كانت كلمة أبّا (انظر لو ١١.)

قد يسأل أحدهم، أي نوع من البشر يمكن أن يكون يسوع إذا كان يفكّر بأنه يستطيع أن يخلّص الناس وليس ذلك فقط بل أن يمنح البعيدين عن الله علاقة معه بخلاف أي علاقة كانت لإنسان معه في السابق؟ وهذا بحدّ ذاته يتضمن الكثير عما كان يعتقده يسوع بشأن هويته الذاتية.

إن الفحص الأقرب لنص كنص متى ١١׃٢٧، يعطينا رؤية أبعد عن نظرة يسوع لنفسه كابن الله حيث يقول يسوع،” كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِـــي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ.” القسم الأول من هذه المقولة عاديّ إذ يمكن لأي من أن يقول، “لا أحد يعرفني إلا الله الذي صنعني والذي يعرف كل شيء.” ولكن مفهوم يسوع المميز عن ذاته يأتي من الجزء الثاني للآية.

فيسوع يرى نفسه كمن يعرف الله بطريقة لا تتوافر إلا له. وعلاوة على ذلك، فإنه يرى نفسه، كالقناة أو الوسيط الوحيد لإيصال هذه المعرفة للآخرين أيضاً. ليس ذلك فقط بل إن يسوع يستطيع أن يختار من يرغب ليعلن له هذه المعرفة الحميمة. وفي حين أن هذا بحد ذاته لا يبرهن بأن يسوع فكّر بأنه يتمتّع بالطبيعة الإلهية إلا أن هذا القول يضع يسوع في موضع فريد لا مثيل له عندما يتعلّق الأمر بمعرفة الله، وهذا يصح أيضاً بالنسبة لدوره كموزع لمعرفة الله لآخرين.

لذلك لا نتفاجأ عندما نرى بأن بولس بعد حوالي ٣٥ سنة يصرّح بشدة قائلاً، “لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ” (١ تي ٢׃٥–٦).

كما أن اللاهوت المسيحي اللاحق كان محقاً في إستنتاج ه بأن يسوع يقدر أن يمثّل الله أمام الناس والناس أمام الله إذا كان يسوع حقاً وسيط المعرفة والقوة الخلاصية ولحضور الله. وإن كان على صواب في اعتبار نفسه الوسيط الوحيد. وبكلمة مختصرة، وجب على يسوع من أجل ذلك أن يتشارك مع الله في طبيعته ومع البشرية في طبيعتهم. لقد كلم يسوع تلاميذه والآخرين بأقوال حكمة متنوعة عن طرق سرد الأمثال على سبيل المثال وكان ذلك أحد أهم الطرق التي أعلن يسوع فيها هويّته لتلاميذه ولو بطريقة غير مباشرة.

وهنا يحضرنا نص مرقس ١٢׃١–١٢ مباشرة. ففي هذا المثل نجد أن الابن هو آخر مُرْسَلٌ من الله إلى كَرْمِهِ. والكَرْم كان على مر الزمن رمزاً لشعب الله اليهودي، (انظر إش ٥) أما الكَرَّامُون فكانوا حتماً قادة إسرائيل الدينيين بمن فيهم الأنبياء والكهنة والملوك. لاحظوا أن الابن يدعى “كان يحبه.” فعبارة “الابن الحبيب” اليهودية كانت تستخدم غالباً للإشارة إلى الابن الوحيد وبالتالي الابن المدلل بشكل خاص.

وهكذا فإن يسوع يرى نفسه في هذا المثل كابن الله وهذا يختلف بعض الشيء عن باقي اليهود لأنه كان أيضاً “الابن الحبيب.” فهل كان يسوع يدرك أن لديه علاقة فريدة مع الآب بسبب أصوله المميزة (انظر مت ١ بشأن الحبل العذراوي)؟ يبدو بأن هذا إستنتاج مناسب.

إن لقب ابن الله يحمل نفحات إلهية على الرغم من أنه كان غالباً ما يرتبط بالملوكية عوضاً عن الألوهية في اليهودية القديمة ومردّ ذلك أن الملوك في المجتمعات المجاورة لإسرائيل كانوا غالباً ما يعتبرون أنفسهم أنهم أبناء الله بالمعنى الإلهي للعبارة. وعندما استخدم بولس هذا اللقب في حديثه عن المسيح للأمم في وسط العالم اليوناني الروماني فإن اللقب كان بلا شك يحمل مغزى من هذا القبيل.

ويهمنا هنا أن ندرك بأن إستخدام يسوع لعبارة الابن في الإشارة إلى نفسه هو الذي مهّد لهذا النمط من التفكير مع أنه تبلور تماماً لاحقاً بعد موت يسوع من قبل بولس وآخرين كثيرين الذين شرحوا المبدأ وطوروه. وقد تعزّز هذا الأمر عندما انتشرت حركة يسوع غرباً على اتساع الامبراطورية وأصبحت تدريجياً ظاهرة أممية.

ابن داود – حكمة الله

يمكننا بحسب الظاهر إعتبار لقب ابن داود مجرّد إشارة لأحد أولاد داود الكثيرين من النسل اليهودي الملكي. ومع أنّه من الممكن للعبارة أن تحتمل هذا المعنى، فهي بالحقيقة تحمل معانٍ أكثر من ذلك بكثير. فشبه الجملة أوّلا لم تكن مألوفة في الديانة اليهوديّة الأولى بما فيها النصوص المسيحانيّة وهكذا فالسؤال هو كيف أصبحت هذه العبارة مستخدمة بشكل متكرر من قبل يسوع في إنجيل متى الذي هو إنجيل يشدّد خاصة على الجذور اليهودية للمسيح وطبيعته اليهودية. (راجع بشأن ذلك تفسيري المقبل The Gospel of Matthew, Smyth and Helwys, 2006).

أما السؤال الصحيح الذي ينبغي طرحه بشأن العبارة فهو التالي: من هو بحسب تفكير اليهود “ابن داود”، أشهر نسله على الإطلاق؟ والجواب على هذا السؤال بسيط: إنه سليمان. هكذا، فإننا لا نفاجأ بأن العبارة خاصة في متى وأيضاً في إنجيل مرقس وأمكنة أخرى تشير إلى التشابه القائم بين يسوع وسليمان من نواحٍ مختلفة بما فيها حكمته.

اعتبر يسوع بلا شك حكيماً يهودياً فقد تحدّث في الجماعة مستخدماً أساليب الحكمة في خطابته (الأمثال والعبر والمجازات والألغاز والأقوال). وهذا الأمر بمفرده كافٍ لكي يدعوه بعض اليهود ابن داود خاصة أنه كان يُظَنّ أنه أحد الأشخاص المسيحانيين إذ ولد في بيت لحم. لكن العبارة تحتمل أيضاً أكثر من ذلك ففي يهودية ما بين العهدين، ساد الاعتقاد بأن حكمة سليمان تحوي الحكمة لشفاء الأمراض حتى لطرد الأرواح الشريرة.

وبالطبع لا نجد في العهد القديم أي ذكر للشياطين أو لإخراج الأرواح الشريرة لكن الحال تختلف في آداب اليهود لما بين العهدين ففي تلك الكتابات نسمع بأن سليمان جمع وصفات لشفاء الأمراض ولإخراج الأرواح. وفي الواقع، إن اسم سليمان نفسه كابن لداود كان يستخدم جزئياً في طقوس إخراج الأرواح وفي شفاء الناس (للمزيد عن هذه الأمور راجع، Witherington, Jesus the Sage Fortress 1995).

ومن المهم أن نلاحظ هنا بأنه في جميع الحالات التي دعي فيها يسوع ابن داود كان السياق هو إحتياج أحدهم إما إلى الشفاء أو إلى إخراج الأرواح وهذا ليس من قبيل المصادفة لكنه بالأحرى تطوير طبيعيّ للفكر اليهودي الأول بشأن سليمان وعملية الشفاء. فدعوة يسوع بابن داود هي تصريح بأنه شخصية ملوكية حائزة على حكمة سليمان بمختلف أوجهها.

ولننظر مثلاً إلى نص مثل ما جاء في مر١٠ ׃٤٦–٥٢، حيث ترد قصة بارثيماوس الأعمى. وهذه القصة إعلانية على مستويات عدة. فمن جهة، نحن بصدد رجل أعمى، ولا يوجد ذكر في العهد القديم عن أي نبي او كاهن أو ملك شفى أعمى، كما جاء في يوحنا ٩׃٣٢، “مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى.” وهكذا فإنه من الطبيعي أن نسلّم بأن معجزة مدهشة كهذه تتطلّب أن يمتلك الشخص حكمة سليمان وبالأخص حكمة سليمان ومعرفته للعلاجات والشفاء. وفي هذه القصة يتوجه الأعمى إلى يسوع كابن داود حتى يحصل “على رحمة” و يلبي يسوع طلبه بالطبع.

لنفحص الآن نصاً من نوع مختلف تماماً وبالتحديد شجرة النسل الواردة في متى ١. يبدأ تسلسل النسب كالتالي- ” كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ.” وهذه طريقة غريبة لبدء النص لأن تسلسل النسب نفسه يبدأ من متى ١׃٢ بإبراهيم وليس بداود. ففي الواقع عندما نصل إلى اسم داود في الآية ٦ نسمع التالي: “داود ولد سليمان من التي لأوريا.”

وتلفت هذه الجملة انتباهنا بالطبع لا لسبب ذكر سليمان فيها (مع أن داود كان لديه أولاد آخرون أيضاً) بل أيضاً بسبب الإشارة إلى امرأة أوريا بثشبع وهذا يظهر بأن علاقة غير طبيعية حصلت وبالحقيقة كانت علاقة لا أخلاقية أدت إلى مولد وريث العرش هذا. لماذا تعمّد الكاتب ذكر هذه التفاصيل هنا مع أنه في أمكنة أخرى من شجرة النسب هذه يكتفي بذكر أسماء الرجال فقط (إبراهيم ولد إسحق…إلخ)؟ أما السبب البديهيّ لذلك فهو أن كاتبنا يهيّئ سامعيه لما سيقوله عن المسيح الذي أتى مثل سليمان نتيجة لحمل غير طبيعي ومخالف للعادة مفاجئ وغير متوقع.

إنه في الواقع الحبل العذراوي! نرى بأن الكاتب يشاء من بداية هذا الإنجيل تصوير يسوع كشخصية ملكية من سلالة داود الذي هو مثل سليمان في أوجه متعددة ليس أقلها صورة الحكيم والشافي والملك. ولكن مازال هناك أكثرمن ذلك.

نجد في العهد القديم في نصوص مثل أمثال ٣׃١٣–٢٠ وبالأخص أمثال ٨ تشخيصاً لحكمة الله، وهو عبارة عن إعطاء مزايا بشرية لمفهوم مجرد- أي لحكمة الله. وتُشخَص هنا الحكمة كامرأة موجودة في مرحلة خلق الكون لمساعدة الله (بسبب أن الكلمة اليهودية حوكما مثلها مثل الكلمة اليونانية صوفيا مؤنثة). وهذا بالطبع أسلوب للقول بأن خلق الله يتضمن خطة إلهية تعتمد على الحكمة لكن هناك أكثرمن ذلك ففي أمثال ٨ نرى الحكمة تنادي شعب الله للرجوع إليه والرجوع إلى تعليم الله الحكيم بشأن الحياة الفضلى ومخافة الله.

أما هذا التشخيص للفكر والحكمة ولخطة الله الخلاصية فقد تطوّر لاحقاً في آداب الحكمة اليهودية التي تلت. ففي سليمان على سبيل المثال نسمع كيف حصل شعب الله على الخلاص بواسطة الحكمة وفي سيراخ نسمع كيف صارت الحكمة ملموسة ومتجسدة في التوراة، وفي أخنوخ الأول ٤٢ نسمع كيف نزلت الحكمة من السماء منادية لشعب الله بالتوبة لكنهم رفضوا الحكمة وهكذا عادت لتوّها إلى السماء لتكون مع الله.

ونحتاج إذ ننظر بتأن إلى بعض تعاليم يسوع لنجعل هذا الأمر في ذهننا والسبب في ذلك هو أنه من الواضح أن إنجيلي متى ويوحنا كليهما يظهران يسوع كحكمة الله التي جاءت إلى الأرض في الجسد لا في شكل كتاب كالتوراة لكن في شخص يدعى يسوع. ويُرى يسوع بالتالي تجسيماً بشرياً لفكر الله وإعلاناً حياً من الله حلّ جسدياً.

فلننظر على سبيل المثال إلى متى ١١׃١٩–٢٠وسنرى تركيبة موازية، “جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَـبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا.” فمن الواضح في هذه الحال أن الذي يدعى الحكمة ما هو إلا ابن الإنسان. فيسوع يعلن مخارجه الإلهية وحكمته الإلهية إذ يدعو نفسه مباشرة الحكمة وفي هذا إشارة واضحة سيفهمها اليهود المطّلعون لتوهم.

يوجد مثال آخر جيد عن موضع يصور فيه يسوع نفسه كالحكمة التي أتت في الجسد وهذا ما نراه في متى ١١׃٢٨–٣٠ حيث يتحدث يسوع بشكل مباشر بكلمات مبهمة عن “الحمل الخفيف” و”النير الهيّن.” ويهمنا الاطلاع في هذا المقطع من أجل قصد الدراسة هنا على أمرين. ففي الديانة اليهودية الأولى كانت كلمة “النير” تستخدم في التوراة وعندما يصبح أحدهم في سن الرشد يأخذ على نفسه نير الوصايا الثقيل والتي كانت تتضمن ٦٠٠ وصية! لكن يسوع بالمقابل يصرح بأن نيره خفيف.

ولدينا في سفر سيراخ أمر آخر ملفت للنظر يتحدث عن الحكمة التي تطلب من اليهودي أن يأخذ نيرها عليه ويتعلم منها (انظر مثلاً سيراخ ٢٤). ويطبق يسوع هنا كلام الحكمة هذا على نفسه. ومن الواضح أن يسوع يرى نفسه كمن يتمّم دور الحكمة المصور في آداب الحكمة التي سبقت.

وكما يتم تصوير الحكمة كامرأة تحمي وتربي نسلها الروحي في أمثال ٨ وأمكنة أخرى هكذا يسوع يصوّر نفسه كالدجاجة التي تحمي فراخها تحت جناحيها وهم في هذا الحال سكان أورشليم ومع ذلك فإنهم لم يريدوا أن يأتوا إليه (انظر لوقا ١٣׃٣٤). لكن هذه الصورة ليسوع لا تأتي فقط في الأناجيل الإزائية (المتشابهة) حيث يصور يسوع نفسه كحكمة الله التي جاءت في الجسد لكن هذا الموضوع رئيسي في إنجيل يوحنا أيضاً.

فإنجيل يوحنا يبدأ بأنشودة الحكمة حيث يُقدَّم يسوع على أنه كلمة الله الأزلية مذكراً بتكوين ١ ، الكلمة المنطوقة والمشخَّصة كالحكمة في أمثال ٣؛ وليس ذلك فقط بل إنه يطبّق استعارات الحكمة في أقوال الأنا هو العظيمة التي تحوي أخباراً متعددة للجملة (أنا هو الطريق، الحق، الحياة، أنا هو الكرمة إلخ.) ما هي إلا صفات سبق الإخبار عنها في ما قبل على أنها الحكمة المجسمة المذكورة في أمثال ٣ و٨ وأمثال سليمان وحكمة سيراخ.

وبكلمات أخرى فإن يسوع هو تتميم كل هو موعود به في مقاطع الحكمة لأنه الحكمة المجسمة والحكمة المتجسدة والحكمة التي جاءت في الجسد أي بكلام آخر إنها طريقة أخرى للقول “من رآني فقد رأى الآب”، أو “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” أو “أنا والآب واحد.” ويصور يسوع نفسه بهذه الطريقة كالإعلان الإلهي والطبيعة الإلهية والخلاص الإلهي الذي حل في الجسد على الأرض وهكذا فإنه ابن الله الوحيد الذي فيه نستطيع أن نرى مجد الله بذاته وحضوره الإلهي البهيج.

 

المسيح

إنّ عبارة المسيح والآتية من الكلمة العبرية “مشيَخ” هي في الواقع قليلة الإستعمال جداً في العهد القديم، لكنّ ذلك لا يعني أنّ المبدأ غير موجود في العهد القديم. فهو يظهر في أماكن وطرق مفاجئة هناك. أمّا الكلمة فتعني بشكل بسيط “الممسوح” وقد تنطبق في الواقع على النبي والكاهن أو الملك الذين جميعهم يُمْسَحُون بالزيت إجمالا لدى تسلّمهم مهامهم الملوكية أو الدينيّة. هكذا فمن الممكن الإشارة إلى المزمور الثاني (عدد ٢) حيث يُدعى الملك الداودي، وفي هذه الحال داود نفسه، الممسوح من الله مباشرة.

هذا وإن إعتبار المِسْحَة على أنّها من الله (ليس فقط من قبل النبي صموئيل مثلاً) لهو دليل على وجود إذن إلهي وقوة وشرعية تخوّل الممسوح القيام بعمل خاص ومعيّن. وهكذا فمن المفاجئ لكن ليس بالضرورة غير متوقّع أن يدعى قورش وهو الملك الفارسي الوثني “مسيحي” في إشعياء ٤٥׃١-٢لأنّه كان من المفترض به أن يطلق شعب الله في الحرية ويرجعهم إلى أرضهم. ويتّضح من هذا النصّ أنّ عبارة المسيح لم تكن بعد كلمة تقنيّة تستخدم لشخصيّة يهوديّة مِسْيَانيّة فقط. فإنّنا في الحقيقة لا نجد هذا النوع من الإستخدام التقني للعبارة في العهد القديم.

ومع ذلك فإنّ الأفكار المِسْيَانيّة تطّورت في الديانة اليهودية الأولى في مرحلة ما بين العهدين كما في زمن المسيح؛ وبإستطاعتنا أن ننظر إلى النصوص من مثل مزمور سليمان ١٧ ونرى أنّ شخص المسيح المحارب والذي يتبع نموذج داود متوقّع من قبل بعضهم، وربما من قبل الكثيرين من اليهود الأوائل.

وبما أنّ يسوع لم ينظر لنفسه ولا لدوره خلال خدمته الأرضيّة بهذا الشكل، لذلك يبدو في معظم الأحيان وكأنّ يسوع يتحاشى إستخدام عبارة المسيح للإشارة إلى نفسه، مع أنّه قَبِلَ باللقب عندما اعلنه آخرون عنه – سواء أتى ذلك من بطرس تلميذه أو من قيافا عدوّه. سوف ننظر بعد قليل إلى النصوص المتصلة بالموضوع والتي تحدث فيها هذان الشخصان عن المسيح، لكن لنلتفت الآن قليلاً إلى الحوار الموجود في مرقس ١٢׃٣٥-٤٠.

يبدأ الحديث في مرقس ١٢׃٣٥-٤٠ بتوجيه يسوع سؤالاً يفتح الموضوع. وما يثير الانتباه هو أنّ السؤال المطروح يعكس النظرة السائدة لدى مختلف الخبراء الدينيّين يومها، وبشكل خاص عند معلّمي التوراة والناموس. ويظهر أنّ هؤلاء كانوا يتبعون الرأي القائل بأنّ المسيح يجب أن يكون إبناً لداود. وقد لا يفاجئنا هذا الأمرفي ضوء نصوص مثل ٢ صموئيل ٧ أدّت إلى توقّعات، على الأقل في اليهوديّة، بإتيان المسيح من مقاطعة اليهوديّة ومجيئه ملكاً محارباً على نمط داود.

وفي مثل هذه الحال سيأتي ويقوم بتطهير أورشليم من سيطرة الرومان ويملك فيها عِوضاً عنهم. لكنّ يسوع لم يكن ليتبع هذا النوع من السلوك، وبالتالي إختار التشديد على أنّ هؤلاء المعلّمين هم بحاجة ماسّة لأن يفكّروا على مستويات أعلى، مع أنّه لم يرفض إحتمال كون المسيح ابناً لداود.

وقد إقتبس يسوع أمام هؤلاء المعملّمين المزمور ١١٠ ׃١ مستخدماً بعض الحريّة في التفسير. وقد أشار يسوع بشكل عابر، مستنداً على تقليد شائع بأنّ داود نفسه كتب هذا المزمور، إلى أن داود نفسه يدعو شخص المسيح “ربّاً”، وهذا يعني أنّه أرفع مستوى من داود، أو ربما كان موجوداً حتى في زمن داود! ففي الجملة التالية، “قال الربّ لربي” الربّ الثاني هو المسيح في حين أنّ الأوّل هو الله الآب.

وإذ أدهش سامعيه تماماً، سأل ببراءة إن كان داود يدعوه “ربّاً” فكيف يكون ابن داود؟ بعد ذلك لم نسمع جواباً ولا تعليقاً من المعلّمين. فقد وقفوا مشدوهين. أمّا الغرض الذي من أجله أجازهم في هذا التدريب فهو ليكشف لهم أن تصنيفاتهم المِسْيَانيّة كانت ضيقة وأنّهم متزمّتون فكرياً. فالمسيح أعظم من أن يكون مجرّد شخص آخر من سلالة داود الطويلة. وهذا يأتي بنا إلى بطرس وقيافا ثانية.

إنّ مرقس ٨׃٢٧-٣٠ هو مقطع جوهري تدور حوله قصة السرد المرقسيّة حيث تثبَّت هويّة يسوع التي أعلنت في مرقس ١׃١ لأوّل مرّة من قبل أحد تلامِذة يسوع. وإنّ ظروف الإعلان هذا هي هامّة أيضاً. فقيصريّة فيليبي هي خارج الجليل واليهوديّة، وهي بالتالي في الأراضي التابعة لهيرودس فيليبس في المدينة التي أعاد تسميتها لتمجيد ذاته والقيصر. تلك كانت المدينة القديمة المسماة بانياس والتي إشتهرت بتماثيلها المختلفة وآلهتها الوثنية المعروضة في أماكن متعددة منها.

بالإضافة إلى ذلك كان فيها تمثال للقيصر المدعو “ابن الآلهة” كجزء من عبادة الأباطرة. وقد إختار يسوع في هذا المكان بالذات أن يسأل تلاميذه من يظنّون أنّه هو. فهنا على الأقل من غير المتوقّع أن يُسَاء فهم الإعلان بأنّ يسوع هو المسيح اليهودي كما هو محتمل في اليهودية حيث النماذج الداوديّة للمسيح مألوفة (أنظر مرقس ١٢׃٣٥-٤٠ ولاحظ بأنّ الحديث يجري في اليهودية).

وبالرغم من ذلك فقد أساء التلاميذ فهم يسوع. أمّا بطرس فكان على صواب عندما أكّد بأنّ يسوع هو المسيح اليهودي، لكنّ يسوع سرعان ما حذّره والآخرين معه بأن لا يقولوا لأحد، لأن الآخرين سيخرجون مفاهيمهم الخاصة بشأن الكلمة ويؤولونها حسب نزعاتهم. فكلمة المشيَخ العبرية مشحونة بالمعاني وهي بالحقيقة كلمة مسيّسة جدّاً ولم يكن يسوع يشاء أن يتابع برامج الملك داود وعنفه. فهو قد جاء لكي يخلّص ويشفي ويحب ويصنع رحمة – أي كان عنده برنامجاً مختلفا تماماً.

ولنلاحظ أنّ يسوع يثير لأوّل مرّة في مرقس ٨׃٣١-٣٢ موضوع آلامه العتيدة الصعب. فهذا الأمر كان غير قابل للفهم بالنسبة لبطرس والآخرين، بالدرجة الأولى لأنّهم لم يكونوا يتوقّعون مسيحاً متألّماً، بل كانوا ينتظرون مسيحاً منتصراً. ويبدو أنّ اليهود قبل يسوع، بالرغم من غرابة الأمر، لم يفهموا إشعياء ٥٣ على أنّه إشارة إلى المسيح. لكنّهم فهموا النص بأنّه يشير إلى الأمّة الإسرائيليّة بكاملها، إذ تدعى “عبدي” في إشعياء ٤٠ والنصوص التي بعدها، وهكذا توقّعوا بأن تتألّم إسرائيل كأمّة من أجل خطايا العالم.

وفي ضوء قلة إستخدام عبارة المسيح من قبل يسوع نفسه، من المهم لنا أن نسأل كيف أصبحت هذه العبارة (الواردة في اليونانيّة christos وفي اللاتينية christus) تستخدم ككلمة تقنية وغدت بالتالي شبه اسم ثانٍ ليسوع. يجب أن تقرأ العبارة تقنياً “يسوع المسيح،” لكنّها غالباً ما تَرِد على شكل “يسوع مسيح” (Jesus Christ).

فلماذا إختار كتبة العهد الجديد (الذين معظمهم من أتباع يسوع اليهود، بإستثناء لوقا على الأرجح الذي قد يكون أمميّا) أن يستخدموا غالباً عبارة المسيح للإشارة إلى يسوع في حين أنّ يسوع نفسه لم يستخدمها كثيراً. إنّ أحد الأسباب بالطبع هو رغبتهم في التشديد على أنّ يسوع هو المسيح اليهودي، مع أنّ غالبيّة اليهود في القرن الأوّل الميلادي رفضوا هذا الاعتراف. لكن هناك سبب آخر وهو التالي.

عندما صلب المسيح، صُلب بالتحديد كملك لليهود، ولم تكن العبارات المعلّقة على الصليب “المسيح” باللّغات الثلاثة (اليونانية والعبرية واللاتينية). لكن كانت عبارة “ملك” معلّقة فوقه في لغات ثلاثة (rex, melek, basileus). كانت فكرة كون يسوع ملكاً لليهود أمرً مليئاً بالمعاني السياسيّة وتحدّيا واضحاً للسلطات. فلا يهودي غير مصرّح له من القيصر يقدر أن يعلن نفسه ملكاً لليهود. وقد حُكِمَ على يسوع بالصلب بسبب هذا الذنب بالتحديد، لأنّ ذلك كان يعتبر خيانة في الإمبراطورية الرومانيّة.

فمن غير المفاجئ إذاً أن نرى بولس والباقين، وهم يكرزون بيسوع في العالم اليوناني الروماني، أن يستخدموا العبارة الأقل إثارة للحساسيّة السياسيّة ويختاروا كلمة المسيح كاسم ثانٍ ليسوع. لم تكن هذه العبارة لتثير مباشرة الاعتراضات نفسها التي تثار لدى التعريف بيسوع على أنّه ملك يهودي. بشكل بسيط، كان الأمر لياقة دفاعيّة جيّدة.

من الجيد لنا أن نشدد ونحن نقترب من ختام هذا الشرح على أنّ عبارة “المسيح المصلوب” كانت لتنظر من قبل اليهود الأوائل على أنّها تحوي النقيضين. فكيف يمكن لمسيح الله أن ينتهي به المطاف على الصليب؟ أوليس الصليب إشارة إلى أنّ المصلوب عليه ملعون من قبل الله؟ أيعقل أن يكون الله قد لعن الشخص المُبَارَكُ منه، والإنسان الذي مَسَحَهُ؟ فمن غير المستغرب إذا أن يقول بولس لاحقا لليهود أن الكرازة بالمسيح مصلوباً هي لليهود عثرة (أنظر ١ كور ١: ٢٣).

لقد طلبوا مسيحاً منتصراً لا مسيحاً مصلوباً وكان من الصعب عليهم أن يؤمنوا بأنّ الله يمكن أن يسمح للممسوح منه أن يقاسي موتاً مخزياً كهذا. يتّضح أنّ يسوع عندما تحدث عن ابن الإنسان المتألم، بالحقيقة ابن الإنسان أو خادم الله الذي تحت الإعدام، كان يدخل مفهوماً جديدا على الفكر اليهودي. فيسوع لم يكن يريد أنّ يحدّد الآخرون هويّته، وهكذا نأى عن إستخدام العبارات المألوفة مثل المشيَخ والتي كانت مفاهيمها مغلوطة مقارنة مع الخدمة التي أتى يسوع ليتمّمها.

وإلى يومنا هذا ما تزال فكرة المسيح المصلوب صاعقة بالنسبة لكثيرين بمن فيهم المسلمين على سبيل المثال، والذين يؤمنون بأنّ الله إستبدل المسيح بيهوذا في آخر لحظات صلب يسوع لأنه لا يمكن لله أن يسمح لنبيّه القدوس بالموت بهذه الطريقة. لكن بالنسبة ليسوع فطريق الصليب حدّدت من جديد بوضوح وإلى الأبد ما معنى المسيح.

عن كتاب: بن ويزرنجتون “كريستولوجية يسوع” The Christology of Jesus.

ادراك يسوع لالوهيته – هل كان يعلم يسوع أنه الله؟ – بن ويزرنجتون

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث