البابا على كرسيه ف14 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
البابا على كرسيه ف14 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الرابع عشر : البابا على كرسيه
وصدر الأمر الإمبراطوري من الإمبراطور ” مكسيميانوس دايا ” إلى والي الإسكندرية بالحكم على بطرس أسقف الإسكندرية بالإعدام بحد السيف ، وما أن وصل هذا الأمر للثغر السكندري حتى تسرَّب سريعاً ، وإنتشر إنتشار النار في الهشيم ، وبحركة عفوية ، وبدون أي تنظيم من أي شخص ، أحاط بالسجن عشرات الألوف في لحظات 00 آباء كهنة وشمامسة وعذارى 00 رجال ونساء 00 شيوخ وأطفال ، وكأن لم يبقَ إنسان مسيحي في بيته بعد 00 نحو مائة ألف أحاطوا بالسجن لا يحملون سلاحاً ، لكنهم يحملون مشاعر ملتهبة أفاضت أنهاراً من الدموع 00 الجميع بلا إستثناء على أهبة الإستعداد للتضحية بأرواحهم رخيصة جداً فداءً لباباهم الحبيب 00 مستعدون أن يُذبحوا جميعاً ولا يرون باباهم يُذبح أمامهم 00 إزدحموا حول السجـن كالحصن الحصين : ” لو أنكم قتلتمونا جميعاً ، فلن ندعكم تقتلون بابانا ورئيسنا وبطريركنا ” 00
وإذ رأى القائد هذه الإنفعالات الجياشة ، تحاشى حدوث تصادم مع هذا الشعب الهادر ، وأرجأ تنفيذ حكم الإعدام للغد ، ظناً منه أنه متى خيم الظلام وأرخى الليل سدوله ، فإن المتجمهرين سينفضون إلى حال سبيلهم ، ولاسيما أن الليلة تبدو شديدة البرودة ، ليلة التاسع والعشرين مـن شهر هاتور ، ولكن يبدو أن ظنه قد خاب ، فالجميع عزموا على قضاء ليلتهم مرابضين في موقعهم أمام السجن ، لـن يسمحوا بخروج البابا من السجن إلى ساحة الإستشهاد ، وإرتفعت نبرة الهتافات التي دوَّت في سماء الإسكندرية : ” إقتلونا إذبحونا 00 من بابانا لن تحرومنا “0
أقبل المسيحيون جميعاً يزودون عن باباهم الموت ، وأقبل غير المسيحيين ليشاهدوا منظراً فريداً لم يره أحد من قبل ، فأي سجن مثل هذا أحاط به عشرات الألوف من مختلف الأعمار والأعمال والثقافات من أجل الإفراج عن شخص واحد فقط00 وإذ بالقائد في حيرته لا يجد سبيلاً للخروج من هذا المأزق الذي يهدد المدينة بالإشتعال ، وإذ بـ ” قداسة البابا بطرس ” بحكمته وأبوته الوديعة وهو لا يريد حدوث تصادم بين قوات رومانية باطشة مسلحة وبين شعب أعزل ، ولا يريد أن تُسفك دماء سواء كانت بريئة أو غير بريئة ، رأى أن يسلم نفسه فديه عن شعبه ولا يُمَس أحد من أولاده ، فسريعاً ما وضع خطة الخروج من المأزق ، والإنسان المسيحي دائماً هو المطالب بإمتصاص الصدمات 00 أرسل يستدعي القائد ، وإلتقى به بكل حب ، وإقترح عليه أن يتسلل بعض رجاله إلى خلف السجن ، حتى يثقبوا الجدار ، فيخرج إليهم ويفعلون به ما أُمروا به ، وإستحسن القائد الفكرة جداً0
وبعد منتصف الليل تسلل بعض الجنود بأدوات الحفر إلى خلف السجن ، وإذ شعروا بطرقات خفيفة تأتي من الداخل حدَّدوا المكان ، وبدأوا عملهم ، وإذ في الأفق صوت أزير الرياح ، وأيضاً صوت الهتافات التي تدوي ، وهذا وذاك غطى على صوت المعاول التي تنهال على جدار السجن 00
ومن ثقب الجدار خرج ” قداسة البابا المعظم بطرس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسة ” 0
فأختشى منه الضابط المُكلَّف بأداء المهمة مع جنوده الرومان الأشداء الخمسة ، وسار البابا يحف به الجنود وقائدهم ، وقد إكتسب إحترامهم وتقديرهم وثقتهم 00 من يسلم نفسه للموت من أجل أحبائه لهو جدير بالتقدير والتبجيل0
ومازالت هتافات الشعب الثائر الهادر تدوي في سماء الإسكندرية ، ولاحظ بعض رجال المخابرات الرومانية الذين يرتدون الملابس المدنية ، ويندسون وسط الجماهير ، يشاركونهم الهتافات ، ويراقبون حركاتهم وسكناتهم 00 لاحظ هؤلاء الرجال ان من أكثر الملتهبين حماساً ويلهبون حماس الجماهير أحد الأشخاص ذو البنية القوية ، فاحتالوا عليه ، ونجحوا في إجتذابه بعيداً عن الجماهير بحجة ان لديهم أخباراً سرية تخص البابا بطرس ، وسريعاً ما كان هذا الرجل مقيداً يقف ليُحاكم ليلاً أمام قاضي الظلمة :
القاضي : من أنت ؟ وما إسمك ؟
الرجل : أنا ضابط بحري بالأسطول الروماني ، وإسمي ديمتري منسى0
القاضي : ضابط بحري بالأسطول الروماني وتهيج الشعب ضد روما 00 هل أنت روماني ؟
ديمتري : لستُ رومانياً 00 أنا من أصل يهودي وإلتحقت بالبحرية الرومانية ، وكثيراً ما عرَّضتُ حياتي للخطر من أجل سلامة وبحار الإمبراطورية 00 بعد أن أنهي خدمتي سأحصل على الرعوية الرومانية0
القاضي : إذاً أنت تحب الإمبراطورية الرومانية وتطمع في رعويتها ، وثانياً أنك يهودي ، فما بالك بمشاكل المسيحيين الخونة ؟ وإن كانوا يهتفون لبطرس أبيهم ، فما شأنك به ؟
ديمتري : قلتُ أنني من أصل يهودي ، ولم أقل أنني مازلتُ يهودياً 00 أنا مسيحي أؤمن بالسيد المسيح إبن الله الحي الذي تجسد وصُلب من أجل خلاص كل البشرية ، أما ” قداسة البابا بطرس ” فهو أب لي ، أعرفه ويعرفني معرفة شخصية ، وطالما تمتعت بأبوته 0
القاضي : ألا تعلم أنه بموجب تصريحك هذا ، الذي يعني عدم ولاءك لآلهتنا وأباطرتنا ، تستوجب الموت0
ديمتري : وهل تظن أن تماثيل الذهب والفضة والحجر والخشب هذه آلهة ينبغي لها السجود ، وكيف تكون آلهة وهي لا تنفع ولا تشفع ، لا حيلة لها ولا قوة ، وإن قلت أنها رمز فلماذا تسجدون لها وتقدمون لها الذبائح ؟! 00 أما الإمبراطور فإنني أكنُّ له الإحترام اللائق ، لكنني لا يمكن أن أؤلّهه ، فهو مجرد إنسان مثلي ومثلك0
القاضي : أنت ضابط سليط اللسان تحتاج إلى التأديب0
ديمتري : هذه نظرتك لي 0 أما نظرة السماء فهي شئ آخر 0
وسريعاً ما أصدر القاضي حكمه على ديمتري 00
من رأى محاكمة كهذه ، لضابط عظيم كهذا ، تجري في جناح الليل ، لا تستغرق سوى دقائق معدودة ، ومن الجلسة الأولى يصدر الحكم ؟!!
أما ديمتري فأمضى ليلته مكبلاً بالأصفاد ، لم يغمض له جفن ، فإن قلبه هناك في السجن العام حيث باباه البابا بطرس 0
وأخذ الضابط ديمتري يستجدي الأخبار ، فتنامى إلى سمعه أن البابا البطريرك طلب من القائد أن يثقب الجدار الخلفي للسجن ، وفعلاً تم ثقب الجدار ، وخرج البابا إلى ساحة الإستشهاد ليفدي أولاده من أي أذى ، فالتهبت مشاعر ديمتري أكثر فأكثر ، فمن يطلقه ليخلص بابا من الذبح ؟!
وأيضاً تسامى وإرتفع قدر ” قداسة البابا بطرس ” في نظره :
الأب يسلم نفسه للموت عن أولاده 00
يهوه يصير إنساناً من أجل حياة أولاده 00
يهوه يُضرب ويُهان ويُعرى من أجل إنقاذ أولاده 00
يهوه يُصلب ويموت من أجل أحبائه 00
نعـم ” ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه ” ( يو 15 : 13 )0
يهوه يُدفن ثلاثة أيام ويقوم منتصراً على الموت 00
بالموت دحر الموت 00
وتعجب ديمتري من نفسه ، إذ بعد أن شهد ليسوع إلهه ، قد أدرك تماماً قضية التجسد والفداء 00 لم تعد عثرة في طريقه 00 هوذا العقل يسلم الراية للإيمان ، والإيمان يُكمل المشوار الذي عجز العقل عن إستكماله 00 تنهد ديمتري قائلاً :
أؤمن ياربي 00 أؤمن ياإلهي 00 أؤمن ياسيدي0
وفي الطريـق مـن السجـن إلـى ساحة الإستشهاد طلب ” قداسة البابا بطرس ” من القائد أن يسمح له بالمرور على قبر مارمرقس ، وهل لهذا القائد أن يرد للبابا الشجاع البطل طلباً ، وهو الذي يود لو يُطلقه لولا أن هذا يعرض حياته وحياة جنوده لحكم الإعدام ، فقال له : ” أفعل ما تريد أيها الأب ، لكن بسرعة ” 0
فتوجه البابا بطرس إلى ذاك الموضع الذي حوى جسد سلفه البطريرك الأول ، وجثا على ركبتيه ، وأخذ يناجيه قائلاً :
” أيها الأب كلي التبجيل 00
كاتب إنجيل إبن الله المُخلص ، والشاهد لآلامه 00
لقد إختارك مخلصنا لتكون أول رئيس للكهنة في مصر ، وعاموداً لكنيستها 00 عهد إليك بالكرازة في هذه المدينة وكل كورة مصر وتخومها 00
كنت ساهراً على الخدمة التي أئتمنك عليها لخلاصنا ، وجزاء لهذا العمل المجيد نلت إكليل الشهادة 00
إستحققت بذلك كرامة الإنجيلي ، وكرامة رئيس الأساقفة 00
أنت إختـرت ” أنيانوس ” الطوباوي لأنه كان مستحقاً ، ومن بعده ” ميليـوس ” ، ومـن كـان بعدهمـا ، ثم الآباء ” ديمتريوس ” و ” ياراوكـلاس ” و ” ديونسيـوس ” و ” مكسيمـوس ” والطوباوي ثاؤنا الذي قام بتربيتي منذ الطفولة وقام بتهذيب قلبي 00
وقد صرت أنا الخاطئ غير المستحق أن أكون خليفتك على كرسيك رغم عدم إستحقاقي ، فأطلب إليك ياسيدي أن تجعلني مستحقاً لأن أكون خليفتك في بذل الروح أيضاً0
نعم 00 يالغني فيض مراحم الله عليَّ ، أن يُوهب لي أن أكون شهيداً من أجل صليبه الثمين والقيامة المُفرحة 00 ليسمح لي أن أسكب تقدمة دمي 00
الآن 00 أطلب إليك ياأبـي أن تصلي من أجلي لتسندني القوة الإلهيَّة ، فأبلغ غاية هذه الآلام بقلب شجاع وإيمان راسخ 00
أيها المثل المجيد 00 أستودعك قطيع المسيح الذي كنتُ مسئولاً عن رعايته ، متضرعاً إلى رب المجد أن يكون موت خادمه خاتمة هذا الإضطهاد ، فلا تقوم له قائمة بعد اليوم ” (96)0
ثم رفع البابا بطرس صلاته الختامية ذبيحة مقبولة عن شعبه :
” ياإبن الله الوحيد ، يسوع المسيح ، كلمة الآب الأبدي 00
إسمع لي طالباً رأفاتك 00
أتضرع إليـك أن تقـول سلاماً ، فتهدأ العواصف التي تهز كنيستك 00
وليكن سفك دمي أنا خادمك خاتمة هذا الإضطهاد الحال بقطيعك الناطق 0 آمين ” (97)0
وكان بالقرب من هذا الموضع مسكناً تقام فيه العبادة تكريماً للإنجيلي ناظر الإله ، وكانت ساعتئذ صبية عذراء مع أبيها الشيخ ساهرة تصلي ، فسمعت صلاة البابا بطرس ، وسمعت صوتاً يقول :
” بطرس آخر شهداء هذا الإضطهاد “
إنتهى ” قداسة البابا ” من مناجاته لمارمرقس وصلاته السهمية ، فنهض ، وإذ وجهه يضئ كوجه ملاك ، فدخل الخوف قلب الجنود 00 أكمل البابا مسيرته نحو ساحة الإستشهاد وضوء الفجر كاد ينبلج ، وفي الطريق رأى البابا شيخاً ومعه إمـرأة عجوز ، فسألهما : إلى أين أنتما ماضيان ؟ وهل أنتما مسيحيان ؟
فقالا : نعم نحن مسيحيين ، ونحن ماضيين إلى المدينة لنبيع ما معنا0
البابا : الله يعينكما ياولديَّ المؤمنين 00 هل تقفا معي ساعة0
وإذ أدركا أن محدثهما هو البابا بطرس إنحنيا أمامه يقبلان يديه ويظهران طاعتهما وخضوعهما له ، وسارا مع البابا والجنود ، وقد أدركا أيضاً حجم الكارثة0
ووصل موكب السلام إلى أرض الإستشهاد ففرش العجوزان الجلود التي بحوزتهما على الأرض ، وجثا ” قداسة البابا المعظم بطرس خاتم الشهداء ” على ركبتيه ، وخلع عنه البلين كاشفاً عن رقبته الطاهرة وقال لهم بقلب ثابت : إفعلوا ما أُمرتم به0
وإذ بالجنود يلحقهم الخوف والخشية من أن تلحقهم عقوبة السماء إذا ألحقوا الأذى برجل الله ، فصار كل منهم يشير للآخر أن يضرب الرجل 00 إرتبك الجنود الرومان الشجعان وشعروا أن موقفهم صار مخزياً 0 أما قداسة البابا فقد أخذ يتعجلهم :
” إسرعوا ياأولادي قبل أن يدرككم الصباح ، ويدرك المرابضون أمام السجن حقيقة الأمر 00″
ومازالت الربكة والحيرة تأخذ بالجنود مأخذاً ، حتى قائدهم عجز عن أن يعطي أحدهم أمراً ليضرب الرجل الجاثي أمامهم 00 الدقائق تمر ثقيلة متباطئة والصمت يلف المكان0
أحدالجنود : ليدفع كل منا خمسة قطع ذهبية ، ومن يضرب رجل الله يأخذ المبلغ0
فأخرج كل واحد من الجنود القطع الذهبية ، ووضفت على الأرض بجوار القديس ، فأثارت هذه القطع الذهبية مطامع أحدهم من محبي الفضة ، فتجرأ وضرب عنق ذاك البطل المغوار 00
تدحرجت الرأس المقدَّسة ، وأسرع الضابط وجنوده يهربون من المكان ، تلازمهم مشاعر اللصوص القتلة 00 هربوا قبل أن يعلم الشعب الثائر فيفتك بهم ، وما أن وصل الضابط بالقرب من السجن العام ، حتى سرَّب خبر بأن البابا بطرس خرج من خلف السجن وتوجه إلى ساحة الإستشهاد 00 ركضت الجموع نحو الساحة ويكاد بعضهم يدوس البعض ، من أجل إنقاذ باباهم الحبيب من ضربة السيف 00
وما أن وصلوا حتى وجدوا جسد البابا مسجي على الأرض ورأسه منفصلة ، وبجواره الشيخ والمرأة العجوز ينتحبان وينوحان 00 صُدِمت الجموع ، وإرتفعت أصوات البكاء والنحيب ، والتنديد بظلم المستعمر الروماني 00 أسرع الآباء الكهنة بلف الجسد مع الرأس بقطعة من الجلد ، وبصعوبة بالغة منعوا الشعب من الإقتراب إليه ، فكل إنسان يطمع في قطعة صغيرة من ثياب البابا بركة لبيته وأولاده0
وحمل الآباء الكهنة جسد البابا الشهيد في مشهد ضم عشرات الألوف في طريقهم إلى الكاتدرائية وصاروا يهتفون بكل قوة وحماس ، وكأن البابا في وسطهم حيَّاً ، وجندياً رومانياً لم يحرك ساكناً ، وضابطاً رومانياً لم يتفوه ببنت شفة ، وكأن الرومان قد إختفوا عن وجه الأرض0 فقد أدركوا خطورة الموقف وخافوا أن تحترق الإسكندرية بكل من فيها من ثورة الغضب العارمة هذه ، فأفسحوا المجال للمسيحيين للتنفيث عن أنفسهم ، وقد علت صرخاتهم :
† ” كيريالايسون 00 كيريالايسون ” 00
† ” أوكيريوس 00 أوكيريوس ” 00
† ” الســـلام الســـلام إحنـا أولاد ملك الســـلام “
† ” أنتم معاكم سلاح ونـــار وإحنا معانا إله جبــــار “
† إهتف إهتف وعلـي الصوت عمر مسيحي ماخاف من الموت
† ” أنا مش خايف 00 أنا مش خايف طيَّر طير طيَّر راسي “
وإذ أخذوا يستصرخون السماء إهتزت أعتاب السموات وصدر الحكم الإلهي بنهاية وسقوط الإمبراطورية الرومانية ، أعظم إمبراطوريات التاريخ كله ، التي مثلت رجلي التمثال الذي أبصره نبوخذ نصر في حلمه المصنوعتان من الحديد ( دا 2 ) ، والتي مثلت الحيوان الهائل القوي ذو الأسنان الحديدية في رؤيا دنيال النبي ( دا 7 )0
وصل الموكب المهيب إلى كاتدرائية العذراء ذات الألف عمود بحي راكوتيس ، فلفوا الجسد في ستائر من الحرير ، وألبسوه ملابس التقديس ، ووضعوا عليه أطياباً كثيرة ، وأجلسوه على كرسي مارمرقس الذي لم يجلس عليه قبلاً ، وهتف الشعب يحيون شجاعته وفداءه لأولاده 00 صاروا يهتفون للراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف 00 إختلطت الزغاريد بأصوات النحيب ، وإختلط التصفيق بالصرخات ، وإختلطت فرحة الإنتصار بحرقة الألم 00 إمتلأت كنيسة الألف عمود التي تسع عشرين ألف شخصاً وفاضت 00 آباء أساقفة وكهنة 00 شمامسة وعذارى 00 رجال ونساء 00 حيَّا الآباء الأساقفة قداسة البابا البطل الشجاع المقدام ، رافعين الأنظار إلى فرحة السماء بإستقبال هذا الراعي الأمين ، وتجاوبت معهم هتافات شعب يتيم ” يابابا 00 بنحبك ” 00 ” بنحبك 00 يابابا “0
رأى البعض أن يُدفن البابا بطرس بجوار سلفه وشفيعه البطريرك الشهيد ” مارمرقس الرسول ” ، ورأى البعض أن يُدفن في الكاتدرائية ، وإنتهى الأمر إلى قرار دفنه بالمقبرة التي أعدها لنفسه في ” لوكابتس ” بغرب المدينة ( القباري ) فحملوه من الكاتدرائية بموكب مهيب رافعين الصلبان ، والآباء الأساقفة والكهنة حملوا المجامر ، والشعب سعف النخيل ، وقطع الموكب الطريق بالألحان الكنيسة حتى إهتزت أساسات المدينة 00 وإستراح البابا بطرس بعد أن جلس على كرسي مارمرقس تسعة سنوات وعشرة أشهر في إضطهادات متصلة سُفكت فيها دماء مئات الآلاف من المسيحيين الأبرياء0
إستقر جسد البابا في مسواه الأخير ، وكانت نحو الساعة الثانية عشر ظهراً ، وإذ لفت أنظار البعض أنه بالقرب من المقبرة كان هناك صليباً مرفوعاً سُمّر عليه رجل في نحو الأربعين من عمره ، وعيناه ترنوان نحو مقبرة البابا الشهيد 00 ظنوه في البداية مجرماً 00 وإذ ” ميناس ” ينظر إلى الصليب مليئاً ، ثم يركض تجاه الأبوين ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” يخبرهما عن المصلوب 00 يركض الآباء وميناس وخلفهم المئات تجاه الصليب 00 تحت الصليب نسوة إنحنت تفيض عيونهن دماً أقصد دمعاً وقلوبهـن تنفطر 00 إنهن ” سوسنا ” وبناتها الخادمات ” راحيل ” و ” دينه ” و ” ميراب “00
لقد إجتمع الأصدقاء الأربعة من جديد ولكن أحدهم قد إعتلى الصليب 00 إنه الضابط الشجاع البحار المغامر ” ديمتري “ 00 إلتفت الجموع حوله ، أما الجنود المكلفين بحراسة المصلوب ، فقـد أطلقوا سيقانهم للريح 00 أراد الأصدقاء الثلاثة إنقاذ المصلوب ، أما هو فرفض بشدة 00 إنه يريد أن يختبر ما سمع عنه كثيراً أن الشهيد يحتمـل على قدر طاقته ، وأن يسوع المصلوب يشاركه آلامه 00
وقفت الجموع تصلي في خشوع ودموع حول الضابط المصلوب 00
وأُعلنت للمصلوب رؤيا رائعة ، إذ أشرق فجر جديد ، تلاه نهار صحو جميل ، وإذ بسحب الإضطهاد السوداء تخف حدتها كثيراً ، وإذ بالسماء تستضئ بنور سماوي لا يُعبر عنه ، وإذ بالكنائس ترتدي ثوباً قشيباً 00 ما تهدَّم منها أُعيد بناؤه 00 الأماكن الخاوية شيدت بها أبراج الصلاة ، آية من الروعة والجمال الروحاني ، وسُمع فيها صوت الدف والتريانتو مع أصوات التسبيح 00 عادت الأعياد ، وأُقيمت الإحتفالات ، ونُصبت الولائم الفخمة للفقراء ، وتوافدت الشعوب إلى المدينة المُحبة للمسيح الإسكندرية التي قدمت إثنين من بطاركتها شهداء للحمل ، مارمرقس الرسول والبابا بطرس خاتم الشهداء 00
وإذ بالقرون تمر والسنون تفر ، سبعة عشر قرناً تعبر على ذلك اليوم بالتمام والكمال ، ولاح لديمتري في شرق المدينة كنيسة شامخة ، ترتفع منارتها إلى عنان السماء ، تحمل إسم البطريركين الشهيديـن ، تتصاعد منها الصلوات النقية ليل نهار ، فسرَّ الرب بها ، وكان لابد من الإحتفال بمرور سبعة عشر قرناً على إستشهاد باباهم الحبيب ” البابا بطرس خاتم الشهداء ” ومع الدقائق الأولى وبعد مرور واحد وعشرين دقيقة من عام 2011م سُمع صوت دوي هائل على أعتاب تلك الكنيسة هزَّ المكان ، وسُمع صوت صرخات ودماء وأشلاء متناثرة على الأرض وعلى الجدران تدشن ذلك المكان وتُعلن سرور الرب به ، وإذ بالبابا بطرس يُسرع متلهفاً يحتضن عشرين نفساً من أولاده ويقدمهم أمام العرش الإلهي ليتوَّجوا بأكاليل الشهداء 00 هؤلاء هم أيضاً شهداء 00 والشهادة تجديد لشباب الكنيسة00 بالإضافة لأكثر من مائة معترف 00
صارت هذه الكنيسة منارةً ومزاراً 00 يتوافد إليها الأفراد والجماعات ، وتتبادل المحبة والمساندة في أسمى صوُّرها 00 صار الجميع بنفس واحدة ، وإيمان واحد يهتفون بترنيمة واحدة ، ترنيمة الحب لله وللبشرية وللوطن 00 ظل الآباء الكهنة يرفعون صلواتهم ويرعون أولادهم ، وصار الأولاد الصغار يلهون في فناء الكنيسة ، حتى صارت ألعابهم تمثل شجاعة وبطولة الشهيد إزاء قوى الظلم والطغيان 00 وصار الشعار ” محدّش يخاف ” 00
هذا ما رآه ديمتري المصلوب في رؤياه0
وهنا إرتسمت إبتسامة خفيفة على شفتي المصلوب ، لاحظها الأصدقـاء المرابضيـن تحـت الصليـب وتعجبوا 00 إن ” ديمتري ” لا يصرخ ولا يتلوى من شــدة الآلام التي لا تُطاق 00
وصار السجن سماء ف13 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
وصار السجن سماء ف13 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الثالث عشر : وصار السجن سماءاً
وفي شهر أغسطس ( أول مسرى ) سنة 311م ، ومع بداية صوم ” العذراء مريم والدة الإله ” أقامت كاتدرائية العذراء مريم ذات الألف عمود نهضة روحية ، فأقيمت القداسات صباح كل يوم والعشيات والعظات مساء كل يوم ، وإحتشدت الجموع وإرتفعت أصوات الترانيم والتسابيح 00 هوذا المسيحيون الشجعان يتحدون الموت ، فلم يعد منظر الإستشهاد وسفك الدماء ، وذبح الأباء والأبناء أمام أعينهم يهزهم ، إنما كانوا يحيطون بساحات الإستشهاد ، يطلقون صلوات سهمية تجاه السماء من أجل المتقدمين للإستشهاد ، ليصلوا بسلام إلى أورشليم السمائية حيث الأحضان الإلهيَّة ، والسماء لم تبخل أبداً عن إعلان مساندتها للشهداء ، إذ تفتح أعينهم ليعاينوا شيئاً من أمجادها ، وأيضاً تعين السماء وتعضد هؤلاء الأبرياء فيحتملون من الألم على قدر طاقتهم ، وكل مازاد عن طاقتهم لا يشعرون به على الإطلاق ، لأن سيدهم المصلوب يحملها عنهم 00
وإختلط الإستشهاد بالأمجاد ، والموت بالحياة ، وهكذا سارت الحياة ولم تتوقف ، فالناس هنا في الإسكندرية مدينة الشهداء المحليين والوافدين إليها يعيشون حياتهم في وداعة ورضى وسلام ، بل يعيشون أمجد أيامهم ، لأن السماء قد إنفتحت على الأرض 00 حقاً أنه أمر عجيب أن تعيش في مجتمع كهذا ، فأبيك أو إبنك الذي يعيش معك اليوم ، قد لا يُكمل اليوم معك ، بل يفارقك سريعاً إلى ساحة الإستشهاد ، وينطلق منها إلى السماء ، وقد غيَّر عنوان إقامته 00 عجيب أن تعيش في حرب عجيبة وصراع غريب كهذا ، فهو حرب وصراع من جانب واحد ، متغطرس قوي ومتجبر عنيد ، أما الطرف الآخر فالوداعة هي سمته وطيبة القلب عنوان حياته 00 إنها حياة الحملان الوديعة التي لا تعرف العداوة ، إنما تحب الذئاب وتصلي بلجاجة من أجلهم ، وصلواتهم تستجاب ، حتى أن أعداد المتنصرين تفوق كثيراً أعداد الشهداء 00 إنظر كم جذب مارجرجس من نفوس ضالة وشريدة ؟!0
” إن ذئباً واحداً لو أُلقي بين غنم كثير ولو بلغ عدة آلاف لأرتعب القطيع كله رغم عدم قدرة الذئب على إفتراس الكل !! لكن الكل يخافونه 00 فأي مشورة ، أو أي تدبير ، وأية قوة هذه حتى لا يبث الله ذئباً وسط الغنم ، بل يرسل غنماً وسط الذئاب !! 00 إنه لا يقترب بهم نحو الذئاب بل في وسط الذئاب0
إنظر !! 00 لقد كان هناك قطيع من الذئاب وقلة من الغنم فعندما إفترست الذئـاب الكثيـرة الغنمات القليلة 00 تحوَّلت الذئاب إلى غنم !! ” (94)0
وفي قداس عيد العذراء مريم إبتهج الشعب السكندري إذ فرَّح ” قداسة البابا بطرس ” القلوب بسيامة تلميذيه المشهود لهما من الجميع ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” ، فمنحهما نعمة الكهنوت ، إذ سامهما قسين على كنيسة الله الجامعة المقدَّسة بالمدينة العظمى الإسكندرية ، بأسميّ ” القسأرشيلاوس ” و ” القسألكسندروس “0
ومرت أيام قلائل ، وإذ جلبـة وضوضاء في فناء الكاتدرائية ، وأسرع أبوينا أرشيلاوس وألكسنـدروس يستطلعا الخبر ، وإذ بخمسة من كبار الضباط مع جنودهم الرومان في الفناء 00 لماذا جاءوا ؟! 00 وماذا يريدون ؟! 00 وفي لحظات إحتشد الفناء بالمسيحيين الذين أسرعوا على عجل يستوضحون الأمر ، والأمر العجيب أن هؤلاء الجنود القساة الذين ترتسم ملامح الشراسة على وجوههم في مأموريتهم هذه يبدو عليهم السلام والإطمئنان الكامل ، فهم يثقون ثقة عمياء أنهم لن يضطروا لإستخدام سيوفهم قط ، ولن يدخلوا في معركة مـع هـذا القطيـع الوديع0 وإستفسر ” أبونا ألكسندروس ” بلباقة وأدب جم من قائد المهمة عن طبيعة مهمتهــم فأخبـره القائــد بأنهـم مُرسَلين من قبل الإمبراطور ” ماكسيميان ” لإلقاء القبض على ” البابابطرس ” أسقف الإسكندرية للأسباب الآتية :
تحقير البابا بطرس للآلهة ، وتحريض الآخرين على رفض السجود لآلهتنا العظيمة0
تجرؤ البابا بطرس على إقامة الشعائر المسيحية جهراً0
شكوى سقراطيس ضد البابا الذي عمد إبنيه بدون رغبته0
وإذ بباب القلاية البطريركية يُفتح ، وإذ بـ ” قداسة البابا بطرس ” يخرج وبيده عصا الرعاية ، يرتدي ملابسه وكأنه ذاهب في مهمة رسمية ، وإشراقة جميلة تطل على وجهه الوديع ، وتقدم بهدوء ووقار فحيَّا قائد الجند 00 لم يسأله : لماذا أتيت ؟! أو ماذا تريد ؟! بل تصرف وكأنه عالِم بكل شئ ، إذ قال لهذا القائد : هيا بنا 00
وحلت الدهشة والوجوم على الوجوه ، وكأن على رؤوسهم الطير ، فالكل فقد القدرة ليس على التصرف فقط ، بل حتى عن التعبير عما يعتمل من مشاعر داخل نفسه 00 فمادام البابا سلَّم نفسه بإرادته ، فمن يجرؤ أن يدافع عنه ، وجالت نظرات البابا سريعاً بين تلك الوجوه 00 إنها نظرات وداع أب عظيم لأبناء عظماء 00 يبدو الموقف وكأنك في جنازة مهيبة والمصيبة جلل 00 الكل يدرك أن خروج البابا من هذا المكان مع هؤلاء الجنود الرومان يعني أمراً واحداً لا غير ، وهو أن قداسة البابا لن يدخل هذا المكان ثانية على قدميه 00 كان من السهل على الحشد أن يعيق هذه القوة الرومانية ويمنح الفرصة للبابا للهرب ، لكن ماذا يفعلون إن كانت هذه إرادة البابا ورغبته التي إشتهاها على مدار أعوام طويلة 00 إن أحداً من الواقفين لن ينطق ببنت شفةٍ0
وإكتسب ” قداسة البابا بطرس ” إعجاب وإحترام ضباط الإمبراطور وجنوده ، فلو لم يسلم هذا الرجل الشجاع نفسه لهم ربما لإستحال عليهم تأدية المهمة المكلفين بها وسط حشد يفيض حباً ووجداناً تجاه باباه ، فكـل منهم مستعد أن يموت عشرات المرات ولا يسلـم أبيــه للمــوت ، ولاسيما أبوينـا ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” ، والبحار المغامر الضابط ” ديمتري ” الذي توافق وجوده في هذه اللحظات الأليمة ، وهو يبدو عليه التوتر ، وأنه يبذل قصارى جهده لضبط نفسه ، حتى لا يرتكب حماقة ، وهو المتمرن على فنون القتال والمعارك ، مما يغضب أبيه الروحي ، فظل ملاصقاً للبابا لم يقدر أحد على زحزحته ، وعندما تقدم البابا ليعتلي العربة الرومانية التي يجرها إثنان من الجياد البيضاء المختارة ، وضع ديمتري في نفسه أن يرافق البابا مهما كان الثمن ، وأدرك البابا ما يمكن أن يحدث من إشتباك وسفك دماء ، وإذ بالبابا يأمر ديمتري : إبقى هنا ياإبني 00
فكان هذا أصعب أمـر يتلقاه ” ديمتري ” في حياته المدنية والعسكرية ، وبصعوبة تفوق الوصف أطاع 00
وما أن جلس البابا في العربة بين جنديين رومانيين مفتولي العضلات حتى أطلق قائد المركبة العنان لجياده لتعبر إلى الطريق الكانوبي الذي يصل بك إلى السجن العمومي على بُعد نحو ثلاثة كيلومترات00 إنطلقت الجياد تسابق الريح ، وسط كوكبة من الفرسان ، وكأنـه موكـب إمبراطوري ، وأعين الكل تتعلق بالموكب 00
وقف ” ديمتري ” مصدوماً ، و ” أبونا أرشيلاوس ” يطلب من الواقفين الدخول إلى داخل الكنيسة ليرفعوا شكواهم للسماء0 أما مشاعر ” أبونا ألكسندروس ” فهي كانت مشاعر إليشع ومعلمه يُخطف منه ، وليس له إلاَّ الصراخ الصامت من عمق القلب ” ياأبي ياأبي 00 مركبات إسرائيل وفرسانها “00
وسريعاً ما طارت الأخبار فعمت الأرجاء وإرتجت المدينة العظمى الإسكندرية 00 منذ أن قُبض على البطريرك الأول وسحل في شوارع الإسكندرية ، منذ أكثر من مائتي عام ، وحتى البابا بطرس السابع عشر لم يُقَد أحد من الآباء البطاركة إلى ساحة الإستشهاد ، ولهذا إرتجت المدينة العظمى لهـذا الحدث الجلل ، وتباينت المشاعر ، فالذين يعلمون شخصية البابا جيداً ، وأن هذه هي رغبته منذ سنوات ، سلموا الأمر لله ضابط الكـل ، وإرتضوا بالوضع القائم ، وعلى رأس هؤلاء أبوينا أرشيلاوس وألكسندروس ، أما البعض الآخر فكان الأمر أصعب من إحتمالهم ، فصاروا يصارعون مع الله : لماذا يارب ؟! 00 إلى متى ؟! 00 أين قوتك وعملك وسـط شعبــك ؟! 00 وعلـى رأس هؤلاء الضابط الصالح ” ديمتري ” وصديقه ” ميناس ” 00 وقليل من المسيحيين إمتلأت صدورهم بالغضب والثورة العارمة ، وجميعهم من الشباب المملوء بالحيوية والغيرة ، فأخذ ينادي أن الحل في المقاومة المسلحة للمستعمر الروماني ، فيجب أن يرحل0
لم تمر دقائق قليلة إلاَّ وكان ” قداسة البابا بطرس ” في أعماق السجن العام ، وما أن وطأت قدمـاه السجن حتى إرتج السجن ، فمئات من الكهنة والشمامسة والأراخنة الذين سبق القبض عليهم تجمعوا في غمضة عين ، وكأنهم كانوا في إنتظار البابا ، وإذ هم يقفون مواجهة أمام باباهم الحبيب ، تضاربت المشاعر ، فالقلوب تهلَّلت فرحاً برؤية باباها ، وفي نفس الوقت حلَّ بها الأسى العميق على الراعي الأمين ، فمكتوب ” إضرب الراعي فتتشتَّت الغنم ” ، لذلك لم تكن رغبة أحد منهم أن يرى باباه في هذا المكان 00
أما ” قداسة البابا بطرس ” بوجهه البشوش الوديع فقد أضفى سلاماً على تلك القلوب الواجفة ، ورحب بهم وكأنه في قلايته البطريركية ، وطلب منهم الجلوس ، فجلس الجميع ولم يعد يُسمع صوت في المكان ولو همس بسيط ، فكل ما يُسمع هو الصوت الوديع الهادئ صوت البابا بطرس المُحب الذي حمل صورة سيده الفادي ، فأخذ يعظ أولاده ويثبتهم على الإيمان : فجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون ، ولم يعد السجن ولا العذابات ولا القتل عقوبة ، إنما بركة للأجيال تجدد شباب كنيسة المصلوب من جيل إلى جيل0 ثم سُمع بين جدران السجن صوت التسبيح ، وتحوَّل السجن إلى سماء 00 عجباً ياربي عجباً 00 أليس هذا المكان هو مكان اللصوص والمجرمين وسافكي الدماء 00 فما بالي أراه قد إمتلأ بالنفوس الوديعة البريئة حلوة المعشر ، حتى أنه بالحقيقة لم يعد هنا مكان لقاتل أو زاني ؟! 00 فقد رأت السلطات أن المتهم بالمسيحية هو الأولى بالسجن من أي مجرم آخر ، فالمسيحية هي الأشد خطراً على الإمبراطورية الرومانية من أي شر آخر 00 فرح الإمبراطور بإيداع أتباع يسوع الوديع الهادئ هذه السجون ، وفرحت السماء بهذه النفوس التي تُمجِد إسم يسوع بما تتحمله من آلام وعذابات تفوق الوصف شهادة للحق0
وفي مساء هذا اليوم عاد ” ديمتري ” إلى منزله ، وكل مشاعره منهمكة بالحدث الجلل ، وجافى النوم جفونه ، فظل مستلقياً على ظهره ، بينما حلَّقت أفكاره في الآفاق العالية علو السموات : ماذا كان يمكن أن يحدث اليوم لو لم يقل لي أبي البابا بطرس ” إبقَ هنا ياإبني ” 00
بلاشك أن الجنود كانوا سيتصدون لي ، وبلاشك أيضاً أنني لن أقدر على ضبط نفسي0 إذاً الأمر كان سيحسم بمجرد أن يبدأ ، فعدة لكمات من قبضتي وعدة طعنات نافذة من خناجرهم ، تسيل دمائي على أعتاب الكاتدرائية ، وهوذا المقابر خلف السور الغربي00
حقاً كان هذا شرف لي حُرمت منه فإن كنتُ لا أستطيع فداء أبي ، لكنني أكون قد أخذتُ فرصتي في التعبير عن حبي بدمائي 00 لكن لا تنسى ياديمتري أن إلهك قال : ” رد السيف إلى غمده فالذين يأخذون بالسيف بالسيف يؤخذون ” 00
ثم تنبه ” ديمتري ” لكلمة ” إلهك ” !! 00 وحلَّقت أفكاره أعلى وأعلى : أنظر ياديمتري أن أبيك الصالح البابا بطرس قد فداك من موت مُحقَّق اليوم وذهب إلى السجن ، فلماذا ترفض الحب الذي يقود المُحب للتضحية 00 يهوه يصير إنساناً !! 00 ربما من أجل الحب الأبوي 00 يهوه يُضرب ويُهان ويُعرى ويُصلب ويموت !! 00 ربما من أجل الحب الإلهي الذي قال لي عنه أبي البابا بطرس أنه يفوق الحب الأبوي 00 ولحظات لم يدري ديمتري بنفسه ، إذ نام نوماً هادئاً ، فلم يعد صوت العقل يزعجه ، وبدأ يستريح لفكرة التجسد الإلهي والفداء 00 وقال في نفسه : آه 00 لو كان هذا الأمر حقيقة 00 فما أجمله وما أعظمه أن يهوه يقترب مني بهذه الصورة 00 يصير إنساناً مثلي ، ويموت ليفديني ، ويقوم ويقيمني معه 00
ومرت الأيام ، والبابا قابع في سجنه ، يعمل عملاً جباراً ، فقد صيَّر السجن سماء من جهة ، ومن جهة أخرى إلتهبت الكنيسة بأصوام وصلوات قوية ، وسرت موجة عارمة من الروحانية عمت الشعب 00 صارت السماء منفتحة على أرض الإسكندرية ، فصارت الإسكندرية بكل أحياءها سماء ، لأنه لا يوجد حي واحد من أحياء الإسكندرية يخلو من الشهداء والمعترفين 0 وصار أبوينا أرشيلاوس وألكسندروس وسيلة الصلة بين قداسة البابا وشعبه ، يحملون له آمال شعبه وآلامهم ويحملون للشعب صلوات البابا ونصائحه الثمينة لهم0
وأرسل والي الإسكندرية للإمبراطور ” مكسيميانوس دايا ” يخبره بأن أوامره المقدَّسة قد تم تنفيذها بالتمام ، وهوذا ” البابا بطرس ” أسقف الإسكندرية رهن السجن ، وطلب مشورته ، هل يرسله إليه أم ماذا يفعل إزاءه ؟ 00
وفي الإسكندرية تجد شخصاً قلقاً للغاية على حياة البابا ليس بسبب محبته له ، بل بسبب محبته لنفسه ، فهو شخص لا مبدأ له ، يظهر غير ما يبطن ، ولذلك إدَّعى كذباً أنه عاد إلى الإيمان المستقيم ، ويخشى أن البابا يستشهد وهو غاضب عليه ، والحقيقة أنه كان يطمع في سماحة البابا ورضاه عنه ، لأن آماله العريضة وأحلامه المتسعة صوَّرت له أنه يمكن أن يكون البابا القادم بعد إستشهاد البابا بطرس 00
فماذا فعل ” أريوس ” ؟ 00 لقد خدع بعض الآباء الكهنة والأراخنة متمسكناً أمامهم ، طالباً وساطتهم لدى البابا ليحله من الحُرم الذي سبق وأوقعه عليه ، ونجح هذا الوفد في الحصول على تصريح جماعي للقاء قداسة البابا في سجنه0
وسعد الوفد بلقاء بقداسة البابا 00 قبلوا يديه في لهفة وشوق ، وإنحنوا أمامـه طالبيــن بركته ونصائحه ، ثم قالوا له : نحن نتقدم إلى قداستكم ، ونلجأ إلى عطفكم وحنانكم ، ونخضع لرئاستكم ، فقد تحملت ياسيدنا الآلام والإغتراب من أجل السيد المسيح 0 حقاً دعاك الرب أيها الآب المثلث الطوبي لتقبل إكليل الإستشهاد وذلك لسمو إيمانك 00 فهل يحق لنا أن نطمع في تقواك كما إعتدنا بأن تصفح عن القس أريوس “0
وما أن سمع الآب البطريرك إسم ” أريوس ” حتى إحتد رافعاً يمينه قائلاً : ليكن أريوس محروماً في هذا العالم وفي الدهر الآتي 00
ليس له نصيب في مجد إبن الله يسوع المسيح إلهنا “0
فارتعب الواقفون لأنهم لم يتعودوا قط من الآب البطريرك الوديع هذه الحدة ، ولم يجرؤ أحد أن يراجع قداسة البابا ، أما هو فقد إنتحى جانباً بتلميذيه القسيسين ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” وكأنه يريد أن يطلعهما على سر خطير :
يأولادي أطلب من الرب إله السموات أن يعينني حتى أتمم شهادتي على إسمه القدوس 00
أنت ياأبونا أرشيلاوس ستأتي بعدي على هذا الكرسي وأبونا ألكسندروس يكون بعدك 00
لا تظنا إني قاسي القلب أو عنيد 00 لكن صدقوني إن خداع أريوس يفوق كل كفر ويعلو كل شر 00 إنني لا أحرمه من ذاتي00 ففي هذه الليلة بعد أن صليت ونمت ، رأيتُ وكأني واقف في قلايتي أصلي ، وإذ بصبي يبلغ حوالي الثانية عشر من عمره دخل فجأة إلى قلايتي 00 بهاء وجهه لم أقدر على معاينته ، إذ أبرق بنور عظيم ملأ القلاية كلها 00 كان يرتدي ثوباً كتانياً مشقوق إلى إثنين من الرأس حتى القدمين ، وقد أمسك بيده جانبي الثوب ، وهو يضمهما إلى صدره ليغطي عريه 00
إذ رأيتُ ذلك إنتابتني دهشة ، ولما تمالكت نفسي صرخت : من الذي شقَّ ثوبك ياسيدي ؟
أجابني : أريوس هو الذي شقـه ، فأحذره تماماً ولا تقبله في الشركة ، فإنه سيأتيك بالغد بعضاً يشفعون فيه لديك فلا يرضى قلبك عليه ، ولا تحله ، بل زيده حرماناً 00 بالحري أوصِ أرشيلاوس وألكسندروس الكاهنين اللذين يجلسان على الكرسي من بعد رحيلك ألاَّ يقبلاه ، فإنك سرعان ما تصير شهيداً 00
والآن ، ها أنتما تنظران أنه ليس للرؤيا معنى آخر 00
لقد عرفتكما بكل شئ ، وأخبرتكما بكل ما أُمرت به ، وصار الأمر بين أيديكما تفعلان ما تشاءان في هذا الأمر 00 هذا بخصوص أريوس0
أيها العزيزان 00 أنتما تعرفان تماماً كيف كنت أسلك بينكما ، وتعرفان التجارب التي حلَّت بي من الوثنيين الذين لم يكفوا في جنونهم ، فدعوا من ليسوا هم آلهة أنهم آلهة ، إذ جهلوا الرب المخلص 00 أنتما تعرفان كيف كنتُ أهرب من موضع إلى آخر ، متجنباً ثورة مضطهدييَّ 00
وسط كل هذه الكوارث لم أكف ليل نهار عن الكتابة لقطيع الرب الذي أؤتمنت أنا الضعيف عليه ، وكنت أثبتهم في الإتحاد بالسيد المسيح 00
كان قلبي يئن بغير إنقطاع متألماً ، لا يجد راحة ، وليس لي سـوى تفكيـري فـي تسليم هذا القطيع بين يديَّ القدرة الإلهيَّة 00
أنتما تعلمـان أيضـاً كيف كنت قلقاً للغاية من جهة الأساقفـة المطوبين ” فيلاس ” و” هيثيخوس ” و ” باخوميوس ” و ” ثيؤدورس ” الذين تقبلـوا دعوة الإستشهاد باستحقاق من قبل نعمة الله ، هؤلاء الذين إحتملوا مع بقية المعترفين عذابات كثيرة من أجل الإيمان بالسيد المسيح0 فإن هذا الصراع قد ضم لا كهنة فحسب ، بل علمانيين معروفين ومعلمين0 فكنت أخاف جداً لئلا يخوروا بسبب الضغـط المستمر فيكون إرتدادهم عثرة ويسبب جحداً للإيمان ، فقد وُجد معهم أكثر من ستمائة وستين نسمة مسجونين معهم في الحبس الداخلي 00 الأمر الذي يرعبني الحديث عنه0 وبالرغم مما كنت أعانيه من ضغوط وأتعاب كثيرة لم أكفُّ عن الكتابة إليهم ، أذكَّرهم بالعبارات النبوية ، وأحثهم على نوال إكليل الشهداء ، وذلك بقوة الوحي الإلهي0
وعندما سمعت بمثابرتهم العظيمة ، وما بلغت إليه آلامهم من نهاية مجيدة ، سجدت حتى الأرض أُمجّد السيد المسيح وأشكره من أجل عطيته لهم من جهة قوة الإيمان وثباتهم في مسيحيتهم 00 وما هيأه لهم من أكاليل المجد والغلبة ، وقد توَّج بها رؤوسهم ، كما سألته أن يحسبني معهم 00
ولماذا أتحدث عن ” ميلتيوس ” أسقف ليكوبوليس ؟! 00 أي إضطهادات ومكائد صبَّها ضدي 00 أنكم تعرفون ذلك جيداً 00 أنه لا يخشى تمزيق الكنيسة المقدَّسة التي فداها إبن الله بدمه الثمين 00 لم يكف ” ميلتيوس ” عن زج البعض في الحبس الداخلي ، وإلقاء الأحزان على كاهل الأساقفة القديسين ، حتى هؤلاء الذين منذ قليل إخترقوا السمـوات خلال الإستشهاد 00 أحذروا حيله المملؤة خداعاً 00
إنكم ترون كيف سلكت بالمحبة الإلهيَّة ، مفضلاً بالحري أن أُتمّم إرادة الله فوق كل شئ 00 ولا أحسب حياتي الزمنية أثمن من نفسي 00 بالحري أشتهي أن أكمل سعيي الذي قدمني إليه ربي يسوع المسيح ، وبأمانة أرد إليه الخدمة التي تقبلتها منه0
صليـا عني ياأخوتي ، فإنكما لن ترياني في هذا الحياة بعد 00
إني أشهد أمام الله وأمامكم إني سلكت قدامكم بكل ضمير صالح ، فإني لم أمتنع عن أن أخبركم بأوامر الرب ولا رفضت أن أعلمكم بما سيكون ضرورياً لكم 00
كونا حذرين وإهتموا بالقطيع الذي يقيمكم الروح القدس عليه بالتتابع أنت ياأبونا أرشيلاوس أولاً ، ثم أنت ياأبونا ألكسندروس من بعده0
أتوسل إليكما ، أنتما أحشائي أن تسهروا ، فإن شدائد كثيرة تلحق بكما ، فإننا لسنا أفضل من آبائنا 00 هل تجهلان بالحق بأبي ثاؤنا الأسقف المثلث القداسة الذي قام بتربيتي ، والذي تعهدت أن أكون أميناً على كرسيه الكهنوتي 00 نعمة الله التي حفظت هؤلاء جميعاً تحفظكما أنتما أيضاً 00 أستودعكم الله وكلمة نعمته القادرة أن تحفظكم وتحفظ قطيعه(95)0
وبعد أن أنهى البابا حديثه مع تلميذيه جثى على ركبتيه وصلى معهما ، فقبَّل تلميذاه يديه ورجليه ، ثم عاد البابا إلى بقية القسوس والأراخنة فباركهم وصرفهم بسلام0
وما أن عاد الوفد الكنسي إلى الكاتدرائية ، وإذ أريوس في إنتظارهم على أحر من الجمر ، يمني نفسه بكرسي مارمرقس ، وإذ رأى الوجوه واجمة ، وقد أشاح القسان أرشيلاوس وألكسندروس الوجه عنه ، وإستفسر عن الأمر ، فصُدم بالنتيجة وأصيب بخيبة أمل ، وأسرع بالإنصراف من الكاتدرائية يجر أذيال الخيبة ، واضعاً في نفسه أنه لن يكف عن عناده ، وسيدافع عن عقيدته للنفس الأخير0
من الهيجان للنيران ف12 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
من الهيجان للنيران ف12 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الثاني عشر : من الهيجان للنيران
في 8 مايو سنة 311 م إحتفل الشعب المسيحي بالإسكندرية مع قداسة البابا بطرس في كنيسة بوليكاربا بعيد كاروز الديار المصرية ، فإزدحمت الكنيسة جداً ، وكأن الكنيسة تنعم بسلام تام بينما الإضطهاد على أشده 00 عجباً إن الإضطهاد لم يعد يُرهِب الإنسان المسيحي بل قد زاده شجاعة أضعافاً مضاعفة ، ولم يعد الموت مخيفاً يفرض سطوته وجبروته على أبناء النور ، إنما صار ضعيفاً ضعيفاً ، مطروحاً تحت أقدام الشهداء ، وقد فقد بريقه وبهت لونه0
وتحدث ” قداسة البابا بطرس ” وأفاض عن حياة وكرازة وإستشهاد مار مرقس ، وإمتزجت كلماته بمشاعره الفياضة ، فأخذ يناجي ” مارمرقس ” ويشركه في الأحداث ويلتمس منه مضاعفة الصلوات ليرفع الله الإضطهاد عن شعبه ويقرر له سلامه ، وأحسَّ الشعب أن البابا وهو يحكي عن إستشهاد سلفه الأول يحكي وكأنه شاهد عيان للحدث لحظة بلحظة ، فعاش الشعب مع مارمرقس الذي كرز ليس بكلماته فقط ، بل بدمه أيضاً ، وما أقوى كرازة الدم ؟! 00 لقد علمنا ” مارمرقس ” بحياته وسيرته قبل أن يعلمنا بكلماته وتعاليمه 00 عاش الشعب ساعات القبض على مارمرقس ، وسحله في شوارع الإسكندرية في اليوم الأول والثاني ، وظهور السيد المسيح له المجد لـه ، كمـا أحسُّوا بمدى الصلة الوثيقة التي ربطت ” البابا بطرس ” بشفيعه ” مارمرقس الرسول ” ، ومدى لهفته على لقاء حبيبه ، وكأنه يقول له : ” أما آن الأوان لأستريح في أحضانك ياأبي وشفيعي ومعلمي ؟! ” 00 وأخذ يوصيه من أجل أرواح أولاده الشهداء الذي إنطلقوا من الربوع المصرية ألوف ألوف وربوات ربوات ، ويوصيه من أجل أسر الشهداء ، ومن أجل المعترفين ، ومن أجل الذين في السجون يستعدون للإستشهاد ، وكانت لكلمات البابا بطرس وقعها القوي على أذان الشعب السكندري فعاشت الكنيسة مشاعر الإستشهاد ، وقد زهدت هذه النفوس أهواء العالم وإغراءاته وشهواته ومجده العاطل الباطل0
وفي المساء توفرت فرصة رائعة للأصدقاء في جلسة خاصة مع أبيهم الروحي البابا بطرس ، فهو المهتم بهم سواء في حضوره أو في غيابه ، ورسائل البابا لتلميذيه لم تنقطع طوال فترة غيابه عن كرسيه00 إطمئن البابا إلى أحوالهم وهو يعلم جيداً المشكلة الإيمانية التي يعاني منها ” ديمتري ” الذي لم يستطع أن يقبل الإيمان المسيحي للآن ، فهو ليس في بساطة أمه وأخواته اللواتي نلنَ سر العماد المقدَّس سريعاً ، وقرأ قداسة البابا فصل من رسالة معلمنـا بولس الرسول إلى أهل رومية ( رو 11 : 11 – 24 ) وأدرك ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” أن البابا يريد أن يرفع من معنويات ” ديمتري ” الذي يشعر أحياناً بالدونية ، وتساءل قداسة البابا : ” ماذا يريد أن يقول لنا الرسول بولس ؟! “0
وصمت الجميع العارف وغير العارف ، ففي حضرة قداسة البابا لا يتكلم إلاَّ من يُطلب منه الكلام بالإسم ، وعندما يتكلم لا يستفيض في الكلام ، فقط يذكر ما قل ودل ، فهذه هي أداب التلمذة في المسيحية ، وهكذا جيل يسلم جيل 00 بدأ قداسة البابا يشرح قصد الرسول قائلاً :
ياأبنائي عندما بدأ الإيمان المسيحي في أورشليم ، إنتشر بين اليهود أولاً ، فكان معظـم المؤمنين في الكنيسة الأولى من اليهود ، وعندما إنتشر الإيمان بين الأمم ، فاق عدد الذين قبلوا الإيمان من الأمم إخوانهم من اليهود ، ولهذا كتب بولس الرسول للمؤمنين من أصل أممي مثلنا ، يدعوهم للتواضع وعدم التفاخر على اليهود ، لأن اليهود هم أصل شجرة الزيتون ، فهم الذين نالوا ” التبني والمجد والعهود والإشتراع والعبادة والمواعيد 0 ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين ” ( رو 9 : 4 ، 5 ) فالإنجيل يعلمنا أن لا نحتقر أحداً 00 ألم يكن رسل ربنا يسوع المسيح جميعهم من اليهود ؟! 0 فهم إذاً يمثلون شجرة الزيتون اللذيذة0 أما نحن الذين كنا قبلاً من الأمم فإننا نمثل شجرة برية بلا دسم ولا طعم ولا رائحة ، فماذا فعل رب الكرم ؟ 00
أخذ أغصان هـذه الشجرة البرية وطعَّمها في شجرة الزيتون ، فهل تفتخر هذه الأغصان البرية على أصل الشجرة ، أقصد هل يفتخم الأمم على اليهود ؟ 00 كلاَّ 00 “فإن كان قد قُطع بعض الأغصان وأنت زيتونة برّيَّة طُعمت فيها فصرت شريكاً في أصل الزيتونة ودسمها0 فلا تفتخر على الأغصان0 وإن إفتخرت فأنت لست تحمل الأصل بل الأصل إياك يحمل0 فستقول قطعت الأغصان لأُطعَّم أنا0 حسن0 من أجل عدم الإيمان قُطعتْ وأنت بالإيمان ثبتَّ0 لا تستكبر بل خف لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليك أيضاً ” ( رو 11 : 17 – 21 )0
لقد ضـرب ” قداسة البابا بطرس ” عصفورين بحجر واحد ، فإزداد تلميذيه إتضاعاً ومحبة لديمتري ، وديمتري ضربه قبله إذ وقف أمام الحقيقة ، إنه أصلاً غصناً في شجرة الزيتون الحيَّة اللذيذة ، ولكنه تعرَّض للقطع بسبب عدم الإيمان ، وما هو مصير غصن مقطوع سوى أن يجف ويُحرق بالنار ؟! 00 ولاحظ قداسة البابا مدى تأثر ديمتري العميق ، ولكن هذا واجبه في إنذار إبنه ، وأكمل البابا حديثه عن الرجاء الذي لنا في الله ، فهو رجاء من لا رجاء له ، معين من لا عون له ، عزاء صغيري القلوب ، ميناء الذين في العاصف ، فقال :
إنظروا ياأولادي أن الخلاص ليس عملية منفردة يقوم بها الإنسان بمفرده ، إنما الله شريك أساسي في عملية الخلاص 00 هو المسئول الأول عن خلاصنا ، هو الذي سعى نحو خلاصنا ونحن في الوحل “إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت إبنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته ” ( رو 5 : 10 ) وإن لم تشمل المعونة الإلهيَّة الإنسان فلن يخلص ” ليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربُُّ إلاَّ بالروح القدس ” ( 1كو 12 : 3 )0
وهنا إستراحت روح ديمتري وهدأت نفسه ، وأخذ يلتمس من الله عبر صلوات سهمية قوية ، أن يعبر به هذه العثرة { يهوه يصير عبداً !! 00 يهوه يُشتم ويُضرب ويُهان ويُعرى ويُصلب ويموت !! } 00 وأخذ يلتمس من يهوه أن يعبر به من العقلانية المحضة إلى العقلانية التي تقبل عمل الإيمان0
ألكسندروس : ياأبي إن صورة المرأة السريانية زوجة سقراط وإبنيها فاليريوس وفاريانوس لا تفارق ذهني0
البابابطرس : كم هم سعداء هؤلاء الشهداء في سماء المجد مع أمنا العذراء مريم وأرواح الشهداء والقديسين0
ميناس : سمعت عن زوجة سقراط وولديها 00 كنت أود أن أعرف شيئاً عن هؤلاء الشهداء الأطهار0
وأمام إنشغالات البابا التي لا تنقطع ، قال لتلميذه :
ياليتك ياإرشيلاوس تحكي قصة هؤلاء الشهداء لميناس وديمتري ، فأنت كنت معايناً الأحداث منذ البداية 00
وبارك البابا الأصدقاء وإنصرف إلى مسئولياته الجسيمة في هذه الأيام العصيبة0
وفي ركن من القلاية البطريركية أكمل الأصدقاء جلستهم الرائعة ، وكان على التلميذ أن يؤدي الواجب المكلَّف به من قِبل معلمه ، فجلس يحكي لميناس وديمتري ما كان من قصة المرأة السريانية ، بينما إنشغل ألكسندروس في بعض شئون الخدمة ( ولك ياصديقي أن تتأمل في هذه الخدمة الفردية التي كانت تشغل ذهن قداسة البابا )0
أرشيلاوس : في الصباح الباكر يوم أحد التناصير منذ نحو شهر أو أكثر جاءت إمرأة شابة سريانية معها طفلين جميلين ، وأخبرتني أنها جاءت من أنطاكية وتود لقاء البابا ، وعندما سألتها عن سبب اللقاء ، قالت : أريد من قداسة البابا أن يعمد طفليَّ ، فسألها عما إذا كان لها طلبات أخرى ، فأجابت بالنفي ، فطلبت منها الإنتظار ، فإن قداسة البابا سيعمد اليوم عدداً كبيراً من الأطفال في هذا الصباح المبارك ، وأخبرتها بأنها يمكن تقديم طفليها مع بقية الأطفال لتعميدهما0
وجاء ” قداسة البابا بطرس ” مبكراً إلى هذه الكاتدرائية ، كاتدرائية العذراء مريم ذات الألف عمود ، وإستقبله الآباء الكهنة مع الشمامسة بالألحان ، فسجد قداسته بمهابة أمام الهيكل ثم إتجه نحو جرن لمعمودية في الجهة الشمالية الغربية من الكنيسة ، وبدأ يصلي على مياه المعمودية يستدعي روح الله القدوس ليقدّسها ويمنحها قوة الولادة الجديدة ، ولفت نظره إبني المرأة السريانية فهما في نحو الرابعة والخامسة من عمرهما ، وهمستُ في أذن قداسة البابا أخبره بأن أمهما جاءت من أنطاكية لعمادهما ، وصلى قداسة البابا صلاة التحليل للأمهات بما فيهن المرأة السريانية :
” ياسيدنا نطلب ونتضرع إلى صلاحك عن إمائك هؤلاء اللاتي حفظن ناموسك ، وأكملن وصاياك ، وإشتهين أن يدخلن إلى موضع قدسك ، ويسجدن أمام هيكل قدسك ، مشتاقات إلى التناول من أسرارك المحيية 0 نسأل ونطلب إليك أيها الصالح محب البشر 0 بارك عبداتك وحاللهن وطهرهن 00 “
وخلعت الأمهات ملابس أطفالهن ، وبدأ البابا يدهن كل منهم بزيت العظة :
” أدهنك يافاليريوس باسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد0 زيت عظه لفاليروس في كنيسة الله الواحدة المقدَّسة الجامعة الرسولية آمين “0
ثم بدأ قداسة البابا يدهن قلبه ويديه وهو يصلي :
” هذا الزيت يبطل كل مقاومة المضاد آمين “0
والصلوات تتصاعد من الإكليروس والشعب 00 صلوات نقية حارة وقوية ، ولاسيما من مئات الأشخاص من أسر الشهداء الأبطال الذين لم يقدر الموت على أن يفصل أحد منهم عن الكنيسة 00 الكنيسة أم الشهداء أم ولود 00 إنها سماء ، وما أجملها من سماء !! 00 عشرات من الأطفال المسيحيين ، وعشرات من الرجال الموعوظين والسيدات الموعوظات الذين تركوا عبادة الأوثان ، وقبلوا الإيمان المسيحي ، اليوم ينالون الصبغة المقدَّسة ، وينضمون لشعب الله المقدَّس ، وهوذا لحظات وتسجل أسماؤهم في سجل الملكوت ، ونظرتُ للمرأة السريانية فإذ وجهها يفيض بالتهليل والحبور وقلبها يرقص فرحاً وتنصت بمخافة للصلوات المقدَّسة أثناء الدهن بزيت العظه :
” أنت دعوت عبيدك بإسمك القدوس المبارك0 أكتب أسماؤهم في كتابك وأحسبهم مع شعبك وخائفيك 00 أنت الذي دعوت عبيدك هؤلاء الداخلين من الظلمة إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ، ومن الضلالة إلى معرفة الحق ، ومن عبادة الأوثان إلى معرفتك ياالله الحقيقي 00 “
ووقفت الأمهات يحملن أطفالهن على أياديهن اليسرى يتجهن للغرب ، ويتبعهن الرجال الموعوظين والسيدات الموعوظات يرفعن أيضاً أياديهن اليسرى ، وكلهم يجحدون الشيطان ويرددون وراء قداسة البابا :
” أجحدك أيها الشيطان 00 وكل أعمالك النجسة 00 وكل جنودك الشريرة 00 وكل شياطينك الرديئة 00 وكل قوتك 00 وكل عبادتك المرذولة 00 وكل حيلك الرديئة والمضلة 00 وكل جيشك 00 وكل سلطانك 00 وكل بقية نفاقك 00 أجحدك 00 أجحدك 00 أجحدك “
ونفخ ” قداسة البابا ” في وجه كل واحد منهم ثلاث مرات وهو يقول :
” أخرج أيها الروح النجس “
ثم إتجهت الأمهات حاملات أطفالهن للشرق يرفعن أيديهن اليمنى ، ويعترفون الإعتراف الحسن ، ويرددون وراء قداسة البابا بطرس :
” أعترف لك أيها المسيح إلهي 00 وبكل نواميسك المخلصة 00 وكل خدمتك المحيية 00 وكل أعمالك المعطية الحياة 00 أؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل 00 وإبنه الوحيد يسوع المسيح ربنا 00 والروح القدس المحيي 00 وقيامة الجسد 00 والكنيسة الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية آمين “
وأخذ البابا يسأل كل أم : ” هل أمنتِ على هذا الطفل ؟ “
ويسأل كل موعوظ ، وكل موعوظة : ” هل آمنت ” 00
وتأتي الإجابة ” آمنتُ “0
وأمسك قداسة البابا بزيت الغاليلاون وأخذ يرسم قلب وذراعي كل طفل قائلاً :
” أدهنك يافاريانوس بدهن الفرح ، مضاداً لكل أفعال المضاد لتُغرَس في شجرة الزيتون اللذيذة ، كنيسة الله المقدَّسة “0
وبدأ قداسة البابا يتابع الصلوات وقرأ الشمامسة الرسائل البولس والكاثوليكون والإبركسيس ورتلوا المزمور والإنجيل ، وبدأ قداس المعمودية ، ونفخ البابا في ماء الحميم ثلاث مرات قائلاً :
” قدس هذا الماء وهذا الزيت ليكونا لحميم الميلاد الجديد0 آمين 00 حياة أبدية 0 آمين 00 لباس غير فاسد0 آمين 00 لأن إبنك الوحيد ربنا يسوع المسيح الذي نزل إلى الأردن وطهره شهد قائلاً : إن لم يولد أحد من الماء والروح لا يستطيع أن يدخل ملكوت الله0 وأيضاً أمر تلاميذه القديسين ورسله الأطهار قائلاً : أذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم 00 إلخ “0
وجاء في الصلوات أحداث عبور بني إسرائيل إلى البحر الأحمر ، وتفجير الماء من صخرة صماء ، وذبيحة إيليا ، وشفاء نعمان السرياني بنزوله في نهر الأردن0 وإنتهى قداس المعمودية بالتسبيح بالمزمور150 00
لقد أطال ” أرشيلاوس ” في الحديث علـى طقس المعمودية عـن قصد ، وهو تشويق ” ديمتري ” لليوم الذي سيُعمد فيه ، وليكن متفهماً كل خطوة ستتم في الطقس ، ثم أكمل ” أرشيلاوس ” حديثه قائلاً :
وبدأ ” قداسة البابا بطرس ” في تعميد الأطفال ، فأمسك بفاليريوس وإذ بأمر عجيب يحدث ، لم يحدث من قبل ، ولا أظن أنه سيحدث فيما بعد 00 لقد إنثنيتا رجلي فاليريوس ، ولم تنفذ قدماه الصغيرتان في الماء ، لأن الماء صار مثل الثلج ، ووقفنا جميعاً مشدوهين ، وقداسة البابا بفطنة ترك فاليريوس وأخذ طفل آخر وغطسه في الماء ، فإذ بالماء ينحل ويعود إلى طبيعته الأولى ، ثم أمسك بفاريانوس ليغطسه ، وإذ بالماء يصير مصمداً كالثلج ، فتركه وأمسك بطفلة أخرى فعمدها 00 فأدرك أن هناك سر تخفيه هذه المرأة السريانية ، فطلب منها أن تنتظره بعد القداس0
وبعد إنتهاء صلوات القداس الإلهي ، وتناول المعمدين الجدد مع بقية الشعب من الأسرار المقدَّسة ، ولم تجرؤ هذه المرأة السريانية على الإقتراب من الأسرار المقدَّسة لا هي ولا إبنيها فاليريوس وفاريانوس ، وزفَّ الشمامسة المعمدين وإرتسمت البسمة على كنيسـة متألمة جريحة0 ثم إستدعى البابا هذه السيدة وسألها : ” ما هي حكايتك ياإبنتي ؟ أشعر أن هناك سراً وراء قصتك “0
أما هي فسجدت أمامه بمهابة وقالت : سامحني ياسيدي وحاللني 00 أنا إمرأة مسيحية ، وزوجي سقراط يعمل في البلاط الملكي 00
بالرغم من أنه كان صديقاً للشهيد العظيم أبادير وإيرائي أخته ، إلاَّ أنه ضعف وأنكر الإيمان 00 أردت أن أعمد طفليَّ في أنطاكية فلم أتمكن بسبب الإضطهاد الشديد الذي يسود مدينتنا 00 طلبت من زوجي أن نأتي إلى الإسكندرية فأخبرني أن للملك عيون في كل مكان 00 وفي أحد الأيام أخذت طفليَّ وإتجهت إلى شاطئ البحر ، لا أعرف ماذا أفعل ، ولا أين وجهتي ، فقط كنت أصلي وأطلب من إلهي أن يرشدني ، وإذ ترامى إلى أذاني أن هناك مركباً ستقلع حالاً إلى الإسكندرية ، وعلى الفور إستأذنت ربانها ودفعت أجرتي وإستقليت المركب مع طفليَّ دون أن أخبر أحداً 0
وعندما دخلت السفينة للإعماق وقطعت مسافات طويلة ، وإذ بنوء قوي وهيجان عظيم يحدث ، وإذ المركب تتأرجح وكأنها لعبة صغيرة 00
إحتضنت إبنيَّ وصرت في هلع عظيم وصرخت :
” ياإلهي العارف بأعماق قلبي 00 أنت تعلم أني لا أهاب ولا أرهب الموت ، لكنني أرتعب من أجل إبني ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” لأنهما لم ينالا العماد بعد00 هوذا اليمُّ يبتلعنا ولجج البحر تغطينا 00 ياإلهي أنت تعلم أنني من أجلهما تركت زوجي وبيتي وبلدي 00 فهلا يهلكان ؟! 00 أرجوك أرشدني ماذا أفعل “0
وإذ بي آخذ طفليَّ وأغطسهما في الماء ثلاث مرات باسم الثالوث القدوس ، وإذ بي أجرح ثديي وأرشم بدمي ولديَّ 00 وإذ بثورة الأمواج تهدأ ، ويكف البحر عن هيجانه ، وعاد للجو صفائه وجماله ، وسارت السفينة في سلام0 وفي اليوم الثالث من إبحارنا لمحنا ألسنة اللهب تتصاعد من الفنار كشمعة مضيئة في حجرة مظلمة تدعونا إلى النور ، ورويداً رويداً بدأ يتكشف لنا الفنار العظيم ، ورويداً رويداً مع أول ضوء الفجر ظهرت أبنية الإسكندرية وكأنها علب صغيرة تكبر وتتضح معالمها كلما إقتربنا منها ، ورويداً رويداً دخلتْ السفينة إلى الميناء ، فتركتها سريعاً وجئتُ إلى هذه الكنيسة0
فقال ” قداسة البابا بطرس ” : ليتشدد قلبك ياإبنتي 00 لا تخافي فإن الرب معك 00 في الوقت الذي جرحتِ ثديكِ ورشمتي إبنيك بدمك ، فإن الله الكلمة المتجسد صلَّب بيده الإلهيَّة على ولديك وهو الذي عمدهما 00 حقاً ياإبنتي أن المعمودية واحدة ، وقد أحتسبت السماء معموديتك لإبنيكِ في وقت الخطر صحيحة ، فهكذا علمنا الإنجيل وعلمتنا الكنيسة ” رب واحد0 إيمان واحد 0 معمودية واحدة” ( أف 4 : 5 )0
فـي جرن المعمودية زي الحجر صارت المية
الصبغة واحدة بإيمان مثال صليب الديـــان
وأمسك ” قداسة البابا بطرس ” بقارورة زيت الميرون المقدَّس ليتمم سر التثبيت لفاليريوس وفاريانوس ، وإذ بيد البابا تستضئ بنور سماوي ، فإن حمامة نورانية ، أو قل أن النور إتخذ شكل حمامة ظهرت أعلى قارورة الميرون 00 حقاً إن سر الميرون هو سر حلول الروح القدس داخل الإنسان المولود ولادة جديدة من الماء والروح ، وقال ” قداسة البابا ” للمرأة السريانية :
” إن ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” سيكون لهما شأناً عظيماً ومستقبلاً باهراً “
فقالت المرأة المباركة : ” بصلواتك ياسيدنا “0
وأردف ” أرشيلاوس ” قائلاً : ” وفعلاً تحققت نبؤة ” قداسة البابا بطرس ” إذ صار لإبني سقراط وأمهما شأناً عظيماً ومستقبلاً باهراً في ملكوت السموات 00 كيف ؟ 00 هذا ما سنراه بعد قليل0
وبعد أن رشم ” قداسة البابا بطرس ” الأخين ، كل منهما 36 رشمة ، ثمانية رشومات للرأس ، وفتحتي الأنف ، والفم ، والعينين ، والأذنين ، وهو يصلي : ” باسم الآب والإبن والروح القدس مسحة نعمة الروح القدس آمين ” ، ثم أربعة رشومات للقلب والسرة والظهر وهو يصلي : ” مسحة عربون لملكوت السموات آمين ” ، ثم ستة رشومات لكل يد ، وهو يصلي : ” دهن شركة الحياة الأبدية غير المائتة آمين 00 مسحة مقدَّسة للمسيح إلهنا ، وخاتم لا ينحل آمين ” ، وأخيراً ستة رشومات لكل رجل ، وهو يصلي : ” كمال نعمة الروح القدس ، وزرع الإيمان والحق آمين 00 أدهنك يافاليريوس بدهن مقدَّس باسم الآب والإبن والروح القدس آمين “0
ثم وضع ” قداسة البابا ” يده على رأسيهما ، وهو يصلي : ” تكونان مباركان ببركات السمائيين ، وبركات الملائكة ، يباركما الرب يسوع ” ونفخ في وجهيهما : ” إقبلا الروح القدس ، وكونا إناءً طاهراً من قبل يسوع المسيح ربنا ” 0 ثم ألبس قداسة البابا كل منهما زناراً ( شريط أحمر ) مثال الصليب ، ووضع على رأس كل منهما إكليلاً ، فلا يوجد إكليل بدون صليب ، ولا صليب بدون إكليل0
وأكمل ” قداسة البابا بطرس ” الصلوات :
” بالمجد والكرامة كللهما 00 الآب يبارك ، والإبن يكلل 00 والروح القدس يقدس 00 إقبلا يافاليريوس وفاريانوس الروح القدس ، يامن نلت الصبغة المقدَّسة 00 إقبلا يافاليريوس وفاريانوس روح الله الذي يملأك من المسرة 00 إقبلا يافاليريوس وفاريانوس الروح المعزي والبركة السمائية من قبل مسحة الميرون المقدس أيها الطفل المبارك 00 لقد صرتما يافاليريوس وفاريانوس مسكناً للروح القدس ” وعقب كل مقطع كان الشمامسة يرتلون : ” أكسيوس 00 أكسيوس 00 أكسيوس “0
ثم أوصى ” قداسة البابا ” المرأة السريانية :
” فالآن 00 إعلمي أنك تسلمتي ولديكِ من المعمودية المقدَّسة الطاهرة الروحانية 00 إجتهدي في تعليمهما الكتب المقدَّسة وملازمة الكنيسة باكر وعشية ، وصومي يومي الأربعاء والجمعة والأربعين المقدَّسة وكل الأصوام ، ولا تمكنيهما من المضي إلى الأماكن غيـر المرضيـة كي يحرسهما الرب من التجارب الشيطانية 0 إزرعي فيهما الخصال الجميلة 00 إزرعي فيهما البر والتسبيح 00 إزرعي فيهما الطهارة 00 إزرعي فيهما الطاعة والمحبة والقداسة 00 إزرعي فيهما الرحمة والصدقة والعدل 00 إزرعي فيهما التقوى والصبر والصلاح 00 إزرعي فيهما الصدق وكل عمـل صالح يرضي الله به0 لكي بهذا تحيا نفوسكم ويحيا إبنيكِ “0
ثم أكمل ” أرشيلاوس ” حديثه : وبعد ذلك وضع قداسة البابا ميمراً عن مراحم الله التي تتنازل لمستوى الإنسان ، وبدأ الميمر بقوله : ” أن الله هو الذي يُنزل رأفته على الناس 00 “0
وأمضت هذه المرأة السريانية وطفليها عدة أيام في ضيافة قداسة البابا ، فتذوَّقوا الأبوة والمحبة الغامرة في شخص قداسة البابا بطرس ، فقد أعطاهم من رعايته وعنايته ووقته ما أشبع قلوبهم العطشى ، وسمعت المرأة السريانية الكثير والكثير من قصص الشهداء الأبطال المعاصرين ، فإشتاقت لإكليل الشهادة ، وأخذت تتصوَّر نفسها مع طفليها لو أن الله قبلهم وحسبهم من مصاف الشهداء 00 فكم ستكون سعادتهم !! 00 وخلال هذه الفترة صارت صداقة قوية بيـن أخـي ” ألكسنـدروس ” وبيـن ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” ، فالحقيقة أن عقليهما أكبر بكثير من عمريهما 00
وبعد عودة هذه المرأة وطفليها إلى أنطاكية حدث أمر مرعب أدمى قلوبنا 00 لقد ظل أخي ” ألكسندروس ” أياماً تفيض دموعه بلا توقف 00 فقد سمعنا أن سقراط الرجل قاسي القلب ، زوج المرأة السريانية عندما عاد ذات يوم إلى بيته فوجد زوجته وإبنيه قد عادوا من السفر ، أطلق ضحكته الساخرة ، وصاح في زوجته : أين كنتِ ياسيدة نساء أنطاكية ؟ 00 ولم ينتظر إجابة لأنه يعلم أين كانت ؟ ولماذا ؟ 00 صفعها بكل قوته ، فاختل توازنها من هذه الصفعة الشيطانية ، ولكنها إستطاعت أن تدير خدها الآخر ، فصرخ وكأن به مس من الشيطان : أتريدين أن تحرقيني بتنفيذ وصية إلهك ؟!
وترك سقراط بيته سريعاً وهرول نحو قصر الملك ، وشكى للملك من زوجته ، وسريعاً ما أحضرها الجند لتمتثل أمام الملك0
الملك : أيتها المرأة المستحقة الموت 00 لماذا تركتِ زوجك وسعيتِ إلى الإسكندرية ، وزنيتِ مع المسيحيين ؟
الزوجة : إن المسحيين إناس أطهار قديسون لا يزنون ولا يعبدون أوثاناً ، بل أنهم لا ينظرون مجرد نظرة شريرة0
الملك : ولماذا لا تزعنين لزوجك ؟! 00 ألم يوصيكِ إلهكِ بالخضوع له وطاعته ؟
الزوجة : إنني أطيع زوجي فيما لا يخالف شريعة إلهي ، لأنه ” ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس “0
الملك : إننـي أتعجب 00 كيف تعبدون رجلاً ضعيفاً صُلب عرياناً ؟
الزوجة : إنه ليس مجرد رجل ، إنما هو الله الخالق العظيم الذي تجسَّد وتأنس من أجل خلاصنا من الموت الأبدي الذي تسلط علينا 00 وإن كان صُلب عرياناً فلكيما يكسونا ، وإن كان صُلب ومات وقُبر ، فإنه إنتصر على الموت وقام من بين الأموات0
ودار الجدل بين الملك وهذه المرأة الفاضلة المباركة التي أظهرت شجاعة فائقة ، فشعر بضعف حجته ، فأصدر أمره القاسي : ” لتُحرق هي وإبنيها “0
وتنفست الأم القديسة الصعداء وكأنها وصلت إلى مبتغاها الذي تصبو إليه ، وإستضاء وجهها بنور سماوي رائع0
وفي ساحة الإستشهاد كان إستعلان شجاعة الشجعان ، إذ شد الجنود زراعي الأم خلف ظهرها ، وربطوا إبنيها على بطنها ووضعوا عليهما الحطب والأخشاب0
فاليريوس : أماه 00 أماه 00 أنظري 00 هوذا السماء مفتوحة 00 ما أكثر الجنود القادمين إلينا من العلاء 00
الأم : إنهم جيوش الملائكة والقديسين 00 إنها المعونة السماوية التي حدثنا عنها من قبل الأخ ” ألكسندروس “0
فاريانوس : ومن هذه الملكة المنيرة التي في وسطهم ياإماه ؟
الأم : السلام لكِ ياعذراء 0 السلام لك ياأم النور0 إطلبي من إبنك ليغفر لنا خطايانا ويقبلنا إليه في ملكوته0
وسريعاً ما أشعل أحد الجنود النيران فارتفعت ألسنة اللهب عالية ، فالوقود ليس مجرد حطب وأخشاب ، إنما أجساد بشرية0
وسريعاً ما أسلم الأبطال أرواحهم ، وسُمع في الآفاق صوت شجي لموسيقى سمائية 00 إنها تسابيح الملائكة التي حملت أرواح الشهداء الأبطال نحو دهور النور 00 بركة هؤلاء الشهداء تكون معنا0
وهنا جاء ” ألكسندروس ” وإذ أدرك أنهم كانوا يتحدثون عن ” فاليريوس ” و ” فاريانوس ” وأمهما فاضت عيناه بالدموع من جديد0
أرشيلاوس : المعمودية قريبة منك جداً ياديمتري 00 ثق أنه في الوقت المناسب ستصطبغ بالصبغة المقدَّسة0
ميناس : هل سمعتم عن إصرار قداسة البابا على عدم الإستجابة لمطالب الشعب ؟
ألكسندروس : نعم 00 دائماً ترى بابانا الحبيب جالساً على درجات كرسي مارمرقس ، وعندما صاح الشعب : ” أجلس على العرش الذي رُسِمت عليه يارئيس الأساقفة ” 00 أومأ للشعب فعاد للهدوء ، وبعد إنتهاء الخدمة عاتب ” قداسة البابا بطرس ” الآباء الكهنة :
” أما تخجلون أنكم تشتركون مع الشعب في صرخاتهم توبخونني ؟!
ومع هذا ، فإنني أعلم أن مشاعركم لم تصدر من عاطفة الزهو المفسد ، إنما من ينابيع الحب الخالص ، لذلك أكشف لكم سر هذا الأمر 00
إنني كلما فكرت في الإقتراب من الكرسي أرى قوة الله حالة على هذا العرش ببهاء عظيم ، فتنتابني مشاعر الفرح والخوف ، وأدرك أنني غير مستحق على الإطلاق للجلوس على هذا الكرسي ، ولولا تخوفي من عثرة الشعب فإنني بلاشك ما كنت أجسر على الجلوس على سلم الكرسي نفسه “
من الهيجان للنيران ف12 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الأسقف المحب لذاته ف11 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الأسقف المحب لذاته ف11 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الحادي عشر : الأسقف المُحب لذاته
مرت أيام الإضطهاد بطيئة متثاقلة ، وفي أواخر ديسمبر سنة 309م إلتقى الأصدقاء بدون سابق ميعاد في مزار ” الباباثاؤنا ” فكل منهم ذهب يلتمس صلواته من أجل بعض الأمور ، ولكن العامل المشترك بينهم هو طلبهم صلوات هذا البستاني الأمين من أجل البستان الذي يعاني من متاعب شتى من الخارج والداخل ، وتعزى الأصدقاء بصلواتهم التي تصاعدت إلى السماء كبخور عطر الرائحة ، وشعروا بأن روح أبيهـم ثاؤنا الذي أحبهم ترفرف حولهم ، فجلسوا في هذا المكان الهادئ بعيداً عن أعين الكل ودار الحديث بينهم حول مشكلة أسقف ليكوبوليس ( أسيوط ) الذي صنع إنشقاقاً في الكنيسة 0
أرشيلاوس : ما يحز في نفسي أن أبائنا الأساقفة الأجلاء في غياهب السجون يشهدون للمسيح بقوة ، و ” قداسة البابا ” عاد من أرض فلسطين لكنه غائب عن كرسيه ، لأنه يتفقد أولاده في شتى المديريات ، ويشد من أزرهم ضد إضطهاد غاشم قاسٍ ، فيشجعهم البابا علـى التمسك بالإيمان المسيحي حتى الدم وحتى النفس الأخير ، واضعاً نصب أعينهم قول مخلصنا الصالح ” كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة ” ( رؤ 2 : 10 )0 أما ” ميليتوس ” أسقف ليكوبوليس الذي ضعف أمام الإضطهاد وبخـر للأوثـان خوفـاً من الموت ، عندما أوقع عليه ” قداسة البابا بطرس ” عقوبة التأديب رفض ، بل أنه إنتهز فرصة غياب الآباء الأساقفة عن كراسيهم وأخذ يرسم أساقفة وقسوس في إيبارشياتهم0
ميناس : الأمر العجيب أنك دائماً تجد صوت الباطل هو الأعلى ، فكثيرون يشايعون ميلتيوس ، وإلتف حوله كثير من الإكليروس والرهبان والشعب بسبب شعبيته الكبيرة 00 إنني في منتهى الألم من أجل أمي الكنيسة المتألمة 00 إضطهادات من الخارج ، ونفوس تخور في الطريق ويتزعزع إيمانها ، وإنقسامات من الداخل بسبب محبة ميلتيوس لذاته ، وبدع أريوسية ترعى في الشعب00
ديمتري : سمعت أن مشايعي مليتوس يلتمسون له العذر في هذه السيامات ، لأنه أقنعهم بأن هذه الإيبارشيات التي غاب أساقفتها عنها في حاجة للرعاية الروحية ، ولذلك إضطر لهذه السيامات في هذه الظروف الإستثنائية غيرةً منه على خلاص النفوس ومجد الخدمة0
ألكسندروس : هذا لا يمنع أن ما يفعله ميلتيوس ضد تقاليد الآباء وقوانين الآباء الرسل ، التي تمنع تدخل أسقف في شئون إيبارشية غير إيبارشيته0
أرشيلاوس : إن قساوة القلب تمادت في نفس ميليتوس فلم تردعه الرسالة المؤثرة جداً التي أرسلها الآباء الأساقفة وهم في سجنهم0
ديمتري : كنت أتمنى أن أطلع على هذه الرسالة التي كُتبت في غياهب السجن0
أرشيلاوس : معي صورة من هذه الرسالة ، إحتفظت بها على سبيل البركة 0
ديمتري : هل تقرأها لنا ؟
أرشيلاوس : ” من ” هيتيخوس ” و “باخوميوس ” و ” ثيؤدوسيوس ” و ” فيلاس ” إلـى ” ميليتوس ” المحبوب وشريكنا الخادم في الرب 0 التحية0
في بساطة الذهن نخبركم أنه قد نمى إلى علمنا عنك إشاعات لا تُصدَق ، فقد أخبرنا زائرون عن بعض المحاولات0 لا بل والأعمال التي تصـدر عنك ، غريبة عن النظام الإلهي والكنسي ، هذه التي لم نكن نود تصديقها من أجل ما حملته هذه التصرفات من تهور شديد وطياشة 00 إننا لا نستطيع أن نعبر عن مدى الضيق والحزن اللذين حلا بنا كجماعة وأفراد عند سماعنا بالسيامات التي قمتَ بها في إيبارشيات ليست تحت سلطانك0
00 إنه يوجد قانون الآباء والأجداد ، إننا لا نجهله ، مؤسَّساً على أساس إلهي وكنسي 00 إنه لا يجوز للأسقف أن يقوم بالسيامة في غير إيبارشيته 00 هذا القانون الذي تسلمناه له حكمته وأهميته القصوى :
1- لكي يكون سلوك المرشحين للسيامة وحياتهم ممحصة بعناية فائقة0
2- منعاً من حدوث أي إرتباك أو إضطراب ، فكل منا لديه من الأعمال الخاصة بتدبير إيبارشيته ما يكفيه ، عليه أن يسعى باجتهاد باحثاً بعناية فائقة وإهتمام شديد ليجد خداماً مناسبين من بين الذين عاش في وسطهم كل حياته ، وتدربوا على يديه0
أما أنت فلم تعطِ إعتبارات لهذه الأمور ، ولا تطلعت إلى المستقبل ، ولا إلى شريعة آباءنا الطوباويين التي تسلموها من السيد المسيح بالتتابع ، ولا إلى كرامة أسقفنا العظيم وأبينا ( البابا ) بطرس الذي نضع فيه جميعاً الرجاء الذي لنا من الرب يسوع المسيح ، ولا ترفقت بنا من أجل حبسنا في السجن ، وما يحل بنا من ضغوط وضيقات ، تاركين كل شئ دفعة واحدة0
ربما تقول : إني صنعت هذا لأحافظ على كثيرين بعدما إرتد الكثيرون عن الإيمان ، وصارت القطعان في عوزٍ ، وهي متروكة بلا راعٍ0
لكن الأمر بكل تأكيد ليس هكذا ، ولا هم في عوزٍ شديد :
فإن كثيرين ( من الرعـاة ) يفتقدوزنهــم كزائريـــن ( للأيبارشية ) 0
إن وُجِد شئ من الإهمال نحوهم فكان يليق إستخدام الطريق السليم في شكاوي الشعب العاجلة ، أما نحن فنعمل ما في وسعنا نحوهم0
إنك قد أملت أذنك بمبالغة لخداعات البعض وكلماتهم الباطلة ، وصنعت تعديات متمماً السيامات خلسة ، فلو أن الذين معك قد ألزموك بحق أن تفعل ذلك ، وفي جهلهم أساءوا للنظام الكنسي ، كان من واجبك أن تسلك حسب النظام وتكتب إلينا ليكون تصرفك لائقاً0
إن كان البعض قد حرضك لكي تصدقهم أكثر منا 00 فإننا نقول لك بأنه كان يلزمك أن تستشير الأب الأول ( بطرس ) وتأخذ منه تصريحاً0
إن عدم مبالاتك بهذا كله ، تاركاً العنان لنفسك في تكهنات كثيرة ، متجاهلاً كل إعتبار لنا 00 خلقت إنقسامات بتصرفاتك التي لا مبرر لها ، معطياً لنفسـك حــق السيامات ، الأمر الذي أحزن الكثيرين 00 ” (90)0
ألكسندروس : إن هذه الرسالة المؤثرة التي حملت روح الحب والرجاء الحار لميلتيوس لم تؤثر فيه ، ولم يسعَ للقاء البابا بطرس لتصحيح الأخطاء التي سقط فيها ، إنما تمادى في غيه ، حتى أنه جاء إلـى مدينتنا وصار يتصرف كيفما يشاء ، ويقيم أساقفة وقسوس ، وكأنه الأسقف البديل الشرعي في غياب قداسة البابا ، ولم يحترم غيبة البابا ، ولهذا كتب ” قداسة البابا بطرس ” للآباء الأساقفة :
” من بطرس إلى أخوته المحبوبين ، المتأسسين في الإيمان بالله ، سلام من الرب0
لقد جاءت تصرفات مليتوس ضد المصلحة العامة تماماً ، إذ لم يقتنع برسالة الأساقفة القديسين الشهداء ، بل إقتحم إيبارشيتي عاملاً بذلك على سحب الكهنة والموكلين بخدمة الفقراء من طوعي ، مؤكداً رغبته في الرئاسة ، بسيامة كهنة في السجن يكونون تابعين له0
إحذروه ، ولا تدخلوا معه في شركة حتى ألتقي به في صحبة بعض الحكماء المتزنين المتعقلين ونرى ما يصبوا إليه 0 وداعاً ” (91)0
أرشيلاوس : ولا ننسى أن ” قداسة البابا بطرس ” عقد مجمعاً مع بعض الآباء الأساقفة ، وحكم المجمع بتجريد ” ميليتوس ” من رتبة الأسقفية ، ولكن كما هو متوقع لم يلتزم ميليتوس بقرار المجمع ، ولا كفَّ عن تصرفاته ، فقد سام حتى الآن أكثر من خمسة وعشرين أسقفاً ومئات من الآباء الكهنة0
ميناس : عندما أظهر بابانا الحبيب تعاطفه مع الذين ضعفوا في الإضطهاد الشرس وتزعزع إيمانهم ، أخذ ميلتيوس يشيع أن الذي تعمدوا وإستناروا وسقطوا لا يمكن تجديدهم0
أرشيلاوس : لقد أوضح قداسة البابا معنى قول الإنجيل ” لأن الذين إستُنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس0 وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي0 وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة ” ( عب 5 : 4 – 6 ) فالإنجيل لم يقصد أن الذين جحدوا الإيمان تُرفض توبتهم لأنهم جنود خونة جبناء كقول ميليتوس ، إنما الإنجيل أوضح أن هؤلاء لا يمكن تجديدهم ، أي لا يمكن أن تعاد معموديتهم ، لأن المعمودية تتم مرة واحدة على مثال موت السيد المسيح الذي مات مرة واحدة وقام 00 إن ” ميليتوس ” لـم يشفق على تلك النفوس التي خارت في الطريق ، أما البابا بطرس فراح يقوي ويشجع تلك النفوس الخائرة على إستكمال المسيرة والمشوار في درب الصليب والملكوت 00 فهو تعلَّم من سيده أن فتيلة مدخنة لا يطفئ وقصبة مرضوضة لا يقصف0
ألكسندروس : لقد ثبت كثيـر من المسيحيين أمام الإضطهادات المرة ، ولكن البعض تزعزع إيمانه 00 كتب أحدهم : ” أمام هذه الحملة الغاشمة تزعزع ثبات بعض المسيحيين ، فشاركوا في التضحيات الوثنية إتقاء للعذاب0 وقد كان مسلك هؤلاء موضع خلاف كبير بين المسيحيين فيما يتعلق بتوبتهم بعد ذلك0 ولكن بعضاً آخر من الرجال والنساء واجه الإضطهاد بثبات ، وتحمل العذاب المرير من ضرب بالعصي وسحل للعين وجر فوق حصى الشوارع إلى خارج المدينة ” (92)0
وبينما رأى البعض مثل ” ميلتيوس ” أن توبة هؤلاء الذين أنكروا الإيان وضحوا للأوثان لا تُقبل ، ورأى البعض يجب إعادة معموديتهم ، فإن ” قداسة البابا بطرس ” أوضح أن لا هذا الرأي ولا ذاك يتفق مع مبادئ الإنجيل الذي يعلمنا أن الخطية الوحيدة التي لا تُغفر هي التجديف على الروح القدس أي عدم التوبة ، كما يعلمنا الإنجيل أن المعمودية واحدة لأنها شركة مع المسيح في موته وقيامته ، والسيد المسيح مات مرة واحدة لا أكثر ، ولما قرب عيد القيامة ( سنة 306م ) تقدم كثير من الذين جحدوا الإيمان إلى البابا بدموع وإلحاح يطلبون منه أن يحلهم من خطيتهم ويقبلهم في الكنيسة المقدَّسة وفي محبته الأبويَّة0
فوضع ” قداسة البابا بطرس ” عدة قوانين تعالج توبة هؤلاء الراجعين إلى حظيرة الإيمان :
جميـع الذين زلُّوا في بداءة الإضطهاد لشدة ما قاسوه من العذاب ، ثم أظهروا توبة وندامة في أثناء الثلاث سنوات الماضية يجوز قبولهم في الكنيسة في يوم العيد الآتي ، وذلك بعد أن يصوموا أربعين يوماً صوماً عنيفاً0
جميع الذين عثروا في إيمانهم لداعي سجنهم فقط دون أن يُعذبوا عذاباً شديداً ، يجب أن تعطى لهم سنة كاملة فيها يُظهرون التوبة الحقيقية قبل قبولهم في حضن الكنيسة0
كل الذي إرتدوا عن الإيمان لمجرد الخوف والوهم فقط ولم يذوقوا عذاباً تعطى لهم أربع سنوات ليبرهنوا فيها على التوبة والندامة0
جميع الذين إرتدوا ولم يعودوا يطلبون التوبة والإنضمام إلى الكنيسة فلا يوجد قانون لهم بل حرى بالكنيسة أن تبكيهم وترثى لحالهم0
الذين نجوا من العذاب أو الموت لتظاهرهم بالبله أو الصرع أو أي حيلة أخرى تمنح لهم مهلة ستة شهور فيها يكفرون عن سيئاتهم0
العبيد الذين أجبرهم مواليهم للتقدم للمحاكمة عوضاً عنهم ثم سقطوا في هذه التجربة ينبغي أن يبرهنوا على توبتهم بأعمالهم في بحر سنة0
الموالي الذين فعلوا ما تقدم تُفرض عليهم ثلاث سنين توبة0
جميع الذين عثروا ثم عادوا فأصلحوا خطأهم حالاً بأن قدموا أنفسهم للسجن والعذابات يجب قبولهم في عضوية الكنيسة بدون فحص أو قصاص0
كل الذين قدموا أنفسهم للأخطار طوعاً وإختياراً دون أن ينتظروا إلقاء القبض عليهم أو يصبروا حتى يرى ما يحل بهم ، لا تصح محاكمتهم ومقاطعتهم بل يكتفي بتذكيرهم بأن المسيح ورسله لم يعملوا هكذا ولم يلقوا بأنفسهم في التهلكة0 أما الذين سقطوا من هذه الفئة المشار إليها فإذا كانوا من الإكليروس الذين طلبوا العودة إلى حضن الكنيسة فلا يجب قبولهم في الوظائف الكهنوتية ثانية ، بل يُقبلون كأعضاء في الكنيسة فقط0
أولئك الذين أنكروا حيثياتهم وأشخاصهم لأجل تشجيع الآخرين وتقوية إيمانهم في أوقات الإضطهاد أتوا عملاً حسناً فلا لوم عليهم ولا تثريب0
جميع الذين إفتدوا أنفسهم بدراهم دفعوها فداء عنهم فلا يلامون قط0
لا شئ على الذين نجوا بواسطة هربهم من الموت ولا قصاص عليهم0
جميع الذين أُجبروا لكي يذبحوا للأوثان والذين أفقدهم العذاب شعورهم وإحساسهم فأصبحوا لا يدركون ، يجب إعتبارهم في درجة الذين إعترفوا بالمسيح تماماً ما داموا فعلوا ما فعلوه بدون إرادتهم ، فإذا كانوا من الإكليروس يعادون إلى وظائفهم كما كانوا ” (93)0
ديمتري : بالرغم من أن الميلتيين يرفضون الفكر الأريوسي ، إلاَّ أنهم يتعاطفون معهم لمجرد أنهم ضد قداسة البابا بطرس0
(90) القمص تادرس يعقوب – القديس بطرس خاتم الشهداء ص 12 – 14
أبواب السماء ف10 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
أبواب السماء ف10 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل العاشر : أبواب السماء
مرت الكنيسة منذ القرن الأول وحتى بداية عصر دقلديانوس بتسعـة إضطهادات من الأباطرة ” نيرون ” (54 – 68م ) و ” دوميتيان ” (81 – 96م) و ” تراجان ” (98 – 117م ) و ” ماركوسأوريليوس ” (169 – 177م) و ” سبتيمـوسسافيروس ” (193 – 209م) و ” مكسيميانوس ” (236 – 238م) و ” ديسيوس ” (249 – 251م) و ” فاليريان ” (253 – 260م) و” أوريليان ” ( 270 – 274م )0
وفي هذه الأيام ولأسباب عديدة شنَّ ” دقلديانوس ” ( 284 – 305م ) منذ سنة 303م سلسلة إضطهادات قاسية ومرة على المسيحيين الأبرياء ، لم يرحم شيخاً ولا إمرأة ولا طفلاً ، بل تلذذ بأن يسبح في بحيرة من دماء المسيحيين ، والشهداء في عصره يقدَّرون بمئات الألوف ويقاربون المليون شهيد 00 لقد إنتقم من المسيحييـن الذيـن لا يؤلّهونـه ولا يسجدون لتماثيله ، وهم موضع غضب آلهتـه 0 كمـا قيـل أنه في حربه مع الفرس وقع ” نيقوميدوس ” إبن ملك الفرس أسيراً في يده ، فسلَّمه لبطريرك أنطاكية ، ونجح ملك الفرس في فك أسر إبنه عن طريق رشوة البطريرك ، وعاد الإبن لساحة الوغي وسقط أسيراً للمرة الثانية في يد دقلديانوس ، وبعد عودة دقلديانوس من الحرب سأل البطريرك عن الأسير ، فأخبره أنه قد مات منذ شهرين ، فطلب منه أن يرى مقبرته وجسده ، فأراه البطريرك جسد أخيه الأكبر الذي قُتل في الحرب ، فقال له دقلديانوس : ” أما الجسد فقد رأيته بعيني ، ولكني لا أثق بقول لا يؤيده دليل ، فأقسم على المذبح بأن هذا الجسد هو جسد نيقوميدوس “0
وفي اليوم التالي أقام البطريرك القداس الإلهي وأمسك بالجسد وأقسم أن ما رآه دقلديانوس هو جسد نيقوميدوس ، فذهل دقلديانوس من جرأة البطريرك في الكذب ، وإنتظر أن تنزل ناراً من السماء تأكل هذا الرجل الكاذب المرتشي ، فلم يحدث ، فأظهر نيقوميدوس للبطريرك الذي أُسقط في يده ، وألقى دقلديانوس بالكأس المقدَّس ، وعذب البطريرك ، حتى أنه وضع في حلقه الذهب المنصهر الذي إشتهاه فمات0
وعقد ” دقلديانوس ” مشاورات سرية مع جاليروس وبعض كبار الموظفين ، وتم الإتفاق على ضرورة القضاء على العقيدة المسيحية ، وتم تحديد يوم 23 فبراير 303م لبدء هذه الحملة ، وفي ذلك اليوم كان دقلديانوس وجاليروس في نيقوميديا ، وكان عيداً للوثنيين ، فأصدر دقلديانوس ” المرسوم الأول ” للقضاء على المسيحية وشمل المرسوم :
هدم جميع الكنائس وإزالتها من الوجود0
إحراق جميع الكتب المقدَّسة في أي مكان كانت0
تجريد المسيحيين من وظائفهم الحكومية ، وحرمانهم من حقوقهم الوطنية ومصادرة أملاكهم0
لا يُعتق عبد مسيحي قط0
وعندما بادر أحد الضباط المسيحيين الشجعان بإنتزاع هذا المنشور وتمزيقه ، وهو الشهيد العظيم أمير الشهداء البطل الروماني ” مارجرجس ” ، دخل في سلسلة عذابات رهيبة إستمرت شهور وسنين تعرَّض خلالها لأنواع شتى من العذابات ، بل تعرض للموت أكثر من مرة ، والرب كان يقيمه ، وإستطاع أن يجتذب المئات للمسيحية ، ولاسيما تلك المرأة الخليعة التي أرسلوها إليه لتسقطه في الخطية وتكسر أنفه ، وإنتهت الليلة وفي الصباح إذ هي مسيحية تعترف بإله مارجرجس ، وتقول لمارجرجس : ” جئت لأسقطك بسحـر خلاعتـي فجذبتنـي بسحر طهارتك ” 0 وإنتصر ” مارجرجس ” على الإمبراطور بكل قواته وعذاباته وشياطينه ، وإنتشرت معجزاته بعد إستشهاده أكثر مما حدث في حياته آلاف المرات0 أما سيرته العطرة وشجاعته النادرة فلن يقوى الزمن أن يمحيها ، بل تزداد بريقاً ولمعاناً مع الأيام ، وحتى المجئ الثاني ، بل وفي الدهر الآتي أيضاً0
وفي اليوم الذي أصدر فيه دقلديانوس مرسومه ، كانت هناك أمام القصر ، وعلى ربوة عالية كاتدرائية ضخمة ، فأسرع الوالي مع جنود الشر وهجموا على الكنيسة وحطموا أبوابها ، ولم يكتفــوا بهــذا ، إنمـا هدموها حتى ساووها بالأرض ، ويقول ” لاكتانتيوس ” : ” بأنه تم حرق الكتب المقدَّسة ، والسماح للجميع بالسرقة والنهب والسلب والتمرد والفوضى ، وتم النقاش حول مسألة إشعال النار في الكنيسة إلاَّ أن دقلديانوس خشى أن تشتعل النار في المباني المحيطة بالكنيسة فتتأثر بذلك المباني المحيطة بها من المدينة لذا رأى أن تُهدم ، ولهذا أمر بإحضار حرس الإمبراطور مزودين بالفئوس وأدوات أخرى محطمين هذا المعبد الشهير الشامخ وجعلوه يسوى بالأرض ” (70)0
وبدأت موجات الإضطهاد العاتية تجتاح المدن والقرى ، ومما زاد الطينة بلة أن القصر الإمبراطوري تعرَّض لحريق مرتين في خلال أسبوعين متتاليين ، ووصلت ألسنة اللهيب إلى غرفة نوم دقلديانوس ، ولم يُعرَف المتسبب ، وإتهم ” جاليريوس ” بعض المسيحيين العاملين بالقصر ، تماماً كما إتهم ” نيرون ” من قبل المسيحيين بحرق روما وهو الذي أحرقها وراح يغني منتشياً بمشاهد الحريق ، ولكيما يزيد ” جاليريوس ” من حرارة الحريق الذي أشعله ، ترك القصر عائداً إلى مكانه بحجة أن الإنسان لا يأمن على حياته في هذا القصر0
وكانت النتيجة أن ” دقلديانوس ” أمر بتعذيب كل الخدم ، وغضب على زوجته ” بريسكا ” Prisca وإبنته ” فاليريا ” Valeria وخيَّرهما بين السجود لآلهته أو الإعدام ، وإختارتا المسيحية مع الإعـدام ورفضتا عبادة الأوثان مع الحياة0 كما حكم ” دقلديانوس ” بالإعدام على بعض كبار موظفي القصر المسيحيين مثل ” دورثيوس ” ، و ” جورجونيوس ” ، و ” أندرياس ” ، كما أعدم ” أنتيموس ” أسقف نيقوميديا ، وإشتد حنق دقلديانوس على المسيحيين ، فسيقت أعداداً غفيرة من المسيحيين العاملين بالقصر إلى السجون ، وخضعوا للتعذيب الشديد للإعتراف بجريمة لم يرتكبوها ، وعندما فشلوا في إنتزاع هذا الإعتراف منهم سيق بعضهم للحريق ، ورُبطت أعناق البعض بالأحجار الثقيلة وطُرحوا في البحر ، وسُفكت دماء البعض بالسيف ، وعوضاً عن إعدام المسيحيين فرادي ، كانوا يشعلون كل يوم نيران عظيمة ويُلقى فيها الشهداء بالجملة ، وشدَّد دقلديانوس على شركائه في الحكم لمحو المسيحية عن وجه الأرض ، فهاج الوحوش الثلاث ” دقلديانوس ” إمبراطور الشـرق ومعاونـه ” جاليريــوس ” قيصر الشرق ، و ” ماكسيميان ” إمبراطور الغرب ضد أتباع يسوع الوديع الهادي متواضع القلب رئيس السلام ، ولاسيما أن إمبراطور الغرب كان سلوكه رديئاً وطبيعته عدوانية ” فكان حاكماً متسلطاً خاصة بعد أن إستطاع قمع سلطة مجلس الشيوخ ، مروُّعاً إياهم بأساليبه المزعجة ، وبما حمل في شخصيته من صلف وتهييج وما كان في طبعه من توحش0 تلك الصفات التي كانت تلازمه والتي ظهرت أمام من كان يُنزل بهم العقاب ، فكان عهده سيئاً مكروهاً ، وقد نعته رعاياه بعصر الحديد من شدة قسوته وإستبداده ، ومن شدة تعطشه إلى التسلط 00 هذه الصفات أضفت على شخصيته ونزعته الوحشية روحاً إنتقامية وعدوانية ، كما أن شعوره بكراهية المحيطين به وعدم إخلاصهم له ، ملأه بالشك والريبة ، فكان يندفع ليبطش بأي شخص دون ما سبب فصنع المذابح ، وقد دفعته مخاوفه ، وتحت ستار الغيرة الدينية المشوبة بالخبث والحقد أن يكون من أشد الأباطرة إضطهاداً للمسيحيين ” (71)0
وبدأت تحدث فتن وإضطرابات وثورات في أرمينيا وسوريا ، هذان الإقليمان اللذان ترتفع فيهما نسبة المسيحيين ، فعزوا هذه القلاقل لرجــال الإكليـروس ولذلك أصدر دقلديانوس ” المرسوم الثاني ” في شهر مارس 303م بالقبض على جميع رجال الإكليروس والزج بهم في أعماق السجون ، فامتلأت السجون من الأساقفة والقسوس والشمامسة حتى لم يعد بها مكان للمجرمين الخارجين عن القانون ، وحلَّ الإستشهاد بكل مكان ، باستثناء بلاد الغال وبريطانيا الواقعة تحت حكم ” قنسطنطنيوس ” ، الذي أمر فقط بهدم أسوار الكنائس وبعض الجدران ، بحيث يمكن إعادة بناءها بسهولة0
وفي صيف 303م ترك ” دقلديانوس ” نيقوميديا ، وتوجه إلى روما للإحتفال بالعيد العشرين لتوليه السلطة وفي 2 نوفمبر 303م إحتفل ” دقلديانوس ” مع ” مكسيميان ” في روما بهذه المناسبة ، وقاما بتوزيع الهدايا على الشعب وسط تهليل وهتاف الجماهير في روما ، وبنـى ” دقلديانوس ” قوس النصر تخليداً لإسمه ، وكان من المعتاد أن يُصدِر الإمبراطور في مثل هذه المناسبة قراراً بالعفو العام عن المساجين ، فكيف العمل وهو لا يريد أن يطلق رؤساء الكنائس ؟!00 ولذلك أصدر هذا العفو العام وجعله مقترناً بشرط أن يقدم هؤلاء الأساقفة والقسوس والشمامسة العبادة للآلهة ، وإلاَّ تعرضوا للتعذيب الشديد ، فكان هذا العفو الذي جر وبال التعذيب على الإكليروس المعتقلين هو بمثابة المنشور الثالث الذي نص صراحة على أن رجال الإكليروس هم أعداء للحكومة ، فلا يخلى سبيل أحد منهم إلاَّ إذا ضحى للآلهة ، فتعرَّض رجال الإكليروس للعذابات المُرة وأُقتيد كثير منهم للعمل في المناجم في ظروف قاسية 0
وعاد ” دقلديانوس ” إلى نيقوميديا في يناير 304م وكان الوقت شتاءاً قارصاً والأمطار غزيرة ، فأصيب بمرض أخذ يشتد عليه ، وبدأ يعاني من إضطراباً عقلياً وفي سنة 305م إعتزل دقلديانوس الحكم وله من العمر 59 عاماً ، وتوارى عن الأنظار ، فصـار ” جاليريــوس ” إمبراطــوراً للشـرق ، ولم يعين إبنه ” مكسنتيوس ” Mexentius نائباً له ، إنما عيَّن ” مكسيميانوس دايا ” Maxminus Daia قيصراً معاوناً له ، وأيضاً في نفس العام 305م إعتزل ” ماكسيميـان ” إمبراطور الغرب الحكم (72) ، فصار ” قنسطنطينـوس ” هــو الإمبراطــور ، ولم يعين إبنه ” قسطنطين ” نائباً له ، إنما عيَّن ” فاليريوس سفيروس ” قيصراً معاوناً له0 وكان ” جاليريـوس ” قد إستغل فرصة مرض دقلديانوس ، فأصدر ” المرسوم الرابع ” لإضطهاد المسيحيين في ربيع 304م ، وهو المرسوم الأشد والأفظع ، وفيه أمر بأن يقدم جميع المسيحيين ، وليس الإكليروس فقط ، العبادة للآلهة والتضحيات ، حتى لو كان هذا مصحوباً بالعذابات الشرسة أو الإعدام ، فعمَّ الإضطهاد على كل المسيحيين رجالاً ونساءاً وشيوخاً وأطفالاً ، وعُلقت الإعلانات في شوارع المدن تلزم الجميع بالتوجه إلى المعابد لتقديم الذبائح للآلهة0
وهكذا إشتعلت نيران الإضطهاد شرقاً وغرباً ، وسالت دماء الأبرياء بحوراً تروي الأرض العطشى لتثمر مؤمنين جدداً0
وقال البعض عن تخلي ” دقلديانوس ” عن الحكم أنه أقام حفل الإعتزال في أول مارس 305م في سهل فسيح على بُعد 3 كم من نيقوميديا ، وله من العمر 59 عاماً ، حيث جرَّد نفسه من الأوسمة والشعارات الإمبراطورية ، وإستقل عربة خاصة وإنطلق إلى ” سالونا ” Salona التـي إختارها مقراً لتقاعده ، كما إعتزل ” ماكسيميان ” الحكم في معبد جوبتر بميلان بناء على وعده لدقلديانوس ، وذهب إلى ” لوكانيا ” Luconia جنوب إيطاليا كمقر لتقاعده ، وأمضى ” دقلديانوس ” السنين التسع الباقية له في الحياة في قراءة الأدب والبناء والزراعة وفلاحة البساتين ، وعندما أرسل إليه ” مكسيميان ” يحفزه على إستعادة الحكم وإستعادة الحلة الأرجوانية ، أجابه دقلديانوس بأنه لو رأى الكرنب الذي زرعه بيديه في سالونا ، فإنه لن يعود يصغى لأي إغراء يدعوه للتخلي عن هذه المتعة طلباً للسلطة (73)0
كما قال البعض عن نهاية حكم دقلديانوس أنه حلَّ به المرض ، وفقد رشده فخُلع عن كرسيه ، وأصدر مجلس الشيوخ أمره بنفيه إلى جزيرة ” واروس ” الكثيرة الأحراش ، وكان في الجزيرة بعض المسيحيين الذي تعرضوا للنفي ، فكانوا يقدمون له طعامه اليومي ويهتمون به ، حتى إسترد عقله وطمع في العودة للحكم ، ولكن قادة الجيش رفضوا ذلك قائلين ” أن هذا الرجل فقد عقله وأُصيب بالبله وعزلناه من الحكم فلا نريد أن نعيده ” (74) فصار حزيناً يبكي حتى أظلَّم عقله وفقد بصره0
ولـم ينتهي الإضطهـــاد بنهاية حكم دقلديانــوس لأن ” جاليريوس ” الذي هو أكثر شراً وشراسة من دقلديانوس قد تولى إمبراطوراً للشرق وحرص على تفعيل ” المرسوم الرابع ” يعاونه في هذا ” مكسيميانوس دايا ” الذي إرتكب جرائم وحشية في الإسكندرية وكل مصر والخمس مدن الغربية ، فاشتعلت النيران ، ودُقت الصلبان ، وأُطلقت الوحوش الجائعة 00
أما في الإسكندرية فقد أقبل الشهداء على وسائل القتل والنيران المشتعلة كأنها مراكب نارية تقلهم للملكوت 00 نفث الشيطان كل غيظه وحقده وسمومه ليفني المسيحية عن وجه الأرض فإذ بشجرة المسيحية ترتوي بدماء الشهداء فتنمو وتترعرع وتزدهر وتمتد أغصانها إلى السماء ، وجنت المسيحية ثمار الإستشهاد وكسبت كثيراً أكثر مما خسرت ، لقد فضحت مبادئ المسيحية السامية فساد العبادة الوثنية ، ورأى الوثنيون روح الفرح والرجاء والرضى والثقة والإيمان والصفح والمحبة التي يتحلى بها الشهيد المسيحي ، فتدافعوا يعانقون صليب الإستشهاد ويحملونه بفرح سواء كانوا من النبلاء أو عامة الشعب أو العبيد ، فصار الموت ضعيفاً ، وصارت قوته وجبروته وسلطانه باهتاً ، فجاز فيه الرجال والنساء والشيوخ والأطفال برضى وسرور وفــرح ، والإعلانـات الإلهيَّة تعين وتسند الكارزين بالدم 00
قال الشهيد ” ترتليانـوس ” فـي رسالـة إلى مضطهديه : ” إستمروا في تعذيبنا ، إصحنونا إلى مسحوق ، فإن أعدادنا تتزايد بقدر ما تحصدوننا !0 إن دماء المسيحيين لهي بذار محصولهم 00 من ذا الذي بعد إنضمامه إلينا لا يشتاق إلى التألم ” (75)0
وقال الشهيد الفيلسوف ” يوستين ” في دفاعه المُقدَم للإمبراطور : ” ها أنت تستطيع أن ترى بوضوح أنه عندما تُقطع رؤوسنا ، ونُصلب ، ونُلقى للوحوش المفترسة ، ونُقيَّد بالسلاسل ، ونُلقى في النار ، إننا لا نترك إيماننا ، بل بقدر ما نُعاقب بهذه الضيقات بقدر ما ينضم مسيحيون أكثر إلى إيماننا وديانتنا باسم يسوع المسيح ” (76)0
كما قال الشهيد ” يوستين ” أيضاً : ” لا شئ يستطيع أن يحولنا عن إيماننا ، لا سيف القاتل ، ولا صليب الضيق ، ولا أنياب الوحوش الضارية ، ولا القيود ، ولا النار ، ولا العذاب بأي نوع ، بقدر ما يزيدوا آلامنا بقدر ما يزداد عدد المؤمنين ، وبقدر ما يزداد عدد التلاميذ الذي ينحازون إلى المسيح ” (77)0
نعم إن الإيمان بالمسيح صـار مجازفة تكلف الإنسان حياته ، وبالرغم من أن الحكام كان يقبلون أي عمل بسيط مثل وضع حبات بخور أمام الآلهة الوثنية فيطلقون سراح المتهمين بالمسيحية ، إلاَّ أن الأيدي المقدَّسة رفضت أن تتنجس بهذا العمل الشيطاني 00 نعم إضطر البعض أن يهجر بيته ، والأغنياء هجروا قصورهم ، وتواروا عن الأنظار هرباً بإيمانهم ، فعاشوا في الجبال والقفار وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح0
وكتب ” يوسابيوس القيصري ” يقول : ” إستمر التعذيب والقتل يوماً بعد يوم ، وشهراً بعد شهر ، وسنة بعد سنة ، وكان يستشهد في اليوم الواحد خمسون وثمانون ومائة ، حتى أن القتلة أنفسهم يسأمون أو يسقطون أعياء0 وكان الهمجيون من القتلة يرمون النساء والأطفال من السجون بعد جرهم على الأرض في الشوارع إلى أن تتجرَّح أجسامهم وتسيل منها الدماء0 فتروي التربة المصرية وتضيف إلى خصوبتها نعمة ” (78) كما كتب أيضاً يقول : ” وعلى الرغم من هذا كله فإن الشعب المصري الأرثوذكسي إندفع بشجاعة عجيبة وجرأة نادرة إلى حيث تنتظره الأهوال في رضا وحبور0 وكان المحكوم عليهم يسيرون وسط أناشيد التسبيح والتهليل كما لو كانوا ذاهبين إلى عرس ” (79) 0
وكتب آخر يقول : ” على نحو ما توجد الروح في الجسد ، هكذا المسيحيون في العالم 00الروح كائنة في الجسد ، لكنها ليست منه ، والمسيحيون مقيمون في العالم ، لكنهم ليسوا من العالم 00 والمسيحيون كلما تعرَّضوا للآلام والعذابات إزدادوا عدداً ” (80)0
أما نفسية الشهيد فيعبر عنها ” الشهيد أغناطيوس ” قائلاً : ” إني أشتهي الإستشهاد لكي أُظهر ذاتي مسيحياً لا بالقول فقط ، بل بالفعل 00 إنني إن أفنتني النيران وحولتني رماداً 00 أو عُلقت على صليب متجرعاً كـأس ميتة بطيئة 00 لو أُطلقت عليَّ النمور الكاسرة ، والأسود الضاريـة ، وكسرت عظامي ، وهشمت أعضائي ، وسحقت جسدي برمته ، فإني متحمل كل ذلك بفرح 00 بشرط 00 أن أحظى بيسوع المسيح 00 لأنه ملك العالم بأسره 0 إن الموت لي لأجل يسوع المسيـح ، أفضل من أن أملك كل الأقطار ، لأن قلبي تائق إلى من مات لأجلي ، ونفسي مشتاقة لمن قام من الموت لأجلي ” 0
وفـي السنـة الثامنـة من هذا الإضطهاد القاسي ، أُصيب ” جاليريوس ” بمرض خطير ، حتى أنه صار يصرخ ويطلب الرحمة والصفح من المسيحيين ، وإعتذر عن الأفعال الوحشية التي إرتكبها في حقهم ، معللاً ذلك بأنه كان يروم الحفاظ على سلامة الإمبراطورية ، وبعد أيام قليلة مات جاليريوس0
وفي خريف 308م وبعد إعتزال دقلديانوس سنة 305م ، أصدر ” مكسيميانوسدايا ” ” المرسومالخامس ” بإعادة هياكل الأوثان ، فأقيمت الهياكل في كل مدينة ، وعيَّن في كل مقاطعة موظفاً سياسياً بمثابة رئيس كهنة ، وألزم الجميع رجالاً ونساءاً ، شيوخاً وأطفالاً لتقديم القرابين والأضاحي للآلهة الوثنية ، وأن يُكره المسيحيون على تذوق ما ذُبح للأوثان ، وخُلطت لحوم هذه الذبائح مع اللحوم المعروضة للبيع في الأسواق ، حتى يأكل منها المسيحيون بعلم أو بدون علم ، وصار الوثنيون يأخذون المياه أو النبيذ الذي إستعمل في تقديم ذبائح الآلهة الوثنية ، ويرشونه على الخضروات والفواكه المعروضة للبيع في الأسواق ، وزادوا من عذابات المسيحيين ، ففاضت أنهار أخرى من دمائهم البريئة ، وصارت الفترة من 308 – 311م أفظع فترة في تاريخ الإضطهاد في الشرق ، فإحتجت السماء وأعلنت غضبها فامتنعت الأمطار وعمت الأمراض والأوبئة ، فكثر الموتى ، وترك الوثنيون ذويهم ولم يهتموا بهم خشية العدوى ، فإهتم بهم المسيحيون ورعوا المرضى ودفنوا الموتى منهم0 أما المسيحية فما لبثت شامخة 0
ويصف ” يوسابيوس القيصري ” جانب من هذه الأهوال فيقول : ” وكانت بعض النساء من أشرف العائلات في المدن تتجولن في الأسواق للإستجداء ، وكانت تتبين عليهن دلائل الثراء السابق من إحتشامهن في مظهرهن ووقارهن في هيئتهن0 وإذ حل الضنك بالبعض وأصبحوا على حافة الموت فعثروا وتمايلوا هنا وهنالك ، وكانوا أضعف من أن يستطيعوا الوقوف ، فسقطوا في وسط الشوارع ، وكانوا وهم منطرحين يتوسلون أن تُعطى إليهم لقمة خبز صغيرة ، وفي أخر نفس يصرخون قائلين : جائع ، ولم تكن لهم قدرة إلاَّ على أن يبعثوا هذه الصرخة الأليمة جداً 00 ظلت الجثث العارية منطرحة وسط الأسواق والأزقة أياماً طويلة دون أن تُدفن ، فكانت منظراً أليماً جداً لمن شاهدوها ، وأصبح البعض أيضاً طعاماً للكلاب 00 والأسوأ من هذا تلك الأوبئة التي كانت تقضي على بيوت وعائلات برمتها 00 هكذا كان جزاء إفتخار مكسيميانوس ، وجزاء الإجراءات التي إتخذتها المدن ضدنا ، وعندئذ ظهرت لكل الوثنيين أدلة غيرة المسيحيين وتقواهم ، لأنهم وحدهم وسط تلك المصائب أظهروا عطفهم وإنسانيتهم بأعمالهم ، ففي كل يوم إستمر البعض في إظهار عنايتهم نحو الموتى ودفنهم 00 والآخرون كانوا يحملون في مكان واحد من عضتهم المجاعة بأنيابها في كل المدينة ويقدمون الطعام لهم جميعاً0 وهكذا أُذيعت بين الجميع هذه الأنباء فمجدوا إله المسيحيين ، وإذ إقتنعوا بالحقائق نفسها إعترفوا بأن المسيحيين هم الوحيدون الأتقياء والمتدينون ” (81)0
وكان ” دقلديانوس ” قد عيَّن بعض الولاة المشهورين بقسـاوة القلـب والتجبـر ، فعيَّـن ” أريانوس ” والياً لأنصنا ، و ” أرمانيوس ” والياً للإسكندرية ، و ” لومبيوس ” والياً للفرما ، وهلم جرا00 فظلوا في غيهم وظلمهم وقسوتهم وعجرفتهم بعد عصر دقلديانوس ، وإزدحمت مدينتنا العظمى بالآف الشهداء السكندرييـن أو الذيـن سيقـوا من خارج الإسكندرية ليقفوا أمام ” أرمانيوس ” الوالي الشرير ، وهكذا سيق الآلاف أيضاً إلى أنصنا ليمثلوا أمام ” أريانوس ” وهناك مدن ذهب إليها ” أريانوس ” فصار في كل بيتٍ منها شهيد أو أكثر ، وهوذا مدينتي ” أخميم ” و ” أسنا ” تقفان شاهدتان أمام التاريخ ، بل يقف التاريخ أمامهما طويلاً يقدم الإحترام والتوقير والتبجيل إكراماً لإبنائهما الأبطال الذين شهدوا للمسيح إلى النفس الأخير0
وإزاء شراسة الإضطهاد الذي أثاره ” دقلديانوس ” وأتباعـه ، وإذ أخذ السيف يعمل بلا هوادة ، خشى الشعب السكندري على الأب البطريرك ” قداسة البابا بطرس ” لئلا يمسه الإضطهاد ، ولشدة محبتهم له ضغطوا عليه لكيما يذهب إلى أرض فلسطين ، فرحل البابا وكان يراسل تلميذيه ” أرشيلاوس ” و ” ألكسندروس ” ، لكنه لم يقوى على إحتمال هـذا الفراق طويلاً ، فعاد إلى الديار المصرية ، وصار ” قداسـة البابا بطرس ” ينتقل من مكان إلى آخر ، ومن بلدة إلى أخرى يشجع أولاده على عبور محنة الإستشهاد ، فالسيف يحصد في أولاده يوماً فيوماً في طول البلاد وعرضها ، وقد تحوَّلت السجون إلى أماكن للعبادة والتسابيح والتهليل ، وروح الله يعمل في هذه النفوس المجاهدة فيهبها قوة وصبراً وإحتمالاً ومعونة0 والإستشهاد هو أقصر طريق للملكوت ، فصار البابا يُصبّر أولاده الذي سُلبت ممتلكاتهم ، فأي شهيد يتم إستشهاده تقوم الدولة على الفور بمصادرة ممتلكاته ، وتترك أسرته للعوز الشديد ، ولولا معاضدة ومساندة المؤمنين لهلك ألاف الأطفال جوعاً0
وتفنَّن الأشرار في وسائل تعذيب الأبرياء ، ومن هذه الوسائل ما يلي (82) :
السجن : في أماكن مظلمة رطبة ، حيث توثق الأيدي خلف الظهر ، وتضبط القدمان في المقطرة ، فيتعذر على الإنسان الجلوس أو النوم ، ولولا المعونة الإلهيَّة لانهار الآلاف ، ولكن بلا شك كانت هناك معونة إلهيَّة خفية سندت الشهداء حتى وصلت بهم إلى بر الملكوت0
العمل في المناجم : في ظروف قاسية للغاية تحت شمس الصحراء اللافحة ، ولهيب السياط ، ومن الذين سيقوا للعمل في المناجم بعض المعترفين الذين تعرضت إحدى أطرافهم للبتر ، فيعملون ويبذلون جهداً أكبر من طاقتهم جداً جداً ولا يجدن قوت يومهم ولا كأس الماء الذي يروي ظمأهم ، فمات منهم الكثيرون الذين عدتهم الكنيسة في رتبة الشهداء0
إجبار البعض على لبس أحذية تبرز منها أسنان مسامير ، كما حدث مع مار جرجس0
التعليق في الهواء : من يد واحدة أو رجل واحدة0
نزع الأظافر ، وسحق الأعضاء ، حتى تبرز العظام من خلال اللحم المهراء0
السحل : على الأرض فتسيل الدماء لتروي الأرض كما حدث مع مار مرقس0
الإلقاء في بحيرات الثلج حتى الموت ، كما حدث مع الأربعين شهيداً بسبسطه0
سلخ الجلد : وترك الإنسان ليموت موتاً بطيئاً0
العصر بالهنبازين : والهنبازين عبارة عن دولاب يتحرك نصفه العلوي في إتجاه عكسي لنصفه الأسفل الذي تبرز منه سكاكين حادة تشرح جسد الشهيد0
الزيت المغلي ، والقار المغلي ، والرصاص السائل0
تعذيب الإنسان حتى يقارب الموت ، ثم يُدفن حيَّاً0
الغرق : ربط حجر طاحونة في رقبة الإنسان وربط يديه وإلقاءه في البحر0
الحرق : شوي الجسد على نار هادئة أو ربط الشهيد في سرير حديد وإشعال النيران أسفله0
تغطية بعض أعضاء الجسم بقطعة كتان مبللة بالزيت وإشعال النيران فيها فيذوب الشحم ويتساقط كالشمع0
بتر بعض الأعضاء0
فقأ إحدى العينين أو كليهما0
الضرب بالسيف أو الفأس ، وهذه أسهل الميتات جميعاً0
الصلب وهي أصعب الميتات0
الإلقاء للحيوانات المفترسة0
الحرق الجماعي للرجال والنساء والأطفال والشيوخ0
وأترك المؤرخ الكبير ” يوسابيوس القيصري ” كشاهد عيان ليحكي لنا القليل عن قسوة الإضطهادات :
” إنه ليعسر على الكاتب الماهر أن يصف مقدار ما تجرعه الشهداء في مصر من ألوان العذابات القاسية والآلام التي تشيب من ذكرها النواصي0 فقد كانوا يأتون بأولئك الشهداء ويشقون بالخناجر أجسادهم ، ويروحون ينزعون عنها الجلد عضواً عضواً حتى تُزهق الروح 0 أما النساء فقد كانت تُربط الواحدة منهن من إحدى قدميها وتُرفع في الهواء بآلة مخصصة لذلك ، وتظل معلقة هكذا بصورة تنفر منها الإنسانية حتى تزهق روحها0 وكانوا يقربون غصنين قويين من شجرتين متقاربتين بآلة صنعوها لهذا الغرض ، ثم يجيئون بالشهيد ويربطونه بهذين الغصنين ، ثم يتركونهما ليعودوا إلى وضعهما الأول ، والشهيد بينهما تتمزق أضلاعه وتُسحق عظامه سحقاً فتتطاير أشلاء جسمه في الفضاء0 وقد كانت هذه الفظائع تستمر أعواماً طويلة ، وكثيراً ما كان يصدر حكم بقتل عشرة أشخاص في لحظة واحـدة ، وأحياناً بقتل عشرين مرة واحدة ، وأحياناً ثلاثين ، وأحياناً ستين0 وقد حكموا مرة على مائة رجل بالموت فماتوا في يوم واحد مع زوجاتهم وأولادهم الصغار ، بعد أن ذاقوا من العذابات ما تقشعر منه الأبدان ” (83)0
وفي حديث ” يوسابيوس القيصري ” عن شهداء مصر يقول ” مات ميتات مختلفة ألوف من الرجال والنساء والأطفال ، محتقرين الحياة الحاضرة من أجل تعاليم مخلصنا0 فالبعض أُلقوا في النيران 00 وأنواع لا عدد لها من التعذيب بطريقة تقشعر لها الأبدان حتى من مجرد سماعها0 والبعض أُغرقوا في البحر ، والبعض قدموا رؤوسهم بشجاعة لمن قطعوها ، والبعض ماتوا تحت أيدي معذبيهم ، والآخرون هلكوا جوعاً وآخرون صُلبوا بعضهم بالطريقة المعتادة لصلب المجرمين ، والآخرون بطريقة أشنع إذ كانوا يُسمرون على الصليب ورؤوسهم منكسة إلى أسفل ، ويتركون أحياء على الصليب حتى يموتوا جوعاً ” (84)0
كما يقول أيضاً ” وقد شاهدت بعيني بينما كنت واقفاً بقرب النطع جمعاً غفيراً من المسيحيين جُمعوا لينالوا الشهادة ولكن بطرق مختلفة ، فكان بعضهم تجز رؤوسهم وبعضهم يحرقون في آتون النار المتقدة حتى أن السيف الذي كانت تُقطع به الرؤوس تلم وكلَّ حده وتحطم تحطيماً لكثرة ما سحق من الرقاب ، وكذلك السيافون تعبوا وخارت قواهم من ذبح الآدميين ، فكانوا يستريحون هنيهة ريثما يتنفسون الصعداء 00 إننا نحن شهود عدل على ما شاهدناه بأعيينا من الغيرة الخارقة ، والقوة الإلهيَّة الصحيحة والفرح في الروح القدس الذي ملأ قلوب هؤلاء الذين يؤمنون بالمسيح إبن الله إيماناً متيناً جعلهم يتقبلون الموت بصدور منشرحة وثغور باسمة ، حتى أنه عندما كان يصدر الحكم على واحد منهم بالإعدام كان الآخرون يندفعون من كل حدب مزدحمين في المحكمة أمام القاضي معترفين له بأنهم مسيحيين غير مبالين بما يلحق بهم من عذابات مريعة وإضطهادات شنيعة ، بل كانوا يجاهرون بكل صراحة وشجاعة بديانتهم الحقيقية التي تعلّم بوجود إله واحد عظيم خالق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها0 ومن العجيب أنه عندما يصدر الحكم النهائي بموتهم ، كانوا يقابلون هذا الحكم بفرح وتهليل ، حتى أنهم كانوا يرنمون ويرتلون أغاني الحمد والشكر لله الذي آهلهم لأن يموتوا لأجله ، وكانوا يظلون يفرحون ويطربون إلى آخر نسمة من حياتهم عندما تفارق أرواحهم أجسادهم ” (85)0
ويقول ” يوسابيوس القيصري ” أيضاً عن هذه العذابات البشعة ” وكانوا يقطعون أصابع المسيحيين بالحديد المحمي بالنار ، وينزعون جفونهم ويحرقون عيونهم ، حتى إذا صمد الشهيد وإحتمل كل تلك الآلام ، قادوه رغماً عنه إلى مذبح الآلهة ووضعوا النار والبخور فوق يديه ، وأعتبروه جاحداً للإيمان ، ثم ألقوا به وهو شبه ميت إلى الوحوش تلتهمه ، فإذا جاهر أحد المسيحيين بإيمانه ضربوه على فمه وأجبروه على الصمت0 فإذا صمت أعتبروه مستسلماً وخاضعاً وأعتبروا أنفسهم منتصرين عليه ، وقد حاول رجال الشرطة أن يبذروا الشك في قلوب المسيحيين بوسائل شتى ، فكانوا مثلاً يقبضون على أحد الكهنة ويسجنونه بضعة أيام ، ثم يطلقون سراحه معلنين أنه قد جحد إيمانه وخضع لأوامر الحكام ، وكانوا بين الحين والحين ينفذون حكم الإعدام في جماعات عظيمة من الأقباط ليلقوا الفزع والرعب في قلوب الآخرين المتمسكين بإيمانهم ، وكانوا يخترعون أنواعاً عديدة من العذاب ليجعلوا موت المؤمنين أقسى ألماً وأبشع وأشنع عذاباً ” (86)0
وحدث في الإسكندرية أنه ” أُقتيد أحد المؤمنين الغيورين وإسمه ” أغابيوس ” إلى ساحة الإستشهاد ، وقدموه إلى الوحوش الضارية مع ” القديسة تكلا ” ، لمجرد العرض المسرحي ، ثم سحبوه ، ثم أعادوه إلى هذا العرض مرة ثانية ثم سجنوه ، وفي المرة التالية كان الإمبراطور حاضراً فأتوا بالقديس ، فدخل إلى الساحة أحد المجرمين الذي كان قد قتل سيده ، وقبل إلقائهما إلى الوحوش تراءف الإمبراطور على القاتل ، قائلاً : أنه جدير بالرحمة والعطـف ، فدوَّت الساحة بالتهليل والهتاف للعفو عن القاتل0 وأما ” أغابيوس ” المتمسك بعقيدته فقد أُقتيد أمام الإمبراطور ، فطلب منه أن يجحد إيمانه حتى ينال حريته ، فأجابه ” أغابيوس ” قائلاً :
إنني لا أُحاكم من أجل جريمة إرتكبتها ، بل من أجل إيماني بدين الإله الحقيقي للعالم ، ولذلك فأنني سأحتمل بكل شجاعة كل العذاب الذي سيلحق بي 00
وقد ألقى الحكام الوثنيون القبض على شاب آخر جاهر بمسيحيته ، فانهال عليه الجنود ضرباً ، ثم ألقوه في السجن مقيَّداً بالأغلال الحديدية 0 وعندما جئ به أمام الحاكم طلب منه أن يقدم الذبائح للآلهة فرفض ، فمزقوا لحمه حتى ظهر عظامه وتشوه وجهه من اللكمات والضربات التي إنهالت عليه0 وإذ إستمر في إيمانه بعد هذا كله ربطوا قدميه بلفائف مبللة بالزيت ثم أشعلوا فيه النار0 وبعد أن إحترق ألقوا ما تبقى منه في البحر ” (87)0
لقد كانت الوحوش المفترسة أحياناً أرحم من هؤلاء الأباطرة ، ويحكي ” يوسابيوسالقيصري ” بعض المشاهد عن المؤمنين الذي تم جلدهم قبل أن يُلقوا للوحوش ليستثيروا غريزة الإفتراس لديها فيقول ” ونحن أنفسنا كنا حاضرين عندما تمت هذه الحوادث ، ودوَّنا قوة مخلصنا يسوع المسيح الإلهيَّة التي تجلت 00 ظلت الوحوش الملتهمة البشر وقتاً طويلاً لا تتجاسر على أن تلمس أو تقترب من أجساد أعزاء الله هؤلاء 00 لم تجرؤ قط أن تمس الأبطال المباركين وهم واقفون وحدهم عرايا 00 كلما هجمت عليهم كانت تقف وتتراجع وكأن قوة إلهيَّة قد صدتها0 ظل هذا وقتاً طويلاً وأحدث دهشة كبيرة للمتفرجين ، وعندما كان الوحش الأول لا يفعل شيئاً كان يطلق سراح وحش ثان وثالث ضد نفس الشهيد الواحد0
ولم يكن المرء يتمالك نفسه من الدهشة أما الثبات الذي لا يُقهر الذي أبداه هؤلاء المباركون 00 فكنت ترى شاباً لم يكمل بعد السنة الثانية والعشرين واقفاً غير مُوثَق وباسطاً يديه على شكل صليب ، بعقل غير متخوف أو غير مرتعب ، منشغلاً في صلاة حارة لله ، دون أن يتراجـع على الإطلاق عن المكان الذي وقف فيه ، بينما تكاد النمور والدبب تلمس جسده وهي تنفث تهديداً وقتلاً 00 وكنت ترى آخرين – كانوا خمسة – طُرحوا أمام ثور بري كان يقذف في الهواء بقرنيه كل من إقترب إليه من الخارج ويمزقه ويتركه بين حي وميت ، ولكنه عندما هجم بوحشية على الشهداء الأطهار ، وكانوا واقفين وحدهم ، لم يستطع أن يقترب منهم ، ورغم أنه رفس بقدميه أو بهز بقرنيه في كل جهة ونفث تهديداً وقتلاً بسبب تهيجه من الحديد المحمي الذي كان يُنخس به ، فقد تراجع إلى الوراء بقوة إلهيَّة ، وإذ لم يلحق بهم أي أذى أطلقوا عليهم وحوشاً أخرى 0 وأخيراً وبعد هذه الهجمات المروعة عليهم ، قُتلوا جميعاً بالسيف ، وبدلاً من دفنهم في الأرض طُرحوا في أعماق البحر ” (88)0
ويحكي ” يوسابيوس القيصري ” أيضاً عن يأس الحكام من صمود المسيحيين فبدأوا يكتفون بقلع عيونهم فيقول ” ولكنهم في ختام هذه المصائب ، لما عجزوا نهائياً عن تدبير أنواع من القسوة أشد ، ووهنت قواهم في تنفيذ أحكام الموت ، وشبعوا بل بشموا من سفك الدماء ، تحوَّلوا إلى معاملة إعتبروها رحمة وإنسانية ، وهي أنهم تظاهروا بأنهم كفوا عن أن يدبروا أهوالاً ضدنا0 لأنهم قالوا أنه لا يليق أن تتلطخ المدن بدماء شعبهم ، أو أن تشوَّه سمعة حكومتهم 00 لذلك أمروا بقلع عيوننا وجدع أحد أطرافنا ، وأُعتبرت هذه في نظرهم شفقة 00 يستحيل التحدث عن العدد الذي لا يُحصى ممن فقئت عيونهم ، أولاً بالسيف ، ثم كويت بالنار 00 وفي كل هذا النضال أضاء شهداء المسيح النبلاء العالم كله ، وأذهلوا في كل مكان من شهد ببسالتهم ، وقد تجلت فيهم أدلة قوة مخلصنا الحقيقية الإلهيَّة التي لا يعبر عنها ” (89)
وبينما جرت الإضطهادات من جانب الحكام والولاة والأباطرة ، فإن الكنيسة لم تكف عن مساندة الشهداء والإهتمام بأسرهم ، وجاء كوكب البرية ” الأنبا أنطونيوس ” ( سنة 311م ) من الصحراء الشرقية إلى مدينة الإسكندرية ، فقد كان يشتهي الإستشهاد ، فأخذ يزور السجون ويعظ المسجونين ، ويحدثهم عن زوال العالم سريعاً ومجده الباطل من جانب ، ومن الجانب الآخر يحدثهم عن أمجاد السماء وسمو الإستشهاد وسعادة ومجد وعظمة وكرامة الشهداء ، وبهذا كان يشجعهم على نوال أكاليل الشهادة ، ويشاركهم الصلاة والتسابيح ، ويحضر معهم المحاكمات ، ولا يكف عن مساندتهم 0 وفي إحدى المرات لبس ثوباً أبيض وإعتلى رابية كان الحاكم مزمعاً أن يمر بها ، معلناً مسيحيته0 أما الحاكم فأُعجب بشهامته ونظر إليه بإحترام وتركه وعبر0
(70) معالي حسين محمد علي – رسالة ماجستير – الإمبراطور دقلديانوس ( 284 – 305م ) ص 76 ، 77
(71) القمص مكسيموس وصفي – القديس موريس والكتيبة الطبية ص 11 ، 12
(72) راجع منيرة محمد الهمشري – النظام الإداري والإقتصادي في عهد دقلديانوس 284 – 305م ص 64
(73) راجع معالي حسين محمد علي – رسالة ماجستير – الإمبراطور دقلديانوس 284 – 305م
(74) يوحنا النفيوسي ص 418 ، 419 – كامل صالح نخلة – حياة البابا بطرس الأول خاتم الشهداء ص 19 ، 20
أيها المصلح لماذا؟! ف9 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
أيها المصلح لماذا؟! ف9 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل التاسع : أيها المُصلح 00 لماذا ؟!
إحتفلت الكنيسة بأعياد الظهور الإلهي ، الميلاد والختان والغطاس ، وتركزت عظات ” قداسة البابا بطرس ” في شرح عقيدة الثالوث القدوس ، والرد على كـل الشكوك التي أثارها أريوس ، وإستفاض أبونا المحبوب بطرس في الحديث عن الظهور الإلهي للأقانيم الثلاثة في قداس عيد الغطـاس ( 19 يناير سنة 303م )0
وفي يوم عيد الغطاس كانت فرصة لقاء طيبة للأصدقاء ، إذ سمحت الظروف بتواجد ” ديمتري ” ، الذي إستضاف أصدقائه الأحباء ، ” أرشيلاوس ” و ” الكسندروس ” و” ميناس ” ، وإذ كانت أسرة ديمتري ميسورة الحال ، وقد نالت أمه وأخواته الصبغة المقدَّسة بيد المتنيح أبونا ثيؤدوسيوس والد قداسة البابا بطرس ، صارت ” سوسنا ” والدة ديمتري إنسانــة تقيــة تصنع إحسانات كثيـرة للفقراء ، وصارت أخواتـه ” راحيل ” و ” دينة ” و ” ميراب ” خادمـات فضليـات فـي كاتدرائيـة الألف عمود 0 أما ” ديمتري ” فقد ظل كما هو ، لا هو يهودي ، ولا هو مسيحي ، والأمر العجيب أن الأصدقاء يعاملونه بكل حب وإخاء ، بالرغم من أنه يقف في محطة وسط بين اليهودية والمسيحية ، فمازال عقله يقف بمقابله : ” يهوه يصير عبداً ! 00 يهوه يُضرب ويُهان ويُصلب ويموت !! ” 00 كان الأصدقاء يوقنون أن الله لن يتخلى عن ديمتري الإنسان المُحب المُخلص الصادق الأمين ، وكما إعتاد الأصدقاء أن يجري الحديث بينهم بلا عائق ، وتتواصل الأفكار بلامانع ، فهذه قلوب عامرة بالمحبة تستأنس لبعضها البعض0
ديمتري : إننـي أعيش قول بولس الرسول لأهل روميا عن اليهود ” فإنهم إصطدموا بحجر الصدمة0 كما هو مكتوب ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة ” ( رو 9 : 32 ، 33 )0
الكسندروس : ولماذا لا تكمل القول ” وكل من يؤمن به لا يخزى ” ( رو 9 : 33 )0
ديمتري : نعـم كل من يؤمن !! 00 لكنني للآن لا أستطيع أن أؤمن ، أفلا ينطبق عليَّ قول الرسول بولس لأهل كورنثيوس ” نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة ” ( 1كو 1 : 23 )0
الكسندروس : وأيضاً أكمل الرسول قوله ” وأما للمدعوّين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله ” ( 1 كو 1 : 24 ) وقال لأهل رومية عن اليهود ” فأقول ” ألعل الله رفض شعبه ؟ حاشا0 لأني أنا أيضاً إسرائيلي 00 لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعينه ” ( رو 11 : 1 ، 2 )0
ديمتري : ولكن ماذا أعمل لو كنت لستُ من المعينين المختارين لملكوت السموات ؟ هل أذهب للجحيم ؟ 00 أمي وأخواتي الذي أحبهم يذهبون لمكان السعادة وأنا لمكان الشقاء ؟! 00 هل جاء المسيح ليصنع إنشقاقاً في الأسرة المتآلفة المتحابة ؟!!
السكندروس : الله لم يعين مجموعة للملكوت وأخرى لجهنم النار ، ولكن الله بعلمه السابق يعلم الذين سيقبلوه ويسلكون في وصاياه ، فعينهم للملكوت ، وبعلمه السابق أيضاً يعلم الذين سيرفضونه فهؤلاء ليس لهم نصيب في ملكوته0
ديمتري : لكنني لم أرفضه 0 فقط عقلي يقف مقابلي حجر عثرة في طريق إيماني 00 فماذا أفعل ؟
ألكسندروس : إطمئن ياديمتري ، فإن لكل شئ تحت السماء وقت 00 سيأتي الوقت الذي تؤمن فيه ، ويكون إيمانك عظيماً ، فإن الله ليس بظالم حتى ينسى تعبك ومحبتك وصدقك وأمانتك ، ولن ينسى الله صلوات أمك عنك وطلبتها بأن يضمك المصلوب إلى أحضانه ، وأيضاً أنت بالنسبة لنا أخ محبوب من أجل الآباء كقول معلمنا بولس الرسول عن اليهود ” من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم0 وأما من جهة الإختيار فهم أحباء من أجل الآباء 0 لأن هبات الله ودعوته بلا ندامة ” ( رو 11 : 28 ، 29 ) 00 ونحن لسنا ننكر أننا مدينون لليهود الذين حفظوا لنا أقوال الوحي الإلهي ” إذاً ما هو فضل اليهودي أو ما هو نفع الختان0 كثير على كل وجه0 أما أولاً فلأنهم إستؤمنوا على أقوال الله ” ( رو 3 : 1 ، 2 ) 0
ديمتري : كنت أشعر أن والدي رغم أنه لم يكن متديناً ، ورغم محبته الكبيرة لنا ، فأنه كان يوقر ويحترم ويهاب ويقدس الرقوق المقدَّسة ، وأنه على إستعداد أن يضحي بنا ولا يضحي بهذه الأسفار المقدَّسة 00
أرشيلاوس : ما هي أخبار دراستك وأبحاثك ياأبو التاريخ ؟
ميناس : بعد أن إنتهيت من دراسة تاريخ الإسكندرية في العصر اليوناني ، كما حكيت لكم من قبل عن نهاية عصر حسن وبداية عصر سئ ، نهاية العصر الإغريقي ( اليوناني ) حيث كانت خيرات مصر لمصر ، وبداية العصر الروماني ، حيث تنهب روما خيرات بلادنا وتُثقل كاهلنا بالضرائب الباهظة المتعددة وتعاملنا كعبيد 00 بدأتُ الآن في دراسة التاريخ الحديث المعاصر ، فالإمبراطور ” دقلديانوس ” يبذل جهود مضنية للإصلاح ، والكنيسة بلاشك لا تكف عن الصلاة من أجله ، ولا أحد ينكر أننا نتمتع بالسلام الجزيل في هذا العهد المبارك ، وقد جفت أنهار الدماء التي روت أرض مصر0
أرشيلاوس : وهل عرفت آخر الأخبار ياأخ ميناس ؟
ميناس : وما هي ياأرشي ؟
أرشيلاوس : هذه الأخبار لا يمكن أن تخفى عن دارس مدقق وباحث ضليع في التاريخ الحديث مثلك ياميناس 00 إن دقلديانوس أوشك على تغيير سياسته نحونا 180 درجة0
ديمتري : سمعت هذا وحزنت جداً ، الرجل الذي ترك لنا الحرية الدينية ، حتى إرتفع شأن المسيحيين في كل المسكونة نحو عشرين عاماً ، يعود إلى أفعال الأباطرة البشعة 00 سمعت أن جاليريوس هو الذي يغريه لإضطهادنا0
ياأخ ميناس 00 ما هو تقييّمك لهذا الرجل الذي تفتخر به ؟
ميناس : قبل أن نقيَّم دقلديانوس دعونا نُلقي الضوء قليلاً على الأوضاع التي كانت سائدة في مصر قبل حكمه ، فإن الإمبراطورية الرومانية ، أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ قوة وإتساعاً ، قد شهدت في القرن الثالث إضطرابات وقلاقل كثيرة ، فمثلاً في سنة 240م إخترقت جماعات البربر حدود الإمبراطورية من الغرب ، فغارت على غالة ( سويسرا وفرنسا ) ، ، وفي سنة 251م زحف القوطيون من الشمال إلى شبـه جزيرة البلقان وقتلـوا الإمبراطور ” ديكيوس ” ، وفي سنة 260م هاجم الفرس الحدود الشرقية وإستولوا على بارثيا وأسروا الإمبراطور ” فاليريان ” ( 253 – 260م ) ، وفي سنة 282م جاء الجرمانيون من الشمال ، وهم قوم يتميزون بقوة البنية والعيـون الزرقاء اللامعة ، والشعــر الأحمر ، وأغـاروا على حـدود الإمبراطورية ، وأخيـراً إستطاع ” كاروسوس ” ( 287 – 296م ) قائـد الأسطول الإستقلال بإنجلترا ، وعمت القلاقل أنطاكية فتصدى لها دقلديانوس إمبراطور المشرق ، وكذلك شمال أفريقيا فتصدى لها ماكسيميان إمبراطور الغرب ، وفي مارس 297م هزم ” نارسيس ” ملك الفرس بجيشه العرمرم الروم ، وإستولى على ولاية ما بين النهرين حتى إستعادها ” جاليويوس ” في مايو 298م ، وتزايد الصراع على عرش روما لدرجة أنه خلال القرن الثالث تولى العرش ستة وعشرون إمبراطوراً ، أُغتيل منهم خمسة وعشرين ، وكان من النادر أن يحتفظ أحد الأباطرة بالعرش لمدة عشر سنوات0 أما ” السناتو ” ( مجلس الشيوخ ) فقد تعرَّض للضعف فـي عهد الإمبراطور ” كاروس ” Carus ( 282 – 284م ) وبعد أن كان ” السناتو ” هو الذي ينعم على الأباطرة بالإمبيريوم Imperum ( سلطة قيادة الجيوش ) صارت السلطة للجيش ، فالجيش هو الذي يُنصّب الإمبراطور ، وهو الذي يعزله أو يغتاله ، أما ” السناتو ” فصار أشبه بمجلس البلدية الذي يجمع أغنياء روما ووجهاءها ، بل أن الجيش نفسه تعرَّض للضعف ، بسبب كثرة الحروب من جانب ، ومن جانب آخر سمح لمن لا يريد أن يلتحق بالجيش من الشباب أن يدفع ” البدل ” وهو مبلغ من المال مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية 0 هذا من الناحية السياسية0
أما من الناحية الإقتصادية ، فقد أصاب الكساد الزراعة بسبب كثرة الحروب ، وبسبب الضرائب الباهظة ، فانتشرت ظاهرة ” الأناخوريسيس ” Anachoresis أي هروب الفلاحين من زراعة الأرض ، فيتركون ذويهـم وأراضيهم وينزون في أحد المدن البعيدة ، حتى يفلتوا من الضرائب الباهظة الكثيرة والمتشعبة ، فالضرائب تُفرض على الغلال مثل القمح والشعير ، وعلى التبن ، وعلى الكتان ، والفواكه والخضروات ، والنبيذ ، واللحوم ، وعلى الأشخاص ( ضريبة الرأس ) من سنة 14 إلى 60 سنة ، وعلى البيع والتجارة ، وعلى الوظائف والحرف والخدمات مثل النقل ، وعلى حركة البضائع ، وحركـة الأفراد ، والممتلكات ، والرهونات ، وعلى كل شئ ، وبنسبة غير محددة ، حتى أن أحد الولاة لكيما يسر قلب الإمبراطور زاد من الأعباء الضريبية ، وعندما أرسل الحصيلة إلى الإمبراطور بكته قائلاً : ” لقد كان مرادي أن تجز صوف غنمي لا أن تسلخها ” (60)0
وبالإضافة للضرائب فهناك ” الخدمات الإلزامية ” Leitourgia أي ” العمل من أجل الشعب ” فيكلف الأشخاص بأعمال إلزامية مجاناً ، فمثلاً كل شخص عليه أن يعمل خمسة أيام في تطهير الترع والقنوات بلا مقابل ، ويحصل على شهادة تثبت إتمام هذه الخدمة وإلاَّ تعرَّض للمسائلة الشديدة ، ويكلَّف أحد الأشخاص الأغنياء بوظيفة ” السينولوجوس ” أي المسئول عن تجميع الضرائب العينية بلا مقابل ، بل أن الغلال التي يجمعها هو مسئول عن شحنها للإسكندرية توطئة لشحنها إلى روما ، وهو مسئول عن سد أي عجز يحدث في الكمية المتوقعة ، حتى لو بعد إنتهاء مدة تكليفه ، وإن أراد هذا الشخص الذي تم إختياره لتجميع الضرائب إعفاءه من هذه المهمة الثقيلة ، لا يُعفى إلاَّ إذا تنازل عن أمواله وممتلكاته ، وكثيرون كان يفضلون هذا ، وعندما كان يهرب أحد الفلاحين تاركاً أرضه بدون زراعة تتعرَّض أسرته للضرب والتعذيب الذي يصل إلى حد القتل للإرشاد عنه ، بل أن الدولة ترصد مكافآت مالية لمن يرشد عن هؤلاء الفلاحين الهاربين ، وأيضاً يُعاقب أهل قريته فيُلزمون بزراعة أرض الفلاح الهارب وتسديد الضرائب عنها ، فكل إهتمام روما زراعة كل شبر لكيما تضمن وصول القمح مجاناً إليها ، فمصر هي الضيعة الرومانية ، والبقرة الحلوب التي يُستدَر لبنها حتى الإستنذاف ، والشعب المصري هم سخرة لروما ، وما يقدمه المصريون للرومان من ضرائب عينية ومالية هي خطوط حمراء لا يمكن المساس بها0
وأيضاً أصاب الكساد التجارة بسبب غزوات البرابرة ، وإنتشار أعمال القراصنة الذين يسطون على سفن البضائع وسفن الركاب ، فيأسرون الأشراف ، ويبيعونهم عبيد ، فأسواق الرقيق الأبيض يُعرَّض فيها عشرات الألوف من هؤلاء التعيسي الحظ ، الذين ساقتهم أقدارهم لفقدان أسرهم وذويهم إلى الأبد ، وسلبت منهم حرياتهم فصاروا أشياء تُباع وتُشترى ، والضيع الرومانية المتسعة إستوعبت أعداداً ضخمة منهم في أعمال الزراعة ، والبعض أُرسلوا للعمل في المناجم في ظروف قاسية للغاية ، ويكاد لا يخلو بيت من وجود العبيد ، حتى أن عدد العبيد في روما يفوق جداً عدد الأحرار فيها ، وأُستغل بعضهم في التعليم وإدارة أعمال سادتهم ، بينما عمل الآخرون كالدواب في إدارة الطواحين ، وقد عُلّقت الأجراس بأقدامهم حتى لا يتوقفوا عن العمل ، وتشوَّهت أجسادهم من ضربات الشيطان أقصد ضرباب السياط ، فحينما لا يوجد المسيح توجد كل قسوة وتجبر ، وسعداء هم العبيد الذي يعيشون في بيت من بيوت المسيحيين ، يشاركونهم الصلوات ويتمتعون بمحبتهم ورحمتهم وكأنهم أعضاء في البيت الواحد0
ومن الناحية المالية لم تجد الإمبراطورية الرومانية كفايتها من المعادن التي تُسبك منها العملات الذهبية والفضية والنحاسية ، فلجأت للتزييف ، فخلطت العملات الذهبية بنسبة أكبر من الفضة ، والعملات الفضية بنسبة أكبر من النحاس ، حتى وصلت نسبة الفضة في عهد ” أوريليان ” ( 270 – 274م ) إلى 5 % من وزن العملة الفضية ، وخلطت العملات النحاسية بالرصاص ، فقلت قيمة العملة وإرتفعت الأسعار إرتفاعاً جنونياً ، وحدث تضخم كبير ، مما أدى إلى فقدان السلام ، وإنتشار الفقر والأوبئة ، بالإضافة للحروب والقلاقل وشر القراصنة ، وقد عبّر ” برونوس ” كاتب سيرة الإمبراطور ” نومريانوس ” ( 276 – 282 م ) عن حلمه في مستقبل يسوده السلام والرخاء فقال عن ذلك العصر :
” لن يُحتاج إلى جنود ، وكذلك قريباً لن يكون هناك جنود رومان0
سوف تسود الدولة ( الرومانية ) في كل مكان ، وتحكم الجميع في أمان0
لن يصنع أحد أسلحة ولن يجهز المؤن0
سوف تحفظ الثيران لحرث الأرض ، ستُربى الخيول لأغراض السلام0
لن تكون هناك حروب ولا أسرى0
سوف يسود السلام في كل مكان ، وسيكون قضاة منا في كل مكان ” (61)0
بينما كتب أحد الأشخاص الذي يعيش في قلق دائم بسبب الخدمات الإلزامية ، فقال :
” هل سأبقى تحت ثقل الضغوط ؟!
هل ستصادر أموالي ؟!
عل ستُباع أملاكي في المزاد العلني ؟!
هل سأستطيع الحصول على أموال ؟!
هل سأكلف بالسفارة ؟! وهل سأصبح عضوا في المجلس البلدي ؟
فواضح أن أي شخص ميسور الحال حينذاك كان يتوقع أي كارثة تحل به ، كأن يُنتدب للسفارة ، أو يُختار عضواً في المجلس البلدي ، أو تُصادر أملاكه وتُباع بالمزاد العلني 00 إلخ0
أرشيلاوس : يبدو ياأخ ميناس أنك لم تكتفِ بالتخصص في التاريخ الحديث ، ولكنك صرت أيضاً خبيراً في الأمور الإقتصادية والمالية 00 على كلٍ لنستمع إلى تقيّمك للإمبراطور دقلديانوس 0
ميناس : ليكن كقولك ياأرشيلاوس 00
وُلِد ” دياكلس ” Diocles في 22 فبراير سنة 245م في مدينة ” سالونا ” بولاية ” دالمتيا ” بإقليم ” إيلليريا ” المُطل على البحر الأدرياني ( غرب كرواتيا ) وكان والده يعمل كاتباً لدى السيناتور الروماني ” انوللينوس ” Anulinus ، وإلتحق بالجيش الروماني في طبقة الفرسان ، فوصل إلى رتبة ” دوق ” ( أي قائد فرسان ) ثم أصبح قائداً لقوات الحرس الإمبراطوري ، ورغم أنه لم يكن قائداً عسكرياً فذاً ، لكنه كان سياسياً مُحنكاً واسع الأفق ، له مواهبه في شئون الإدارة والسياسة ، وفي خريف سنة 284م إستطاع الوصـول إلـى عرش رومـا ، فقيل (63) أنه عندما مات ” نومريانوس ” في خلقيدونية بعد عودتـه من حرب الفرس ، دبر ” دقلديانوس ” حيلة محبوكة ، فإستطاع الحصول على تصديق من قواد الجيش لإنتخابه إمبراطوراً ، وعندما خشى من رجلاً كان أحق منه بالكرسي الإمبراطوري ، أمر بالقبض عليه ، فأحضروه أمامه مقيداً بالسلاسل والأغلال ، فلم يحقق معه ، بل إتهمه بأنه هو الذي قتل الإمبراطور ” نومريانوس ” ولم يقدمه للمحاكمة ، إنما أطاح بكل التقاليد والأعـراف الرومانية ، وفعل ما لم يفعله إمبراطوراً قبله ، إذ جرد سيفه وأطاح برأس الرجل البرئ0
وعندما تولى دقلديانوس الحكم سنة 284م قام بإصلاحات جوهرية سياسية ، وإدارية ، وعسكرية ، ومالية وضريبية(64) :
فبالنسبة للإصلاح السياسي إختار دقلديانوس شريكاً له في الحكم ، وهو ” مكسيميان ” Maximian الذي كثيراً ما شاركه في المعارك الحربية ، فكان كل منهما يسعف الآخر ، فصار ” دقلديانوس ” مسئولاً عن الشرق ، و ” مكسيميان ” مسئولاً عن الغرب ، ومكسيميان أكبر من دقلديانوس سناً فولد نحو سنة 240م ونشأ في أسرة قروية بجانب مدينة ” سرميوم ” Sirmium ( بلجراد ) ولم يتلقى إلاَّ القليل من التعليم ، ولكن كان له قدرة عسكرية فذة ، ومنح دقلديانوس مكسيميان رتبة ” قيصر ” وهذه الرتبة لا تعطه إمتيازات دستوريـة وتشريعيـة ، ولذلك رقــاه إلى رتبة ” أغسطس ” أي ” المهيب ” أو ” المختـار بحسـن الطالع ” وهو لقب إلهي ، وكان ” مكسيميان ” يميل للقسوة والإفراط في إستخدام القوة ، يميل للخرافات ، ويعتقد بالسحر ، حتى أنه كان يفتح بطون الحبالى ، ويقدم ضحايا بشرية للشياطين ، وظل ماكسيميان وفياً لدقلديانوس رفيق السلام0 وفي سنة 293م عيَّن دقلديانوس ” جاليريوس ” Galerius زوج إبنته ” فاليريا ” Valeria مساعداً له في الحكم برتبة ” قيصر ” ، كما عيَّن ” قنسطنطينيوس ” Canstantius زوج ” ثيودورا ” Theodora إبنـة ماكسيميان مساعداً لماكسيميان برتبة ” قيصر ” ، وبذلك تغلب دقلديانوس على مشكلة من أهم المشاكل التي كانت تقابل الأباطرة ، وهي إغتيالهم ، فجعل المسئولين عن الحكم أربعة أشخاص ، حتى إذا أُغتيل واحد منهم يظل في الحكم ثلاثة آخرون يقتصـون مـن الجناة ، وكان ” قنسطنطينوس ” إبن ” يتروبيوس ” Eutropius من الأشراف ، وأمه إبنة أخت الإمبراطور ” كلاوديوس ” Claudius ( 268 – 270م ) وقد تميز بالخلق الرفيع والطبع الهادئ الرقيق ، فكان أفضلهم جميعاً ، فأحب الجميع وعاملهم بالحسنى ، ومنح حرية العبادة للمسيحيين ، ولم يستخدم أي قسوة معهـم ، ولم يضطهدهم ، ولم يصادر أملاكهـم ، إنمــا طلب منهم أن يصلوا من أجله ومن أجل حكومته (65) ، وقال عنه ” يوسابيوس القيصري ” : ” كان كل أيام حياته رحيماً برعاياه ومحباً للكلمة الإلهيَّة 00 كان أرق إمبراطور ، وأكثرهم شفقة ورحمة0 كان هو الوحيد بين أباطرة عصرنا الذي قضى كل وقت حكمه بكيفية تتناسب مع مركزه0 وعلاوة على هذا فقد تصرف مع الجميع بكل رقة وصلاح ، ولم يشهر ضدنا أقل حرب ، بل حفظ الأتقياء الذين كانوا تحت إدارته دون أن يمسهم أقل أذى0 لم يهدم أبنية الكنائس ولا دبر أي شئ آخر ضدنا ، وكانت خاتمة حياته مكرَّمة ، ومثلثة الطوبى ، فهو الوحيد الذي ترك الإمبراطورية في حالة سعيدة ومجيدة لإبنه خليفة له “(66)0
وتولى ” دقلديانوس ” حكم آسيـا الصغرى والشرق ومصر ، فقسم مصر إلى ثلاث ولايات هي :
مصر الجوبترية : وتضم غرب الدلتا والإسكندرية0
2- مصر الهرقلية : وتضم شرق الدلتا ومصر الوسطى0
3- طيبة0
وعين لكل ولايـة ” إيبارخوس ” أي والياً مدة ولايته عامين ، و ” ديوكس ” dux أي قائـداً عسكرياً ، وإتخذ دقلديانوس ” نيقوميدا ” Nicomedia بآسيا الصغرى عاصمة له بدلاً من روما ، فابتعد عن مؤامرات ودسائس ” السناتو ” من جهة ، ومن جهة أخرى كانت نيقوميدا من الولايات الغنية ، ذات الكثافة السكانية العالية ، يتوفر بها أمهر الصنَّاع والتجار والمزارعين ، وأيضاً يستطيع دقلديانوس أن يصد أي هجوم فارسي قبل أن يتغوَّل في جسد الإمبراطورية 00 وترك دقلديانوس ” روما ” التي عبر زمانها وفات0
وتولى ” جاليريوس ” منطقة البلقان وجزء كبير من آسيا الصغرى ، وإتخذ ” سيرميوم ” عاصمة له0
وتولى ” مكسيميان ” إيطاليا والمناطق الشمالية من الراين والدانوب وشمال أفريقيا ، وإتخذ ” ميلان ” Milan شمال إيطاليا عاصمة له ، حتى يراقب حركات البرابرة ويتصدى لغاراتهم في وقت مبكر ، وقد تميزت هذه المدينة بمبانيها الفخمة ، وميادينها المنسقة المزينة بالتماثيل ، وأسوارها العالية0
وتولى ” قسطنطينوس ” بلاد الغال وبريطانيا وأسبانيا وموريتانيا ، وإتخذ ” تريفس ” Treves ( جنوب بلجيكا ) عاصمة له0
والجميع يخضعون لدقلديانوس الذي أرسى نظاماً جديداً للحكم يقوم على الكفاءة بدلاً من الوراثة ، بل أنه حدد مدة للحكم ، بأنه ألزم نفسه بالتخلي عن منصبه بعد عشرين عاماً ، وبعد أن كانت بعض الولايات تخضع للسناتو والبعض يخضع للإمبراطور ، جعل جميع الولايات تخضع له ، وأعاد المهابة والقداسة لمنصب الإمبراطور ، فأقام من نفسه إلهاً يستوجب العبادة ، فكان كل من يقترب منه يمر بين صفين من الخصيان والحُجَّاب وأمناء القصر ذوي الألقاب ، وعندما يصل هذا الشخص إلى عرشه يركع ويُقبّل أطراف ثوبه الحريري فإذا رفع عينيه يرى حذاءه المرصَّع بالأحجار الكريمة ، كما أن الخواتم في أصابعه مرصعة بالجواهر التي تومض ، وعقود الياقوت والزمرد تحلي صدره ، والتاج المرصَّع بالجواهر الكريمة على رأسه 00 فماذا ينقصه إذاً من مظاهر الألوهة بحسب الفكر الروماني ؟! 00 كانت عباءة دقلديانوس يحملها ثمانية أشخاص يسيرون خلفه ، ولقَّب نفسه بلقب ” جيوفيوس ” أي ممثل الإله ” جوبتر ” Jupiter 0
وبالنسبة للإصلاح الإداري فقد قام دقلديانوس بتقسيم الولايات ، حتى وصل عدد الولايات إلى أكثر من مائة ولاية ، وبذلك قلَّص من سلطات رؤساء الولايات ، وإن كان هذا النظام الجديد قد حمَّل الدولة أعباء أكثر وأرهق ميزانيتها لكنه أدى إلى إستقرار الأمن والسلام وقضى على الفتن والقلاقل داخل الإمبراطورية0 كما قام دقلديانوس بفصل الحكم الإداري عن الحكم العسكري ، فعيَّن حكاماً للقيام بالأعمال الإدارية ، وترك العمل العسكري للقادة العسكريين ، كما أنشأ كتيبة Agentes in rebus كجهاز مخابرات ، ترفع له التقارير السرية حتى شعر كل موظف أنه تحت الرقابة ولاسيما أن الفساد كان متفشياً بين كبار الموظفين الذين يبيعون الوظائف ويسرقون الشعب 0
وقام دقلديانوس بالإصلاح العسكري فقوى الحصون ، وأقام مصانع لتصنيع الأسلحة من سهام ونبال وسيوف وعجلات حربية في كل من الرها وأنطاكية ودمشق0 كما أقام مصانع لملابس الفرسان ، وصنَّع المعاطف المدرعة من الرأس للقدمين ، وكوَّن فرقة كبيرة قوية يصل عددها إلى 45 ألف فارس و 15 ألف من المشاة ، تميزت بسرعة الحركة والإنتقال من مكان إلى آخر سواء لصد الغزوات الخارجية أو لحماية السلطة الإمبراطورية ، وإن كانت قوات الجيش الضخمة التـي وصلت إلى ربع مليون من المشاة ، و 110 ألف من الفرسان قد أرهقت ميزانية الدولة ، لكن ساعدت على إستتباب الأمن0
وقام دقلديانوس أيضاً بالإصلاح النقدي فأصدر أوامره بإغلاق دور سك النقود المحلية منعاً للتلاعب ، وإقتصر سك النقود على المناطق المركزية ، وفي سنة 295م أصدر عملات موحدة لكل أنحاء الإمبراطورية سواء ذهبية ، أو فضية مدموغة بأوزانها ، أو فضية مطلية بالنحاس ذات نوعية عالية من الجودة حتى يعالج الإنهيار المستمر في قيمة العملة ، ونقش على هذه العملات تارة رأس الإمبراطور مكللاً بالغار ، وتارة رأساً لامعاً للإمبراطور ، وبذلك بدأت العملات المحلية في الإختفاء ، وخصص وزيراً للمالية أطلق عليه إسم Rationalis للإشراف على النظام النقدي ، وخصص موظفاً يسمى Chancellory يعطي الأوامر بسـك العملة ، وله إتصال مباشر بالإمبراطور0 وأيضاً لكيما يقاوم الإرتفاع الجنوني للأسعار والتضخم أصدر دقلديانوس مرسوم سنة 301م الخاص بضبط الأسعار ، والأجور ، أشار فيه للتجار الجشعين ، الذي إستغلوا ظروف الحرب فتضخمت ثرواتهم حتى أنها تكفي أمماً بأكملها ، وأوضح المرسوم الحد الأقصى لأسعار السلع المختلفة والخدمات في شتى الولايات الرومانية ، وغلَّظ عقوبة المخالفة ، أو إخفاء السلع إلى حد الإعدام أو النفي ، ومع هذا فإن مرسوم الأسعار هذا قد فشل في وقف زيادة الأسعار ، التي ظلت ترتفع ليس بين يوم وآخر ، بل بين ساعة وأخرى ، وظلت النقابات مثل نقابة الخبازين تحدد سعر الدقيق كل شهر ، وكذلك نقابة العاملين في الفضة تعلن سعر الفضة الشهري ، ولم ينجح هذا المنشور في القضاء على السوق السوداء ، وبعض التجار أخفوا السلع والآخرين أغلق المحلات0
وأيضاً قام دقلديانوس بالإصلاح الضريبي ، فبعد أن كانت هناك أنواعاً كثيرة من الضرائب ، وحَّد كل هذه الأنواعه في ضريبتين فقط أحدهما على الأشخاص ، والأخرى على الأرض ، وجعل ضريبة الأرض عينية ، فكل أرورا ( وحدة قياس الأرض ) يورد المزارع عنها عدد من أرادب القمح ، وفي 16 مارس 297م أصدر دقلديانوس مرسوماً يحدد الضريبة بناءً على إنتاجية الأرض وأصدر والي مصر منشور الإصلاح الضريبي :
” أرستيوس أوبتانوس والٍ مصر يقول : أكثر أباطرتنا إعتدالاً وحكمــة ، دقلديانوس وماكسيميان الأغسطسين ، وقسطنطينوس ( وجاليريوس ) القياصرة النبلاء قد علموا أن جباية الضرائب العامة كانت ( تتم بطريقة ) ملتوية ، بحيث جعلت بعض الأشخاص يُعفَون ، أو يعاملون برفق بينما أُثقِل الآخرون0
لقد قرَّروا لصالح ولايتهم أن يزيلوا الشر الوبيل ، أو الممارسة الهدامة من جذورها ، وأن يصدروا قانوناً صالحاً ، وطبقاً لذلك من الممكن للجميع أن يعلموا مقدار الضريبة التي تُفرض على كل أرورا ( وحدة قياس الأرض ) تبعاً لنــوع الأرض ، ومقــدار ( الضريبة ) التي تُفرض على كل رأس من السكان القرويين ، والسن الأعلى والأدنى 00
فإن كرم أباطرتنا وقياصرتنا معروف جداً للجميع ، ويظل جامعوا كل نوع من الضرائب يعملون بكل دقة ، وإذا ضُبط أحدهم منتهكاً له ، فسوف يتعرض لعقوبة الموت ” (67)0
وبعد أن كانت الضرائب تتغير بحسب إحتياجات الإمبراطورية من عام إلى آخر ، ثبت دقلديانوس النظام الضريبي ، فلا يتغيَّر إلاَّ كل خمسة عشر عاماً ، بالرغم من أن حركة التعمير التي قام بها دقلديانوس مثل إنشاء الطرق والكباري والحمامات والقصور إحتاجت لتمويل أكبر ، كما أن وجود أربعة قصور للحكام كانت لها تكلفتها0
وهكذا لم يترك دقلديانوس شيئاً للصدفة ، بل مد يده في كل مناحي الحياة ، وعمل على إستقرار الصناعة ، ووفر الأمن للتجارة بالقضاء على القراصنة ، وإستطاع دقلديانوس أن ينأى بالإمبراطورية عن الحروب الأهلية ، ويقر السلام والهدوء إلى حد كبير0
ألكسندروس : لا يمكن أن ننسى الأيام الصعبة التي عشناها منذ سنوات قليلة عندما حاصر دقلديانوس مدينتنا العظمى عدة شهور ، عندما قام ” أخيلليوس ” Achilleus ( لوكيوس دوميتانوس ) Lucius Damitianus بالثورة ضد روما مستغلاً سخط الفلاحين بسبب فداحـة الضرائــب ، فأثـار مصر العليا أولاً وإنتزع إقليم ” طيبة ” وأقام نفسه ملكاً على مصر لمدة أربع سنوات ، ذاق فيها المصريون طعم الحرية ، وأصدر عملة نقدية وضع عليها إسمه ، ثم زحف إلى الإسكندرية في عام 296م ، وكان دقلديانوس في أنطاكية فجاء إلى مصر بجيش ضخم ، وحاصر مدينتنا لمدة ثمانية شهور ، لأن فقدان روما لمصر يعني ضياع ثلث مؤونة الغلال التي تصل إلى روما وتبلغ ستة ملايين أردب قمح ، وأرشد بعض الخونة دقلديانوس إلى المكان المناسب لدخول المدينة ، فاستطاع الدخول إلى المدينة بمشقة كبيرة وقتل ” أخيلليوس ” وتمكن من قمع الثورة وإعدام رؤوس الثورة ومعاوينهم ، ولكنه لم يستبح المدينة ، إنما حفظ حرمتها ، بل أنه عندما رأى معاناة الشعب السكندري ، ردَّ بعض شحنات القمح المتجهة إلى روما ، ووزعها على الشعب ، ولهذا أقام له السكندريون نصباً تذكارياً في ” معبد السيرابيوم ” وهو عمود السواري ، وقد سجل تحته عبارة ” إلى الإمبراطور العادل الإله حامي الإسكندرية دقلديانوس الذي لا يُقهر وبوستوم والي مصر أقام هذا الأثر ” (68)0
أرشيلاوس : إذا كانت أعمال دقلديانوس بهذه العظمة فلماذا أنقلب هذا المُصلح ضدنا ؟
ميناس : كان ” دقلديانوس ” متسامحاً مع المسيحيين حتى أن زوجته ” بريسكا ” Prisca وإبنته ” فاليريا ” Valeria إعتنقتا المسيحية ، وكثر في عهده عدد الموظفين المسيحيين في القصر الإمبراطوري ، وبعضهم تولى مراكز هامة مثل ” لوشيان دورثيوس ” و ” جورجونيوس ” و ” أندرياس ” الذي حظوا بمحبة دقلديانوس وعطفه ، بل أن دقلديانوس أوكل كرسي البلاغة اللاتيني إلى الكاتب المسيحي الشهير ” لاكتانتيوس ” وعندما زار دقلديانوس مدينة أنطاكية أبدى إعجابه بالكاهن المثقف ” دورثيوس ” Dorotheus الذي إتقن اللغة العبريـة وقرأ أصول الأسفار المقدَّسة باللغة العبرية ، وجعله مسئولاً عن أعمال الصباغة في مدينة ” تيري ” Tyre 0
ولكن بلغ أسماع دقلديانوس أن المسيحيين يرفضون الخدمة العسكرية والإشتراك في الحروب التي تؤدي إلى سفك الدماء ، لأن المسيحية تدعو لمحبة الجميع حتى الأعداء ، لهذا خشى دقلديانوس من تفشي مثل هذه الأفكار في أرجاء الإمبراطورية ، مما يؤثر على قوة الجيش ، كما أنه نهى المسيحيون بشدة عن تكريم التماثيل التي يكرّمها الوثنيون ، أثار حقد الوثنيين على المسيحيين ، وأيضاً الصياغ والصيَّاغ خشوا كساد تجارتهم0
ألكسندروس : الإنسان المسيحي له الحرية في التسامح والصفح فيما يخص أموره الشخصية ، بل هذا مبدا إنجيلي ، ولكن فيما يخص حق الدفاع عن الدولة فلا يجب على المسيحي الذي يحب وطنه أن يقصر في أداء الواجب العسكري ، بل يقدم نفسه بسرور فداءً عن شعبه ووطنه 0
ديمتري : سمعت أيضاً أن دقلديانوس طلب من ” تاجيس ” Tages رئيس العرافين أن يفحص أحشاء الأضحية التي قدمها للآلهة ، فأخبره ” تاجيس ” بأن المسيحيين أعداء الآلهة قد أفسدوا مهمته ، وأن الآلهة غاضبة منهم ، ومادام هؤلاء الكفرة في القصر فإن الأرواح لن تتجلى ولن تظهر0
أرشيلاوس : أيضاً المسيحيون لا يؤلهون الإمبراطور ولا يسجدون له ، فبلاشك أن هذا يضايق دقلديانوس كثيراً لأنه يؤلّه نفسه0
ديمتري : وأيضاً ” جاليريوس ” لا يكف عـن إفساد ذهن دقلديانوس ، فهــو لا يطيــق المسيحيين ، كما أن أم جاليريوس ” رامولا ” Ramula الوثنية دائماً تحرضه علينا ، والجميع يعلم أن ” جاليريوس ” يؤمن بالخرافات مثل أمه ، كما أنه سكير وفاسق0 والأمر الغريب أن دقلديانوس عندما يستشعر أن القرار صائباً فهو يتخذه منفرداً لكيما يرجع إليه المديح والثناء ، أما إذا إستشعر القرار خاطئ فأنه يستشير أعوانه حتى لو حدث فشل يُنسَب إليهم ، ولذلك فهو ينصت إلى ” جاليريوس ” لأنه يشعر أن قراره في القضاء على المسيحيين قرار غير صائب0
ألكسندروس : حقاً قال العلامة ” ترتليان ” : ” فإذا فاض التيبر على الأسوار ، أو غاص النيل فلم يبلغ الحقول ، أو أُمسكت السماء عن المطر ، وإذا زلزلت الأرض ، أو حدثت مجاعة ، أو إنتشر وباء ، تتعالـى الصيحـات على الفور هاتفة : فليلقَ المسيحيين إلى الأسود ” (69)0
(60) نفتالي لويس – ترجمة دكتورة أمال الروبي – الحياة في مصر في العصر الرومان 30 ق0م – 284م ص 178
(61) منيرة محمد الهمشري – النظام الإداري والإقتصادي في عصر دقلديانوس ( 284 – 305 م ) ص 58
تتويج البابا ف8 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
تتويج البابا ف8 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الثامن : تتويج البابا
شيعت الإسكندرية باباها العظيم ” الأنبا ثاؤنا ” ، الذي ظل حيَّاً في قلوب أولاده ، كما تعلَّقت كل عيون الشعب بتلميذه النجيب قدس ” أبونا بطرس ” ، فهو باباهم الذي سيجلس على عرش مارمرقس بتصريح رسمـي من رب المجد عريس الكنيسة ، وكان ” أبونا بطرس ” يناجي في صلواته ، ولاسيما في القداس الإلهي ، روح أبيه الروحي ومعلمه ومرشده الأنبا ثاؤنا ، وبلاشك أن المشاعر متبادلة ، فلابد أن البابا الذي سكن فردوس النعيم وصار قريباً من العرش الإلهي لا يكف عن الصلاة من أجل كل أولاده ، ولاسيما القس بطرس ، المزمع أن يعبر بالكنيسة أشد العصور ظلمةً وظلماً وإضطهاداً وتعسفاً ودماءً وأشلاءً 00 هذه هي الكنيسة المقدَّسة ، فهي كنيسة فوق الزمان 00 المجاهدون يصلون من أجل المنتصرين ، والمنتصرون الذين بلغوا سماء المجد يتشفعون من أجل الأحياء على الأرض ، وهؤلاء وأولئك يصلون من أجل الآتين بعدنا الذين لم يولدوا بعد0
ومع فجر اليوم الأول من أمشير سنة 302م بدأت صلوات التسبحة في كاتدرائية السيدة العذراء مريم بالمدينة العظمى المحبة لله الإسكندرية ، وبدأ الأساقفة الذين توافدوا منذ الأمس وأول أمس يتوافدون من سكناتهم ، وكذلك الآباء الكهنة من الإسكندرية وخارجها ، كما حضر أساقفة أورشليم وأنطاكية وقبرص ، والكل يشكر الله الذي أظهـر إهتمامـه بكنيسته وأعلـن إرادته في إختيار ” أبونا بطرس ” ، فأراح الجميع من مسئولية الإختيار والتفضيل 00 وبعد أن تختار السماء من يستطيع الإعتراض ؟!0 لم تكفِ كاتدرائية الألف عمود على إستيعاب الوافدين من الأكليروس والشعب ، فإزدحمت الشوارع المحيطة بها ، بل أن الإسكندرية قد إرتجت بهذا التجمع الضخم والحشد الهائل ، وتساءل الناس : ماذا يحدث اليوم ؟! 00 وقال أحد الحاسدين : ما بال المسيحيون يخرجون من جحورهم اليوم ؟!
وبدأت صلوات التكريس للبابا الجديد ” بطرس بطريرك الكرازة المرقسية وبينتابوليس ” ( الخمس مدن الغربية ) وإرتفعت الصلوات والإبتهالات من الآلاف من أجل البابا الجديد ، ليجعل الله عهده عهد بركة وسلام ، مثلما كان عهد سلفه البابا ثاؤنا ، ورغم طول الصلوات ومرور الساعات فإن أحداً لم يمل ولم يكل ، ولم ينصرف أحد 0
ومما زاد فرحـة الشعب أن أول عمل قام به ” البابابطرس ” أنــه وضـع اليد على تلميذيه ، فسـام ” أرشي ” دياكـون باســم ” أرشيلاوس ” وسـام ” إسكنـدر ” دياكون باسم ” ألكسندروس ” ، والدياكونية ( الشماسة ) هي أولى درجات الكهنوت الثلاث ( الدياكونية والقسيسية والأسقفية )0
وإنتهت الصلوات بزفة البابا بطرس الأول ، فطاف الأساقفة والكهنة أرجاء الكنيسة يحملون المجامر ومعهم الشمامسة يحملون الصلبان ، وإستراحت روح أبينا الأنبا ثاؤنا عندما أبصر إبنه الذي رباه وتلمذه قد تسلم البستان ليرويه بعرقه ودمه ، وعمت الفرصة أرجاء الكــرازة المرقسيــة بالبابــا الجديد0
أما الشماسان المكرسان ” أرشيلاوس ” و ” الكسندروس ” فقد زادا من طاعتهما لأبيهما الروحي الذي إعتلى السدة المرقسية ، وصارا يبذلان كل جهد في خدمتهما ، وقداسة البابا بطرس من جانبه إختصهما برعايته ومحبته ولم يبخل عليهما بشئ من خبراته الروحية ، وهو لا يدري أنه يتلمذ البطريرك القادم وبعد القادم ، وهكذا تستمر حياة التلمذة في كنيستنا المقدَّسة من جيل إلى جيل وإلى دهر الدهور أمين0
ولمع في سماء الإسكندرية نجما جديداً ، وهو ” أريوس ” الذي وُلِـد سنـة 270م وعاش فـي ليبيا ، وكان قد تتلمذ على يد ” لوكيانوس ” الأنطاكي الذي تأثر بآراء ” بولس الساموساطي ” الذي وُلِد في ” سيمساط ” وهي مدينة صغيرة ما بين النهرين ، وكان بولس مهموماً بجمع المال والغنى ، وتمكن من الوصول إلى الكرسي الأنطاكي ، وعندما كان يسير هذا الأسقف كان يسبقه مائة خادم ويلحقه مائة آخرون ، وكان يصطحب معه إمرأتين جميلتين تصحبانه أينما توجه فيقضي معهما أكثر أوقاته ، وبدَّل ترانيم الكنيسة بمدائح لشخصه ، وكان يهين ويوبخ من لا يصفق له في عظاته ، وكلفته الملكة ” زنوبيا ” ملكة تدمر بتحصيل الخراج ، فتولى السلطة المدنية بجانب الدينية ، وأعدَّ لنفسه محكمة وعرشاً مرتفعاً ، وعند دخوله للمحكمة كان يضرب الأرض بقدمه ويضرب بيده على فخذه ، ونادى بأن السيد المسيح وُلِد إنساناً عادياً ممتلأ قوة إلهيَّة ، ثم حل فيه كلمة الله ، ولهذا دُعي بابن الله لأن الكلمة الإلهي إتحد به ، ولكن عند الصليب فارقه ، وصلب يسوع الإنسان ، وحاول البابا ديونيسيوس رقم (14) أن يثنيه عن رأيه ، وقد شرح له الإيمان المستقيم من خلال رسائل عديدة ، إلاَّ أنه كان متمسكاً برأيه ، وكلما عُقد له مجمع في أنطاكية كان يراوغ ولا يبوح بعقيدته ، فأرسل آباء أنطاكية يشكون للبابا مكسيموس ( رقم 15 ) فعقد مجمعاً سنة 268 م حضره عدد كبير من الأساقفة وحكموا بحرمه ، وتعيّن ” دمنوس ” عوضاً عنه ، ولم يرضخ ” بولس الساموساطي ” لحكم المجمع مستقوياً بقوة تدمر ، فرفع الأساقفة الأمر للإمبراطور الروماني ” أورليان ” فحكم بأن تعطى الأسقفية لمن إنتخبه المجمع0 كما إعتقد ” لوكيانوس ” أن السيد المسيح ليس هو إنساناً كاملاً ولا إلهاً كاملاً ، وتأثر أريوس بآراء هذا وذاك 00 وهكذا تنتقل البدعة كالوباء من شخص إلى آخر وتزيد وتتفرع ، ولكنها تقف عاجزة أمام الإنسان المتضع ، وليس لها سلطان إلاَّ على الإنسان المتكبر المتصلف المعتد برأيه0
وجاء ” أريوس ” إلى الإسكندرية ، وإلتحق بالمدرسة اللاهوتية ، وتبحر في العلوم اللاهوتية ، وتعاطف مع ” ميليتوس ” ( أسقف أسيوط المنشق ) ثم أعلـن ” أريوس ” خضوعه للبابا بطرس ، فقبله البابا بمحبة وسامه شماساً ، ثم قساً ، وعينه واعظاً لفصاحته ، و ” كان أريوس لاهوتياً متعلماً ناسكاً في طبعه ، متقد غيرة ، قوي العزيمة ، له قدرة فائقة على الوعظ ” (48)0
وكان ” البابا بطرس ” المتسربل بالإتضاع لا يستنكف أن يحضر عظات أريوس أو غيره ، فلاحظ قول أريوس ” إبن الله كائن بعد إن لم يكن ” 00 فظن أنه يتكلم عن ناسوت السيد المسيح ، ومن الطبيعي أن هذا القول ينطبق على الناسوت الذي لم يكن له وجود قبل أن يتكون في أحشاء العذراء البتول ، فالإبن أزلي بلاهوته ، أما الناسوت فقد مرَّ وقت لم يكن له وجود ، لأن الناسوت ليس أزلياً ، وإذ بأريوس يركز على الآيات التي تخص الناسوت ويتفادى الآيات التي تتحدث عن لاهوت السيد المسيح ، ومساواته للآب ، ولم يكن لبابا الإسكندرية حارس الإيمان الأمين أن يصمت ، إنما بمحبة وجه نظر أريوس ، ظناً منه أن هذا مجرد فكر عابر غير مقصود ، ولكنه إكتشف أن هذا الفكر غائر وعميق في قلب أريوس وعقله ، والدليل على هـذا أن ” أريوس ” لم يتخلى عن فكره ، ولم يتجاهله إكراماً لخاطر البابا ، بل ظن أنه هو الوحيد الذي يفهم الحقيقة دون الكل ، فظل يؤكد على فكره الخاطئ ، حتى أباح ( أريوس ) بأن السيد المسيح ليس مساوياً لله ، إنما هو إله تابع للرب ، وأن الآب الأزلي غير المحدود القادر على كل شئ هو الذي خلق الإبن ، وقد مرَّ وقت كان فيه الآب ولم يكن فيه الإبن ، وان عبادة الإبن نوع من الشرك والوثنية ، وإن كان الإبن كائن قبل خلق العالم إلاَّ أنه ليس أزلياً ، بل يعتمد على المعونة الإلهيَّة ، لأنه كان قابلاً للسقوط في الخطية ، وأن الإبن هو الذي خلق الروح القدس ، وبدأ أريوس يتحدث ببدع عجيبة غريبة ، وصار لساناً للشيطان0
وعقد ” قداسة البابا بطرس ” مجمعاً بالإسكندرية حضره عدد من الآباء الأساقفة ، وإستدعوا أريوس وأخذوا يناقشونه في آراءه ، ولكن كبرياءه منعه أن يتنازل عن بدعه ، وينصاع للحق ، فانتهى المجمع إلى حرمه ، فحُرِم من الأسرار المقدَّسة ، ومن خدمة الوعظ ، ودخول الكنيسة ، ومما زاد من قسوة أريوس أنه كان يتمتع بشعبية كبيرة نتيجة عظاته الرنانة وفصاحته ، فكثيرون شايعوه مما زاد من قساوة قلبـه ، وشعر أنه في حرب مع الباطل ، فراح يعد العدة لينشر عقيدته من خلال أشعار سهلة يترنم بها أتباعه ، وهي ” الثاليا ” التي سُمِع صداها في شوارع الإسكندرية0
أما ” البابا بطرس ” فأخـذ يحصن شعبه ضد بدع الأريوسية ، وأرسل رسائل لاهوتية إلى شتى أنحاء الكرازة المرقسية فاضحاً فكر أريوس الذي ينكر أزلية الإبن ، موضحاً أن الإبن اللوغوس هو عقل الله الناطق أو نطق الله العاقل ، فقول أريوس أنه مرَّ وقت كان فيه الآب بدون الإبن يساوي القول بأنه مرَّ وقت كان فيه الآب بدون عقل ، وشرح البابا عقيدة الثالوث القدوس وتساوي الأقانيم في الأزلية وفي كل الكمالات الإلهيَّة ، وأن الآب ليس أعظم من الإبن ولا الإبن من دون الآب ، وإن قال الإبن ” أبي أعظم مني ” فقال هذا في حالة كونه متجسداً مهاناً محتقراً من خاصته حتى إدَّعوا عليه أنه مجنون وببعل زبول يخرج الشياطين ، فكون الإبن أخفى لاهوته فهذا أظهره بمظهر أقل من الآب كثيراً ، ولكن بالقيامة أعلن مجد لاهوته ، وأن الإبن لم يتخلى عن لاهوته إنما أخفاه لكيما يرتضي عدو الخير أن يدخل المعركة معه ، فيهزمه بالصليب ويسحقه ويخلص آدم وكل بنيه من قبضته ، وهكذا ظل البابا الأمين حارس الإيمان يحفظ شعبه من الذئاب الأريوسية ، ومع هذا فإن شوكة أريوس ظلت قوية إذ وضع هدفاً نصب عينيه ، وهو أن يصل إلى كرسي مارمرقس0
وبينمـــا طـوت مشاغل الخدمة ” أرشيــلاوس : و ” ألسكندروس ” ، وطوى الدرس والبحث ” ميناس ” ، وطوت الحياة العسكرية ” ديمتري ” ، أصبح من النادر أن يلتقي الأصدقاء معاً ، وبعد نحو عام من حبرية البابا بطرس إنتهز الأصدقاء الفرصة وإلتقوا معاً ، وسريعاً ما دلفوا من الشارع الكانوبي إلى طريق الهيباستاديوم حتى وصلوا إلى مكانهم المفضل على أحد أطراف جزيرة فاروس ، وفي مسيرتهم وجلستهم إنساب الحديث سلساً وتواصلت الأفكار :
أرشيلاوس : ما هي أخبار دراستك وأبحاثك ياأبو التاريخ ؟
ميناس : إنتهيت من دراسة تاريخ الدولة الإغريقية ، كما حدثتكم من قبـل عـن ملكة مصر ” كليوباترا 00 هل كانت وطنية أم أنانية ؟ ” ولم نكمل الحديث 0
أرشيلاوس : نكتنـز الفرصــة اليـوم لتُكمل لنا ياأخ ميناس قضية ” كليوباترا 00 هل كانت وطنية أم أنانية ؟ “0
الكسندروس : دعنا ياأرشيلاوس نطمئن أولاً على أحوال الأخ ديمتري 00 ما هي أخبار بحارنا المغامر ؟
ديمتري : إن أهوال البحر لا تنقطع وخلال العام الماضي وبسبب ثقة القائد الزائدة بي ، شاركت في عدة مهام صعبة لقنص القناصة ، حتى عاد النشاط التجاري ونهضت الصناعات ، ومنذ ثلاثة أسابيع تعرضت لموقف صعب وكان من الممكن أن أعود إليكم بغير طرف من أطرافي ، أو أعود جثماناً ، أو لا أعود على الإطلاق0
الكسندروس : خير ياديمتري 00 حافظك حافظ إسرائيل لا ينعس ولا ينام0
ديمتري : بينما كنا نرسو بالسفينة قرب الشاطئ ، وفي وقت الغروب أراد ” فاليري ” الجندي البدين ، الذي جذبته مياه البحر بصفاءها ونقاءها وهدؤها ، أن يقفز فيها ، ولكنني حذرته لأن هذا المكان تكثر فيه أسماك القرش ، فقال لي أنه إعتاد أن يلعب معها وهي لا تؤذه ، فقلت له : الذي يلعب بالنار تلسعه ، وعلى حين غرة وجدته يقفز في الماء من على سطح السفينة بإرتفاع نحو أربعة أمتار ، ولسوء حظه أنه إصطدم بسمكة قرش ضخمة تفتح فاها فأصيب ساقه بجرح بالغ وبدأت دمائه تلون المياه الصافية ، فأدركت أنه هالك هالك ، فالدم يثير شهية أسماك القرش التي تشتم رائحته من على بُعد عدة كيلومترات ، وفي لحظة وجدت نفسي أقفز بجواره بملابس الجندية ، وأستليت الخنجرين اللذين بجانبيَّ ، فسلمت فاليري أحدهما ، وحاولنا أن ندافع عن أنفسنا ضد أسماك القرش التي تجمعت بأعداد ضخمة حولنا ، وقد ركزت هجومها تجاه ساق فاليري التي تنذف ، وإجتهدنا أن نتعلق بأطواق النجاة التي طوح بها لنا زملائنا ، وهي مربوطة بحبال إلى السفينة ، ونجحت في مساعدة الجندي المصاب ، الذي كان بخنجره يضرب في كل إتجاه ، حتى أمسك بطوق النجاة ، وفي لحظة كانت ساقه بالكامل في جوف سمكة قرش ضخمة ، فالقرش يحمل أكثر من صف من الأسنان القوية التي تأخذ شكل التروس القادرة على تحطيم عظام الإنسان ، وأمسكتُ بالطوق الآخر ، وسحبنا زملاءنا إلى سطح السفينة وأسماك القرش تتحسر إذ فلت منها هذا الصيد الثمين ، فأجرينا الإسعافات السريعة لفاليري من أجل إنقاذ حياته ، الذي إرتسمت عظم الكارثة على وجهه ، وليست الكارثة تتمثل في ساقه الذي بترته سمكة القرش بقدر ما أنه سيفقد عمله ، ولن يحصل على الرعوية الرومانية التي كان يحلم بها ولا على مكافأة نهاية الخدمة الضخمة0
ميناس : لقد حفظك الله ياديمتري حتى تنال الصبغة المقدَّسة0
ديمتري : ما يؤسفني ويؤرقني ويقض مضجعي أنني لم أعتمد إلى الآن ، فإن عقلي يقف حجرة عثرة أمامي 00 دائماً أمي تقول لي : ” إنني دائماً أطلب من المصلوب أن يضمك إلى أحضانه قبل أن يغمض الموت عينيَّ “0
أرشيلاوس : ثق أيها البحار المغامر أن محبتك التي جعلتك تضع نفسك تحت حكم الموت من أجل فاليري لن تضيع هباءً ، والله ليس بظالم حتى ينسى مثل هذا الحب وتلك التضحية 00 هل لك ياميناس أن تحكي لنا عن تاريخ مصرنا الحبيبة مع نهاية الحكم الإغريقي وبداية الحكم الروماني في عصر كليوباترا ؟
ميناس : نبدأ من حيث إنتهينا ، ونوجز القول ، لكن من يذكر ما إنتهينا إليه المرة السابقة ؟
فأجاب الأصدقاء في آن واحد : إغتيال يوليوس ، وعودة كليوباترا إلى مصر0
ميناس : برافو 00 شاطرين ومذاكرين 00 أُغتيل يوليوس قيصر في روما ، وإنسحبت كليوباترا من المشهد بعد أن تبخرت طموحاتها في عرش روما ، وكل مافازت به هو بغضة وكراهية الرومان لها ، وحيث أننا تحدثنا في المرة الماضية في ستة نقاط وهي :
والآن دعونا نستعرض بقية تاريخ مصرنا الحبيبة في تلك الحقبة في أربع نقاط أخرى وهي :
7- كليوباترا وماركس أنطونيوس0 9- معركة أكتيوم البحرية0
8- أنطونيــوس وأكتافيــوس0 10- إنتحــار الحبيبين0
7- كليوباترا وماركس أنطونيوس : بعد قصاص أكتافيوس وأنطونيوس من قتلة يوليوس قيصر ، وإنتصارهما على جيش بروتوس وكاسيوس ، كان ” أنطونيوس ” في طرسوس وأرسل يستدعي كليوباترا لمسألتها عن تقاعسها فـي الإنتقام من قتلة زوجها ، وأيضاً طمعاً في الحصول على الدعـم المصري في حروبه ، وتلقت كليوباترا الرسالة ولم تذهب مع رسل أنطونيوس ، إنما ذهبت بطريقتها الخاصة ، إذ أبحرت بسفينتها الملكية ذات الأشرعة الكتانية بأطرافها الإرجوانية المطرَّزة ، تطل من على سطحها مظلة كليوباترا الذهبية ، والخدام يرفلون حولها يُروّحون عنها بمراوحهم الفاخرة ، ورقائق الذهب التي تغطي مؤخرة السفينة لا تكف عن البريق ، وبينما تنساب السفينة على صفحات المياه الزرقاء ، فإن رائحة وأريج العطور الشذية تفوح منها ، وصوت الموسيقى يصدح ويتجاوب مع أمواج البحـر الرقيقة ونسماته العليلة ، بينما أحاطت بالسفينة مجموعة من أسماك الدلفن التي إستهوتها تلك السفينة وهذه الموسيقى الرائعة ، فراحت تقفز في حركات بهلوانية ترحيباً بملكة مصر : ” كانت السفينة التي أقلتها أشبه شئ بالعرش اللامع 0
تلمع فوق الماء0
وكانت مؤخرتها من الذهب المطروق 0
وقلوعها إرجوانية اللون0
ومضمخة بالروائح العطرية إلى الحد الذي جعل الرياح سكري بالحب معهم0
وكانت المجاديف من الفضة0
وكانت تضرب صفحة الماء على نغمات النادي0
وجعلت الماء الذي ترتطم به يسير خلفها بسرعة أكثر كأنما هام بضرباتها0
أما هي نفسها فإنها تزيد وتعلو عن كل وصف0
كانت تضطجع في سرادقها ، المصنوع من قماش من خيوط الذهب من نسيج تزيد في صورتها على فينوس 00
وعلى الجانبين منها وقف غلمان رشيقون ، بخدودهم غمازات ، وكل منهم يشبه كيوبيد وهو يبتسم0
ومعهم مراوح ذات ألوان متعددة ، كأنما كان نسيمها الذي ترسله يزيد من حمرة الوجنات اللطيفة التي كانت ترطبها0
وعندما وصلت سفينة كليوباترا إلى طرسوس تقاطر أهل المدينة ليروا عظمة ومجد وغنى ملكة مصر ، ونما إلى علم أنطونيوس ذاك المجد وتلك الأبهة ، وعوضاً أن تمثُل ملكة مصر أما أنطونيوس لتؤدي حساباً ، دعته للصعود إلى السفينة ، فصعد ووقف وأُخذ بجمالها وجلالها ، كما أُخذ من قبله قائده يوليوس قيصر0 كانت ” كليوباترا ” ترتدي ثوباً سندسياً تضيف عليه جمالاً من جمالها ، وشذى عطرها يفوح بقوة أنست أنطونيوس لماذا إستدعاها ؟!0 بل نسى نفسه أمامها ، وبذلك لم تكن ملكة مصر في حاجة إلى رد التهمة عن نفسها ، أو تبرير موقفها ، فترحيب أنطونيوس بها كان وافراً غامراً ، ودعاها لتناول العشاء معه ، أما هي فقد وجهت ذات الدعوة في جدية مع دلال ، ولم يكن لأنطونيوس جرأة الرفض ، فللوقت لبى الدعوة ، وعلى هذه المائدة رأى أنطونيوس ما أدهشه وسحره ، فأواني وأدوات المائدة من ذهب ، صحائف من فضة وذهب تأخذ بالألباب ، ونيران المشاعل وأنوار المصابيح تتلألأ على صفحات مياه البحر الأبيض ، وقد أحضرت كليوباترا معها أعظم طهاة مصر وأفضل الجرسونات ، من شباب وشابات يفيضون حيوية وجمالاً ، فأكل أنطونيوس أشهى المأكولات ، وشرب أفخم النبيذ المريوطي ، وبعد الوليمة أهدت ملكة مصر لأنطونيوس بعض الصحف الذهبية والطنافس ، وإنبهر القائد الروماني من هذا الغنى ، وذاك المجد ، وتلك العظمة التي لم تصل إليها روما بعد0
وفي اليوم التالي كرَّرت ملكة مصر الدعوة والوليمة بصورة أكثر فخامة وفخفخة من الأولى ، وفي اليوم الثالث حلت كليوباترا ضيفة على أنطونيوس في طرسوس ، وشتان بين ولائم ملكة مصر الخيالية ، والموسيقى الفرعونية تصدح فتنتشي النفوس وتصفو الأرواح ، وبين وليمة أنطونيوس التي يعوزها الفن والرقة والغنى 00 هام أنطونيوس حباً بكليوباترا وطمع ليس في غناها وذهبها فقط ، بل طمع أن تكون هي بجملتها له ، وهذا ما خططت له كليوباترا ونجحت فيه إلى حد بعيد ، حتى صار كخاتم في إصبعها ، وكطفل صغير يحبو نحو صدر أمه ، لقد غرق القائد الروماني العنتيل في حـب الملكة التي ملكت كل مشاعره وأحاسيسه ، ووضعته في قلبها وأغلقت عليه ، وأنسته زوجته الرومانية تماماً0
وأمضت ” كليوباترا ” أياماً في طرسوس عادت بعدها إلى الإسكندرية ، وهي توقن أن أنطونيوس سيسعى في أثرها ، وهذا ما حدث إذ أقبل أنطونيوس في شتاء عام 41 ق0م إلى الإسكندرية ، ودخلها كمواطن روماني عادي ، وليس كقنصل يحمل سلطة وسيادة روما ، كما فعل قائده يوليوس قيصر منذ سبع سنوات فثار عليه الشعب السكندري وقاتله ، وعاش ” أنطونيوس ” في القصر الملكي مع كليوباترا أجمل أيام عمره ، وكوَّن الأثنان نادياً باسم ” نادي الزملاء الذين لا يحكمون ” ورتبت ” كليوباترا ” لأنطونيوس جولة لزيارة معالم الإسكندرية ، فصعد إلى الفنار ونظر وإذ كل شئ مكشوف أمامه ، وتجول في الميوزيوم ، ومكتبة الإسكندرية التي ليس لهـا مثيل في العالم كله ، وتعرَّف على أقسام الميوزيوم وعلمائـه ، وذهب إلى معبد السيرابيوم ، والجمنازيوم ، ودار القضاء ، والميناء الغربي والشرقي 00 إلخ ثم رتبت له جولة أخرى في الربوع المصرية فوقف أمام الإهرامات مشدوهاً ، وأمضى ساعات طويلة في زيارة المعابد الفرعونية ، وجال بخاطر ملكة مصر الرحلة النيلية الرائعة التي صاحبت فيها من قبل يوليوس قيصر على نفس السفينة ، فيكاد كل شئ لم يتغير باستثناء تغير الشخصية الرئيسية ، فذهب إمبراطور وأتى إمبراطور ، وهذه هي سُنة الحياة ” مات الملك عاش الملك ” ، وقالت في نفسها : إن كانت الدنيا قد ضنَّت عليَّ بالرجل الذي أحببته وتزوجته وأنجبت منه إبني ” قيصرون ” فأُغتيل بأيدي أثمة ، فهــل تترك لي الدنيا زوجي الجديد أنطونيوس ؟!
ومع كليوباترا نسى القائد الروماني واجباته في الدفاع عن أراضي الإمبراطورية ، بل نسى نفسه ، حتى أنه كان يتنكر مع كليوباترا في زي العامة ، ويطوفان شوارع الإسكندرية ويحتكان بالكتل البشرية التي تموج بها المدينة من جنسيات شتى ، ثم أسَّس الإثنان نادياً آخر باسم ” فيلوباتور ” على مستوى عالٍ من الرفاهية والبذخ ، حتى أن الآنية والكؤوس المستخدمة فيه كانت من فضة وذهب ، وصار النادي عنواناً للغنى الفاحش ، وكانت نتيجة زواج كليوباترا بأنطونيوس توأم ولد وبنت ، وهما ” بطليموس هيليوس ” أي الشمس ، و ” كليوباترا سيلين ” أي القمر0
وكان من السهل على أنطونيوس أن يستولي على مصر ، ويغتصب كنوز البطالمة ، ولكن حب كليوباترا لأنطونيوس أتاح لمصر أن تعيش فترة أخرى كدولة مستقلة ، وظلت المدينة العظمى هي الأولى في العالم من جهة العلم والحضارة والثقافة والفن والتجارة 00 إلخ وأقامت كليوباترا ” معبدقيصريوم ” تكريماً للقائد الرومانـي ماركوس أنطونيوس وإعترافاً بالجميل الذي أسداه لوطنها ، وفرح هو بهذا : ” فأي رجل يستطيع مقاومة إغراء المناداة به إلهاً ، يُعبد في معبد فخم ( قيصريوم ) بُني خصيصاً تكريماً له ؟! كان هذا بعد زواجه منها 00 ” (50) 00 وأستيقظت طموحات كليوباترا في عرش روما مرة ثانية 00 لقد نجحت كليوباترا في أن تجعل من أنطونيوس مواطناً إسكندرياً أكثر منه رومانياً ، وبهذا تكون كليوباترا قد أنقذت مصر مرتين ، الأولى عندما سلبت قلب يوليوس قيصر ، والثانية عندما سلبت عقل ماركوس أنطونيوس ، فهل ستنجح في إنقاذ مصر للمرة الثالثة من مخالب أكتافيوس ، أم ستكون نهايتها المآسوية مع زوجها أنطونيوس ، فيقودها إلى الإنتحار وتسقط مصر في قبضة روما تستنذفها وتمتص دمائها ؟!!
8– أنطونيوس وأكتافيوس : أكتافيوس هو إبن يوليوس قيصر بالتبني ، إشترك مع أنطونيوس في القصاص من قتلة يوليوس ، وإنتصروا على جيشي بروتس وكاسيوس ، ولكن بعد أن لفَّت كليوباترا عقل أنطونيوس صار موضع سخرية أكتافيوس ومجلس الشيوخ والشعب الروماني ، وأُشيع عنه أنه ينوي نقل عاصمة الإمبراطورية من روما إلى الإسكندرية ، وأنه فقد رعويته الرومانية ، ووقفت روما ضد الإسكندرية وأكتافيوس ضد أنطونيوس ، وتدهورت العلاقة بين الصديقين أكتافيوس وأنطونيوس0
وفي سنة 40 ق0م إضطر ” أنطونيوس ” إلى ترك الإسكندرية ليصد غزوات البارثنيين في آسيا الصغرى ، وتدخل بعض العقــلاء فــي الصلــح بين أنطونيوس وأوكتافيوس في ” برينديزيوم ” في نوفمبر سنة 40 ق0م ، وإذ فارقت ” فولفيا ” زوجة أنطونيوس الحياة إنتهى الصلح بزواج أنطونيوس بأوكتافيا شقيقة أوكتافيوس ، وكانت إمرأة رومانية فاضلة رقيقة الطباع ، كثيرة الإحتمال ، بذلت قصارى جهدها لإقرار السلام بين أخيها وزوجها ، وأنجبت لأنطونيوس ” أنطونيا ” وظل أنطونيوس بالقرب منها إلى سنة 37 ق0م نحو ثلاثة سنين ونصف مبتعداً عن كليوباترا ، ولكنه لم يحتمل أكثـر من هذا فأرسل أوكتافيا إلى إيطاليا ، وأرسل يستدعي كليوباترا0
وذهبت ” كليوباترا ” ثانية لأنطونيوس مصطحبة إبنها وإبنتها معها ، فأعلن أنطونيوس زواجه منها ، وإعترف بهيليوس وسيليني أبناء شرعيين له ، ثم أنجب منها إبناً آخر دعته كليوباترا ” بطليموس فلادلفوس الثاني ” وفي سنة 34 ق0م عاد أنطونيوس إلى الإسكندرية وإرتكب خطئين هما :
أولاً : أقام مهرجان إنتصاره على الأرمنيين في الإسكندرية بدلاً من روما ، فتقمص دور الإله ” ديونسيوس ” مزيناً شعره بأكليل من نبات اللبلاب ، مستقلاً مركبة خاصة ، وهو يمسك صولجاناً مقدَّساً : ” لقد حطمت كليوباترا العادة ( الرومانية ) القديمة المقدَّسة التي كانت تقضي بأن الإحتفالات بمواكب النصر الرومانية لا يمكن إقامتها إلاَّ في روما فقط0 وذلك بإقامتها موكب إنتصار رائع لأنطونيوس في الإسكندرية لتخلد ذكرى حملاته الآسيوية ، وقد ركب فيها أنطونيوس عربة ذهبية تجرها جياد بيضاء في لون اللبن يسير من خلفه الملوك أسرى مصفدين في الأغلال ” (51) وأُقتيد في الموكب ملك أرمينيا مقيداً بسلاسل ذهب إلى ” معبد سيرابيس ” حيث جلست ” كليوباترا ” على عرشها الفضي ، وقدم لها أنطونيوس الأسرى تحت أقدامها بما فيهم ملك أرمينيا ، وبعد الموكب أودع الأسرى في السجون ، وأقيمت وليمة ضخمة للإسكندريين حيث وزعت عليهم الأطعمة الفاخرة والأموال0
ثانياً : أقام ” أنطونيوس ” إحتفالاً رسمياً في ساحة الألعاب الرياضية بالإسكندرية ، وقسم حكم البلاد على كليوباترا وأولادها ، فوُضِعت في الإحتفال ستة عروش إثنان منهما من الفضة وسقفهما من الذهب ، وهما أعلى من العروش الأربعة الأخرى ، وخصصا لأنطونيوس وزوجته ، التي منحها لقب ” ملكة الملوك ” وثلاثة لأبنائه من كليوباترا وهم ” بطليموس هيليوس ” البالغ من العمر ست سنوات ، فوهبه والده مُلك أرمينيا ومادي وأراضي الشرق حتى الهند ، و ” كليوباترا سيليني ” وعمرها ست سنوات ، وقد وهبها والدها مُلك القيروان وجزيرة كريت ، و ” بطليموس فيلادلفوس الثاني ” وله من العمر سنتان ، ووهبه والده مُلك سوريا وفينيقيا ، والعرش السادس والأخير خُصص لقيصرون إبن كليوباترا من يوليوس قيصر ، وأشركه أنطونيوس معه في حكم مصر وقبرص ، وإعترف به إبناً شرعياً لقيصر قاصداً نزع الشرعية عن أوكتافيوس إبن قيصر بالتبني ، ودُعيت هذه الهبات بـ ” هبات الإسكندرية ” وكان على كليوباترا دفع رواتب جيش أنطونيوس ، بينما عاش أنطونيوس في رفاهية وبذخ شديد0
9- معركة أكتيوم البحرية : وقف ” السناتو ” ( مجلس الشيوخ ) مع الشعب الروماني خلف أكتافيوس الذي يدافع عن شرف روما ضد أنطونيوس الذي خان وطنه وباع قضيته ، وألقى بنفسه في أحضان إمرأة أجنبية ، أما أنطونيوس فقد دافع عن نفسه بقوله أن كليوباترا لم تعد إمرأة أجنبية بعد أن صارت زوجته الشرعية ، وقد طلَّق أوكتافيا بعد أن خطب أكتافيوس أمام ” السناتو ” مهاجماً أنطونيوس ، ووصف ” بلوتارخوس ” المؤرخ الإغريقي الأصل الروماني التبعية ” كليوباترا ” على أنها المرأة التي لعبت بقلب القائد أنطونيوس فصرفته عن واجباته العسكرية ، وعن زوجته الجميلة أوكتافيا ، ومع ذلك فإنه يعترف بإمكاناتها الجبارة فيصفها بأنها الساحرة ذات الصوت المنغَّم الصادر من آلة موسيقية متعددة الأوتار ، فتجد طريقها في أغوار نفوس الرجال ، وهي المتحدثة بعدة لغات منها المصرية والعربية واليونانية والفارسية والعبرية والحبشية والميدية ، وقلما كانت تحتاج إلى ترجمان بينها وبين قوم من الأمم ” وكان هذا يثير الدهشة لأن الكثيرين من أسلافها الملوك قلما ألموا باللغة المصرية ، وبعضهم نسى اللغة المقدونية ” (52)0
وأعلن ” أوكتافيوس ” الحرب على كليوباترا وهو متيقين أن أنطونيوس سيهب لنجدتها وبذلك يظهر أنه خائن لروما ، ولم يرد أكتافيوس أن يعلن الحرب على أنطونيوس حتى لا يقال أن الجنود الرومان يتقاتلون معاً ، أما ” أنطونيوس ” فقد أرسل إلى مجلس الشيوخ الروماني يعرض تقديم إستقالته بشرط أن يفعل أكتافيوس نفس الشئ ، الأمر الذي بالطبع رفضه أكتافيوس الذي يرفع علم روما ، بل أن أكتافيوس إتجه إلى معبد الربة ” فستا ” وأخرج وصية أنطونيوس مخالفاً بذلك الشرائع الرومانية وأفصح عما فيها من إعتراف أنطونيوس ببنوة قيصرون الشرعية ليوليوس قيصر ، وأنه يرغب أن يُدفن فـي الإسكندرية حتى لو مات في روما ، وإن كان القليلون شكَّكوا في هذه الوصية ، لكن الكثيرين إعتبروا أن أنطونيوس قد جرَّد نفسه من الرعوية الرومانية ، وإرتدى ” أكتافيوس ” الزي الكهنوتي وتبعه أعضاء مجلس السناتو إلى معبد إله الحرب ” مارس ” Mars ، فأطلق السهم الأول إيذاناً ببدء الحرب مع كليوباترا ، أما ” كليوباترا ” فقد حفزت أنطونيوس ليخوض غمار الحرب ضد أكتافيوس ، ومنحته مائتي سفينة ، وألفي طِالن ( عملة نقدية كبيرة ) ووضعت كـل إمكانات مصر تحت أمره ، وشددت من أزره ، بل أصرت على الخروج للحرب معه ، فلم يعد بينها وبين عرش روما من عقبة سوى أكتافيوس0
وفي سنة 32 ق0م وصل أنطونيوس وكليوباترا إلى جزيرة ” ساموس ” اليونانية ، وأقاما مهرجاناً عظيماً لـ ” ديونيسوس ” ثم أبحرا غرباً إلى أثينا ، وفي ربيع سنة 31 ق0م عبر ” أوكتافيوس ” البحر الأدرياني على رأس جيش من المشاة وأسطول قوامه 400 سفينة ، بينما كان جيش أنطونيوس أضخم وأكبر من جهة المشاة والفرسان والسفن ، فقد ضم 70 ألفاً من المشاة ، و 12 ألفاً من الفرسان ، و 500 سفينة ، وعسكرت قوات أنطونيوس وكليوباترا البحرية في خليج وشبه جزيرة ” أكتيوم ” Actium على الساحل الغربي لبلاد اليونان نزولاً على رغبة كليوباترا ، ولم يستمع أنطونيوس لنصيحة قواده الذين أشاروا عليه بالمواجهة البرية التي يبرع فيها ، ولم يستمع أيضاً لبعض قادته بأن يصرف كليوباترا إلى بلادها ، لأن الجنود الرومان مستعدون للحرب عن ملكهم أنطونيوس ، وليس عن ملكة أجنبية ، فلم يشأ أنطونيوس ذلك ، فتركه هؤلاء القادة وإنضموا لخصمه أكتافيوس0
وفي 2 ديسمبر 31 ق0م إحتدمت المعركة ، وإستطاعت قوات أكتافيوس من فرض حصار بحري على قوات أنطونيوس وقطعت الإتصال بينه وبين بلاد اليونان ، فبدأ جنود أنطونيوس يعانون من نقص المؤن وتفشي الأمراض وظهور حركات التمرد ، وفي خضام المعارك ظن أنطونيوس أن سفينة كليوباترا قد أُصيبت أو أُسرت ، فانسحب من ميدان المعركة بقصد إنقاذها ، تاركاً جنوده الأوفياء ، وبذلك ظهر كخائن أمام جنوده الذين ظلوا يحاربون حتى تأكدوا من هروب قائدهم فخارت غزائمهم0 أما ” كليوباترا ” فقد إستطاعت أن تكسر الحصار وأسرعت إلى الإسكندرية يتبعها ستون سفينة ، وكانت تهدف من العودة للإسكندرية إعادة تجميع قواتها وإعادة الكرة ثانية ، وعندما إقتربت من شواطئ الإسكندرية خشت لئلا ينقلب الشعب ضدها إذ دخلت في حرب لا مبرر لها ، فرفعت على مقدمة السفن رايات النصر متظاهرة بأنها إنتصرت في المعركة0 أما سفن أنطونيوس فقد تحطم بعضها وسقط الآخر في الأسر ، ويصف ” فرجيل ” أميـر شعراء اللاتين هذه المعركة فيقول :
” وإندفع الجميع في آن واحد فازبد البحر كله وتمزقت صفحته من شدة المجاذيف ومن المناطق مثلثة الأشواك0
وإلى اليم سعوا حتى لتخال الكيكلاديس ( جزر في البحر الأيجي ) قد أُقتلعت وأخذت تطفو فوق الماء أو تخال شواهق الجبال يناضح بعضها بعضاً0
وبهذه السفن الهائلة أخذ الملاحون يهاجمون المراكب ذات الأبراج0
وينثرون بأيديهم قطع الجوت المشتعلة وحديداً ينطلق طائراً بالقذائف0
وتخضبت حقوق بنتوتوس ( إله البحر ) بدماء مجزرة لم يسبق لها مثيل 0
وفي الوسط كانت الملكة تنادي جحافلها بجلجل وطنها ( آلة موسيقية كان يحملها أتباع إيزيس ) 0
أشرعتها وتحل – حتى في هذه الآونة – حبالها المتراخية
وقد شحب وجهها وسط المجزرة خوفاً من الموت المرتقب0
هكذا جعلها إله النار منساقة بالأمواج والريح0
لكن قبالتها كان النيل – ذوي المجرى العظيم 0 حزيناً0
ينشر طيات ثيابه ، بل كل رداءه داعياً
المنهزمين إلى حضنه القاتم الزرقة ومياهه الآمنة ” (53)0
أما الشاعر ” هوراتيوس ” فيعبر عن إبتهاج روما بهزيمة كليوباترا الملكة الهوجاء التي كانت تدبر الخراب للإمبراطورية ، واصفاً فرارها من المعركة ، وإنتحارها حتى لا تُعرَض في موكب إنتصار أكتافيوس ، فيقول :
” الآن ينبغي أن نشرب أو ندق الأرض
بأقدام طليقة ( تعبير عن الرقص ) ونعد أرائك
الالهة ( إشارة إلى وضع تماثيل الآلهة أمام مائدة الطعام ) لأفخر المآدب
وتبع ” أنطونيوس ” كليوباترا إلى الإسكندرية ، وقد أُصيب بحالة إحباط وإكتئاب ، فعاش منعزلاً في بيت بناه لنفسه بالقرب من فنار الإسكندرية بمنأى عن كليوباترا ، ولكنه لم يقدر على مقاومة الحنين إليها ، فخرج من عزلته ، وبدأ جولة جديدة من الحفلات مع كليوباترا تحت شعار ” الصحبة التي لا يفرقها الموت ” فقد كان الإثنان يعلمان أن أكتافيوس قادم قادم ، وفي أقدامه الموت0
10- إنتحار الحبيبين : جاء ” أكتافيوس ” إلى مصر من عبر الحدود الشرقية قادماً من سوريا ، وعندما إقترب إلى ميناء عكا أرسلت إليه كليوباترا تعرض تنازلها عن العرش لأحد أبناءها ، وأرسل إليه أنطونيوس رسالة مع إبنه أنتيلوس يعرض عليه إستعداده لإعتزال الحياة العسكرية ، بل وقدم له بعض الأموال ، التي أزادتها كليوباترا ، فاحتفظ أكتافيوس بالمـال ورد الرسل خائبين ، إذ لم يقبل مساعي الصلح هذه 0 وتقدمت مفرزة من رجال أكتافيوس نحو الإسكندرية فخرج أنطونيوس على رأس فرقة من الفرسان محققاً آخر إنتصاراته ، وإذ بأكتافيوس يقترب من الإسكندرية ، وإذ بكليوباترا تدخل إلى مقبرتها الفخمة التي أعدتها لنفسها ومعها كل كنوزها ، والتي يصعب جداً إقتحامها ، وإذ برسالة خاطئة تصل إلى أنطونيوس في أول أغسطس سنة 30 ق0م بإنتحار كليوباترا ، وإذ كان هذا أمراً متوقعاً لم يتقصى أنطونيوس الحقيقة ، إنما طلب من أحد عبيده أن يطعنه ، ولكن العبد طعن نفسه طعنة نافذة فسقط على الأرض غارقاً في دمائه ، فقال أنطونيوس ” إيه يا من هو أشرف مرات أكثر مني !! 00 لقد علمتني ما يجب عليَّ عمله ” وطعن نفسه ، وإذ بالطعنة لم تكن نافذة ، وطلب أن يرى حبيبته ، فحملوه إليها وأدخلوه من إحدى نوافذ المقبرة ، فلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها 00 ” حملوه وهو يعاني سكرات الموت إلى كليوباترا 00 وصحا في قلبها كل حبها القديم له عندما وقعت عليه عيناها وهو يعاني الموت ، فأخذت تقبله وهي تنتحب ، وغطته بثيابها ، ومات أنطونيوس بين ذراعيها ” (55) وشرعت في تحنيط جثمانه0
ووصل ” أكتافيوس ” إلى الإسكندرية ودخلها ظافراً منتصراً بلا أدنى مقاومة ، بل خرجت المدينة بكاملها تعلن طاعتها وولائها له ، فألقى خطاباً باللغة اليونانية ، وأبدى إحترامه للإسكندر الأكبر مؤسس المدينة ، وأمَّن السكندريين على أرواحهم وعلى ممتلكاتهم ، وفعلاً برَّ بوعده ، فلم يسمح لأحد من جنوده بإستباحة المدينة وسلبها ، ومما أراح السكندريون أن الوافد الجديد قدم تقديره للإله ” سيرابيس ” ، وعندما عرضوا عليه جثمان الإسكندر الأكبر لمس موميائه وكان جزء من أنفه مكسور ، وعندما تحمس السكندريون ليروه رفات البطالمة رفض قائلاً : ” كنت أتمنى أن أرى ملوكاً وليس جثثاً ” ، وحقر أكتافيوس من نفوذهم لئلا يقوم أحد يشايعهم بعد موتهم ويستعيد الدجاجة التي تبيض كل يوم بيضة من ذهب0
ولازت ” كليوباترا ” بمقبرتها وتحصنت بها ” وكانت كليوباترا مثل كل فرعون من الفراعنة شيدت ضريحاً ، وكان بناءً مكوَّناً من طابقين فوق ربوة صخرية بالقرب من محراب مغارة إيزيس التي أحبته وكانت تأتي لتصلي فيه منذ أن كانت طفلة 0 وملأت المقبرة السفلى بالكنوز والذهب والأمتعة الثمينة ” (56) ولكن ” أكتافيوس ” إحتـال عليهـا عـن طريق أثنين من أتباعه ، وهما ” بروكوليوس ” و ” كورنيليوس جاللوس ” الذي صار والياً لمصر فيما بعد ، ونقل ” أكتافيوس ” كليوباترا مع كنوزها للقصر الملكي ، ووضعها تحت حراسة مشددة ، وعندما وقفت كليوباترا أمام أكتافيوس كان شعرها متهدلاً من الحزن ، وعينيها فقدت بريقهما ، وإعتلت وجهها صفرة الموت ، وفي لقائهما إلتقت مدينتان روما المنتصرة وإسكندرية المنهزمة ، فنظر إليها ” أكتافيوس ” نظرة كبرياء وتعالي ، لأنه لم يكره إمرأة مثلما كرهها ، فهي التي أضاعت من كان في منزلة أبيه وهو ” يوليوس قيصر ” ، وهي التي هيمنت على صديقه ورفيق كفاحه وزوج شقيقته ” ماركوس أنطونيوس ” ، ولذلك أملى عليها شروطه وأصر أن تذهب معه إلى روما ، وهي فهمت قصده ، فأنه يريد أن يعرضها في شوارع روما وأمام الشعب الروماني كأسيرة ، تلك المدينة التي شاهدت غناها ومجدها وعظمتها أيام يوليوس قيصر ، ورفضت ” كليوباترا ” بإباء وشمم أن تُعرَض أسيرة ذليلة مكبلة بالأغلال كما عرض من قبل يوليوس أختها ” أرسينوي ” ، فاتخذت قرارها بالإنتحار ، وقد إستشعر أكتافيوس هذا فهدَّدها بقتل أولادها إن أقدمت على الإنتحار0
وكانت ” كليوباترا ” قد جهزت نفسها تماماً لهذا المشهد المأساوي ، إذ قررت أن يكون إنتحارها عن طريق لدغة الكوبرا ، فتاج مصر السفلي إعتلته الكوبرا ، وتاجها هي كان يعلوه العقاب رمز مصر السفلى ، والكوبرا رمز مصر العليا ، فالكوبرا في المعتقد الفرعوني هي خادمة ” رع ” إله الشمس ، ولدغتها لا تهب الخلود فقط بل تمنح الألوهة أيضاً ، وبهذا ستصير من أبناء رع 0 كما أن كليوباترا قد أجرت بعض التجارب على المجرمين لتعرف مدى الألم الذي يعاني منه الإنسان عقب لدغة الكوبرا ، وأدركت أن لدغة الثعبان لا يتبعها ألم كبير وإنفعال شديد ، إنما تؤدي إلى إرتخاء العضلات وغياب الإنسان عن وعيه وموته السريع ، فارتضت بهذه الميتة التي تكتب لها الألوهة0
ووضعت ” كليوباترا ” خطتها بحنكة ، ففي 10 أغسطس سنة 30 ق0م وبعد إنتحار أنطونيوس بعشرة أيام ، حمل أحد غلمانها سلة تين إختبأت فيه كوبرا كامنة ، فحملت إحدى الوصيفات السلة ، دون أي إعتراض من جنود أكتافيوس المكلفين بالحراسة المشددة ، بل ربما مد أحدهم يده وإلتقط إحدى ثمار التين وأكلها ، وكتبت ” كليوباترا ” وصيتها أن تُدفن بجوار زوجها أنطونيوس ، وكان المصري القديم قبيل موته يعطي كل تركيزه للإعتراف الذي سيتلوه أمـام المحكمــة الإلهيَّة التــي تضم 42 قاضياً برئاسة ” أوزيريس ” إله العالم السفلي ، ففي هذا الإعتراف يقول الميت :
” لم أشرك بالله ، ولم أقتل ، ولم أأمر بقتل أحد ، ولم أزنِ 0 لم أشتهي زوجة جاري ، لم أدنس نفسي ، لم أكذب ، لم أسرق ، لم أشهد زور 0 لم أملأ قلبي حقداً0 لم أكن سبباً في دموع إنسان ، لم أتسبب في شقاء حيوان ، لم أُعذِب نباتاً بأن نسيت أن أسقه ماء 0 أطعمت الجائع ، رويت العطشان ، كسوت العريان ، كنت عيناً للأعمـى ، ويــداً للمشلول ، ورجلاً للكسيح ، ملأت قلبي بماعت ( الحق والعدل والإستقامة ) 00 ” 0
وردَّدت ” كليوباترا ” هذه الكلمات للمرة الأخيرة ، وهي تعلم جيداً أنها لا تنطبق عليها في كثير من بنودها ، ولكن ما يطمئن قلبها أنها تمثل روح ” إيزيس ” زوجة ” أوزيريس ” 00 فعلآم الخوف ؟! وعلآم الرعب ؟!! 00 لتنام وتسترح لأنها بمجرد أن تغمض عينيها عن هذه الحياة ستجد نفسها في أحضان أوزيريس في جنات وفراديس0
وعرَّت ” كليوباترا ” أعلى يدها اليسرى ، وقبلت لدغة الحيَّة المقدَّسة ، ويصف ” بلوتارخوس ” الذي عاش بين القرنين الأول والثاني الميلادي هذا المشهد فيقول :
” بعد أن ذرفت العبرات ، فإن كليوباترا تنهدت وقبَّلت الجرة التي تحوي رفات أنطونيوس ، وأمرت بأن يعدو لها الحمام0 وبعد أن إستحمت تمددت وتناولت غذاءاً رائعاً0 وعندما وصل رجل من الريف سأله الحراس ماذ أحضر معه ، ففتحه فظهر منه غصون التين وبان أن المحتوى كان عبارة عن سلة مليئة بالتين0 وقد إندهش الحراس من جماله وحجمه ، وإبتسم الرجل ودعاهم ليأخذوا بعضاً منه ، وبهذا قد تبددت شكوكهم وسمحوا له أن يقدم هذه الفاكهة للملكة 0 وبعد أن تناولت كليوباترا عشائها تناولت لوحاً كانت قد خطته قبلاً وقامت بإغلاقه وختمه ودفعت به إلى من يعطيه إلى ” أوكتافيوس قيصر ” وعقب ذلك صرفت كل من كان بحضرتها فيما خلا إمرأتين من خلصائها 00
عندما فضَّ ” أوكتافيوس قيصر ” اللوح المُرسَل إليه وبمجرد أن قرأ رسالة كليوباترا بأنها سوف تُدفن مع ” أنطونيوس ” فقد خمن فوراً ما هي مُقدِمة عليه0 وكان أول ما تبادر إلى فكره هو أن يذهب هو بنفسه كي ينقذ حياتها0 لكنه كبح جماح نفسه وأوفد الرسل ليسرعوا إلى الملكة ويستجلبوا خبر ما أقدمت عليه ، لكن المأساة كانت قد أخذت طريقها بنعومة لتسبق الجميع0 تحرك الرسل بسرعة ووجدوا أن الحرس كانوا لا يزالون غير مدركين لما حدث0 لكن حين فتحوا الأبواب وجدوا ” كليوباترا ” ترقد ميتة فوق أريكة ذهبية مرتدية كامل زيها الملكي0 أما المرأتين فقد كانت أولاهما وهي ” إيراس ” راقدة ميتة عند قدميها 0 بينما ” خارميان ” كانت تترنح وبالكاد قادرة على أن تقيم رأسها 0 وكانت تعيد ضبط التاج الذي كان قد مال عن رأس مليكتها0 عندئذ صاح واحد من الحراس بغضب ” خارميان ” : هل تم كل شئ على خير وجه ؟
فأجابت : نعم ، وبصورة تليق بملكة تنحدر من نسل العديد من الملوك العظماء0
وبمجرد أن أفضت بهذه الكلمات سقطت ميتة بجوار الأريكة ” (57)0
وبإنتحار كليوباترا إنتهى عصر وبدأ عصر جديد ، إنتهى العصر الإغريقي اليوناني وحكم البطالمة ، وبدأ العصر الروماني ، ولم ينفذ أكتافيوس تهديـده بقتـل كل أولاد كليوباترا ، وإكتفى بأخذ ” بطليموس هيليوس ” و ” بطليموس فيلادلفوس ” إلى روما وعرضهما في موكب النصر الـذي أقامه ، ثم أرسلهما مع أختهما ” كليوباترا سيليني ” إلى موريتانيا ( المغرب ) فتزوجت سيليني من ملك المغرب ، وقتل أكتافيوس ” قيصرون ” إبن كليوباترا من يوليوس قيصر حتى لا ينازعه الحكم، وضم أكتافيوس مصر إلى روما بجملة واحدة :
وإهتم ” أكتافيوس ” بالضيعة الرومانية الجديدة ، فمصر هي آخر الأقطار التي ضُمت للإمبراطورية الرومانية أقوى الإمبراطوريات وأوسعها إنتشاراً على مدار التاريخ ، والتي إستغرق تكوينها مائتي عام ، وعمل ” أكتافيوس “على تحسين وسائل الري ، كما مدَّ خط مواسير من ترعة ” شيديا ” ( المحمودية الآن ) لتصل المياه النقية إلى كل أحياء الإسكندرية ، وسك عملة تذكارية تحمل صورة التمساح ، وهو أشهر الحيوانات النيلية وأحد المعبودات المصرية ، وكتب أسفلها عبارة ” Aegypto Copta ” أي ” فتح مصر ” كنوع من الدعاية السياسية ، وصارت مصر مُلزَمة أن تصدر كميات ضخمة جداً من القمح لروما بلا مقابل0
وفي عصر ” أكتافيــوس ” ( أغسطس قيصر 30 ق0م – 14 م ) وُلِد مخلصنا الصالح ، وإختار أكتافيوس ولاة مصر من طبقة الفرسان ، وليس من أعضاء السناتو ، بل منع أعضاء السناتو والشخصيات البارزة من زيارة مصر إلاَّ بإذن شخصي منه ، وكانت مدة الوالي صغيرة ، والوالي الذي يثير مخاوف الإمبراطور لا يفقد منصبه فقط ، بل يفقد حياته أيضاً ، وكان اللقب الرسمي للوالي ” والي الإسكندرية ومصر ” 0
وصار والي مصر يتصرف كملك ، فمن الناحية العسكرية يفرض سيطرته على القوات الرومانية المرابضة بمصر ، ومن الناحية الدينية يسلك سلوك الفرعون ، فهو الذي يصدق على قرارات تعيين الكهنة المصريين ، ومن الناحية القضائية يرأس الجهاز القضائي ويصدر الأحكام ، ويعقد مجلسه القضائي ثلاث مرات في السنة في أماكن مختلفة ، ففي شهر يناير يعقد المجلس القضائي في ” بيلوزين ” ( شرق بور سعيد ) ، وفي شهر فبراير إلى أبريل في مصر الوسطى والعليا ، وفي شهري يونيو ويوليو في الإسكندرية ، ومن الناحية المالية يقوم بجولات تفتيشية والإشراف على الجهاز المالي والإداري ، ويقر الجداول الضريبية والمبلغ المستحق على كل مديرية ، ونظام الخدمات الإلزامية ، ويصدر تصاريح السفر إلى خارج البلاد0
أما تاريخ مصرنا الحبيبة في العصر الروماني فهو تاريخ الظلم والقهر والإستبداد ، هو قصة حزينة تفيض ألماً ودماً ، فمصر هي البقرة الحلوب التي يستنذف الرومان لبنها ، وهي الشاة التي تجز القوات الرومانية صوفها ، وهي سلة الغلال التي تطعم روما وشعبها لمدة أربعة شهور من كل عام ، وبينما الشعب المصري المستعبد يكدح ويشقى ويعرق فالشعب الروماني يحصد الثمار مجاناً0
ويصف ” فيلون ” مدى القهر الذي يتعرض له الإنسان المصري فيقول : ” في الفترة الأخيرة عُيَّن جابياً للضريبة في المنطقة التي نسكن فيها ، وعندما هرب بعض السكان لعدم قدرتهم على دفع الضرائب بسبب فقرهم وخوفهم من العقاب القاسي الذي سينزل بهم ، إتجه هذا الجابي إلى زوجات الهاربين وأطفالهم وآبائهم وأقاربهم فسامهم سوء العذاب ، ذلك أنه طرحهم أرضاً وأخذ يضربهم ويطأهم بقدميه0 ولم يترك وسيلة لإهانتهم إلاَّ وسلكها ليجبرهم على الإدلاء بمكان الهارب ، أو دفع الديون المستحقة عليه00 لم يكن يتركهم لحـال سبيلهم بل كان يعذبهم ويؤذي أجسادهم ، بل أنه لم يكن يتورع عن قتلهم بوسائل تفتق عنها ذهنه0 فكان يربطهم من رقابهم إلى زكائب مملوءة بالرمال ذات وزن ثقيل ويتركهم في العراء في ساحة السوق نهباً للرياح والشمس المحرقة وسخرية المارة وإحساسهم القاتل بالمرارة بسبب ما يعانونه 0 وإلى جانب الحمل الثقيل الذي كان يقيدهم به فأنه كان يجبرهم على خلع ملابسهم ، وكان هذا المنظر يترك أبلغ الأثر في نفوس الآخرين الذي كانوا يحدثون أنفسهم بما سوف يحل بهم ، فتغمرهم مشاعر أشد قسوة مما رأوه ، ويحدوهم ذلك إلى التفكير في القضاء على أنفسهم بسيوفهم أو بالسم أو بالشنق0 وهم في هذا كانوا يعتبرون أنفسهم أوفر حظاً لأنهم سيموتون دون أن يعذبوا (59)0
حقاً أن أيام أجدادنا منذ أكثر من مائتي سنة ليست أفضل من أيامنا ، ولا أيامنا أفضل من أيامهم0 فمنذ إنتحار ملكتنا ونحن نعاني الأمرين ، ولا ندري إلى متى سنظل نعاني !!
(48) القمص تادرس يعقوب – البابا بطرس الأول خاتم الشهداء ص 23
(49) تصوير شكسبير للرحلة – ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – كانت ملكة على مصر ص 173 ، 174
(50) ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسن – كانت ملكة على مصر ص 176
رحيل البابا ف7 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
رحيل البابا ف7 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل السابع : رحيل البابا
مرت الأيام ، ومسئوليات الخدمـة تزداد على ” أبونا بطرس ” لكنه لم يرتبك أبداً ، بل تجده دائماً يشعر بأن قوة الله تحيط به وتعينه ، وعلى حد تعبير بعض الخدام : ” أبونا بطرس دائماً فايق ورايق ” وبدأت تظهر علامات الشيخوخة على البابا ثاؤنا وإعتلت صحته ، فهذه هي الحياة !! 00 وبينمـا تكرَّس ” إسكندر ” و ” أرشي ” للخدمة ، فإن ” ميناس ” تابع دراسته في ” الميوزيوم ” الذي ضم شتى فروع المعرفة من طب ، وفلك ، ورياضيات ، وطبيعة ، وجغرافية ، وفلسفة ، وأدب ، وتاريخ ، والذي يسعد بزيارة ” الميوزيوم ” يجد المعامل التي جُهزت لإجراء التجارب العلمية ، وقاعات التشريح ، والمرصد الفلكي ، وقاعات المحاضرات والندوات ، وحديقة الحيوانات والطيور وحديقة النباتات ، فقد إستجلب ” بطليموس الثاني ” ( 285 – 247 ق0م ) مختلف الحيوانات والطيور والزواحف والنباتات النادرة من كل بقاع العالم بهدف الدراسة ، والحكومة تصرف على إحتياجات الميوزيوم ، ويعيش العلماء في ذات المكان عيشة مشتركة ، يتمتعون بالإعفاءات الضريبية ، والمعونات المادية ، والإقامة المجانية0 وهذه الأكاديمية العظيمة لا تمنح شهادات ، إنما هي مكان للبحث والتجارب والتأليف لشتى العلماء القادمون من شتى الأقطار ، واللغة المستخدمة بين كلا هذه الأجناس هي ” اللغة اليونانية ” ، فهي بمثابة اللغة الدولية ، حتى أن أباطرة الرومان عندما يصدرون قرارات أو مراسيم في هذه الأيام فإنهم يقومون بترجمتها من اللاتينية لليونانية ، واللغة اليونانية هي اللغة التي سُجِلت بها أسفار العهد الجديد ، والذي أنشأ ” الميوزيوم ” هو ” بطليموس الأول ” سوتر أول ملوك البطالمة وكان عاشقاً للعلوم والثقافة ، يفتح قصره لمشاهير العلماء والفلاسفة ، ويغدق عليهم العطايا والأموال ، والذي سارت على منواله ” كليوباترا ” ملكة مصر وآخر ملوك البطالمة ، وطالما إهتم ملوك البطالمة بالبحث العلمي ، وتشجيع العلماء والصرف عليهم ، وتوفير الإقامة الداخلية المجانية لكثير من الطلبة والمدرسين ، ولا يستنكف أعظم الأساتذة في الميوزيوم من الجلوس وسط مجموعة من الشباب أو حتى الأطفال يعلمهم ، فالكل يتعلَّم ويُعلّم ، وإن كان حماس الأباطرة الرومان الذين يمجدون القوة أقل من حماس الإغريق في الإهتمام بالميوزيوم ، لكنه مازال قائماً يؤدي رسالته ولو بصورة أضعف ، وطالما عقدت فيه الحوارات والندوات حتى أن الإمبراطور ” هدريان ” كان يحضر بعض هذه المباحثات العلمية والندوات الفلسفية ، لأنه كان مولعاً بالحضارة اليونانية ، وضمت عضوية الميوزيوم فلاسفة لا يقيمون في الإسكندرية ، فكانوا أشبه بالسفراء للميوزيوم ، كما أن هناك عضوية شرفية لبعض الشخصيات البارزة من كبار رجال الدولة والجيش وأبطال الرياضة0
وتخصص ” ميناس ” في التاريخ المصري ، فقد عشق تاريخ مصرنا الحبيبة منذ أن حكى له ” أرشي ” عن النمر المجنَّح ، علاوة على أن ” ميناس ” شاب شديد الوطنية ، يفتخر بأجداده بناة الأهرامات وفنار الإسكندرية ، والإثنان من عجائب الدنيا السبع ، فقد حملت مصر في أحضانها أعجوبتين من أعاجيب الدنيا السبع ، وأحب ميناس ” الإسكندر الأكبر ” الوافد الإغريقي لرجاحة عقله وتسامحه ، ودوره التاريخــي فـي تصالح الحضارات عوضاً عــن تصارعها معـاً ، كمـا يفتخـر ميناس بالمهندس العبقري ” دينوقراطيس ” الذي وُلِدت الإسكندرية في عقله وقلبه وعلى أوراقه قبل أن تُولَد على الطبيعـة ، وأيضـاً ينظر لملكــة مصر ” كليوباترا ” نظرة تقدير ، فهي الملكة الإغريقية الأخيرة من سلسلة ملوك الإغريق ، والتي أصطبغت بالصبغة المصرية ، وقد إعتقدت تمام الإعتقاد أنها التجسد الحي للآلهة إيزيس ، فعشقت مصر ، ودافعت عن حريتها وإستقلالها ضد الإجتياح الروماني ، مستخدمة ذكائها ودهائها وجمالها ودلالها وسحر صوتها ، ومازالت الحوارات تدور حولها :
” هل ملكة مصر 00 وطنية أم أنانية ؟ “
وفي ذات يـوم تجمع الأصدقاء ” إسكندر ” و ” أرشي ” و ” ميناس ” و ” ديمتري ” ، وخرجوا كعادتهم للتنزه عبر الشارع الكانوبي وطريق الهيباستاديوم0
ديمتري : هل تحكي لنا ياميناس ولو قليلاً عن ” مكتبة الإسكندرية ” العظيمة التي ليس لها مثيل في العالم كله ، وكثيراً ما تقضي أوقاتكم بين رفوفها ؟
ميناس : عقب موت ” الإسكندر الأكبر ” في ريعان شبابه ، وإنقسام مملكته إلى أربعة ممالك كما أخبرت النبؤة بهذا تماماً ، كانت مصر مـن نصيب ” بطليموس الأول ” سوتر ، الذي أحضر ” ديمتريوس الفاليري ” الذي وُلِد فـي ” فاليرون ” إحدى ضواحي أثينا ، ليكون مستشاراً له في وضع القوانين والمعاهدات ، وديمتريوس هو تلميذ ثيوفراسطوس خليفة أرسطو في رئاسة مدرسة أثينا ، وكان قد تولى حكومة أثينا لمدة عشر سنوات ( 317 – 307 ق0م ) وإلى ديمتريوس الفاليري يرجع الفضل الأول في إنشاء مكتبة الإسكندرية ، فهو الذي أشار على بطليموس أن ينشئ مكتبة ضخمة على غرار مكتبة أثينا ، وإذ كان بطليموس مثقفاً إستحسن رأيه ووافقه على الفور ، وجعل هذا المشروع العظيم تحت إشراف ديمتريوس ، الذي بدأ بتجميع الكتب وبدأ بإنشاء المبنى الضخم الذي إزدانت أعمدته بالنقوش ، وجاءت الرفوف تلف الجدران ، ووضعت الكتب على الأرفف ، وكل كتاب كما تعلمون هو درج ملفوف ومربوط ، فوضعت الكتب بعضها رأسي وبعضها أفقي ، وبعض الكتب الهامة حُفظت في أوان فخارية حفاظاً عليها من الرطوبة ومن الحريـق ، وإستطاع ديمتريوس جمع مائتي ألف كتاب ، وتم إختيار مديراً للمكتبة على درجة عالية من العلم والثقافة وهو ” زينودوتوس الأفسسي “0
وظل العمل يجري بجدية في عصر ” بطليموس الثاني ” فلادلفيوس ، فنقل مدرسة عين شمس ومكتبتها إلى الإسكندرية ، وهو الذي إستقدم من فلسطين سبعين شيخاً من اليهود ، فأقاموا في جزيرة فاروس التي نحن نتجه إليها الآن ، وبدأ بأعظم عمل في ذلك العصر ، وهو ترجمة التوراة من العبرية التي لا يفهمها إلاَّ بعض اليهود المتخصصين إلى اليونانية اللغة الدولية ، وأرسل سفراءه في عواصم العالم لشراء ما يستطيعون من كتب ، حتى بلغ في عهده عدد الكتب بالمكتبة إلى 400 ألف مجلد متداخل ، و 90 ألف مجلد منفـرد ، وعُيـن مديــراً للمكتبـة خلفاً لزينودوتوس ” كليماخوس التريني ” الأديب والشاعر ، فقـام بفهرسة جميع الكتب ، وإستغرق هذا العمل الجبار مائة وعشرين مجلداً ، وشملت المكتبة كتباً مختلفة يونانية ومصرية وعبرية وأثيوبية وفارسية وفينيقية ، وتناولت هذه الكتب جميع التخصصات والعلوم التي عُرف حينذاك ، وكان من تقاليد المكتبة أنه عندما يقوم بزيارتها أحد المؤلفين يهدي نسخة من مؤلفاته للمكتبة ، فهذا شرف له أن توضع كتبه في تلك المكتبة الأولى في العالم كله ، بل أن ” بطليموس الثالث ” أمـر بفحص الكتب التي بحوزة أي مسافر ، وضمها للمكتبة ، وأن يُسلَّم صاحبها نسخة منها ، وأخذ ” بطليموس الثالث ” من مكتبة أثينا أصول مؤلفـات ” إيسخولوس ” و ” سوفوكليس ” و ” يوريبديديس ” بضمان مالي 15 تالنتا ( 90 ألف دراخمة ) ثم تخلى عن هذا الضمان وإحتفظ بهـذه الأصول في مكتبة الإسكندرية ، وأرسل نسخاً منها لمكتبة أثينا ، وكان من الأعمال الهامة التي تقوم بها المكتبة هي نسخ الكتب التي تطلبها من الجماهير وبيعها لطالبيها ، فلم يقتصر عمل المكتبة على حفظ الكتب للإطلاع عليها فقط ، إنما هي أكاديمية عظيمة ظهرت فيها علوم تصنيف الكتب وتبويبها ، ونقد النصوص والمتون ، والضبط والترقيم ، وأُبتكرت العلامات الصوتية ، وعلامات الإستفهام والتعجب ، وفواصل الكلام ، وفيها نُقّحت مؤلفات ” هوميروس ” ، فكثر عدد الوافدين إلى المكتبة من شتى بقاع الأرض ، وكل من يأتي للإسكندرية ولا يـزر مكتبتها فإنه يفوته الكثير ، وقد إرتبط بالمكتبة عظماء العلماء مثل :
أراتوستينيس Eratosthenes : كـان شاعراً وفيلسوفاً ومؤرخاً ، وهو الذي قال ( سنة 280 ق0م ) أن الأرض هي التي تدور حول الشمس ، وإستطاع أن يقيس محيط الكرة الأرضية (37)0
إقليدس Euclides : الذي ألَّف موسوعة ضخمة تشمل مجموع علوم الرياضيات ( حساب – هندسة – فلك – موسيقى – بصريات – ميكانيكا ) كما ألَّف كتاب ” الأصول ” الذي ليس له مثيل في تاريخ الرياضيات ويبحث في العدد الصحيح وأنواعه ، وأيضاً في الأشكال المستوية مثل المثلثات والمربعات والأشكال الخماسية0
هيرون Heron : الذي إخترع الآلة البخارية ، والآلة الأتوماتيكية0
كتيسيبيوس : الذي وُلِد في منتصف القرن الثالث ق0م ، وهو عالِم الميكانيكا الأول ، فقام بأبحاثه عن الآلات التي تعمل بالهواء مثل ” مرونة الهواء ” وهو الذي إخترع المضخة الماصة الكابسة ، التي تجدها على سفن الأسطول البحري الروماني ، كما إخترع ” الأرغن المائي ” الذي كانت تلعب عليه زوجته0
بطليموس : العالِم الفلكي الشهير والذي أُشتهر في القرن الثاني الميلادي ، وهو من مدينة الفرما ( بالقرب من بور سعيد ) ودرس الجغرافيا على أساس رياضي وفلكي ، وعمل خريطة للعالم بأبعـاد صحيحـة ، أوضح بهـا الأقاليم ، ووضع كتاب ” المجسطي ” الذي حوى القواعد الفلكية0
وأيضاً من علماء الفلسفة الذين إرتبطوا بمكتبة الإسكندرية :
فيلون اليهودي : وهو أحد الأثرياء اليهود بالإسكندرية عاش في القرن الأول الميلادي ، وقدم الأسفار المقدَّسة من وجهة نظر فلسفية ، فقد درس الفلسفة الإغريقية وإنشغل بها وكتب مجلدات كبيرة يشرح ويفسر فيها التوراة لليونانيين ، ويوضح أن الفضائل التي يبحثون عنها توجد بعمق في التوراة0
أفلوطين : من أبناء هذا القرن الثالث الميلادي ، وهو من أبناء مصر العليا ( أسيوط ) وقد تصدى لحل المشاكل الدينية عن طريق الفلسفة ، فهو يبدأ بالفلسفة وينتهي بالفكرة الإلهيَّة ، وتميَّز أفلوطين بالعفة والطهارة والنُسك ، وسافر إلى روما ونشر فلسفته التي جمعت بين الفكر اليوناني والفكر الشرقي ، ونادى بأن الإنسان العاقل هو من يسمو فوق العالم المادي المحسوس ويرتقي إلى العالم الروحي المجرَّد ، وبقدر ما يتحرَّر الإنسان من الأمور المادية المحسوسة وينطلق نحو التأمل العقلي بقدر ما يقترب من الهدف ، وتعود النفس إلى المبدأ الأول والإتحاد بالله0
وكذلك علمـاء الطب مثـل ” جالينوس ” و “هيبوقراطيس” ، والطب السكندري له شهرته على مستوى العالم ، فالطبيب الذي يتعلم في الإسكندرية له إحترامه في كل العالم0
وأكمل ” ميناس ” حديثه قائلاً : عندما كنت أطالع في أحد كتب الطب وجدت علاجاً لسقوط الشعر وهو ” وضع صبغة الأفيون Laudandum في النبيذ غير المُخمَّر ، (ثم ) أضف زيت الريحان الشامي بالتعاقب مع النبيذ ، حتى يصبح الخليط في قوام العسل ، ثم إمسح بها الرأس قبل الحمام وبعده ” (38)0
كما إرتبـط أشهـر الشعراء بالمكتبة مثل ” كاليماخس ” أمين المكتبة وشاعر القصر والذي أُشتهر شعره في الرثاء ، و ” ثيوكرينوس ” و ” أبولونيوسالرودسي ” وطالما قامت بينهم الحوارات والسجالات والمعارك الأدبية النقدية ، حتى أُطلق على الأدب اليوناني كله الأدب السكندري ، بعد أن إختطفت الإسكندرية الأضواء من أثينا ، وصار لها الدور الأول في بناء الحضارة الإنسانية0
وإن كان بالإسكندرية ثلاث مكتبات وهي المكتبة الكبرى ، ومكتبة معبد السيرابيوم التي حوت 400 ألف كتاب ومكتبة معبد القيصرون ، إلاَّ أن المكتبة الكبرة هي المكتبة الأم0
وصل الأصدقاء إلى جزيرة فاروس وإختاروا ذات المكان الهادئ على أطراف الجزيرة بالقرب من فنار الإسكندرية أحد عجائب الدنيا السبع ، وجلسوا كالعادة يتحاورن ويتحادثون والحديث يحلو ويطول ، وإن كانـت أحاديثهم السابقة يغلب عليها الطابع الديني ، فإن حديث اليوم دار حول تاريخ مصرنا ولاسيما مدينتنا الرائعة الإسكدنرية ، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الله هو العامل في التاريخ0
ديمتري : عودة إلى حلم نبوخذ نصر ( دا 2 ) الذي رأى تمثالاً رأسه من ذهب إشارة للإمبراطورية البابلية وهو ما يقابل في رؤيا دانيال ( دا 7 ) الحيوان الأول الذي له شكل الأسد وجناحا النسر ، وصدر التمثال وذراعاه من فضة إشارة إلى مملكة فارس ويقابل في رؤيا دانيال الدب الذي بين أسنانه ثلاثة أضلع ، وفخذ التمثال وبطنه من نحاس إشارة للإمبراطورية اليونانية التي بدأها الإسكندر الأكبر وسريعاً ما إنقسمت إلى أربعة ممالك ، ويقابل في رؤيا دانيال النمر المجنَّح الذي له أربعة أجنحة وأربعة رؤوس ، وساقي التمثال وقدميه من حديد وخزف إشارة للإمبراطورية الرومانية ويقابل في رؤيا دانيال الحيوان الهائل القوي ذو الأسنان الحديدية 00 ثم تساءل ديمتري : أين مكان ملكة مصر هنا ؟
أرشي : حقبة ” كليوباترا ” هي الحقبة النهائية من مملكة اليونان ، فكليوباترا هي آخر الملوك النحاس 00 آخر ما تبقى من نحاس في هذا التمثال العجيب ، تمثال تعاقب الممالك 00 دعونا نصغي لمعلم التاريخ ” ميناس ” ليحدثنا عن ملكة مصر0
ميناس : تفضل ياأخ ” أرشي ” فأنت الذي حدثتنا من قبل عن النمر المجنَّح حديث ممتع ، ووعدتنا بإستكمال الحديث عن كليوباترا0
أرشي : أنا مجرد هاوي أما أنت فقد صرتَ محترفاً ، فأنت الدارس والباحث المدقق ، فدعنا نستفيد من وجودك معنا0
ميناس : طالما تغنى الشعراء بملكتنا العظيمة ، وطالما تحاور الفلاسفة عنها ، كثيرون رفعوا قدرها ونظروا إليها أنها الملكة شديدة الوطنية التي إستخدمت كل وسيلة من أجل حفاظها على إستقلال مصرنا الحبيبة ” وصفها أكبر أساتذة التاريخ الهلينسي بأنها أعظم خلفاء الإسكندر الأكبر00 فقد كانت إمرأة عبقرية فذة ، جديرة بأن تهابها روما كخضم 00 { إن روما لم تستسلم إطلاقاً للخوف من أية دولة أو أي شعب ، قد خشيت شخصيتين ، أحدهما هانيبال ، والأخرى إمرأة } ” (39) 00 وكثيرون حطوا من قدرها ووصفوها بأنها الملكة الشريرة الشهوانية الأنانية التي تسعى نحو عرش روما وتطمع أن تكون السيدة الأولى للعالم كله ، ففقدت في مغامراتها العاطفية عرش مصر0
أرشي : أدخل في الموضوع ياأخ ” ميناس ” وحدثنا عن تلك الملكة التي أنتم مُتيّم بها0
ميناس : دعوني أوجز القول في عناصر محددة وكلمات قليلة :
نشأة كليوباترا : وُلِدت ” كليوباترا ” السابعة أشهر ملكات التاريخ السكندري في سنة 69 ق0م بالقصر الملكي المطل على الميناء الشرقي ، ونشأت وترعرعت فيه ، وتعلمت الحكمة والأدب والتاريخ والفلسفة ، وإتقنت عدد كبير من اللغات ، ومنها لغة مصر القديمة ، وأحبها كهنة مصر فصوَّروها في شكل الإلهة إيزيس على جدران معبد دندرة ومعابد النوبة ، وفعلاً إعتقدت كليوباترا تماماً أنها من النسل المقدَّس للإلهة إيزيس ، وطالما وقفت بخشوع في هيكلها المرتفع على الصخر بجوار القصر الملكي تسألها الحماية من الدسائس التي تسود القصر0
” وعندما كانت عينا كليوباترا تتطلع متنقلة على الدرج الذي يؤدي إلى القصر إلى الميناء الخاص أخذت تتساءل عما تخفيه مياهه الزرقاء الهادئة من أسرار ، إذا إختفى بهذه الوسيلة أمير بعد أمير بل وأميرات أيضاً من أسر البطالمة ، وبدت كما لو أن القدر المؤلم قد قضى بأن يُقتل أفراد هذه الأسرة بعضهم بعضاً جيل بعد جيل 0 إنها لعنة شديدة ” (40) 00 كانت ” كليوباترا ” تقطع الطريق من الحي الملكي إلى الفنار محمولة على محفتها ، حولها وصيفاتها وحرسها الخاص ، وهي تحسد الفتيات السكندريات اللاتي ينطلقن في شوارع الإسكندرية بلا قيود0
صراع كليوباترا وشقيقها : في سنة 51 ق0م مات بطليموس الزمار وخلف على عرش مصر إبنته كليوباترا وهي في الثامنة عشر من عمرها ، مع شقيقها بطليموس الثالث عشر وهو في العاشرة من عمره ، فكان له ثلاثة أوصياء هم ” أخيلاوس ” قائد الجيش ، و ” بوتينوس ” معلم الأولاد ، و ” ثيؤدوتس ” الفيلسوف ، وعندما شعر هؤلاء الأوصياء أن كليوباترا تنوي الإنفراد بالعرض أطلقوا الشائعات حولها بأنها سوف تبيع مصر والمصريين لروما لأنها عميلة ، وأنها لا تكف عن إكتناز كنوز الذهب والفضة والجواهر من دماء المصريين ، ونجحت هذه الحملة ، حتى أن كليوباترا تركت الإسكندرية وهربت ، لكنها لم تستسلم فهي مقاتلة عنيدة ، وقد جمعت جيشاً من الأعراب عند حدود مصر الشرقية ، وتأهبت لغزو الإسكندريــة ، ووصلــت إلى حصن ” بلوزيوم ” ( الفرما ) سنة 48 ق0م كما تأهب جيش أخيها للقائها0
يوليوس وبومبي : وإذ بيوليوس قيصر يتابع أخبار مصر أول بأول ، ولاسيما أن بطليموس الزمار قد عهد إلى روما الأشراف على تنفيذ وصيته نحو تنصيب إبنته وإبنه على عرش مصر ، فوصل بجيشه وأسطوله في أكتوبر سنة 48م إلى مصر ، وقد كان في حرب مع منافسه ” بومبي ” ، وبومبي هو القائد الروماني الذي أخضع أرض فلسطين للولاية الرومانية سنة 63 ق0م ، وقد ثار النزاع بينه وبين يوليوس على عرش روما ، وكانت المعركة الفاصلة في ” فارسالوس ” والتي إنتصر فيها يوليوس ، ولكن بومبي لم يستسلم ، بل إتجه على ظهر سفينة إلى مصر مع زوجته ” كورنليا ” وإبنه الصغير ” لاجتا ” وطلب العون والمدد من بطليموس الصغير الثالث عشر ، وهو يذكّره بالصداقة التي كانت بينه وبين أبيه الزمار ، فبومبي هو صاحب الفضل في إعادة أبيه إلى عرشه يوم طُرد من الإسكندريـة ، ولكـن للأســف الشديد فإن ” ثيؤدوتس ” أحد الأوصياء قد إتخذ قراراً في منتهى الخسة ، إذ قرر إغتيال ” بومبي ” للتقرب من ” يوليوس “0
وفي سبتمبـر سنة 48 ق0م توجـه زورق صغيـر ليُحضِر ” بومبي ” من سفينته إلى الشاطئ ، وإذ لم يحضر بطليموس إرتاب بومبي ، ولكن الضابط ” سبستميوس ” أخبره بأنه ينتظره علـى الشـط ، وعندمــا وصل الزورق إلى الشط نهض ” بومبي ” أخذاً بيد أحد الجنود ليساعده على النزول ، وفي لحظة غدر طعن ” سبستميوس ” بومبي من الخلف الطعنة الأولى ، وتوالى من معه عليه بالطعنات ، وسقط مومبي مضرجاً في دمائه دون أن ينطق بكلمة واحدة ، وسُمع في الأفق صوت صرخة مرة من ” كورنليا ” زوجة بومبي ، وأسرعت السفينة التي تقلها مع إبنها الصغير بالهرب في عرض البحر0
وبعد أربعة أيام وصلت سفينة يوليوس قيصر إلى ميناء الإسكندرية ، وأسرع ” ثيؤدوتس ” للقائه حاملاً معه رأس بومبي ، وإذ رأى الرأس أشاح برأسه بعيداً ، ولم يخفي إنزعاجه من هذه الخسة ، وعندما تسلَّم خاتم بومبي بكى على خصمه الشريف ، وإن كانت العدالة تستوجب الإنتقام من قتلة بومبي ، لكن قيصر لم يفعل هذا ، وإكتفى بطرد القتلة من أمامه ، وأقام جنازة عسكرية كبيرة تليق بعظمة هذا القائد الذي أُغتيل ، وأرسل سفينة مجلَّلة بالسواد ومعها رماد جثة بومبي إلى أرملته علامة على مدى إحترامه لهذا القائد العظيم وخزنه عليه0
يوليوس وحرب الإسكندرية : أرسل ” يوليوس قيصر ” إلى كل من أنطونيوس الثالث عشر وشقيقته كليوباترا لكيما يتخلى كل منهما عن جيشه ويجلسا إلى مائدة المفاوضات ، فأقبل بطليموس بينما ظل جيشه كما هو ، بينما تخلت كليوباترا عن جيشها ، وإحتالت لكيما تجد طريقها إلى قيصر في الإسكندرية ، وبينما أعداؤها يحيطون بالحـي الملكـي ، وجدت وسيلة ما للوصول إلى قيصر ، وقيل أنهـا أخـذت زورقاً صغيراً وبحاراً رومانياً ماهراً ( قد يكون أبلودوروس الصقلي كاتم أسرارها ) وإستطاع البحار التسلل من البحر للميناء الشرقي ، وعندما إعترض الحرس الروماني الزورق أقنعهم البحار أنه جاء من صقلية خصيصاً يحمل بساط هدية للقيصر ، فسمحوا له بالدخول ، وترك الزورق وحمل البساط على كتفه وإتجه للقصر الملكي0
وحالـف الحظ هذا الرجل حتى وجد نفسه في مواجهة القيصر ، فأنزل البساط وفك الحبل ، وإذ بملكة مصر الساحرة كليوباترا فـي مواجهة قيصر ، فتاة في الثانية والعشرين من عمرها ، وهو في نحو الثانية والخمسين من عمره ، ففتن بجمالها ولباقتها وسعة أفقها وسحر صوتها ، وأدركت كليوباترا بذكائها أنها سلبت لب الرجل ، فابتسمت في وجهه وأخفت ما يجيش في صدرها من غيظ لأن ” قيصر ” لم يدخل للإسكندرية كصديق ، إنما دخلها كغازٍ منتصر 00 ” كان شعرها الكستنائي قد تهدَّل قليلاً بسبب لفها في السجادة ، ولكن محياها وعينيها الرماديتين الجميلتين وقوامها النحيل كانت كلها تسلب العقل ، أضف إلى ذلك أنه كان في إستطاعته أن يسمع صوتها الذي أتفق جميع مؤرخي عصرها ، مهما بلغ كرههم لها ، على القول أنه كان أكثر صفاتها إغراءً للرجال ، ولم يتمالك قيصر نفسه ، فضحك0
ما الذي رأته كليوباترا ؟ رأت رجلاً قد جاوز الخمسين من عمره ، ولكنه نحيف قوي وذو مظهر يدل على القوة0 وكان طويل القامة وبشرته صافية وعينان سريعتان سوداوان لا يفوتهما شئ 0 وكان يرتدي رداءً أبيض مزخرف الحافة بلون أرجواني ، وكان منسجماً عليه0 أما شخصيته ، فكانت تستطيع أن تحكم عليها من مظهره ومما كانت سمعته ( عنه ) ، كانت شخصيته صريحة وحازمة ، وكان رجلاً عملياً وليس خيالياً ، أضف إلى ذلك أنه كان رومانياً منتصب القامة شديداً في معاملته للناس ، كريما مع الذين يطيعونه والمخلصين له ، كريم الأخلاق نحو أعدائه في بعض الأحيان ولكنه لا يهتم بالعواقب كالأيام التي كان يعيش فيها وتعيش فيها كليوباترا0 ولكن أعظم ما راق لها فيه هو جرأته التي لا تقل عن جرأتها0 وما من شك في أنه كان أشجع من جنوده ، وكان مستعداً لأن يعيش حياة شاقة كما كانوا يعيشون وكانت شعبيته بينهم وحبهم له مثلاً سائراً في كل أنحاء العالم ” (39)0
وبعد هذا اللقاء أدرك ” قيصر ” أن إقامته في الإسكندرية ربما تمتد ، فنزل إلـى شوارع الإسكندرية تحف به قوات الحرس الخاص ، وشارات سلطته القنصلية ، ودعا ” قيصر ” كليوباترا وشقيقها للإجتماع في الجمنازيوم ، وقرأ وصية أبيهما بطليموس الزمار بأن تحكم مصر كليوباترا مـع شقيقها بطليموس الثالث عشر ، وأن ترعى رومـا تنفيـذ هــذه الوصيـة ، وبهذا أفصح ” يوليوس ” عن حقه في التدخل لحل القضية ، ولكن إذ أحس بطليموس أن أخته سلبت قلب قيصر ، شعر مع أعوانه بعدم الإرتياح ، ولاسيما أن يوليوس دخـل للإسكندرية في موكب قنصلي ، معلناً سطوة روما وسيادتها ، ورفض السكندريون هذه الغطرسة الرومانية ، فاندلعت القلاقل والإضطرابات وسادت أحياء الإسكندرية ، ومما ساعد على ذلك ضألة قوات ” قيصر ” التي لم تتعدة سوى 34 سفينة ، و 800 فارس و 3200 جندي0
وسريعاً ما إشتعلت الأمور ، فتحصَّن ” يوليوس ” في الحي الملكي وركز قواته البحرية في الميناء الشرقي والبرية في الحي الملكي وجزيرة فاروس ، وقطع الشعب المياه العذبة عن الحي الملكي وضخوا بدلاً منها مياه مالحة ، فتذمر الجنود الرومان مفضلين مواجهة جيش عرمرم من البرابرة عن أن يموتوا عطشاً ، ولكن قيصر أشار عليهم بحفر أبار ، ونجحت الفكرة ووصلوا للمياه العذبة ، وأرسل ” يوليوس ” يطلب إمدادات من الخارج ، ولم يفكر في الهرب بسفنه رغم أن ” أخيلاوس ” قائد الجيش وأحد الأوصياء الثلاثة دخل للإسكندرية بجيش قوامه ألفي فارس ، وعشرين ألف جندي في أوائل نوفمبر سنة 48 ق0م ، ومع أن يوليوس قيصر أرسل إليه رسولين يطلب السلام ، إلاَّ أن ” أخيلاوس ” إخترق العادات المتعارف عليها ، فقتل أحد الرسولين وأصاب الآخر ، وحاصر ” أخيلاوس ” الحي الملكي بحراً وبراً ، وقد تأهبت السفن المصرية للإشتباك مع السفن الرومانية ، وأطلق ” يوليوس قيصر ” بطليموس الثالث عشر من الحي الملكـي ، لا لينضم للقوات المصرية ، ولكن تحسباً منه إذا قُتل فلا يقال عنه أنه قُتِل بيد غوغاء الإسكندرية ، إنما قُتِل بيد جيش ضخم يقوده ملك0
وإستطاع ” يوليوس قيصر ” بحنكته العسكرية أن يستولي على فنار الإسكندرية ، ونجح في إضرام النيران في سفن الأسطول المصري بالميناء الشرقي ، وإمتدت ألسنة اللهب من سفينة إلى أخرى ، حتى أتت النيران على السفينة رقم 72 والأخيرة ، بل أن ألسنة اللهب إرتفعت وسرعة الرياح زادت من إشتعالها وإنتقالها فامتدت إلى دار الصناعة ، وما جاورها من مخازن الورق ، والمباني ، بل أشتعلت النيران في جزء ليس بقليل من مكتبة الإسكندرية وألتهمت عدد كبير من الكتب ، فجميعها من ورق البردي سريع الإشتعال0
أما ” كليوباترا ” التي تقبع في قصرها تحت بصر وسمع يوليوس ، وتطالع الأخبار بل تشاهدها بعينها فقد إشتعل فؤادها بألسنة اللهب التي أكلت الأسطول المصري ، وإمتدت للمخازن والمباني ، ولشد ما أحزنها إمتداد النيران إلى مكتبة الإسكندرية التي لا تضاهيها مكتبة ما في الوجود كله ، ولأنها مثقفة جداً فقد أحست بوطأة الكارثة ربما أكثـر مـن أي شخص آخـر ، وهذا ما دعى ” يوليوس قيصر ” فيما بعد أن يضمد هذا الجرح ، إذ أحضر لها مائتي ألف مجلد من مكتبة مدينة برغامة الشهيرة بأسيا الصغرى0
ورغم ما حدث فإن المصريين قد ثبَّتوا أقدامهم في ميناء الصمود الحميد ( الميناء الغربي ) وفي طريق الهيبتاستاديوم ، وشرعوا على الفور في بناء بعض السفن الجديدة ، وتجهيز معدات الحرب ، وظلـوا يهاجمون التحصينات الرومانية ، وبينما يستعجل ” يوليوس قيصر ” الساعات وصلت الإمدادات الضخمة من كريت ورودس وكليكية وسوريا وبلاد العرب ، فوصلت الفرقة (37) التي أوفدها ” حنايوس دومينيوس ” والي أسيا ، وسريعاً ما إشتعلت الحرب الفاصلة ، ورغم أن المصريين إستبسلوا في صد الهجمات الرومانية ، حتى أنهم في إحدى الجولات كـاد الزورق الذي يستقله ” قيصر ” أن يغرق في الطرف الشرقي بالميناء الشرقي ، مما إضطر ” قيصر ” للسباحة ، حتى وصل إلى سلم القصر وهو ينذف دماً لينجو بنفسه0
ودام القتال عدة أيام بين الجيش المصري بقيادة ” أخيلاوس ” ومساندة الشعب وبين الجيش الروماني ، وخلال هذه الجولات سقط ” بطليموس الثالث عشر ” في الماء ومات غرقاً ، وهو في السابعة عشر من عمره ، ولم تشعر ” كليوباترا ” بالحزن ولا بالآسى من أجل شقيقها الصغير لأنه كان ينافسها علـى عرش مصر ، وقبض ” قيصر ” أيضاً على ” أرسينوي الرابعة ” ولم تشفع لها شقيقتها كليوباترا السابعة ، بل تركتها لمصيرها البائس ، وهي أن تُعرض في روما في موكب نصرة يوليوس0 وقدَّر يوليوس مشاعر كليوباترا فلم يستبح المدينة لجنوده ، وعفى عن المصريين الذي قاتلوه ولم ينتقم منهم ، وثبَّت ” يوليوس ” ملك كليوباترا على مصر بالإشتراك مع شقيقها الأصغر ” بطليموس الرابع عشر ” ذو الخمسة عشر عاماً ، وعقد ” يوليوس ” زواجاً صورياً بين كليوباترا وشقيقها الملك الجديــد ، وخفَّض الديــون التـي إستدانها أبيهم ” بطليموس الثاني عشر ” ( الزمار ) وأعـاد لمصر جزيرة قبرص ، وفعل كل هذا من أجل عيون كليوباترا0
كليوباترا ويوليوس : تزوج ” يوليوس ” بكليوباترا زواجاً غير شرعي ، لأن القانون الروماني لا يبيح تعدد الزوجات ، وعاش يوليوس أجمل أيام عمره ، وهو يتفقد معالم الإسكندرية ، فذهب إلى قبر الإسكندر ، والميوزيوم ، والمكتبة ، ودعته كليوباترا لحضور بعض الندوات الفلسفية ، وعرفته على كبار العلماء والأدباء الذين فتحت لهم قصرها ، وقام ” يوليوس ” برحلة نيلية مع كليوباترا على صفحات النيل الخالد وحتى الحدود الجنوبية لمصر ، فأبحر على السفينة الملكية التي تتكون من طابقين ، ولها صاري يبلغ إرتفاعه نحو ثلاثين متراً ، يحمل قلعاً من الكتان له حافة إرجوانية مطرزة ، وتحمل صفين من المُجدّفين الأقوياء الذين يضربون الماء بمجاديفهم الفضية ، فيدفعون السفينة للأمام ، والسفينة كأنها قصر صغير ، تجد قاعة الطعام مبطَّنة بوزرات من خشب الأرز والسرو ، ومزينة بالزخارف المصرية بألوانها الزاهية ، وغرف النوم المؤثثة بالأثاث الفاخر ، وهناك على سطح السفينة أماكن للإسترخاء بلا سقف يحلو فيها الراحة فـي الصبـاح ووقت الغروب ، وفي هذه الرحلة رتبت ” كليوباترا ” الزيارات للمعابد والآثار التي تفوق عن أية أثار أخرى روعة وجمالاً وجلالاً ، ووقف القيصر أمام الإهرامات مشدوهاً ، وكلما شدت هذه الآثار إعجاب قيصر كلما إزداد إفتخار كليوباترا بمصريتها ، فإنها مصرية حتى النخاع رغـم أنها من أصول أغريقية ، لكنها تشعر أن بناة الأهرام هم أجدادها ، فإن كليوباترا لم تنتست لمصر ، إنما إلتفت بمصر ، فعاشت مصر داخلها وخارجها0
وأبحرت سفينة يوليوس وكليوباترا في موكب يضم أربعمائة سفينة رومانية ، فإن يوليوس قيصر قصـد أن يكون مقبولاً مع قواته لدى الشعب المصري ، عندما يرونـه مـع ملكتهم المحبوبة ” كليوباترا ” وإحتفى الكهنة بزواجهما وأعتبروا ” يوليوس ” أنه الإله آمون ، ونقشوا على جدران المعبد بأرمنت هذا الزواج ، وصوُّروا آمون على شكل إنسان له ملامح يوليوس قيصر له قرنا كبش ملتويان0
وتـرك ” يوليوس قيصر ” الإسكندرية في يناير سنة 47 ق0م ، وكانت كليوباترا حاملاً منه ، وما أن شعرت بالجنين ينمو في أحشائها حتى تمنت أن يكون المولود ولداً ، لأن يوليوس ليس له إبناً يخلفه على عرش روما الذي إنفرد به بعد إغتيال ” بومبي ” منافسه ، وترك ” يوليوس ” خمسة عشر ألف جندياً رومانياً لحفظ الأمن بالإسكندرية وحماية زوجته كليوباترا ، وإتجه إلى آسيا الصغرى ، فحارب الملك ” نارناكيس ” في ربيع سنة 47 ق0م في معركة قصيرة إستغرقت ساعات قليلة ، حتى قال قولته الشهيرة ” أتيتُ ، رأيتُ ، إنتصرتُ ” (41) وأكمل ” يوليوس ” مسيرته إلى روما ، وعندما دخلها عرض ” أرسينويالرابعة ” موثقة بالسلاسل في موكب نصرته ، ثم أرسلها كأسيرة في معبد أرطاميس بأفسس0
وفـي صيـف سنة 47 ق0م وضعت كليوباترا طفلها ودعته ” بطليموس الخامس عشر ” ورأت فيه الوريث الشرعي لعرش روما ، أما الشعب المصري فقد دعاه ” قيصرون ” أي قيصر الصغير نسبة إلى يوليوس قيصر ، وفي سبتمبر سنة 47 ق0م شقت سفينة كليوباترا عباب البحر المتوسط من الإسكندرية إلى روما ، تحمل على متنها ملكة مصر ، مع شقيقها الأصغر – وزوجها الصوري – الفتى ” بطليموس الرابع عشر ” وطفلها ” قيصرون ” وخرجت جماهير روما لتشاهد ملكة مصر ترفل في غناها ومجدها ” وكانت الملكة تبدو جميلة وهي محمولة في محفتها ، متوَّجة بعصبة من الذهب وتاج رأس الأفعى ” سيدة الحياة ” فوق جبينها ، وكان يجلس فوق ركبتيها طفل ذهبي البشرة ، كانت ملامحه هي ملامح قيصر دون شك ، ولم تكن هناك حاجة لأي برهان آخر لإثبات نسبه ” (42) وكانت كليوباترا تشعر بالفخر والإعتزاز ، إذ هي ملكة دولة مستقلة جاءت لزيارة عاصمـة الإمبراطورية الصديقة ، وإن كانت تخفي في نفسها حسرة ، فلا هي زوجة شرعية للإمبراطور ، ولا إبنها إبناً شرعياً له ، ومع ذلك فإن أملها لم ينقطع في أن يُعالج الموضوع بطريقة ما ، وتصل إلى عرش روما في يوم ما0
وإستضاف ” يوليوس قيصر ” كليوباترا ملكة مصر في فيلا فاخرة في ضيعته الخاصة على تل جانيكولا عبر نهر التيبر ، لأن زوجته ” كاليورينا ” تقيم في القصر الإمبراطوري ، وأمر مثَّالي روما بإقامة تمثال من الذهب للملكة كليوباترا في صورة الإلهة فينوس إلهة الجمال ووضعه في محراب فخم يليق بها ، كما أمر بسك قلادة نُقشت عليها صورة كليوباترا في هيئة الإلهة إيزيس – التي عرفها الرومان وأضافوها إلى معبوداتهم – وتحمل إبنها على ذراعيها ، وأوحى قيصر لأحد عظماء روما ليتقدم بمشروع قانون لمجلس الشيوخ ليُسمح للقيصر بالزواج من أجنبيات لإقامة نسل له ، ومنح ” يوليوس ” الملكة ” كليوباترا ” لقب ” صديقة الشعب الروماني ” 0 وكان يذهب إليها يومياً ، كما زار الملكة كبار رجال الثقافة والفن فأُعجبوا بعلمها وحصافتها وذكائها وغناها وكرمها0
أما الشعب الروماني فلم يسترح لهذه الملكة التي هزمت بطلهم بتعويذاتها السحرية ، فجاءت تسعى إلى عرش روما ، وهي خليلة قيصر وليست زوجة له ، وإتهموها بالتعالي والكبرياء والغطرسة ، تعيش في بذخ وترف خيالي ، فعبس ” بروتوس ” صديق قيصر ، والذي سيغتاله في يوم ما ، في وجهها ، ورغم أنها وعدت ” شيشرون ” بأنها ستهديه بعض الكتب الثمينة بمكتبة الإسكندريـة إلاَّ أنـه كرههـا ، وكتــب في رسالته إلى صديقه ” أثيكوس ” يقول : ” إنني أكره الملكة ، ويعلم أمونيوس الذي أكد وعودها إنني على حق في أن أفعل ذلك ، فوعودها إليَّ كانت متعلقة بكتب لغوية أدبية ولا تنقص من كرامتي الشخصية ، وكنت أجسر أن أتحدث عنها في إجتماع شعبي0 وأما صلف الملكة عندما كانت في حدائقها ( قصرها الريفي ) علـى الضفة الأخرى من التيبر ، فلا أستطيع أن أذكره دون أن أشعر بألم شديد ” (43)0
كما ألَّف ” هورتيوس ” أنشودته ضد كليوباترا قائلاً : ” ذلك الوحش المميت ، التي تقود بفجور غير عادي عصابة من الأغبياء لتدمير هذا الكابيتول والإمبراطورية الرومانيـة ” (44)0 والحقيقة أنه ” من الإحجاف وصفها بأنها كانت مجرد غانية لعوب0 لقد كانت كليوباترا ملكة واسعة الثقافة ، مليئة بالحيوية ، ومنظمة بارعة0 حبتها الطبيعة بالجاذبية والذكاء وعذوبة الصوت ، وأوتيت من مضاء العزم والشجاعة والطموح قدراً كبيراً ، ولا يستطيع مؤرخ منصف أن يأخذ عليها إستغلال كل هذه المواهب في تسخير قادة الرومان لتحقيق أطماعها وصيانة إستقلال بلادها ” (45)0
إغتيال الإمبراطـور : وظن المحافظون أن ” يوليوس قيصر ” يسعى لإعادة الملكية ثانية إلى روما ، فأشاعوا عنه أنه ينوي نقل العاصمة إلى الإسكندرية ، بينما ملكة مصر ” كليوباترا ” قد تركت الإسكندرية منذ ما يقرب من عامين بلا ملكة ولا ملك ولا حاكم ، فإنها تؤهل نفسها للحياة في روما ، وفي 15 مارس سنة 44 ق0م إنفرد ثلاثة وعشرون شخصاً بيوليوس قيصر وهو على أعتاب مجلس الشيوخ ، وطعنوه طعنات نافذة ، ونظر فإذ به يلمح صديقه ” بروتس ” بينهم فقال : ” حتى أنت ياولدي 00 حتى أنت يابروتس !! ” وذاعت الأنباء في روما ” لقد قتلنا الظالم ” أما الشعب فقد صمت من هول المفاجأة ، وإمتزجت الحسرة بالألم ، وإرتسمت المأساة واضحة على وجه ملكة مصر ، فشدت الرحال وقفلت إلى بلادنا المصرية تنشد الأمن والأمان ، بعد أن تبخرت أحلامها في أن تصبح سيدة روما الأولى 0 عادت كليوباترا إلى الإسكندرية لتهتم بالبلاد التي تركتها نحو سنتين ، فنظمت الضرائب ، وحسنت من وسائل الري ، وإهتمت بتجميل الإسكندرية ، وعادت للنهوض بالميوزيوم والمكتبة فشجعت العلماء والأدباء والفنانين ، ونهضت بالصناعة وسمحت للمصريين بالتعيين في الوظائف الحكومية والتي كانت مقتصرة على الإغريق ، وفرح الناس بقدومها ، وعاد الهدوء والطمأنينة والرخاء إلى مصر ” كانت الملكة كليوباترا إمرأة ممتازة لصفاتها الشخصية وقوة أعمالها0 ولم ينجز أحد من الملوك من أسلافها مثل تلك الأعمال العظيمة التي أنجزتها 0 لقد عملت كل شئ بسخاء لمصلحة البلاد وقد قامت حتى وفاتها بأعمال عظيمة كثيرة عديدة وأنشأت مؤسسات هامة ” (46) وعقب إغتيال قيصر هبَّ ” أوكتافيوس ” حفيد شقيقة يوليوس ، وإبن يوليوس بالتبني ، الذي أوصى له يوليوس بعرش روما ، وهـبَّ معه ” ماركوس أنطونيوس ” للإنتقام من قتلة قيصر ” بروتوس ” و ” كاسيوس ” وإنفرد كل من الأربعة بجيشه ، وواجه ” أنطونيوس ” كاسيـوس وألحق الهزيمة به ، فانتحر ” كاسيوس ” قبــل أن يعلم أن مشايعه ” بروتوس ” قد ألحق الهزيمة بأوكتافيوس ، إنما ظن العكس0 وبعد ثلاثة أسابيــع إستطــاع ” أوكتافيـوس ” أن يرد الهزيمة على ” بروتوس ” الذي هرب وإنتحر أيضاً ، وبهذا إنتحر قتلة قيصر كاسيوس وبروتوس0 أمـا ” أوكتافيوس ” فقد صار إمبراطوراً للغرب ، و ” ماركوس أنطونيوس ” إمبراطوراً للشرق0
وأردف ” ميناس ” قائلاً : إن كانت هذه المغامرة العاطفية لملكة مصر ، إنتهت باغتيال الإمبراطور ، وإنتحار قتلته ، فإن المغامرة الثانية لكليوباترا ستنتهي نهاية مآساوية بصورة أبشع إذ يقتل آلاف الجنود وينتحر زوجها الجديد أنطونيوس وتنتحر هي أيضاً0
إسكندر : إن الموضوع مشوق جداً ، ولكن عفواً للمقاطعة فإنني أشعر أنني في حاجة شديدة للعودة إلى محل خدمتي ، فكأن هناك هاتفاً داخلي يدعوني للإسراع إلى الكاتدرائية ، وتعاطف الأصدقاء مع مشاعر إسكندر ، فأسرعوا الخطى نحو الكاتدرائية ، وما أن إقتربوا من الباب الخارجي حتـى شعروا بأن هناك أمراً غريباً يحدث ، وقد تجمع تقريباً كل آباء الإسكندرية مع الأراخنة ، فإذ بالحالة الصحية لـ ” قداسة البابا ثاؤنا ” قد تدهورت كثيراً ، فدلف ” إسكندر ” و ” أرشي ” إلى القلاية البطريركية 00 إلتفوا حول سرير البابا وكل منهم يعتصره الألم ، وتجرأ أحــد الآباء قائلاً : ” أتمضي هكذا ياأبانا وتتركنا يتامى ؟! “
فقال البابا مشيراً على ” أبونا بطرس ” : ” هذا أبوكم الذي يرعاكم من بعدي 00
” أخبركم أمراً عجيباً لا أستطيع إخفاءه ، فبينما كنت أصلي المزامير وأنا مستلقي على سريري ، ناجيت الرب وطلبت منه أن يرسل راعياً صالحاً لقطيعه ، يعمل حسب مشيئة الله ، وسط ضيق هذا العالم 00
وإذ برب المجد ، ملك الملوك ، يظهر لي ويطمئنني قائلاً : أيها البستاني للحديقة الروحية ، لا تخف على البستان ولا تقلق ، أُسلِمه إلى بطرس الكاهن يرويه ، وتعالَ أنت لتستريح مع آبائك “
وإلتفت البابا ثاؤنا لأبونا بطرس وقال :
” تشجع ، فإن الله معك ياإبني 0 إفلح البستان جيداً “
وبكى ” أبونا بطرس ” وسجد بين يدي أبيه الروحي ومعلمه وحبيبه قائلاً :
” إني غير مستحق وليس لي قوة لعمل عظيم كهذا “
فقال ” البابا ثاؤنا ” :
” لا تقاوم الرب ، فأنه يهبك قوة “
وتمتم البابا قائلاً: “هوذا ملك المجد وملائكته القديسون !! “
وأغمض ” البابا ثاؤنا ” عينيه ليفتحهما على دهور النور في اليوم الثاني من شهر ( طوبة ) سنة 301م ، وسريعا ما إنتشر الخبر ، حتى إرتجت مدينة الإسكندرية ، وجاء المؤمنون عشرات الألوف وحتى غير المؤمنين جاءوا ليشهدوا مدى محبة الشعب القبطي وإخلاصـه ووفـاءه لأبيه البطريرك 00 لقد أُغتيل ” يوليوس قيصر ” سيد العالم فلم تهتز روما مثلما إهتزت الإسكندرية بإنتقال الأب البطريرك00
عَبَرَ ” البابا ثاؤنا ” ذاك الرجل التقي من أرض الشقاء إلى أرض البقاء 00
عَبَرَ ذاك الرجل المثقف صاحب الفكر العالي من دار التعب إلى دار الراحة 00
عَبَرَ ذاك البستاني الأمين الذي أنشأ أول كاتدرائية العظمى وجمع أولاده في حضنه بوجهه البشوش وإبتسامته الحلوة وقداسة سيرته 00
عَبَرَ ذاك الرجل العظيم سريعاً بعد أن تولى الباباوية من 14 برمودة سنة 282م إلى شهر طوبة سنة 301م نحو تسعة عشر عاماً مرت بسرعة البرق ، والكنيسة تعيش في سلام ، وقد هدأت الإضطهادات طوال فتـرة رعويتـه ، بـل منـذ عهد الإمبراطور ” جاللينوس ” Gallinus ( 260 – 268م ) الذي أصدر مرسوم التسامح الديني سنة 261م 00 يالها من فترة سلام طويلة إستغرقت نحو أربعين عاماً (47) تزايد فيها عدد المسيحيين في الوظائف والمراكز المرموقة ، وبُنيت الكنائس في المدن الكبرى ، حتى صار في روما نحو أربعين كنيسة ، وفي مقدونيا كاتدرائية ضخمة وكذلك في الإسكندرية0 ولا أحد يعلم أن الإضطهاد الدقلديانوسي العارم الذي سيغرق العالم في دماء المسيحيين البررة يقف على الأبواب0
(37) قول أراتوستينيس بدوران الأرض حول الشمس صحيح وهذا ما أكده كوبرنيكوس في القرن الخامس عشر الميلادي ، كما أن الرقم الذي وصل إليه كمحيط للكرة الأرضي لا يفرق عن الرقم الصحيح إلاَّ بخمسين ميلاً فقط0
(38) نافتالي لويس – ترجمة د0 أمال الروبي – الحياة في مصر في العصر الروماني 30 ق0م – 284م0
(39) محاضرات جريجينوج – ترجمة كامل ميخائيل عبد السيد – من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربي
(40) ونفرد هولمز – ترجمة سعد أحمد حسين – كانت ملكة على مصر ص 128
المعلم العظيم ف6 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
المعلم العظيم ف6 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل السادس : المعلم العظيم
قبل أن يضع ” قداسة البابا ثاؤنا ” اليد على الشماس الشاب ” بطرس ” ليصبح قساً ، تأكد تماماً أن هذا الشماس قلبه ثابت في طريق البتولية ، لأنه في السيامة يأخذ روح الأبوة لكل الشعب ، فلا يحل له الزواج ، إذ كيف يتزوج بواحدة من بناته ، ولأجل هذا السبب فأن الكاهن الذي يسمح الله بإنتقال زوجته لا يستطيع أن يتزوج ثانية ، والشماس ” بطرس ” قد وضع في قلبه طريق البتولية منذ سنوات طويلة ، وكان يدرك هذا عندما قبل درجة الشموسية وهي درجة كهنوتية وهو في الثانية عشر من عمره0
وكـم كانـت فرحـة مسيحي الإسكندرية بسيامة الشماس ” بطرس ” قساً ، وترقية ” أبونا ثيؤودوسيوس ” قمصاً 00 كانت الفرحة غامرة بالكاهن بن الكاهن ، يوحنا المعمدان الجديد إبن زكريا الكاهن ، البركة إبن البركة ، ولم تشغل القسيسية ” أبونا بطرس ” عن تلمذته لقداسة البابا ثاؤنا ، بل ظل قريباً منه قرب التلميذ من معلمه يتعلم من صمته قبل كلامه ، ولم يبخل ” البابا ثاؤنا ” على أبونا بطرس بكلمة منفعة أو نصيحة ما ، ولمح البابا عمل نعمة الكهنوت في أبونا ” القس بطرس ” فكان يعتمد عليه في الأمور الجسيمة ، ووضع ” البابا ثاؤنا ” في قلبه أنه متى خلت أسقفية فإنه سيسيم عليها أبونا بطرس0
وسلك ” أبونا بطرس ” في حياة التدقيق في كل أمور حياته الروحية والرعوية ، يلاحظ نفسه والتعليم ، فكان يقوم بخدمة الوعظ في الكاتدرائية ، فتفيض عظاته روحانية وعلماً وتعليماً ، ولسانه الحسن المنطق بهر جمهور المصلين0 ووضع ” أبونا بطرس ” الإهتمام بخدمة الإفتقاد في مقدمة إهتماماته ، ولاسيما أن الإحصاء الدقيق الذي أجراه ديمتري وأصدقائه وخدام الكنيسة أفصح عن بعض الأسر التي تحتاج لرعاية خاصة ، من أسر المعترفين وأسر الفقراء مادياً أو روحياً ، بل إتضح أن هناك أسر قليلة مسيحية تعيش في الحي اليهودي وهي من أصل يهودي ونالت الصبغة المقدَّسة خفية ، وليس لها من يسأل عنها ، وبدأ ” أبونا بطرس ” يخصص وقتاً يومياً للإفتقاد المنظم ، وقبل أن يدخل بيتاً يرجع للعمل الديمتري الذي بحوزة البابا فيعرف أصحاب البيت وأسمائهم وأعمارهم وأحوالهم ، وبرع ” أبونا بطرس ” في خدمة الإفتقاد ، فظهرت وجوه جديدة لم تكن من قبل تعرف طريق العبادة المسيحية والإجتماعات الروحية ، كما أن الكاتدرائية الضخمة جذبت الآلاف من أبنائها في أحضانها ، فمن لم يأتِ للصلاة جاء ليرى هذا العمل المعجزي ، فيشعر بالفخر تجاه كنيسته ويعزم على عدم تركها قط بعد الآن0
وتمتع ” أبونا بطرس ” بموهبة توظيف المواهب ، فأخذ يكلف الخدام بخدمات أكثر ، وإستأذن من أبيه الروحي ” قداسة البابا ثاؤنا ” لتكريس الأخين ” إسكندر ” و ” أرشي ” للخدمة ، فسامهما البابا أبيذياكونيان وتكرسـا للخدمة تماماً ، فصار الشماس ” إسكندر ” الذراع الأيمن لأبونا بطرس يساعده في الإفتقاد والخدمات الروحية ، وحمل الشماس ” أرشي ” عبء العمل الإداري والمالي بروح التواضع والخدمة والتقوى متمثلاً بأسطفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء0 وطلب ” أبونا بطرس ” من ” إسكندر ” وأصدقائه أن يكملوا العمل الذي بدأوه ، فقاموا بعمل سجلات منفردة للمعترفين الذين تعرضوا للعذابات أو السجن أو النفي ولم يصلوا إلى درجة الإستشهاد ، وأخرى للفقراء المحتاجين مادياً ، فسواء هؤلاء أو أولئك فقد أولاهم أبونا بطرس عناية وإهتماماً خاصاً ، كما إهتم الأخ ” أرشي ” بإنشاء سجلات للتبرعات وحسابات الكاتدرائية والأوقاف والمصروفات 00 إلخ وكل هذا سواء ما فعله إسكندر أو أرشـي كان موضع رضى ” الأب البطريرك ” وتلميذه ” أبونا بطرس “0
وصار ” أبونا بطرس ” معيناً للبابا في أمور شتى ، لم يتخل عنه يوماً ، وقبل أن يستدعيه البابا في أمر ما أو مشكلة يجده ماثلاً أمام يديه ، يدرك ما يريده البابا تماماً وينفذه بحسب مسرة قلب البابا ، فطاعته وحرصه الشديد على إنهاء الخدمات التي يُكلف بها على أحسن ما يكون ، كان موضع رضى ومسرة البابا0
وبالإضافة لأولويات ” أبونا بطرس ” بالإفتقاد بصورة منتظمة مستمرة ، ورعاية أسر المعترفين الفقراء ، فإنه وضع ضمن هذه الأولويات أيضاً الإهتمام بـ ” مدرسة الإسكندرية اللاهوتية “ ، فسهر على النهوض بها عن طريق محاضراته وعلمه الغزير ، وأيضاً عن طريق تكليـف مدرسين جدد أكفاء للتدريس بها ، فهذه المدرسة التي بدأت الدراسة فيها عن طريق السؤال والجواب أصبح لها منهجها على يد العلامة أوريجانوس ، ولم تكتفِ المدرسة بتدريس الأمور اللاهوتية فقط ، بل قامت بتدريس الفلسفة والمنطق والفلك والكيمياء والجغرافيا والتاريخ00 إلخ0 ولهذا عينه البابا مديراً لهذه المدرسة العريقة التي تمتد جذورها إلى مارمرقس ، وطالما دَرَسَ ودرَّس بها عمالقة ، وطالما جذبت الكثيرين من طلاب الفلسفة والبلاغة والعلوم على أيدي أثيناغوراس وبنتينوس وأكليمنضس السكندري والعلامة أوريجانوس 0
ولاحظ ” أبونا بطرس ” أن هناك الكثيرين من غير المؤمنين الذين يعبدون الأوثان في سذاجة ، فألف كتاباً أوضح فيه مدى الضلال في العقائد الوثنية ، فليس من المعقول أن يكون هناك أكثر من إله ، وإلاَّ تضاربت مشيئاتهم وقراراتهم ، وأظهر ” أبونا بطرس ” أن عبادة الأوثان هي عبادة شيطانية ، فخلف كل وثن شيطان ، ولذلك إرتبطت هذه العبادات بالسحر والعرافة ، والإنحلال الخلقي ، بـل وصل الأمر إلى تقديم ذبائح بشرية لهذه الآلهة الكاذبة ، فمثل هذه العبادات الفاسدة تفسد العقل وتشوش الفكر ، وأوضح ” أبونا بطرس ” عظمة الإنسان وكرامته في المسيحية ، فهو المخلوق الوحيد على صورة الله ومثاله ، وأن الحرية الحقيقية لن تجدها إلاَّ في المسيحية ، حيث الحرية المنضبطة وليست الحرية المنفلتة التي تجعل الإنسان أسيراً لشره وشيطانه00
وكان ” البابا ثاؤنا ” يثق في ” أبونا بطرس ” ذلك الإناء المختار للروح القدس فيفوضه في المهام الصعبة ، ففي أحد أيام الأحاد عقب إنتهاء القداس الإلهي ، بدأ الشعب ينصرف من الكاتدرائية ، وإذ بالبعض يفر هارباً والآخر يعود أدراجه إلى داخل الكنيسة منزعجاً ، فإن أحد الأشخاص بالخارج في إنتظارهم يزأر كالأسد ، ويرشقهم بالأحجار والزلط ، وتكاد أنك لا ترى يديه من سرعة الأداء وقوته ، فحدث هرج ومرج وكل من أصيب كان يصرخ ، وعندما وقف ” قداسة البابا ثاؤنا ” على الحدث لم يأمر شعبه بالتقهقر وإغلاق الأبواب ، إنما أوفد الجندي الشجاع ” أبونا بطرس ” ليوقف هذا الشر ، ووقف ” أبونا بطرس ” حائراً لحيظة ، فكيف ينتهر الروح النجس في وجود البابا ، ومن جانب آخر كيف يتأخر ولو للحظة في تنفيذ كلمة البابا ، وللوقت بنعمة الله الحالة فيه حلَّ هذه المعضلة ، فأسرع بإحضار إناء ماء وطلب من قداسة البابا أن يرشم بصليبه هذا الماء ، فرشم البابا الماء بالصليب ونفخ فيه ، وفي جرأة فريدة إقتحم ” أبونا بطرس ” المنطقة الخطرة ، والأمر المدهش أن الزلط كان ينهال على أبونا بطرس ، وبدلاً من أن زلطة تهشم رأسه أو أخرى تحطم عظمة من عظامه ، فإذ بهذا الزلط ينحرف يميناً ويساراً وأعلى وأسفل ، ولا واحدة أصابت ذاك البطل الشجاع ، وأمسى هذا الروح النجس في مواجهة الروح القدس الساكن في قديس الله ، وللوقت طسَّ ” أبونا بطرس ” الرجل بالماء في وجهه وهو يقول له بثقة تامة وإيمان كامل : ” باسم سيدي يسوع المسيح إبن الله الحي ، الذي أخرج لجيئون وأبرأ المرضى 0 أُخرج منه أيها الشيطان بصلوات القديس ثاؤنا البطريرك ، ولا تعد إليه ” وإذ بالروح النجس يزأر مثل الأسد الجريح ، ويفارق الرجل ، الذي عاد لوعيه وكأنه كان مُغيَّباً 00 بدأ يهز رأسه وكأنه أستيقظ من نوم عميق إثر صدمة قوية ، وإذ به أمام كاهن الله الذي يرتدي ملابس الخدمة البيضاء بوجهه البشوش ، فينحني أمامه يقبل يديه ويقدم إعتذاراته السريعة المتكررة : ” سامحني ياأبي 00 إغفر لي ياأبي ” وسالت الدموع من عينيه ، وإذ بأبونا بطرس يضمه لأحضانه ويهمس في أذنه : ” أرجع عن شرورك ياإبني لئلا يكون لك أشر ” وإصطحبه إلى الكاتدرائية ، فغسل الرجل وجهه وسلَّم على ” قداسة البابا ثاؤنا ” الذي رحب به بشدة وكأنه ضيف عزيز ، فيهمس في أذن البابا قائلاً : ” كنـت أقـدم طقـوس العبادة في بيتي لحتحور ( البقرة المقدَّسة ) وتلوتُ عدة عزائم لحضور رئيس الشياطين ، فحضر ، ولم أستطع أن أصرفه ، لأنه دخل مع ملائكته وسكن داخلي ، فكان يدفعني لإيذاء الآخرين ” ، فسلمه الباب لأبونا بطرس الذي أوضح له ضلال السحر وعبادة الأوثان ، فتاب ، وعمَّدهُ ، وصار ملازماً للكنيسة كخادم أمين يحرس بوابة الكاتدرائية بلا مقابل0
ومرَّت الأيام والسنون ، و” أبونا بطرس ” يلازم ” قداسة البابا ثاؤنا ” يتتلمذ على يديه ، ويتعلم منـه سعة الأفق وقداسة السيرة ، لا يتكلم في حضرة قداسة البابا إلاَّ إذا طُلِب منه ، ويجيب بقدر المطلوب ، وإن حمل خبراً إلى البابا مهما كان هذا الخبر مزعجاً يستطيع بحكمة عجيبة أن يقدمه بصورة بسيطة لطيفة ، لأنه يعلم أن قوى السماء تُعضد أبيه ، وفي ذات يوم جاء إلى فناء الكاتدرائية الأسقف ” سابليوس ” على رأس عدد ليس بقليل من أتباعه ، ولم يشأ أن يقترب من ” القلاية البطريركية ” بل أرسل للبابا يقوم : ” أخرج وناظرني في هذا اليوم ، فإن كنتَ على صواب أتبعك ، وإلاَّ فأعلِم الشعب أنك على خطأ “0
كان ” سابليوس ” قـد تربـى فـي روما ، وتتلمذ على يد ” نومئيتوس ” الهرطوقي ، وأخذ منه تعاليمه بأن الله أقنوم واحد ، وسيم ” سابليوس ” أسقفاً لبطولمايس Ptolemais وهو ميناء يتبع ” بانتابوليس ” ( الخمس مـدن الغربيـة ) الممتـدة من طرابلس ( الغرب ) إلى إقليم مريوط ، ولم يعترف بالآب والإبن والروح القدس ، فقال أن الله أعطى الناموس لإسرائيل في العهد القديم بصفته الآب ، وظهر في شكل إنسان فـي العهد الجديد بصفته الإبن ، وحلَّ على الرسل الأطهار بصفته الروح القدس ، فالأب والإبن والروح القدس مجرد مسميات أُطلقت على ثلاث أدوار قام بها الله الواحد ، أو بمعنى آخر ثلاث صوُّر عبر بها الله عن نفسه للبشرية ، أو ثلاثة أشكال Modes لإعلان الله الذاتي ، ودعيت عقيدته هذه بالسابلية Sebellianism أو Modalism ، ودُعي أصاحبها بـ ” مؤلمي الآب ” Patripassiono لأنهم إدَّعوا أن الآب هو الذي صُلب وتألم ، ولم يكف ” سابليوس ” عن نشر هرطقته رغم أن ” البابا ديونسيوس ” كان قد عقد مجمعاً سنة 261م وحكم عليه بالحرم 0 وقال ” قداسة البابا ثاؤنا ” : ” ياأبونا بطرس أخرج إلى هذا الرجل الهرطوقي وأسكته “0
وعلى الفور إنحنى ” أبونا بطرس ” أمام قداسة البابا طالباً صلواته ، وخرج في هدوء إلى الأسقف المتعجرف ، الذي ما أن رآه حتى إستصغره في عينيه قائلاً لأتباعه : ” أنظروا إلى صلف ثاؤنا الذي لم يخرج إلينا ، بل أرسل لنا بأقل من عنده من الصبيان الصغار “0
فقال ” أبونا بطرس ” : ” إن كنتُ أمامك صغيراً ولكنني عند أبني ثاؤنا كبيراً “0
ولم يلتفت ” أبونا بطرس ” إلى نظرات الحاقدين الشامتين المتحفزين ، ولا إلى نظرات الإستصغار والإحتقار التي باتت واضحة في أعين سابليوس وأتباعه ، إنما بدأ يشرح في ثقة عقيدة الثالوث القدوس قائلاً : عندما نبحث عن الله نجده واحداً لا غير ، لا شريك له ، ولا إله غيره ، هو الله الواحد ، بلاهوت واحد ، طبيعة إلهيَّة واحدة ، جوهر إلهي واحد ، كيان إلهي واحد ، ذات إلهية واحدة ، فوحدانية الله هو الدرس الأول الذي علمه الله للبشرية منذ عصر الآباء ، وهو الذي تؤيده عشرات الآيات من العهد القديم والعهد الجديد أيضاً0
ولكن عندما نتأمل في الله الواحد ، لا نجد وحدانيته وحدانية صامدة جامدة ، إنها وحدانية جامعة شاملة ، بها الوجود والعقل والحياة ، فهي وحدانية موجودة عاقلة حية ، وحدانية فيها الأبوة والبنوة والإنبثاق ، الآب والإبن والروح القدس ، وهذا هو الدرس الثاني الذي ميزنا به الله كمسيحيين عن اليهود ، وكلمة ” أقنوم ” كلمة سريانية تعني ” ما يتميز عن غيره بدون إنفصال ” فالآب يتمايز عن الإبن وعن الروح القدس ، وهكذا الإبن يتمايز عن الآب والروح القدس ، وأيضاً الروح القدس يتمايز عن الآب والإبن ، ولكن بدون إنفصال ، فالآب في الإبن والإبن في الآب ، والروح القدس روح الآب والإبن0
وقد أكد الإنجيل لنا مراراً وتكـراراً أن كــل أقنوم هو : ” كائن ، حي ، قدير ، غير منفصل ، يعبر عن نفسه ” ، فالآب كائن منذ الأزل ، حي ، قادر على كل شئ ، غير منفصل عن الإبن والروح القدس ، يعبر عن نفسه ، فيقول ” هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت ” 0 وهكذا الإبن كائن ومخارجه من أيام الأزل ، حي ، قادر على كل شئ ، غير منفصل عن الآب وعن الروح القدس ، ولذلك كثيراً ما كان يؤكد هذه الحقيقة قائلاً ” أنا في الآب والآب فيَّ ” ويعبر عن نفسه ، فيخاطب الآب ” ياأبتاه إغفر لهم لأنه لا يعلمون ماذا يفعلون ” ومن الممكن أن الإبن يخاطب الآب قائلاً ” مجدني بالمجد الذي لي عندك قبل تأسيس العالم ” ويرد عليه الآب ” مجدتُ وأمجد أيضاً ” ، وهكذا الروح القدس هو روح الله الأزلي ، الحي ومعطي الحياة ، قادر على كل شئ ، غير منفصل عن الآب والإبن ، لأنه هو روح الآب وروح الإبن أيضاً ، ويعبر عن نفسه ، فيقول مثلاً ” أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه “0
و” الإنسان ” الذي جبل على صورة الله ومثاله نجد فيه التثليث والتوحيد ، فالإنسان واحد ، والإنسان الواحد فيه الجسد وفيه العقل وفيه الروح ، والجسد غير الروح والروح غير الجسد ، بدليل أن الروح عندما تفارق الجسد لا يعد الإنسان إنساناً إنما يصير جثماناً ، و” الشمس ” التي هي إحدى خلائق الله ، وليست إلهاً كقول المصريين أنه الإله ” رع ” ، نرى في الشمس الواحدة قرص الشمس والضوء والحرارة ، وكل منهما غير الآخر ، والثلاثة هم شمس واحدة ، وهكذا ” النار ” 00 إلخ0
وأفاض ” أبونا بطرس ” في الحديث عن التثليث والتوحيد مستشهداً بآيات من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا ، وركز على أحداث عيد الثيئوفانيا ، حيث سُمِع صوت الآب من السماء ” هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت ” والإبن قائم في الماء ، والروح القدس في الهواء حالاً على الإبن على شكل حمامة ، ووصية السيد المسيح لتلاميذه بعد القيامة وقبل الصعود عندما أوصاهم أن يكرزوا للخليقة كلها وأن يتلمذوهم ويعمدونهم ” باسم الآب والإبن والروح القدس ” فقوله ” باسم ” إشارة للوحدانية ، وقوله ” الآب والإبن والروح القدس ” تأكيد على التثليث ، ولو كان الآب هو الإبن هو الروح القدس ، والموضوع مجرد تسميات ما كان هناك داعٍ لذكر الثلاثة ، ولأكتفوا في العماد بالقول ” باسم الله الواحد ” 0
وإذ تكلَّم الروح القدس على فم أبينا بطرس ، جاءت الكلمات معبرة والأفكار مرتبة ، وأصيب الأسقف بربكة وقد جحظت عيناه ، فلم يفق من ضربة إلاَّ ويأخذ الأخرى ، بينما وقف أتباعه يتعجبون ويتهامسون : ” الموضوع واضح وضوح الشمس 00 فعلام هذا الغموض الذي عشنا فيه ؟!00
فقال ” أبونا بطرس ” لهم : ” إن كان عندكم ما تقولونه فقولوه ، وإلاَّ فاسكتوا ولا تجدفوا ” 00
لقد سكتوا فعلاً ، ولكن تعلقهم بسابليوس منعهم من الإنقلاب عليه ورفض هرطقته00 إنهم يعيشون حياة الرياء ، وتظاهرهم بأنهم الأتباع الأوفياء لسابليوس لم يمنع بعضهم من أن يتهامس : ” من هذا القس العجيب الذي جعل الأسد أرنباً “0
وإنصرف ” سابليوس ” وأتباعه ، متمسكاً بكبريائيه ، رافضاً التخلي عن هرطقته ، بينما كان ينمو ” أبونا بطرس ” في النعمة وحياة الإتضاع يوماً فيوماً ، وفي ذات يوم رأى ” السيد المسيح ” له المجد قائماً على المذبح ، ينهي ” البابا ثاؤنا ” عن مناولة الأسرار المقدَّسـة لإنسـان يصـر على شره ، ويقول له : ” يارئيس الأساقفة ، لا تناوله لأنه لا يستحق أن يأخذ جسدي المقدَّس ” فارتدت يد البابا ثاؤنا بالجسد المقدَّس ، وهو يهمس في أذن الرجل بحنان بالغ : ” ياإبني لا تستطيع أن تتناول من هذه الأسرار إن لـم تتطهر أولاً من خطاياك ” وعقب نهاية القداس أنذر ” البابا ثاؤنا ” شعبه قائلاً : ” ياأولادي في كل مرة يمنحكم الرب التوبة في محبته للبشر ، طهروا أنفسكم قبل أن تتقدموا ، خشية أن تأخذوا عقاباً عظيماً بدلاً من المغفرة ” (26)0
ديمتري : لا أستطيع أن أخفـي إعجابي الشديد بأبينا الحبيب بطرس ، فمحبته تغمرنا ، وعلمه ينير عقولنا 00 إنصتوا إلى محاضراته الجامعة الشاملة ، الكاملة الوافية ، التي تجمع ما هو عقيدي مع ما هو روحي ، وكتابي ، وتاريخي ، ومنطق ، ولكن للأسف الشديد فما زال عقلي يقف مقابلي ، إنني أقبل التثليث والتوحيد في الذات الإلهيَّة ، ولكن ” يهوه يصير عبداً !! 00 يهوه يُضرب ويُهان ويُعرى ويُصلب ويموت !! أين كرامته ؟! وأين ملائكته ؟!! ” 00 لا أستطيع أن أقبـل العماد إن لم يكن إيماني كاملاً ، حتى لا أُحسب مرائياً0
أرشي : سيأتي الوقت الذي تؤمن فيه ياديمتري ، ويكون إيمانك عظيماً0
ديمتري : متى يكون هذا والأيام تكر والسنون تفر ؟
أرشي : إلهنا المحب الذي لا ينسى أجر من يسقي أحد الصغار كأس ماء بارد من أجل إسمه 00 هل تظن أنه ينسى محبتك وتعبك وأعمالك وخدماتك وتضحياتك ومحبتك ؟!! 00 كن مطمئن تماماً من جهة هذا الأمر0
ديمتري : إنني لن أنقطع عن المدرسة اللاهوتية 00 كم نشكر الله عليها0
أرشي : عندما جاء مار مرقس إلينا منذ أكثر من مائتي عام وجد بها تيارات فلسفية مختلفة من يونانية ، وشرقية ، وفارسية ، ويهودية ، وأفلاطونيـة حديثــة تجمع بيـن الفلسفات اليونانية والرومانية ( Greco – Roman ) كما وجد ديانات عديدة ، ومكتبة عالمية ، و ” ميوزيوم ” عبارة عن أكاديمية عظيمة ، فكان من الصعب قبول الديانة المسيحية الجديدة ، ولاسيما أن لها إرتباط باليهودية ، بينما الإسكندريون يكرهون اليهود0 كما أن السكندريين شغوفين بالأمور الفلسفية والعقلانية ، حتى أن الذين قبلوا الإيمان المسيحي ظل معظمهم يرتاد المدرسة الفلسفية والعلمية الوثنية ، يستمع للمحاضرات التي يلقيها أساطين الفلسفة الوثنية ، ولذلك حرص كاروز الديار المصرية على أن ينشئ ” مدرسة لاهوتية ” وليس لتعليم الإيمان المسيحي فقط ، بل للرد على الهجمات التي يقودها الفلاسفة ورجال الدين ورجال السلطة الوثنيين ، وأيضاً لدراسة هذه الفلسفات وتلك الأديان ، وكشف ما فيها من زور وبهتان ينطلي على عقل البسطاء ، وعلى حد تعبير ” فارر ” Farar الذي قال ” ففي مدينة مثل هذه ( الإسكندرية ) بمتحفها ومكتباتها ومحاضراتها ومدارسها الفلسفية ومجامعها اليهودية الفخمة وملحديها العلنيين وأفكارها الشرقية الباطنية العميقة ، لا يحمل فيها الإنجيل قوة إن لم يكن قادراً على خلق معلمين قادرين على مجابهة فلاسفة وثنيين ويهود أفلاطونيين وشرقيين إختاروا خليطاً من الفلسفات ، يجابهونهم بذات أسسهم0 فإن مثل هؤلاء المفكرين يرفضون الإنصات لمن هم غير قادرين على فهم أفكارهم والإهتمام بما ينشغلون به وتفنيد حججهم الأساسية ، بهذا يلتقون بهم بروح مسيحي لطيف ” (27)0
لقد صارت ” مدرسة إسكندرية اللاهوتية ” منارة بمدينة الإسكندرية التي أضاءت سمائها وسط غياهب وظلمات الفلسفات والأديان الوثنية ، وصارت هذه المدرسة تمثل المركز الأول في العالم للدراسات اللاهوتية بلا منافس ، وصارت أقدم مدرسة في التاريخ المسيحي ، ومنها إنطلق التفسير الرمزي للكتاب المقدَّس ، ودعيت بـ ” الكاتشيس ” لأن التعليم فيهـا كان يتم بالسؤال والجواب ، وهي مدرسة بحثية يرشد فيها المعلمون الطلبة لمدارس الفلسفات المختلفة ، ويساعدونهم على إختيار ما هو نقي وطاهر وحق ، ورفض كل ما هو باطل ، وقد تميَّز طلبة المدرسة وأساتذتها بسمو الأخلاق وضبط النفس والتمسك بالفضيلة ، فقد جمعت المدرسة بين الدراسة النظرية والحياة العملية المسيحية ، وإمتازت الدراسة فيها بحياة التلمذة ، فالمدرسة هي المعلم ، وحيثما وُجِد المعلم وُجِدت المدرسة ، وبينمـا لمدرسـة الإسكندرية العلمية ( الموزيوم ) مبانيها الضخمة وقاعاتها الفسيحة ، وطالما حظت بدعم الدولة المالي والأدبي ولاسيما في عصر ملوك البطالمة ، فإن مدرسة إسكندرية اللاهوتية ليس لها مبنى ، فيجتمع طلبتها في بيت أو في ركن من أركان الكاتدرائية ، وكان أوريجانوس يؤجر القاعات لإلقاء المحاضرات التي يلقيها ويحضرها حشد كبير0
إن هذه المدرسة العظيمة أروت ظمأ الكثيرين للمعرفة الحقانية ، كما أن إهتمامها بالفلسفات اليونانية وإحترام ما جاء فيها من بصيص من الحق دلَّ على سعة أفق مديريها ، وبهذا ربحت نفوس كثيرة من الفلاسفة ، كما درس طلبتها بجوار العلوم اللاهوتية بعض العلوم الأخرى مثل الفلك والهندسة وغيرهما كعلوم تمجد إسم الله ، وأيضاً من مميزات مدرستنا اللاهوتية أنها ضمت الجنسين من رجال ونساء ، بل ضمت الأحرار والعبيد ، فصارت بشكلها هذا كرازة عملية للكل0
إسكندر : دعوني أخبركم بأمر لطيف ، وهو أن محاضرة ” أبونا بطرس ” في مساء هذا اليوم ستدور حول بعض مديري المدرسة اللاهونية ، ولاسيما أن بضعهم صاروا بطاركة لكنيستنا العريقة 00 هل تذكر ياأخ ديمتري عندما سألت عن الأسباب التي من أجلها يضطهدنا الأباطرة ، وعندما حضرت معنا المحاضرة الأولى لأبونا بطرس وجدته يتحدث عن ذات الموضوع 00 يبدو واضحاً أن روح الله القدوس ينظر إلى إشتياقاتك ياأخ ديمتري ويعطيك حسب سؤل قلبك0
وفي المساء كان الإصدقاء من أوائل الذين حضروا إلى كاتدرائية الأف عمود ، حيث هيأوا مكانا لمحاضرة أبونا بطرس مدير المدرسة اللاهوتية ، وتحدث أبونا بطرس والمكان يلفه الصمت :
دعوني ياأخوتي الأحباء أحدثكم في سطور قليلة عن خمسة أباء من أباء مدرستنا اللاهوتية ، بحسبما يسمح الوقت 00 هؤلاء الآباء العمالقة الذين نتتلمذ على أقوالهم يوماً فيوماً ونرتوي من ينابيع الروح القدس التي فاضت على ألسنتهم ، ونقتدي بسيرتهم الطاهرة :
أولاً : العلامة أثيناغوراس
هو من مشاهير المدرسة الوثنية ، إذ كان يرأس أحد كراسي الأكاديمية ( الموزيوم ) بالإسكندرية ، ويعتبر من أساطين الديانة المصرية الوثنية ، وقد درس المسيحية بهدف نقدها وإظهار عيوبها ، وإذ بالمسيحية تجتذبه بشباك الحب الإلهي ، فقبل الإيمان المسيحي سنة 176م وتقدم في العلوم المسيحية حتى صار عميداً لمدرستنا اللاهوتية ، دون أن يخلع عنه رداء الفلسفة ، إنما إستخدم الفلسفة ببراعة ليكشف عن التناقضات التي فيها 0
ويُعد ” أثيناغوراس ” من الآباء المدافعين الذين دافعوا عن المسيحية والمسيحيين ، فكتب رسالة إلى الإمبراطور ” مرقس أوريليوس ” نحو سنة 176م يفند فيها الإتهامات التي وُجهت لنا كمسيحيين وأهمها :
إتهامنا بالإلحاد لأننا لا نؤلّه الإمبراطور ، ولا نسجد لتمثاله ، ولا نشارك الشعب إحتفالاتهم الطقسية ، فأوضح ” أثيناغوراس ” بأن المسيحي يؤمن بوحدانية الله ، ولا يؤمن بتعدد الآلهَّة ، وأن هذا يتفق مع بعض الفلاسفة اليونان ، والمسيحي يعبد الخالق ولا يعبد المخلوقات ، والإمبراطور له كرامته ولكن ليس إلهاً يُعبد0
إتهامنا بأكل لحـوم البشــر وشـرب دماء الأطفال ، لفهم الوثنييــن الخاطـئ عن سر الإفخارستيـا ، فتساءل ” أثيناغوراس ” : لو أننا نفعل هكذا فلماذا لم نُضبط في قضية قتل واحدة ؟! بل أننا نفزع من مناظر الإعدام ، وكذلك من مصارعة الحيوانات الضارية ، تلك المناظر التي يتلذذ الوثنيين بمشاهدتها ، وإذا كنا نعتبر الإجهاض قتلاً ، فكيف نقتل الأطفال ونشرب دمائهم ؟! وإن كنا نحب الجميع حتى أعدائنا فكيف نقتل أحداً ؟!
إتهام المسيحيين بالإنحلال الخلقي لأن إجتماعاتنا ومدرستنا اللاهوتية تجمع الجنسين معاً رجال ونساء ، فأوضح ” أثيناغوراس ” أننا نؤمن بأن الله يطلع على أفكار وحركات قلوبنا ونظراتنا ، فكيف نجرؤ على إرتكاب الشر وممارسة الإباحية ؟ 00 إننا نُقدّس الحياة الروحية ، ولا نعترف بزواج المحارم ، ونرفض الطلاق ، ونمجـد البتولية ، بينما يؤمن اليونانيون بأن كبير آلهتهم ” زيوس ” قد أنجب أولاداً من أمه ” ريا ” وإبنته ” كوريا ” وإتخذ أخته زوجة0
إتهامنا بأننا نعادي الدولة ، بينما نحن نصلي من أجل سلام المملكة وسلام الملوك والأباطرة والرؤساء ، وأن ينعم الله على الإمبراطور بالسلام والعمر المديد0
وعندما شكَّك البعض في قيامة الأجساد في اليوم الأخير ، كتب ” أثيناغوراس ” كتاباً عن حقيقة قيامة الأموات ، مستخدماً الفلسفة في إثبات هذه الحقيقة ، ومن الأدلة التي ساقها على هذه الحقيقة :
الله الذي خلق الأجساد من العدم يستطيع أن يقيمها بعد تحللها0
خلق الله الإنسان كائناً حياً عاقلاً فليس من المعقول أن يكون الموت هو النهاية0
يتكون الإنسان من الروح والجسد ، والموت يحطم هذه الوحدة ، والقيامة تعيدها من جديد0
كما إشترك الجسد والروح في أعمال الخير أو الشر ، فمن العدل أن يكافئا معاً أو يعاقبا معاً0
خلق الله الإنسان من أجـل السعادة الأبدية التي لا تتحقق هنا ، إنما تتحقق في الحياة الأخرى0
والكنيسة التي لم تعرف أن تجامل أحداً على حساب الحق ، لم تقبل قول ” أثيناغوراس ” عندما نسب سقوط الشيطان إلى علاقة شهوانية مع بنات الناس نتج عنها الجبابرة ، بالإضافة إلى أمور أخرى ، ولذلك دعته الكنيسة ” العلامة ” ولم تدعه بالقديس0
ثانياً : القديس بنتينوس
وُلِد في الإسكندرية ، وكان فيلسوفاً رواقيا مشهوراً ، والفلسفة الرواقية تركز على الفضيلة والأخلاق ، ثم تعلم في مدرسة الإسكندرية اللاهوتية ، وآمن على يد الفيلسوف ” أثيناغوراس ” ، وصار مديراً لمدرستنا اللاهوتية خلفاً لأثيناغوراس سنة 181م ، ولم يكن ” بنتينوس ” مجرد معلم إنما كان على درجة عالية من العلم والمعرفة من جانب ، ومن جانب آخر كان معيناً للكثيرين فيهتم بخلاص كل إنسان ، فأحبه السكندريون ودعوه ” بنتينوسنا ” أي بنتينوس ملكاً لنا 0 إستمع إليه بعض التجار الهنود في الإسكندرية فطلبوا من البابا أن يرسله إلى الهند ليكرز هناك ، وفعلاً ترك رئاسة المدرسة اللاهوتية في يد ” أكليمنضس ” وسافر إلى الهند ، فكرز لهم ، وهناك وجد إنجيل متى الذي كتبه القديس متى باللغة العبرية ، وكان قد حمله إلى هناك ” القديس برثولماوس ” الذي بشرهم بالمسيحية ، وفي عودة ” بنتينوس ” مرَّ على أثيوبيا ، وبلاد العرب واليمن وكرز هناك ، وعندما عاد إلى الإسكندرية عاد إلى رئاسة المدرسة اللاهوتية0
ويرجع الفضل للقديس ” بنتينوس ” في الأبجدية القبطية ، إذ إستخدم الحروف اليونانية بدلاً من الحروف الهيروغليفية ، وأضاف إليها سبعة حروف من اللهجة الديموطيقية القديمة ، وقام بترجمة الكتاب المقدَّس للغة القبطية وقـد عاونـه فـي هذا تلميذيه ” أكليمنضس ” و” أوريجانوس ” 00 ” وكان أول وأعظم أعمال اللغة القبطية أنها نقلت الإنجيل إلى المصريين في لغة مصرية وثوب مصري ، ليس بالأجنبي اليوناني أو اللاتيني ، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت المسيحية تنتشر بين المصريين جميعاً كعقيدة شعبية ” (28)0 وقدم ” بنتينوس ” شرحاً لكل أسفار الكتاب المقدَّس شفاهة وكتابة ، حتى دُعي ” شارح كلمة الله “0
ثالثاً : القديس أكليمنضس السكندري
وُلِد ” تيطس فلافيوس أكليمنضس ” سنة 150م من أبوين وثنيين ، وتبحر في الفلسفة اليونانية والأدب ، وكان دائب البحث عن الله فسافر إلى إيطاليا وسوريا وفلسطين ، ثم جاء إلى الإسكندرية وإستمع لعظات ” بنتينوس ” فافتَّتن به ، وآمن وإعتمد وتتلمذ على يديه وصار مساعداً له ، وإمتدحه كأعظم وأكمل معلم فقال ” إلتقيت بالأخير مصادفة ، لكنه كان الآول من حيث الإستحقاق ، وجدته أخيراً في مصر مختبئاً0 إنه بحق النحلة الصقلية ، يقتطف من كل الزهور من مروج الأنبياء والرسل ، ويودع في نفوس سامعين ذخيرة معرفة غير فاسدة ” (29)0 وعندما سافر معلمه بنتينوس إلى الهند عهد له برئاسة المدرسة اللاهوتية سنة 190م0
ويُعد القديس ” أكليمنضس ” رائد الثقافة المسيحية ، وأب الفلسفة المسيحية السكندرية ، وقد حاول أن يصلح بين الفلسفة والدين ، فلم يرفض الحق الذي في الفلسفة إنما رفض الباطل الذي فيها ، فقد كان ضليعاً فـي دراسة الفلسفة والتاريخ اليوناني ، والشعر ، والأدب ، والمنطق ، والموسيقى ، بالإضافة إلى معارفه الكبيرة بأسفار الكتاب المقدَّس ، فكان موسوعة متحركة ، وعوضاً أن يهاجم الغنوسية بكـل مذاهبها ، نادى بغنوسية أرثوذكسية إنجيلية ، وقال ” لا إيمان بغير معرفة ولا معرفة بغير إيمان ” (30) 00 لقد أراد أن يكون كل إنسان مسيحي ” غنوسياً ” أي ” عارفاً “0
وجمع القديس أكليمنضس بين المعرفة والتقوى ، ومزج الدراسة بالكرازة ، فكان هو راعي النفوس المثقف التقي ، وفي سنة 202م عندما إضطهد ” سبتيموس سويرس ” المسيحيين ترك الإسكندرية ، وسافر إلى فلسطين مفضلاً أن يعيش متخفياً حتى نياحته بعد أن ترك بصمات واضحة في التاريخ الكنسي ، وقد كتب ثلاثة كتب تُعرف بثالوث أكليمنضس0
نصح لليونانيين : فمشيئة الله أن يخلُص الإنسان من براثن الوثنية ، وهاجم أكليمنضس العبادات الوثنية وأساطيرها من خلال كتابات الفلاسفة اليونانيين أنفسهم ، وفي هذا الكتاب قارن بين أعمال المسيحيين الفاضلة وبين أعمال الوثنيين الفاضحة ، وأوضح أن المسيحية هي التي تحل الإنسان من رباطات الشياطين ، وتسمو به إلى السماء ، ودعى هذا الكتاب بـ ” تحريض الأمم ” لهجر الوثنية0
المربي : أو المرشد ، ويتكون من ثلاثة أجزاء ، تعين الذين هجروا الوثنية على السير في الحياة الأخلاقية الفاضلة ، فشمل الكتاب وصايا عديدة خاصة بالسلوك الجيد والأخلاق الراقية ، ووضع حتى وصايا تخص الحياة العامة من طعام وشراب وملبس وزينة وغنى 00 إلخ0
المتفرقات : أو المتنوعات أو المقتطفات ، ويشمل ثمانية كتب ، ويدعو فيه الذي خضعوا للوصايا الأخلاقية أن يسعوا للمعرفة الإلهيَّة من خلال الغنوسية المسيحية
رابعاً : العلامة أوريجانوس ( 185 – 254 م )
وُلِد ” أوريجانوس ” سنة 185م في الإسكندرية من أبوين مسيحيَّين تقيّين ، وقد أنجب والده سبعة أبناء أكبرهم أوريجانوس ، وكان والده ” ليونيدس ” من معلمي الفصاحة ، وقد إهتم بتريبة إبنه وتعليمه وتثقيفه ، وكان يطلب منه حفظ بعض الآيات يومياً ، فاستطاع الطفل الفذ أن يحفظ أجزاء كبيرة من الأسفار المقدَّسة ، وكان ليونيدس يشعر أن إبنه أوريجانوس مسكناً للروح القدس ، حتى أنه كان يتسلل إلى غرفة نومه ويقبل صدره في خشوع وهو نائم ، وفي سنة 202م عندما أثار الإمبراطور ” سويرس ” الإضطهاد علــى المسحييـن ، قُبض على” ليونيدس ” ، وحاول ” أوريجانوس ” أن يلحق بأبيه ، لولا أن أمه توسلت إليه بدموع أن لا يتركها ، كما أنها حجبت عنه ملابسه ، فكتب رسالة إلى أبيه يقول له ” حذار أن يغير العذاب رأيك0 في دعوانا لا تهتم بأولادك فإن الله يعتني بنا ” وفي سنى 203م نال ” ليونيدس ” إكليل الشهادة وصُودرت أملاكه فصارت الأسرة في فقر مدقع ، فلم تتخلى عنهم العناية الإلهيَّة ، وقد تولت إمرأة غنية فاضلة أمر ” أوريجانوس ” حتى أنها أخذته في بيتها وصارت تنفق على تعليمه ، فدرس العلوم والأدب لمدة خمسة سنوات في مدرسة الإسكندرية العلمية فبرع ونال إعجاب الجميع ، حتى أن ” البابا ديمتريوس الكرام ” محب العلم سلَّمه رئاسة المدرسة اللاهوتية خلفاً لأكليمنض الذي ترك مصر وسافر إلى فلسطين من فرط الإضطهاد ، حتى أن المدرسة اللاهوتية أغلقت أبوابها ، فجمع ” البابا ديمتريوس ” بعض الطلبة وكلف أوريجانوس بتعليمهم0
وكان ” أوريجانوس ” ناسكاً ينـام على الأرض دون فراش ، ويصرف نهاره في الأشغال الشاقة والتعليم ، ويقضي معظم ليله في الدرس والمطالعة حيث كان يؤجر المكتبات ليلاً ، فيظل يقرأ حتى الصباح ، وزاعت شهرة أوريجانوس ، وأقبل الكثيرون من الوثنيين وتتلمذوا على يديه وصاروا مسيحيين ، فصار الوثنيون يحقدون عليه ، حتى أن البابا ديمتريوس عيَّن له بعض الحراس الأقوياء ليحرسونه من أذاهم ، وفي ذات يوم إنفرد به الوثنيون ، فحملوه إلى معبد السيرابيوم ، وحلقوا له رأسه ، وألبسوه قلنسوة ، وحلة بيضاء مثل كهنتهم ، وأصعدوه إلى مكان مرتفع وأجبروه على توزيع أغصان النخيل على المحتشدين ، وهم يضجون ويصفقون له ، فنثر هذه الأغصان عليهم ، وهو يقول بصوت عظيـم ” هلموا خذوا هذه الأغصان ، لكن ليس باسم الأوثان ، بـل باسـم يسـوع المسيـح خالق الإنسان ” (31) وكان ” أوريجانوس ” يؤجر القاعات لإلقاء محاضراته التي يحرص على إستماعها أعداد ضخمة ، فكان الوثنيون يهجمون على القاعة ويحطمونها ، حتى كفَّ أهل الإسكندرية عن تأجير قاعاتهم لأوريجانوس0 وفي سنة 211م زار ” أوريجانوس ” روما فقوبل بحفاوة وإجلال كبير ، كما زار بلاد العرب ثلاث مرات بين سنة 211 م ، سنة 212 م ، ففي المرة الأولى سافر بناء على رغبة حاكم بلاد العرب الذي طلب من قداسة البابا ديمتريوس أن يرسل لهم أوريجانوس ليستفيدوا مـن تعليمـه ، وفـي المرة الثانية سافر ” أوريجانوس ” إلى بلاد العرب لحضور محاكمة ” بيرلوس ” أسقف بصره ، ونجح في إعادته للإيمان المستقيم ، وفي المرة الثالثة سافر إلى بلاد العرب لمقاومة بدعة تنادي بموت اللاهوت مع الناسوت على الصليب0
وبرع ” أوريجانوس ” في الكتابة والتأليف ، فلم يظهر له مثيل للآن في مدرستنا اللاهوتية كان يستطيع أن يملي سبعة مواضيع مختلفة على سبعة سكرتيريين كانـوا يتبادلـون الكتابة 0 ” وإستخدم عدداً كبيراً من النسَّاخ ، عدا البنات اللاتـي أجدن الكتابة ، وكان ” أمبروسيوس ” ينفق على جميع هؤلاء بسخاء ، مُظهراً غيرة على الكلمة الإلهيَّة لا يُعبَر عنها ، وهو بهذا دفعه لإعداد تفاسيره ” (32) وتزيد كتابات ” أوريجانوس ” عن ستة آلاف كتاباً أهمها كتاب المبادئ ، وضد كلسوس ، والحث علـى الإستشهاد ، وكتاب عن الصلاة ، وآخر عن القيامة ، بل أن الفلاسفة اليونانيين أعجبوا به وذكروه في كتبهم ، والبعض منهم أهداه مؤلفاته ، والآخر قدم له مؤلفاته ليعطي رأياً فيها ، وسيظل أهم عمل لأوريجانوس هو ” الهكسابلا ” Hexapla التي بدأها في الإسكندرية وأكملها في قيصرية ، وقد إستغرقت منه ثمانية وعشرين عاماً ، حيث دوَّن نصوص العهد القديم بالكامل في ستة أعمدة هي :
النص باللغة العبرية بحروف عبرية0
النص باللغة العبرية بحروف يونانية0
الترجمة السبعينية من القرن الثالث ق0م0
ترجمة أكويلا من القرن الثاني الميلادي0
ترجمة سيماخوس0
ترجمة ثيؤدوسيون من القرن الثاني الميلادي0
وفي سنة 215م عندما إشتد الإضطهاد في مصر ذهب أوريجانوس إلى فلسطين ، وبنى هناك كنيسة على إسم السيدة العذراء مريم ، وشرح الأسفار المقدَّسة حتى دعوه ” سيد مفسري الكتاب المقدَّس ” وفي سنة 219م أستدعته ” ماميا ” أم ” إسكندر ” ملك أنطاكية المحب للمسيحيين لتستمع تعاليمه وعظاته ، وفي سنة 228م أوفده البابا ديمتريوس إلى أخائية باليونان لكي يقاوم بعض الهرطقات ، وفي عودته مرَّ على فلسطين فأقنعه ” إسكندر ” أسقف أورشليم ، و ” نوسيستوس ” أسقف قيصرية بقبول الكهنوت ، لأنه ليس من المعقول أن معلم الكهنة والأساقفة لا يحمل درجة كهنوتية ، فرُسِم قساً وهو في الثالثة والأربعين من عمره0
وفي سنة 321م عقد ” البابا ديمتريوس ” مجمعاً وحكم عليه بالحرم لأنه خصى نفسه ، وأيضاً لآراءه الخاصة بالأرواح والملائكة والشياطين والنفس البشرية ونفس المسيح 00 إلخ التي ترفضها الكنيسة ، فذهـب ” أوريجانوس ” إلى فلسطين ولم يعد منها ، وفي أيام إضطهاد ” ديسيوس ” قُبِض عليه وتعرض لعذابات شديدة ” أما مقدار البلايا التي حلت بأوريجانوس أثناء الإضطهاد ، ومقدار شناعتها ، وماذا كانت نتيجتها الطبيعية ( فإن الشيطان الشر جرَّد كل قواته ، وحارب الرجل بكل حيلة وبأقصى جهده ، هاجماً عليه بعنف أشد من سواه ممن هجم عليهم وقتئذ ) ومقدار ما تحمله من أجل كلمة المسيح ، والقيود ، والتعذيبات الجسدية ، والتعذيبات بالطوق الحديدي ، وفي السجن ، وكيف مدَّت قدماه في المقطرة أياماً كثيرة ، وكيف تحمَّل بصبر التهديد بالنار ، وكل ما عذبه به الأعداء ، وكيف وضع حد لآلامه نظراً لأن قاضيه بذل أقصى جهده لإنقاذ حياته0 وما هي الكلمات التي تركها في هذه الأشياء مليئة بالتعزية لكل من يحتاج إلى العون0 كل هذه تبينها كثير من رسائله بدقة وأمانة ” (33)0
خامساً : القديس ديونسيوس
وُلِد ” ديونسيوس ” نحو سنة 190م من أبوين وثنيين من عبدَّة النجوم ، فنشأ على دين آبائه ، وتعلم وصار طبيباً ناجحاً ، وكان شغوفاً بالقرارة ، وفي ذات مرة إشترى بعض الأوراق من سيدة عجوز تجلس في السوق ، وإذ هي بعض من أقوال بولس الرسول ، فقرأها وأُعجب بها ، وعاد للسيدة وطلب منها المزيد ، فباعت له ثلاث رسائل أخرى ، وقالت له ” إن شئت أيها الفيلسوف أن تطلع على كثير من هذه الأقوال عليك بالذهاب إلى الكنيسة لتجد من يعطيها لك مجاناً ” (34) 0 فمضى إلـى الكنيسة وإلتقى بالشماس ” أغسطين ” الذي سلمه رسائل بولس الرسول كاملة ، فقرأها وقبل الإيمان المسيحي ، وتعمَّد بيـد ” البابا ديمتريوس الكرام ” ( رقم 12 ) ، وإلتحق بالمدرسة اللاهوتية ، وتتلمذ على يد أوريجانوس ، ثم سامه البابا ديمتريوس شماساً ، ثم تسلَّم رئاسة المدرسة خلفاً لياروكلاس الذي أُختير للبابوية ، وسامه ” البابا ياروكلاس ” قساً ، وكان ” ديونسيوس ” يقرأ كـل ما تصل إله يديه حتى كتب الهراطقة ، وقد ظهر له الرب قائلاً ” إقرأ كل ما يمكن أن تصل إليه يدك ، فإنك قادر أن تصحح كل شئ وتمتحنه ، فإن هذه العطية هي سبب إيمانك منذ البداية ” (35) 0 وفي سنة 247م بعد نياحة البابا ياروكلاس ( رقم 13 ) أُختير للباباوية ، فصار البابا رقم (14) في وقت كانت الإضطهادات المرة تجتاح الكنيسة0
وسجل ” البابا ديونسيوس ” الكثير من سير الشهداء رجالاً ونساءً ، كباراً وصغاراً ، عذارى ومتزوجات ، جنوداً وشرفاء ، من الذين جلدوا وحرقوا وضربوا بالسيف في إضطهاد ” ديسيوس ” ( داكيوس )0 كما أرسل برسائل تعذية وتقوية لشعبه ، وعندما أرسل الوالي رسلاً ليقبضوا عليه وعلم بهذا ظل في داره لمدة أربعة أيام ينتظر ، غير أن الرسل بحثوا عنه في الحقول والطرقات والأنهار ولم يتوقعوا أنه يظل في بيته في الوقت الذي يعرف فيه أن الوالي يسعى للقبض عليه ، وبعد أربعة أيام تلقى إشارة إلهيَّة فغادر البيت مع أتباعه ، ثم تمكن الجنود بعد ذلك من القبض عليه وطرحوه في سجن ، وإستطاع شماس يدعى ” تيموثاوس ” أن يفلت من أيدي الجند ، وأخبر إنساناً مسيحياً كان ذاهباً إلى وليمة عرس بخبر القبض على البابا ، وفي لحظات أسرع كل رجال العرس وإندفعوا نحو السجن لينقذوا باباهم من الذبح ، فهرب الجند تاركين الأبواب مفتوحة ، وعندمـا إندفعوا للداخل وجدوا البابا نائماً في سلام ، مثله مثل بطرس الرسول في سجنه تماماً ، فأيقظوه وطلبوا منه مغادرة السجن ، وعندما رفض حملوه رغماً عن إرادته وذهبوا به إلى داره0
وفـي سنة 257م تعرض للنفي إلى قرية صحراوية تدعى ” خفرو ” Caphro فبشر الوثنيين سكان القرية ، فأعادوا نفيه إلى الصحراء الليبية ، وهو لم يكف عن الكرازة للوثنيين ، وتعهد الكرم بالرسائل المتتابعة ، وعقب كل إضطهاد كان يجمع أولاده الذين إرتدوا عن الإيمان ويعظهم ويقبلهم دون أن يعيد معموديتهم ، وكان للبابا ديونسيوس إحترامه في العالم كله ، فعندما إختلف الشهيد كبريانوس أسقف قرطاجنة ، مع إسطفانوس الأول أسقف روما الذي كان يقبل المعمودية التي يجريها الهراطقة مادامت أنها تتم باسم الآب والإبن والروح القدس ، قبل الأثنان وساطته بينهما ، وفي سنة 261م عقد مجمعاً وحرم ” سابليوس ” الذي لم يكف عن نشر هرطقته ، وفي سنة 263م عندما حلت بالإسكندرية مجاعة كبيرة وأوبئة كان يواسي أولاده ، وكتب في رسالته الفصحية ” قد يبدو أن الوقت غير مناسب للعيـد 00 فنحن لا نرى إلاَّ الدموع ، الكل ينوح ، والعويل يُسمع كـل يـوم فـي المدينـة بسبب كثرة الموتى ” (36)0
وختم المعلم العظيم ” أبونابطرس ” مدير المدرسة اللاهوتية عظته ، ولم يكن يدري أن الأيام ستعيد نفسها ، وما ختم به عظته سيتكرر بصورة أبشع في حياته0
الألف عمود ف5 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الألف عمود ف5 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب
الفصل الخامس: الألف عمود
ميناس: هل رأيتم عملاً مثل هذا ؟.. رأينا قصوراً فخمة تُبنى ومعابد عظيمة تُشيَّد، لكن مثل هذا العمل العظيم، وذاك الحب المتدفق في قلوب كل هؤلاء لم نره قط.. أنظروا وتأملوا، كل طوبة توضع بالحب وتُدشَّن بالصلاة، فطالما إشتاق المسيحيون أن يكون لهم مكاناً يعبدون فيه الله الواحد ولم يتحقق أملهم هذا منذ نشأة المسيحية في الإسكندرية0 للوثنيين معابدهم ولليهود مجامعهم أما المسيحيون فليس لهم سوى الكهوف والمقابر والأماكن المنعزلة يعبدون الله خفية لأن ديانتهم محرَّمة في الإمبراطورية الرومانية.. إنظروا لهذا المكان المتسع الذي إجتمع فيه المهندسون مع العمال مع الشعب رجالاً وشبابـاً وأطفالاً بقلب واحد يبنون بيتاً للرب، وغيرة نحميا تملأ قلوبهم ” هلمَّ فنبني سور أورشليم ولا نكون بعد عاراً ” (نح 2: 17) الرجال ينهمكون في العمل وكأنهم في حلبة مصارعة، فعمل أسبوع ينتهي في يوم واحد، وعمل يوم ينتهي في ساعة، وواحد منهم لا يتقاضى أجره، ويجتهد في العمل وكأنه أخذ الأجر مئة ضعف، وحتى السيدات والفتيـات إنشغلن بإعداد الطعام لكل هذا الجمع الذي يحتشد في المكان يعمل من الصباح الباكر للمساء 00
أرشي: هذه الغيرة هي غيرة إلهيَّة وضعها الروح القدس في القلوب المحبة للمسيح، وهذا العمل بلا شك عمل إلهي.. فهذه أول كاتدرائية تُبنى على أرض الإسكندرية، فنحن لا نملك مكاناً للصلاة سوى بيت أنيانوس، وطوال سنوات الإضطهاد التي تربو على مائتي عام ليس لنا سوى الأماكــن المنعزلة في نكروبوليس (منطقة المقابر) أو على ساحل البحر خارج أسوار المدينة غرباً، أو على أطراف بحيرة مريوط جنوباً0
إسكندر: بعد نياحة البابا مكسيموس (رقم 15) في 14 برمودة 282م تم إختيار الأنبا ببنوده الذي جلس على كرسي مار مرقس ستة أشهر فقط، وأنتم تعلمون أن الكنيسة قد جردته من رتبته لأنه خصى نفسه، فلم يعد من سلسلة الباباوات، وتــم سيامة البابا ثاؤنا (رقم 16) المملوء بالحكمة والفهم والفطنة والمشورة الصالحة، والمحبة والتقوى، وبفضله بعد الله يتم هذا العمل الجبار.. إنظروا ماذا فعل ؟:
أولاً : إنتهز قداسة البابا فترة الهدوء التي تمر بها الكنيسة، فالإضطهادات لازمت كنيستنا المجيدة منذ إستشهاد مار مرقس الذي سُحل في شوارعها، وقد روى شجرة الإيمان بدمائه الطاهرة، ولم يهدأ هذا الإضطهاد إلاَّ في عهد البابا ثاؤنا0
ثانياً: تحدث قداسة البابا مع ” ويصا ” ذاك التاجر الكبير الغني في الإيمان والأموال، فهو الذي يورد الملابس العسكرية للجيش، وطلب البابا منه أن يشتري هذه الأرض بإسمه، وقد أمده بالمال اللازم، وقام ” ويصا ” بشراء هذه الأرض المتسعة وعمل سور مرتفع حولها، وبوابة كبيرة وبوابة صغيرة، وترَك المكان فترة حتى إنصرفت عنه الأنظار، كما أن هذا من الأمور العادية أن يشتري تاجر ثري مثل ” ويصا ” قطة أرض متسعة بقصـد الإستثمار، ربما ليعيد بيعها، أو ليبني فيها قصراً محاطاً بحديقة0
ثالثاً : بدأ العمل وبمجرد أن شعر المسيحيون بهذا، بدأت تبرعاتهم تنهال علينا، ولم يكتفوا بهذا بل زجوا بأنفسهم في ساحة العمل، بينما عمل البابا البطريرك عملاً حكيماً إذ إصطحب معه أبونا التقي ثيؤدوسيوس، وكما دخلا الحي اليهودي من قبل، زارا كبار المنطقة غير المسيحيين في حي راكوتي، وقدم لهم ” قداسة البابا ” هدايا قيمة وتحفاً ثمينة وبذلك إستطاع أن يكسبهم، حتى عندما أراد عدو الخير أن يثير غير المؤمنين على المؤمنين كما أثارهم من قبل على مار مرقس لم ينجح، لأن هدايا البابا وعطاياه قد أطفأت هذه النيران قبل أن تشتعل0
رابعاً : تشفع البابا بأمنا القديسة العذراء مريم صاحبة هذه البيعة لتعينه على إتمام هذا العمل الضخم، فهو ليس مجرد كنيسة لكنه كاتدرائية تتسع لآلاف المصلين، وتقوم على ألف عمود ضخم، والأمــر المدهــش أن ” العـذراء مريم ” ظهرت لتاجر الرخام ” فيليجيوس ” صاحب السفن الضخمة، وطلبت منه لقاء البابا، وعندما إلتقى ” فيليجيوس ” بالبابا سأله عن إحتياجاته والبابا لم يشأ أن يطلب منه شيئاً غير صلواته، ولكن عندما أعلمه بظهور العذراء أم النور له صرح له البابا أنهم فشلوا في توفير الأعمدة اللازمة لإتمام البناء، فكل ما أمكـن جمعه من الإسكندرية وخارجها، وبعد جهود مضنية ثلاثمائة عمــود رخامي 0 فطلب ” فيليجيوس ” من البابا فرصة، وفعلاً نجح هذا الرجل الشهم في عقد صفقات في أماكن مختلفة، ونجح في إحضار سبعمائة عمود رخامي لهذه الكاتدرائية، وبعد إلحاح شديد من قداسة البابا لم يقبل إلاَّ نصف قيمتها فقط، وتحمَّل هو النصف الآخر ومصاريف الشحن0
ديمتري: إنني أتعجب من أن العمل بدأ في سرية كبيرة، إلاَّ أن الخبر تسرب للبعض بأن ” البابا ثاؤنا ” سيبني كاتدرائية ضخمة، حتى إشتعلت النفوس بالغيرة المقدَّسة، فكل إنسان يود لو يقدم نفسه بالكامل وليس جزءاً من أمواله أو ممتلكاته، وحتى المصريين المتغربين والمصريون الذين يعملون في القصر الإمبراطوري عندما علموا أرسلوا للبابا تبرعات سخية00
إنظروا إلى الفرحة في عيون الأطفال وكل منهم يحمل طوبة أو أكثر..
إنظـروا إلـى الصبية وكل منهم يحمل حجراً أو يجاهد لكيما يحمله..
سمعتُ بالأمس حديثاً بين بعض الأطفال، قال أحدهم: إننا نبني بيتاً عظيماً للرب مثل هيكله الذي كان في أورشليم، وقال آخر: لن يعيريني زميلي في المدرسة بعد ويقول نحن لنا معابد فخمة وأنتم ليس لكم، وقال ثالث: سيكون معبدنا هذا أعظم من ” معبد سيرابيس “0
ميناس: حقاً كلما أنظر لحجم هذا العمل وما يتكلفه من أموال طائلة أتعجب من أي أتت كل هذه الأموال ؟ !.. والأمر العجيب أن الشماس ” بطرس ” يقول: لم نحتاج يوماً لدراخمة واحدة، لأن هبات الله وعطاياه تسدد كل إحتياجات العمل، كما أنه عندما سُئل: من أين أتـت كل هذه الأموال ؟ قال: ” كفقراء ونحن نغني كثيرين “0
ديمتري: حقاً إنني معجب بشخصية ” بطرس ” الشماس المعلم، فدائماً تشعر أن النعمة على وجهه وفي كلماته 0 يعيش الحياة، كل الحياة في هدوء وسلام.. دائماً تجده فايق ورايق، يقابل أصعب الأمور بهدوء كبير0
ميناس: ياأخ ديمتري هذا الشماس الذي أنت معجب به هو ” إبن الموعد “0
ديمتري: كما تعني بقولك ” إبن الموعد ” ؟ هل أنه إنسان مبارك مثل أبينا إسحق إبن الموعد ؟
ميناس: لم يكن لأبونا ثيؤدوسيوس أولاداً، ولكنه لم يتذمر على الله بل كان مسلماً إياه كل الإرادة وكل المشيئة وكل الإشتياقات0 أما زوجته الفاضلة التقية ” صوفيا ” فكانت تداوم الصلاة والطلبة من أجل أن يرزقها الله نسلاً صالحاً، وعندما دخلت ذات مرة إلى الكنيسة في عيد الرسل الأطهار، رأت المؤمنين يحملون أطفالهم ويرشمونهم بزيت القنديل المنير أمام أيقونة الرسولين بطرس وبولس، تأثرت وسالت دموعها، وبدون أن تفتح فاها أخذت تصلي صلاة قلبية قوية مثلما صلت حنة أم صموئيل النبي، وفي تلك الليلة رأت في حلم الرسولين بطرس وبولس يرتديان ملابس المجد ويقولان لها: ” لا تحزني فقد سمع الرب صلاتك وهو يرزقك طفلاً يكون أباً لأمم كثيرة، ويكون إسمه كصموئيل، إذ هو إبن موعـد أيضاً، فمتى إستيقظتِ فاذهبي إلى البابا وأخبريه بالأمر، وهو يصلي لك “0
وفي الصباح نهضت الزوجة الفاضلة ” صوفيا ” فرحة متهللة، وكأن الطفل قد وُلد، وهوذا هو بين يديها تداعبه وتهننه، وأخبرت زوجها ” أبونا ثيؤدوسيوس ” بالحلم، ثم ذهبت للقلاية البطريركيـة وقابلت قداسة البابا وقصت له الحلم، فطمأنها وقال لها: ” ليكـن لك ما أنبأتكِ به السماء، ويتم الله طلبك ويجيب سؤلك، فإن الله صادق وأمين في مواعيده، وهو قادر على كل شئ، وأعماله عجيبة في قديسيه ” 0
وعندمـا وُلــد الطفــل، وعلم البابا بهذا إختار له إسم ” بطرس ” تيمناً ببطرس الرسول صاحب العيد، وفي السابعة من عمره سامه البابا ” أغنسطس ” أي قارئ، وفي الثانية عشرة سامه ” ذياكون ” أي شماس، وقد كرَّس نفسه للخدمة، فهو دائماً ينكب على دراسة الكتب المقدَّسة، ويحاضـر في المدرسة اللاهوتية، كما أن ” البابا ثاؤنا ” يعتمد عليه في أمور كثيرة0
دار هذا الحديث خلال إستراحة الغذاء القصيرة، وسريعاً ما شمَّر الأصدقاء عن ساعد الجد، وإنهمكوا في هـذا العمل الجبار، ويوماً فيوماً بدأ يكتمل البناء وتتضح معالمه، فكل عمود يُنصب وكل جزء من السقف يتم، وكل نافذة تنتهي، وكل جزء من الأرض يُرصف بالتربيعات الحجرية كانت تتغير الصورة، وخلال شهرين من العمل الشاق المضني الذي شارك فيه المئات من الفقراء والأغنيـاء، البسطـاء والمتعلميــن، الصغار والكبار، ظهرت ” كاتدرائية الألف عمود ” (محل جامع الألف عمود) كبناء ضخم جبار يسع آلاف المصلين0
وفي عشية أحد التناصير سنة 290 م حضر ” قداسة البابا ثاؤنا ” مع عدد من الآباء الأساقفة الذين لبوا الدعوة، وحَشْدُُ من الآباء الكهنة والشمامسة الذين جاءوا من كل مكان، وإرتفعت الصلوات طوال الليل لتدشين ذلك المكان، وفي الصباح الباكر قُدمت القرابين وبدأت صلوات القداس الإلهي، وفيه تم سيامة الشماس المعلم ” بطرس ” أبرسفيتيروس أي قساً بنفس الأسم مما أثلج قلوب الحاضرين، كما قام الآباء بتعميد عدد كبير من الموعوظين والموعوظات، ومن بينهم ” سوسنا ” والدة ” ديمتري ” وأخواته ” راحيل ” و” دينه ” و” ميراب “0 أما ” ديمتري ” فلم يستطع تخطي العقبة العقلانية التي إعترضته: ” كيف يتجسد يهوه ويُصلب ويُهان ؟! ” لذلك لم يستطع أن ينال الصبغة المقدَّسة ولا أن يتناول من الأسرار المقدَّسة، ولكن رجاءه في الله لم ينقطع وهو واثق أن الله سيساعده على إجتياز هذه العقبة، وبعد نهاية القداس زف الآباء الأساقفة والكهنة والشمامسة ” أبونا بطرس ” إبن ” أبونا ثيؤدوسيوس ” الكاهن إبن الكاهن، وطافوا الكنيسة المتسعة الأطراف، وفرحت الكنيسة وتهللت إذ لبست ثياب المجد والبهاء، أما فرحة الشعب فلا يمكن التعبير عنها، إذ جاء اليوم ليقدم عباداته في هذا المكان المقدَّس.. بمجرد أن يدخل إليه يقبل ترابه وأبوابه ويسجد أمام هيكله بخشوع ورهبة، وكأنه في حلم لذيذ يتمنى من كل قلبه أن يدوم للأبد، وتظل أبواب الكنيسة مفتوحة في وجهه على الدوام0
وإذ أراد الأصدقاء الأربعة تقديم هدية قيمة وغير تقليدية لأبونا بطرس بمناسة سيامته وبعد عدة إقتراحات إتفقوا على إقتراح ديمتري، وهو رسم خريطة للإسكندرية بشكل شوارعها الطولية والعرضية، وبكل أحياءها، بل وضواحيها، مع كتاب يوضح منازل المسيحيين في كل شارع، وسكان كل منزل بأعمارهم وأعمالهم وآباء إعترافهم.. إلخ وفعلاً بدأوا في ذلك العمل المميز0
ميناس: إنني فخور بمدينتي هذه، وأشعـر أننـي مدين لمؤسسها ” الإسكندر الأكبر ” وأيضاً لمهندسها ” دينوقراطيس ” الذي حدَّد على الخرائط حدود الإسكندرية وشوارعها المريحة، وقد إستخدم خطة الزاوية القائمة، فالشوارع الرئيسية الطولية من الشرق إلى الغرب تسعة شوارع أهمها ” الشارع الكانوبي “، والشوارع الرئيسية العرضية سبعة عشر شارعاً أهمها ” شارع سوما “، والمدينة عبارة عن شريط على الساحل تحدها الأسوار بطول يزيد عن خمسة كيلومترات وعرض يزيد عن الكيلومتريـن، وقد أحسن ” دينوقراطيس ” إختيار الميادين والأسواق، وأخذ في حساباته إمكانية التوسع والإمتداد فجاءت مدينتنا بهذه الروعة وذاك الجمال0 وإن كانت الشوارع تستقيم عندما يقبل الزمان، وتعوّج عندما يدبر الزمان، فإستقامة شوارع مدينتنا للآن يعلن أن المدينة مازالت في أوج مجدها رغم النكبات التي تعرَّضت لها، فترابها وبحرها رويا بالدماء، ولأن المدينة أنشئت على منطقة تكثر بها التلال، لذلك نجد الشارع رغم إستقامته يعلو ويهبط حسب وضع المكان، ومع هذا فإن كل مباني المدينة ومعابدها وقصورها قد وضعت في المكان الصحيح بنظام دقيق مع مسحة كبيرة من الجمال، فاستحقت عن جدارة أن تكون وتظل عاصمة مصر، والمدينة الثانية في العالم بعد روما0
والشارع الرئيسي الطولي ” الشارع الكانوبــي ” يمتد من ” الباب الكانوبي ” شرقاً إلى ” باب نيكروبوليس ” غرباً بطول يزيد عن خمسة كيلومترات وعرض الشارع أربعة عشر متراً، فيكفي لمرور العربات والمشاة، وعلى جانبيه تجد الأعمدة المرمرية والرخامية ترتفع عليها القباب، والقصور الفخمة بحدائقها، وعلى جانبيه أيضاً تضاء المصابيح ليلاً، والمصباح هو قدح من الحجر أو الفخار ملئ بالزيت، والفتيل شريط من خرق القماش، كما زرعت على جانبي الطريق الأشجار وبجوارها وُضعت أصص نباتات الزينة، وأيضاً على الجانبين تجد مجارٍ لصرف مياه الأمطار، كما أن أيدي الكادحين تقوم بغسل هذه الشوارع يومياً، وعلى ضفتي الطريق توجد الأرصفة التي تؤمّن سير المشاة، والشوارع الرئيسية رُصفت بحجر خرسان النوبة (البازلـت الأسود) الذي جُلب بالمراكب من أسوان، وتم هندمته ليأخذ شكل بلاطـات كل منها بطول 50 سم وعرض 30 سم، وأنت تسير في ” الشارع الكانوبــي ” تقع عيناك على مبنى ضخم وفخم جداً0 أنه ” معبد سيرابيس ” الذي يرجع تاريخه إلى نحو ستمائة سنة خلت منذ عهد بطليموس الأول والثاني، وفي الميادين ترى التماثيل الناطقة التي تم تشكيلها من الحجر الجيري والرخام والجرانيت والبازلت مما يشع البهجة والجلال على المدينة0
وشمال الشارع الكانوبي (من شارع أبوقير للشاطئ) تجد ثلاثة شوارع طولية موازية له، وعرض كل منها سبعة أمتار، وبحسب ترتيبها من الشمال للجنوب تلتقي أولاً بـ ” شارع اليهود ” الذي يمر بالحي اليهودي فقط، فهو أصغر الشوارع الطولية لأنه ينتهي عند الشارع العرضي رقم (4)، وثانياً ” الشارع الحدائقي ” ويبدأ من مقابر اليهود شرقاً ويمر بالحي اليهودي والحي الملكي بطول نحو 3 كم وينتهي عند الشارع العرضي رقم (9) وتجد الحدائق على جانبيه ولاسيما في الحي الملكي، ومن هنا أكتسب إسمه، وثالثاً ” شارع الهيبودروم ” ويبدأ من الحي اليهودي شرقاً ويمر بالحي الملكي وينتهي عند الشارع العرضي رقم (10) بجوار ” الإمبوريون ” (المركز التجاري) وبه كثير من المنشآت الهامة، والجزء الأوسط من هذا الشارع الذي يمر بالحي الملكي يعتبر من الشوارع الحدائقية، والجزء الأخير منه الذي يمر بحي الميدان يعد من الشوارع التجارية0
وجنوب الشارع الكانوبي تجد خمسة شوارع طولية موازية له، وعرض كل منها سبعة أمتار، الأول منها (ويعد الخامس من الشاطئ) يبدأ من سور المدينة الشرقي وينتهي عند سورها الغربي بطول نحو 5 كم، مخترقاً الأحياء الأربعة الأحراش والبانيوم والمتحف والمصري، والجزء الذي يمر بحي البانيوم يعتبر من الشوارع الحدائقية، وهكــذا بقيـة الشوارع، وإن كان المهندس ” دينوقراطيس ” حافظ على المسافة بين كل شارع طولي وآخر وهي 278 م لكن بسبب وضع بعض التلال جنوب المدينة، جاءت المسافة بين الشارع السادس والسابع 170 م، وبين السابع والثامن 84 م، ويبلغ طول الشارع الثامن نحو 5ر4 كم، والشارع التاسع الطولي والأخير بطول يزيد عن 3 كم، فيبدأ من الشارع العرضي رقم (4) وينتهي بسور المدينة الغربي0
أما الشارع العرضي الرئيسي في المدينة هو ” شارع السوما ” أو ” السوماي ” Somai وسُمي هكذا لأن به الهيكل البديع الذي وضع فيه جسد أو جثمان الإسكندر الأكبر (مسجد النبي دانيال الآن بالقرب من كوم الديماسة أي كوم الدكة)، ويمتد شارع السوما من البوابة الجنوبية ” باب الشمس ” تجاه بحيرة مريوط إلى البوابة الشمالية ” باب القمر ” شمالاً، وجاءت بقية الشوارع العرضية جميعها وعددها سبعة عشر شارعاً موازية للشارع العرضي الرئيسي، وجميعها بعرض سبعة أمتار، وأطوالها تتراوح بين كيلومتر ونصف وكيلويين من الأمتار0
خريطة شوارع الإسكندرية
أما أسوار المدينة المنيعة فقد بلغ طولها أكثر من 15 كم تعلوها أبراج المراقبة، فيبلغ إرتفاعها نحو ثلاثين متراً باستثناء السور تجاه البحر فإرتفاعه لا يزيد عن متر واحد بقصد الحماية من الأمواج المتلاطمة التي ترتفع في فصل الشتاء ولاسيما أوقات النوات البحرية، وللمدينة أربعة بوابات لا غير جاءت على شكل صليب، من الشرق ” الباب الكانوبي ” ومن الغرب ” باب نكروبوليس ” ومن الشمال ” باب القمر ” ومن الجنوب ” باب الشمس “0
أرشي: وكما جاءت الشوارع مستقيمة ومنسقة وجميلة هكذا جاءت الأحياء السكنية، فالشارع الكانوبي يقسّم المدينة إلى قسمين فشماله في المسافة منه إلى الشاطئ تجد ثلاثة أحياء وهي من الشرق للغرب ” الحي اليهودي ” (منطقة الشاطبي) ثم ” الحي الملكي ” الذي يحيط بالميناء الشرقي (من برج السلسلة للمنشية) ثم ” حي الميدان ” أو الميناء (من المنشية لرأس التين تقريباً) 0 أما جنوب الشارع الكانوبي فتجد أربعة أحياء من الشرق للغرب ” حي الأحراش ” أو ميدان السباق، ثم ” حي البانيوم ” ثم ” حي المتحف ” وأخيراً ” الحي المصري ” أو راكوتي:
الحي اليهودي (سوتيريا): يقع شرق الحي الملكي، ويفصل بينهما شارع الوادي الوطني، وعُرِف بمربع اليهود (وسبق الحديث عنه)0
الحي الملكي (البروخيوم): يقع بين الحي اليهودي شرقاً وحي الميدان غرباً، والميناء الشرقي شمالاً والشارع الجنوبي جنوباً، وهو الأكثر روعة وجمالاً (وسبق الحديث عنه)0
حي الميدان (الميناء): ويقع غرب الحي الملكي، يفصل بينهما الشارع العرضي رقم (11) فيحده من الشرق الحـي الملكي، ويحده من الغرب سور الإسكندرية الغربي، ومن الشمال الميناء الغربي، ومن الجنوب الشارع الكانوبي، وهو الحي التجاري، فتجد فيه المخازن الكبيرة والمستودعات التي تُستخدم في تخزين السلع التجارية الخاصة بالتصدير والإستيراد، وبه الفنادق والإستراحات للتجار الأجانب الذين جاءوا للتجارة والإستيراد، فشوارع هذا الحي تموج بالأجناس المختلفة من يونانيين ورومان ومصريين ويهود وسريان وأحباش وهنود وعرب، وفيه تسمع شتى اللغات واللهجات، ويعتبر هذا الحي هو الترمومتر الذي يقيس الرواج الإقتصادي بالمدينة، وبالحي أيضاً الترسانة التي تصنع فيها السفن، والمرفأ الإصطناعي ” كيبوتوس ” Kibotos أو ” الهاويس “0
حي الأحراش (ميدان السباق): ويقع جنوبي الحي اليهودي يفصله عنه الشارع الكانوبي، ويحده من الشرق سور المدينة الشرقي ومن الغرب حي البانيوم، يفصل بينهما الشارع العرضي رقم (4) (شارع الوادي) ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب سور المدينة الجنوبي، وبهذا الحي تجد ميدان السباق، وأيضاً السواري وهي أماكن العبادات الوثنية0
حي البانيوم (السوما): يحده من الشرق حي الأحراش، ومن الغرب حي المتحف، ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب سور المدينة الجنوبي، ويضم الحي ” قصر السوما ” وهو الجبانة الملكية حيث يرقد جثمان الإسكندر الأكبر مؤسس المدينة، وبجواره جثامين ملوك البطالمة، ويضم الحي أيضاً ” البانيوم ” Panium (كوم الدكة) وهو تل أو برج صُنع بشكل مخروطي كشجرة البلوط، وبه سلالم حلزونية، ومن قمته ترى المدينة كلها، وتتمتع بنسمات البحر التي تقبل إليك بلا عائق، وكثيرون يأتون إلى هذا المكان للتمتع برؤية المدينة بالكامل، كما يلهو أطفالهم في الحدائق المتسَّعة المحيطة بالبانيوم، وقد دُعي هذا الحي بأسم هذا البرج (البانيوم) وفي شمال الحي تجد عدد كبير من القصور الفخمة التي تطل على الشارع الكانوبــي، أما جنــوب الحـي فتجد بعض الأحراش (المستنقعات)0
حي المتحف: يحده من الشرق حي البانيوم، ومن الغرب الحي المصري، ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب سور المدينة الجنوبي، ويعتبـر هذا الحي له أهميته، لأنه يضم أهــم معالــم المدينة، فبالحي تجد ” الموسيون ” معهد العلوم الضخم الذي هو أشبه بجامعة، أو أكاديمية، وعدد من القصور التي تزداد عدداً وفخامة كلما إتجهت شمالاً نحو الشارع الكانوبي، والحي يخلو من الأحراش (المستنقعات)0
الحي المصري (راكوتي): يحـده من الشرق حي المتحف، ومن الغرب سور المدينة الغربي، ومن الشمال الشارع الكانوبي، ومن الجنوب ســور المدينة الجنوبي (يمثل الآن منطقة كرموز وكوم الشقافة وميناء البصل واللبان وكفر عشري) ومن أهم معالم هذا الحي ” معبد السرابيوم ” الذي بناه ” بطليموس الأول ” (305 – 283 ق0م) لتمتزج فيه العبادة الإغريقية مع المصرية، فعبادة ” سيرابيس ” قد إنتشرت فـي العالم القديم، وفي مصر فقــط يوجـد 42 معبداً لسيرابيس ورأى المصريون أن ” سيرابيس ” يمثل الإله ” أوزيريس ” مع العجل ” أبيس ” وقَبِل البطالمة عبادة هذا الإله، وقيل عن هذا المعبد ” ليس هناك في العالم ما هو أفخم منه إلاَّ ” الكبيتول ” الذي يعد الفخــر الأبـدي لمدينـة روما ” (25) وتمر بالحي ترعة ” شيديا ” من الجنوب ثم تتجه شمالاً نحو حي الميدان0
ميناس: وكما أنني معجب جداً بمدينتي، فأنا أستريح أيضاً لمبانيها التي رُوعي فيها الإتجاهات الصحيحة، فأشعة الشمس تنفذ إلى داخل الحجرات شتاءً، كما أن الشوارع العرضية المستقيمة تفسح المجال لنسيم البحر العليل أن يتخلل المدينة بسهولة، والمنازل ترتفع إلى طابقين أو ثلاثة، وربما إستخدمت بعض حجرات الدور الأرضي كحوانيت، وترى القباب والمظلات تعلو الأبواب، وألوان الجدران من الداخل مشرقة وزاهية مما يريح النفس، والمنازل وفيرة الضوء والحرارة، تطل بعض حجراتها على مناظر جميلة، وبالمنزل الواحد تجد حجرة الجلوس الشرقية الشتوية المشمسة، وحجرة الجلوس البحرية الصيفية، وحجرة النوم في الجزء الخلفي من المنزل حيث الهدوء، وهناك حجرة الخزين التي تصل إليها عن طريق ممر أو سلم بعيدة عن التلوث، وتحت المنازل تجد خزانات المياه المتسعة التي تنتشر تحت المدينة بأكملها، يقف فيها الرجل دون أن ينحني، ولا ننسى الإمبراطور أوغسطس سنة 10م الذي مدَّ مجرى مائي من ترعة شيديا إلى كل أجزاء المدينة0
ديمتري: إنني أستريح لمدينتي هذه أكثر من أي مدينة أخرى زرتها، وأرى أن إختيار ” الإسكنــدر الأكبر ” ومهندسه العبقري ” دينوقراطيس ” الرودسي (من جزيرة رودس) جاء موفقاً تمام التوفيق، وأنا أعلم أن إختيار هذا المكان لم يأتِ جزافاً، ولعله توفر في هذا المكان مزايا عديدة:
أولاً : تقع هذه المنطقة بين البحر وبين بحيرة مريوط ذات المياه العذبة، ففرع النيل الغربي من فروع النيل السبعة يصب في هذه البحيرة المتسعة التي تستوعب كل الميـاه التي تأتي إليها من الفيضان، فلا تجد بجوانبها أية مستنقعات تلوث الجو وتفسده، كما أن الطمي الذي ينساب مع مياه الفيضان يزيد من أرض مريوط خصوبة، فمن يقترب منا الآن لشط بحيرة مريوط له أن يتمتع بالزهور الرائعة الألوان والروائح الشذية التي تعبق المكان، ويرى الذهب الأصفر وهو يُدرس بالنوارج، فإن قمح هذه المنطقة من أجود الأصناف، وأشجار الفاكهة هناك تُذكرنا بالفردوس الأول0 أمـا عنب مريوط الذي وصل إلى أكثر من عشرة أصناف فله شهـرة كبيرة، ونبيذه فاق أنبذة اليونان وإيطاليـا، وبعد أن كتب ” أثينابـوس ” عـن كـروم مريوط ونبيذها تشجع الرجل اليوناني ” جناكليس ” في إنشاء تلك المزرعة الضخمة التي تحمل إسمه غرب الدلتا، وعلى شط بحيرة مريوط ينبت نبات البردي وعليه تقوم صناعة الورق وتُصدر إلى الخارج، وعلى جوانب البحيرة أيضاً تجد مصانع الطوب، وأماكن صناعة الأواني الفخارية0
ثانياً: تم شق ” ترعة شيديا ” من فرع النيل الكانوبي، فامتدت حتى جنوب المدينة ثم إتجهت شمالاً إلى ميناء ” كيبوتوس ” ومن هذه الترعة إرتوت المدينة0
ثالثاً : بُعد هذه المنطقة عن النهر أبعدها عن الطمي الذي يرسبه هذا النهر، ولاسيما أن التيار الرئيسي أمام شط المدينة يتجه من الغرب للشرق، فهو لن يسمح لطمي الفرع الكانوبي للإقتراب للمدينة0
رابعاً : هذا المنطقة كانـت تقع بين قرية ” رع كديت ” الفرعونية (راكوتي) غرباً، والتي عاش بها بعض الرعاة والمزارعين، وقد أقام بها ملوك الفراعنة حامية عسكرية لحماية الحدود الغربية، وبين مدينة ” كانوب ” القديمة شرقاً، وبهذا توفر العنصر البشري الذي سيعمر المدينة0
خامساً : تقوم جزيرة فاروس بدور الحماية الطبيعية للسفن الداخلة للمدينة، وقيل أن الإسكنــدر كـان مقتنعاً تماماً بما قاله في القديم ” هوميروس ” عن هذه الجزيرة:
وسط البحار العظيمة التي تسبح مصر فيها
قامت جزيرة فاروس زائعة الصيت
لقد قام ” دينوقراطيس ” بتحديد حدود المدينة يوم 25 طوبة سنة 331 ق0م، وكـلَّف ” الإسكنــدر الأكبر ” وزير مالية مصر ” كليومينيس ” لتمويل هذا المشروع الضخم، وإستمر العمل لمدة ثمانين عاماً، وكل ملك من ملوك البطالمة الأوُل يحاول أن يضيف جديداً للمدينة، حتى إكتملت بهذه الصورة الرائعة الجميلة0 فهنيئاً لنا بمدينتنا العظمى الإسكندرية0
خريطة أحياء الإسكندرية
إسكندر: ولا ننسى أيضاً ضواحي مدينتنا وأهمها:
ضاحيـة اليوزيس: (مستشفى المواساة والحضرة والنزهة) تقع في الأطراف الجنوبية، ويرتفع مستواها عن مستوى المدينة بنحو 12 متراً مما جعل الذين يبحثون عن الإستجمــام والراحـة يلجـأون إليها، وعندما أنشأ ” بطليموس الثاني ” فلادلفوس بها معبداً صارت منطقة جذب سكاني0
ضاحية تابوزيريس: وهي أقدم من الإسكندرية، وتجد بها الآثار الفرعونية، وبها ” معبد أوزيريس ” الذي يقع على ربوة عالية، وتقع الضاحية بعد كيلومتر ونصف شرقي المدينة، وتطل على بحيرة مريوط التي إنتشرت بها بعض الطيور بأعداد هائلة مثل أبي قردان الأبيض، وأبي منجل، والنحام (طائر بحري طويل الريش) والبجع والسمان وعصفور التين، فالبحيرة غنية ولذلك يمتهن سكان تابوزيريس مهنة الصيد، كما أنهم يقومون بزراعة أشجار التين والزيتون والكروم0
ضاحية نكروبوليس: أي مدينة الأموات وتقع جنوب غرب الإسكندرية مقابل نهاية الشارع السابع، وهي منطقة مقابر، فقد إعتاد الإغريق على دفن موتاهم خارج أسوار المدينة، وتصنع توابيت الأغنياء من الجرانيت الوردي المنقوش عليه بعض الرسومات، مثل الإله آمون (وهو الإله زيوس كما تصوَّره الإغريق) وهم يضعون بالمدافن تماثيل للإله ” أنوبيس ” حارس الجبانات وهو يتخذ شكل الكلب الحارس، ولا ننسى أن معدل الوفيات في مدينتنا مرتفع ولاسيما بين الأطفال، ومتوسط العمر أربعين سنة فقط، وهذه الضاحية لم تقتصر على المقابر فقط، بل زُرعت بها الحدائق والبساتين بسبب موقعها المتميز، فالميناء النهري على بحيرة مريوط جنوبها، وميناء الإسكندرية البحري شمالها0
ضاحية ماريا: تقع جنوب المدينة وتطل على بحيرة مريوط، وعلى بُعد 4 كم منها توجد داخل البحيرة جزيرة كبيرة، والمياه في بحيرة مريوط تعتمد إرتفاعاً وإنخفاضاً على فيضان النيل، وحول هذه الضاحية تنتشر الحدائق حيث أشجار الفواكه المختلفة من تين ورُمان وكمثرى وتفاح ومشمش، وكروم، وزيتون، وتعتمد مدينتنا على فواكه تلك الضاحية بالأكثر، وأيضاً على الخضروات الطازجة التي تُزرَع في تلك الضاحية، وبالضاحية تجد ميناءاً ضخماً يشرف على بحيرة مريوط، فتجد المستودعات ومساكن الموظفيـن، ومعاصر الزيت والنبيذ، وأماكن تصنيع الأواني الفخارية، والحمامات العامة، وبها عدد ليس بقليل من القصور، وأجملهم القصر الإمبراطوري الذي أُقيم على عوامات وسط البحيرة0
ديمتري: ولا نستطيع أن نتغافل ” مدينة كانوب ” (أبي قير) وهي بالطبع أقدم من مدينتنا الإسكندرية، فكثيراً ما ذهبتُ إليها، ورأيت فيها ” معبد أوزيريس ” فالمصريون يعتقدون أن ” إيزيس ” جمعت أشلاء زوجها ” أوزيريس ” – الذي قتله شقيقة ” ست ” طمعاً في المُلك – من عدة أماكن، وآخر قطعة عثرت عليها في كانوب، ولهذا أقاموا هذا المعبد الضخم في ذاك المكان، وقد دُعي فيما بعد بأسم ” سارابيس ” أو ” السيرابيوم ” من باب التقريب بين الديانتين الفرعونية والإغريقية، وأيضاً بها ” معبد الهيراكليون ” المخصص لهرقل ويقع بالقرب من ” قدس الأقداس ” المخصَّص للعائلة البطلمية، وقد رأيتُ أحد اللوحات الحجرية الضخمة التي تبلغ أبعادها نحو 3 × 6 م نُقش عليها بطليموس الثامن وزوجتاه كليوباترا الثانية والثالثة، كما رأيتُ تمثالاً ضخماً من الجرانيت الوردي بإرتفاع 60ر5 م لإله النيل (حابي) بشكل إنسان يحمل على يديه مائدة قرابين، وعلى رأسه تاج على شكل نبات البردي رمز النيل، والرأس مغطى بغطاء الرأس الفرعوني الذي يتدلى على الكتفين، وأيضاً رأيتٌ تمثالاً لإحدى ملكات البطالمة تتطابق مع الإلهة ” أيزيس ” وهي ترتدي رداءاً شفافاً، وشعرها مجدول في ضفائر، وتمثال لأحد الملوك البطالمة بطول 3ر5 م يعلو رأسه التاج المزدوج، ويرتدي الملابس الملكية ويعلو الجبهة الثعبان المقدَّس، وقد إعتاد ملوك البطالمة على صنع التماثيل الخاصة بهم بنفس شكل وحجم التماثيل الفرعونية0 وقد ألحقت بالمدينة ضياعاً لإنتاج النبيذ والزيت0
وبطول الساحل من الإسكندرية إلى كانوب تجد الفيلات الفاخرة التي تضم أماكن للسياحة وأرصفة لصيد الأسماك، وقد أكتست أراضي هذه الفيلات بالموازييك الرائع الألوان، وأمام كانوب في عرض البحر ذهبتُ إلى ” جزيرة كانوبوس ” (جزيرة نلسون) ورأيتُ فوقها بعض المباني الضخمة التي أُنشئت منذ عصر البطالمة، وبها عدد قليل من السكان يعيشون على مهنة الصيد، ومن هذه الجزيرة يمدون السفن التي تمر عليهم بالمياه العذبة، وفيما قبل كانت ” كانوب ” تعتبر منطقة تجارية، ولكن الآن الإسكندرية خطفت منها الأضواء، ومع هذا فهي مازالت تجذب الكثيرين إليها بسبب هواءها النقي وفنادقها الضخمة وتوفر وسائل الراحة والمتعة، فهي تمثل المكان المفضل للإستجمام للطبقة الأرستقراطية، وكل يوم 29 كيهك تشهد ” كانوب ” إحتفالات كبيرة بآلهتها، وتُقبِل الحشود من الإسكندرية بالمراكب والسفن عبر القناة المائية، فتزدحم المدينة، يأكلون الكعك الكانوبي والأسماك الطازجة والمحارات البحرية ويعزفون الموسيقى ويرقصون بلا تحفظ ويشربون النبيذ في كئوس من الفخار ذي الطلاء الأسود اللامع وعليها رسومات لبعض الراقصـات، فصارت ” مدينة كانوب ” سيئة السمعة تمتزج فيها الخلاعة بعبادات الآلهة الوثنية بالسحر، وقد دعى الرومان الذين كرهوا الملكة كليوباترا – التي إستحوذت على ملكهم ” يوليوس قيصر ” – بأنها ” الملكة الداعرة لكانوبوس الفاجرة ” وقال ” أوكتافيوس ” وهو يخطب في جنوده أن ماركوس أنطونيوس فقد صلاحيته كمواطن روماني وأصبح ” لاعب صاجات في كانوبوس ” وكتب ” سينيكا ” فيلسوف روما إلى صديقه ” لوتشيلوس ” يقول له ” أن الرجل العاقل في إختياره للعزلة أو المأوى يجب أن يتجنب كانوبوس “0
وبعد أن إنتهى الأصدقاء من وضع خريطة الإسكندرية بشوارعها الطولية والعرضية، وأحياءها، وضواحيها، بدأوا في العمل الشاق الأكبر، وقد إستعانوا بعدد كبير من الخدام لحصر جميع المسيحيين في مدينة الإسكندرية، وسجلوا ذلك في كتاب بعد أيام طويلة من الجهد الشاق المضني، وظهر خلال هذا الإحصاء عدد ليس بقليل من الأسر المسيحية التي تحتاج إلى رعاية روحية أو مادية، أو تعاني من مشاكل مختلفة.. إلخ وقد تم تدوين جميع هذه الملاحظات قرين كل أسرة0
وكم كانت فرحة ” أبونا بطرس ” بهذا العمل، فأخذه على الفور مع الأصدقاء الأربعة، وقدمه هدية إلى ” قداسة البابا ثاؤنا ” الذي تعجب من هذا الجهد الجبار، وتلك الطاقات التي أُحسن إستخدامها، وشكر الأصدقاء على محبتهم وغيرتهم، وقال ” ديمتري “: ياسيدنا هذا عمل بسيط بجوار عمل قداستك في الرعاية والخدمة وبناء كاتدرائية الألف عمود0 فرد ” قداسة البابا ” على الفور: ” العمل عمل ربنا ياإبني، ونحـن نفرح بعمله ونشكره عليه “0
(25) وصف أميانوس مرسيلينوس – سليم حسن – موسوعة مصر القديمة جـ 15 – أورده عادل فرج عبد المسيح – الإسكندرية منارة الشرق والغرب ص 34
الألف عمود ف5 – كتاب البحار المغامر – حلمي القمص يعقوب