آبائيات

مقدمة أساسية في علم الآباء – الجزء الأول – عن كتاب: دراسات في آباء الكنيسة للراهب باسيليوس المقاري

مقدمة أساسية في علم الآباء – الجزء الأول

عن كتاب: دراسات في آباء الكنيسة للراهب باسيليوس المقاري

 

إن أردنا أن نخوض في مثل هذا البحث فلابد أن نشير أولا وقبل ان نتكلم عن الآباء إلى هذا الإرتباط العضوي بين آباء الكنيسة والرسل والرب يسوع المسيح نفسه، هذا الإرتباط الذي يكشف عن معنى الكنيسة  “جسد المسيح السري”، والمسيح بالنسبة لها كارأس للجسد أو كحجر الزاوية في البناء، وسوف نعبر بسرعة:

 

أولا: على إرسالية الرسل لنكتشف منها رسالة الكنيسة وهل حقق الآباء هذه الرسالة وأين نحن منها الآن.

ثانيا: المنهج الذي سار عليه الرسل ثم الآباء وهل نتبع نحن هذا المنهج؟

 

هذا لنؤكد ونوضح حقيقة أساسية أن الإيمان الذي تسلمه الرسل القديسون مرة من الرب قد أعطوه للآباء الذين كانوا أكفّاء، فإستطاعوا أن يشيدوه بنيانا عظيما جداً وشاهقاًَ إستوعبته الكنيسة وحفظته كتقليد ثمين على مدى الأجيال وذلك يفيدنا جدا حتى نراجع أنفسنا ونراج خدمتنا ورسالتنا ككنيسة وكجماعات متعددة.

 

الإرسالية العظمى:

“حينئذٍ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب” (لوقا 24: 45) هنا المسيح يسوع بعد قيامته يؤكد لتلاميذه ببراهين كثيرة أنه هو هو وقد قام غالبا الموت وأن جسده هذا الذي يرونه ليس روحا ولا خيالاً (أنظروا يدي ورجلي إني أنا هو جسوني وأنظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي) وأكل قدامهم جزءً من سمك مشوي وشيء من شهد عسل ثم أخذ يحدثهم عما هو مكتوب عنه في الأنبياء وأعطاهم قوة وأنار بصيرتهم ليفهموا الكتب لكي يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها بأن ينادوا بإسمه للتوبة لمغفرة الخطايا وأن يتلمذوهم ويعمدوهم ويعلموهم ( لو 24 : 36 – 48).

 

إنطلق الرسل بعد تحقيق موعد الآب لهم – كما أوصاهم الرب يسوع يوم الخمسين كشهود للقيامة لجميع الناس يكرزون في أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض فتكونت جماعة كبيرة في أورشليم يوم حلول الروح القدس كان عددهم ثلاثة آلاف نفس إنضمت لجماعة التلاميذ وسرعان ما إزداد عددهم إلى خمسة آلاف وكانوا جميعا بنفس واحدة وقلب واحد يصلون في الهيكل مواظبين على كسر الخبز وتعليم الرسل والشركة وكانوا يبيعون المقتنيات ويضعونها تحت أقدام الرسل إذ كان كل شيء مشتركا بينهم وكانت هذه نواة الجماعات المسيحية من اليهود الذين آمنوا والتي تكونت من كل اليهودية والسامرة وسرعان ما إجتذبت الأمم إليها من كافة أنحاء الأرض ولم يمض جيل الرسل حتى كان إنجيل الخلاص قد صار إلى معظم أنحاء العالم.

 

المنهج الكرازي والتعليمي:

لو أردنا أن نستخلص منهج الرسل في الكرازة وفي التعليم فإننا نجد أنه قد تطابق تماماً مع ذات المنهج الذي أرساه المعلم – ربنا يسوع المسيح- في كرازته وتعليمه فالكرازة عند الرسل تقوم على إعلان محبة الله للخطاة، لجميع الناس، ودعوته لهم بالتوبة والإيمان بيسوع المسيح ربا ومخلصا، وممارسة أعمال التوبة.

 

هذا ما نادى به الرب يسوع المسيح شخصياً (توبوا وآمنوا بالإنجيل)، (هوذا الفأس قد وضعت على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيدا تقطع وتلقى في النار)، (من ثمارثهم تعرفونهم)، (أصنعوا أثماراً تليق بالتوبة)، (إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم)، هذا المنهج الكرازي البسيط يتناسب مع حاجة النفس البشرية للخلاص والحياة ولقد مارسه أيضا آباء الكنيسة والدليل على ذلك العظات التي كانت تتلي على الموعوظين الذين يتهيأون للمعمودية وهى تتسم بالبساطة والتعليم الإنجيلي الصحيح.

 

لقد كانت الكنيسة في القرون الأولى تمارس رسالتها الكرازية، وتجذب من الوثنيين والهراطقة أعدادا كبيرة، ومن الفلاسفة والحكماء والعظماء عدداً ليس بقليل.

 

هذه هى رسالة الكنيسة في كل عصر لأنها صورة المسيح المنظورة وصوته المسموع للبشرية التي أحبها المسيح ويطلب خلاصها، فهل تستطيع الكنيسة في هذا العصر أن تشهد بأنها تمارس رسالتها من نحو العالم، وهل تنادي له بالتوبة والعودة إلى حضن المسيح؟ ليت الكنيسة تعرف دائما عملها الذي أُنيطت به، ولا تستغرق في مشاغلها الكثيرة ولا تنحصر في مشاكلها الخاصة وإهتماماتها الذاتية؛ بل ليتها دائماً تجدد روحها وفكرها وحياتها وتعي جروح العالم وسقطاته وآلامه وإحتياجاته وتقدم له يد المعونة: الخلاص، ومعرفة الحق، والسلام الحقيقي.

 

أما منهج الرسل التعليمي فيمكن رده إلى دعامتين أساسيتين:

الأولى: وهى ممارسة الخدمة السرائرية كالمعمودية وعشاء الرب (عشاء الخميس الكبير) الذي مارسه الرسل في إجتماعاتهم يوم الأحد كما كان يضعون أيديهم على المعتمدين لقبول الروح القدس، وفي الكهنوت كانوا يضعون أيديهم على من يدعوهم الروح لينالوا مواهب الروح للتدبير والخدمة .. وهكذا. ومازال الروح القدس حاضرا وعاملا دائما في الكنيسة في الأسرار منذ أيام الرسل وفي عصر الآباء وإلى الآن وإلى منتهى الدهور.

 

الثانية: المنهج الكتابي، القائم على تحقيق أقوال العهد القديم وأنبياءه، وهو المنهج الذي بدأه الرب مع تلاميذه خاصة بعد القيامة وأكمله التلاميذ بعد ذلك في تعليمهم للمؤمنين، ولقد سكب الروح القدس مواهبه على المؤمنين لخدمة الكلمة، فوضع في الكنيسة أنبياءً ومعلمين ومبشرين وحكماء ومدبرين.. وإلى غير ذلك.

 

وكانت الكنيسة الأولى ذاخرة بهذه المواهب وإستمرت أيضاً في عصر الآباء. ولكن كان الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد بالنسبة لآباء الكنيسة مصدراً للإلهام والإمتلاء من الروح القدس فإستطاعوا أن يستخلصوا منه العقيدة المسيحية وقانون الإيمان واللاهوت والحياة الرهبانية والتنظيم الكنيسة وتفسير الكتب المقدسة وشرحها. وكل ما وضعه الآباء –خاصة في القرون الأربعة الأولى- إنما هو بمثابة نمو وإمتداد لهذا التقليد الحي الذي تسلموه من الرسل أنفسهم وعاشوا به في حياتهم وخدموا بهم. فالإيمان الذي حواه التقليد ظل محفوظاً في قلوب المؤمنين كوديعة ثمينة، لأنه يحمل وصايا الرب وإرادته وروحه القدوس.

ولقد تاجر الآباء بهذه الوزنة –أي التقليد الرسولي- كلٍ على قدر طاقته، ودخلوا به معارك ضارية، وخرجوا به في كل مرة وقد أضافوا على بساطته فكراً صحيحاً بنّاءً وتحديدات لفظية دقيقة حمته من مزالق الهراطقة، كما أغنته بخبرات إيمانية وتقوية كشهادة وحب وبذل للمسيح، من شهداء للإيمان وذبائح التكريس والرهبنة والقداسة. فالتقليد الحي كما هو بصورته الآن يقصه لنا –كل كلمة وكل مبدأ فيه- تاريخ أحقاب وعصور من الجهاد الطويل والصراعات المستمرة مع الذين هم من خارج ومن داخل أيضاً فهل نعتز به كميراث آبائي رسولي لنحفظه ونحياه ونقدمه للأجيال نقياً حياً خصباً كما هو؟

ومنذ قرن أو أكثر والعلماء ينقبون عن هذا التراث المسيحي في أماكن متعددة من العالم، يبحثون في الكتابات والمخطوطات والأيقونان وفي الآثاء وفي التاريخ القديم، محاولين أن يضعوا أيديهم على هذه الكنوز يستجلونها ويستوضحونها لمعرفة معالمها وآثارها على الحضارات الأخرى في الأدب والفكر والفنون المختلفة.

ليتنا نرتكن دائما على روح الآباء وفكرهم الذي ينقل لينا روح الرسل الذي هو روح المسيح.

 

التحديد اللفظي للآباء:

أطلق إسم “الآباء” في العهد القديم على إبراهيم وإسحق ويعقوب، وقد ذكره الرسول بولس في العهد الجديد قاصدا به هؤلاء الكارزين المعلمين الذين يلدون النفوس في المسيح يسوع (وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل) (1كو 4: 15).

 

ولقد إستخدم المسيحيون الأوائل لفظ “أب” ليطلقوها على المعلم، يقول القديس إرينيئوس أسقف ليون (130 – 200م) في كتابه ضد الهراطقة [من علمني حرفاً كنت له إبناً وكان لي أباً] adv. Hearesis 4.41 كذلك أوضح العلامة إكليمندس السكندري (150 – 215م) في كتابه Stromata 1:1,2  [أن الألفاظ هى ذرية النفس ولذلك ندعوا الذين علمونا “آباء” وكل إنسان يتلقى العلم يكون إبنا لمعلمه بإتكاله عليه]. والأساقفة هم الذين مارسول التعليم المسيحي وقد لقبوا “آباء” وفي بعض الكراسي الرسولية مازال إلى الآن يدعى الأسقف “أباً” كما في كنيستنا القبطية. وبحلول القرن الرابع ودخول الكنيسة في معارك لاهوتية إتسع لفظ آباء الكنيسة ليضم إلى الأساقفة المعلمين كل الكتاب الكنسيين طالما كانوا مقبولين في الكنيسة وكانت كتاباتهم تتمشى مع التقليد الكنسي. فالقديس أغسطينوس يذكر القديس جيروم ضمن الآباء الذين كتبوا عن الخطية الجدية، وجيروم لم يكن أسقفاً والقديس جيروم نفسه (420م) وهو واحد من الآباء، أضاف لفظ “الكتاب الكنسيين” ضمن آباء الكنيسة.

 

ولكن معنى هذا أن كل الكتاب الكنسيين معتبرون داخل الكنيسة “آباء”. فمثلاً ترتليانس تنيح (220م) وهو أب علوم اللاهوت في كنيسة روما إذ له تأثير كبير في اللاهوت اللاتيني وهو أكثر الكُتّاب دقة في إنتقاء الألفاظ والمصطلحات اللاهوتية، وقد كتب باللاتينية بالأكثر؛ إلا أنه سقط في بدعة المونتانية لذلك فهو يعتبر كاتباً كنسياً بالدرجة الأولى ولكنه ليس أباً في الكنيسة.

وأيضاً أوريجانوس تنيح عام (253م) فهو واحد من أعظم العقليات الممتازة في تاريخ الكنيسة المسيحية ومن أشهر علمائها وقد حلم في قلبه غيره روحية وفي جسده نسكاً شديداً ومحبة كبيرة للمسيح يسوع، كما إعترف بالإيمان في فترة الإضطهاد؛ ولكنه كان يفتقد إلى إتّباع الآباء وإتزان الفكر اللاهوتي فسقط في عدة بدع فكرية ولاهوتية منعته من أن يصبح أباً بين الآباء الكنسيين.

 

مقدمة أساسية في علم الآباء – الجزء الأول