إلحاد

الكون والتطور والله والخلق، هل يتعارض العلم حقاً مع الإيمان بوجود خالق؟

الكون والتطور والله والخلق، هل يتعارض العلم حقاً مع الإيمان بوجود خالق؟

الكون والتطور والله والخلق، هل يتعارض العلم حقاً مع الإيمان بوجود خالق؟
الكون والتطور والله والخلق، هل يتعارض العلم حقاً مع الإيمان بوجود خالق؟

الكون والتطور والله والخلق، هل يتعارض العلم حقاً مع الإيمان بوجود خالق؟

للتحميل

الفصل الاول، مقدمة:

من الشائع في عصرنا إستخدام نظرية تطور الكون كحجة ضد الايمان بالله والخلق. هذا هو موقف الإلحاد الماركسي مثلاً، فقد صرح ماركس بأن فكرة الخلق طلقت ضربة قاضية من إكتشاف التطور. ولكن إذا تبصرنا في الأمر نرى بالعكس ان نظرية التطور، فضلاً عن كونها لا تبطل الخلق، تستدعي وتدعم الإيمان بالله وبعمله في الكون. هذا ما سنحاول بيانه فيما يلي، مستعرضين أولاً مراحل التطور ثم متسائلين عن ماهية مقتضيات هذا الخط التطوري.

الفصل الثاني، مراحل التطور:

لقد أثبت العلم الحديث أن التطور لم يشمل الكائنات الحية فحسب إنما شمل الكون كله. فالكون الذي ننتمي إليه كون متطور وقد بدأ تطوره على مستوى الطبيعة الجامدة وأدى إلى ظهور الحياة التي تطورت بدورها حتى أبرزت ذلك الحيوان المفكر، الإنسان.

ففي البدء (لان النظريات العلمية الحديثة في علم الفلك والفيزياء تميل بالعلماء إلى الاعتقاد بأن للكون بدءاً، على الاقل لكوننا الحالي)، منذ ما يقارب العشر مليارات أو الخمسة عشر ملياراً من السنين، كان الكون على الأرجح مكوناً من ذرات خفيفة من الهيدروجين والهيليوم. ثم برزت ذرات أثقل من الأولى. ثم تجمعت الذرات لتكون الجزيئات.

 وكان هذا السير من الذرات إلى الجزيئات سيراً نحو تركيباً أكثر كثافة وتعقيداً، فالذرة عالم صغير شبية إلى حد ما بنظام شمسي تدور فيه الإلكترونات حول النواة المركزية، ولكن الجزئية تجمع تلك العوالم الصغيرة لتشملها في بنية جديدة. ومنذ ثلاث مليارات من السنين على وجه التقريب، بدأت تظهر بُنْيَات تفوق الجزيئات كثافة، وقد دعيت بالجزيئات الكبرى macromolculesè. من هذه الجزيئات فلنأخذ على سبيل المثال البروتيد Protides.

فاذا قابلنا جزئية من بياض البيض (وهي جزئية كبري من فصيلة البروتيد) مع جزئية ماء (وهي جزئية عادية) وجدنا أن وزن الاولى يساوي 1916 مرة وزن الثانية (34500 لقاء ١٨). وهناك جزيئات كبرى يفوق وزنها المليون[1]. ولكن هذا النمو الكمي يرافقه تركيب بديع في بنية الجزئية الكبرى: فجزيئات البروتيد مؤلفة كل منها من مئات أو آلاف او عشرات آلاف من جزئيات[2] أبسط من حموض تدعي الحموض الأمينية ACIDS AMINÈS، وهذه الجزئيات بدورها ليست مصفوفة كيفما جرى ضمن جزئية البروتيد، إنما هي مرتبطة ارتباطاً محدداً يختلف بإختلاف أنواع البروتيد.

ولكن ظهور الجزيئات الكبرى لم يكن سوى تمهيد للقفزة الكبرى التي تمت منذ ملياري عام على وجه التقريب فغيرت وجه الكون، ألا وهي بروز الخلايا الحية الاولى. الخلية الحية رغم حجمها الميكروسكوبي عالم أكثر تعقيداً بما لا يقاس من الشمس وأضخم الكواكب، المؤلفة من مجرد تجمعات من الذرات الخفيفة. ذلك لان الخلية الحية تجمع في تركيب متناسق، فضلاً عن العديد من جزيئات البروتيد الضخمة، جزيئات ضخمة عديدة أخرى من الشحميات والسكريات والفيتامينات وغيرها، كل ذلك في وحدة متماسكة، مركزة.

لكن الامر الجديد بالكلية هو ان حركة التكثيف والتركيز التي رأيناها تدفع بالمادة قدماً من الذرة الي الجزئية الضخمة، بلغت هنا درجة تمكنت المادة معها من اتمام قفزة هائلة جعلت من الخلية الحية كياناً يتمتع بميزات مختلفة بالكلية عن ميزات الجوامد وباستقلال ذاتي تجاه البيئة.

تلك الميزات الجديدة بالكلية هي ان الخلية تحوّل الي ذاتها المواد التي تستمدها من الخارج، وتنمو من الداخل، وتجدد باستمرار المواد التي تتألف منها مع محافظة على بنيتها، وتصلح ذاتها إذا جُرحت وتحوّل ذاتها للتكيف مع البيئة، وتنتج كياناً جديداً شبيهاً بها يحيا حياة مستقلة بعد انفصاله عنها.لقد شُبهت الخلية الحية بمختبر كيماوي، ولكنها مختبر كيماوي يجدد ويصلح ذاته بدون انقطاع، مختبر يصنع ذاته باستمرار ويوجد مختبرات على شاكلته. تلك هي قفزة الحياة الكبرى.

من ذلك العالم الصغير في حجمه، الهائل في تعقيده وتركيزه، عالم الخلية، انطلقت الحياة لنرقي سلماً طويلة كان الانسان قمتها. وقد كان هذا الارتقاء شبيهاً من حيث خطة بذاك الذي رأيناه في المادة الجامدة، اي انه كان سيراً نحو تكثيف وتركيز متزايدين. فبعد الكائنات الحية الاولي ذات الخلية الواحدة ظهرت كائنات أخرى متعددة الخلايا، وكما كانت الخلية الواحدة تجمع عناصرها المختلفة، العديدة، في بنية منظمة، مركزة، هكذا جمعت الكائنات المتعددة الخلايا خلاياها في وحدة منسجمة تعمل فيها العناصر كلها لصالح الكل.

وقد ازداد التعقيد ايضاً عندما اخذت الخلايا في الكائن الواحد تتخصص فئات في وظيفة معينة، فتكونت الاجهزة (كالجهاز الدموي والهضمي والتنفسي…) التي بقيت، رغم اختلافها وتميزها المتزايدين، مرتبطة ارتباطاً متيناً أحدها بالآخر، عاملة معاً بانسجام لصالح المجموعة.وكان لابد، لربط تلك الوظائف ببعضها من جهة وبالعالم الخارجي من جهة أخرى، من بروز جهاز خاص هو جهاز التركيز والوحدة، فكان الجهاز العصبي الشبيه بآلة الكترونية بديعة الاتقان.

وقد سار هذا الجهاز هو ايضاً في طريق التكثيف والتركيز المتكاثرين، مما ادي إلى نمو الدماغ. مركز الجهاز العصبي. والي تزايد الارتباط بين خلايا من جهة وبينها وبين اعضاء الجسم كله من جهة أخرى. نتج من هذا النمو العصبي استقلال متزايد عند الكائن الحي تجاه العالم الخارجي، فقد أصبح هذا الكائن يعي أكثر فأكثر البيئة المحيطة به وازدادت سيطرته عليها تدريجياً.

فظهرت أولاً الغرائز التي تمكن الحيوان من تحويل بيئته واستغلالها بشكل بديع في إتقانه، ولكن هذه الغرائز عمياء روتينية الي حد بعيد. أما عن الحيوانات الاكثر تطوراً فقد ظهر، بالإضافة اليها، الذكاء الذي يقوّم الغريزة ويكمل نقصها ويعطي الحيوان امكانية أكبر للسيطرة على بيئته. وقد ازداد هذا الذكاء حدة مع نمو الجهاز العصبي حتى بلغ اوجه في اعلي مراتب القردة، كالشمبانزي مثلاً.

عملية نمو الدماغ، التي أصبحت المحور الاساسي للتطور، بلغت أوجها في الانسان الذي يتألف دماغه من اربعة عشر ملياراً من الخلايا (اربعة اضعاف عدد خلايا الشمبانزي تقريباً)[3]، مرتبطة بعضها ببعض على صورة شبكه الكترونية هائلة التعقيد.

هنا بلغت عملية التكثيف والتركيز، تلك العملية التي دعاها تيار دي شاردان Complexification، والتي رأيناها فاعلة منذ بدء التطور، لقد بلغت تلك العملية هنا أشدها، فأمّنت الشروط اللازمة لقفزة لا تقل أهمية عن القفزة التي أوجدت الحياة، الا وهي قفزة الانسان، وجود كائن هو مركز بكل معني الكلمة ويحوّله بعمل خلاّق، كائن يدرك ذلك التطور الذي آل اليه ويتعهده ويتابعه بعقله وإرادته وحريته وحبه.

الفصل الثالث، مقتضيات التطور:

تلك هي اللوحة الرائعة لتطور الكون كما يمكننا ان نتصورها على ضوء معطيات العلم الحديث. فلننتقل الآن من الصعيد الوصفي الي صعيد التساؤل حول مقتضيات التطور.

عندما يدّعي ماركس ان اكتشاف التطور يلغي فكرة الخلق، فأنه يرتكب مغالطة لان واقع التطور شيء، واعتبار التطور امراً مكتفياً بذاته لا يحتاج الي تعليل خارج عنه شيء اخر. ان ماركس ينزلق من تأكيد واقع التطور، وهو تأكيد علمي، الي تأكيد اكتفاءيه التطور، وهو تأكيد من نوع آخر، ما ورائي، والمؤسف انه يقدّم هذا التأكيد الثاني على أنه تأكيد علمي، مع انه يخرج بالكلية عن نطاق العلم.[4]

عندما يقول العلم بالتطور، فأنه يصف خطاً تصاعدياً ويظهر كيف ان مادة الكون سلكت هذا الخط، ولكنه لا يبدي، وليس من شأنه كعلم ان يبدي، لماذا كان هناك خط تصاعدي. العلم يكتشف ويصف حلقات ارتقاء الكون ولكنه لا يبدي لماذا انتظمت هذه الحلقات في خط ارتقاء. هكذا فعندما يقرر العلم التطور، فأنه يترك الباب مفتوحاً انام التساؤل الصميمي الا وهو: لماذا اتخذ ارتباط حلقات هذا التطور شكلاً تصاعدياً؟

الجواب الاول الذي يمكن ان يعطي لهذا النمط من التفسير عريق في القدم، لأنه يعود الي فلاسفة اغريقيين قدامي كديموقريطس كانوا يفسرون حوادث الكون كلها بلقاءات تنشئها الصدفة بين الذرات التي يتألف منها الكون. ولكن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا يعرفون مدي تعقيد خلية واحدة لا بل جزئية واحدة من الجزئيات الضخمة. اما اليوم فقد أصبح هذا التعقيد معلوماً لدي العلماء، فكان ذلك ضربة قاضية لنظرية الصدفة.

لقد قام الفيزيائي السويسري شارل اوجين غي حوالي سنة ” 1920 ” بحسابات رياضية دقيقة حول ترجيح نشوء إحدى الجزئيات التي تتألف منها جزئية البروتيد، الا وهي الحمض المدعو الحمض الاميني، بداعي الصدفة وحدها، فوجد ان هذا الترجيح معدوم علمياً، هذا علماً بأن جزئية واحدة من البروتيد تتألف من العديد من الجزئيات المذكورة اعلاه، فيكون حظها بالنشوء بداعي الصدفة اقل بكثير، وكم بالحري ايضاً حظ خلية حية تتألف ليس فقط من جزئيات بروتيد بل من جزئيات ضخمة أخرى كلها متناسقة فيما بينها.

لذا نري العالم السوفياتي المعاصر الكبير اوبارين يصرح بأن ” التقدم الهائل الذي حققته العلوم الطبيعية مكن ننسى الاقتناع بان ظهور الحياة على الارض لم تكن (صدفة موفقة) كما كانوا يعتقدون سابقاً[5] …”، ويدحض محاولة تفسير ظهور ولو كائن حي واحد بفعل الصدفة، بقوله: ” ان هذا الافتراض شبيه بموقف امرئ يخلط أحرف طباعة تمثل ثمانية وعشرين حرفاً ابجدياً ويحركها، راجياً ان تجتمع بالصدفة لتؤلف هذه أو تلك من القصائد التي نعرفها”.

فاذا كان ظهور خلية واحدة بداعي الصدفة امراً مستحيلاً، فكيف نفسر ظهور ليس فقط خلية واحدة بل مليارات من الخلايا في البدء؟[6] وكيف نفسر بالأحرى، بمجرد فعل الصدفة، تدرج الحياة المتواصل نحو اشكال ارقي فأرقي. إذا اعتبر هذا التدرج تتابع صدف موفقة، فمن اين الصدفة هذا الاستمرار والترتيب في فعلها؟

فكأننا نقول -بالعودة الي الصورة التي اعتمدها اوبارين -ان الصدفة أوجدت اولاً حروفاً، ثم بمجرد الصدفة اصطفت تلك الاحرف فكونت مقاطع، ثم تجمعت تلك المقاطع صدفة لتوجد صفحات، ثم ارتبطت تلك الصفحات صدفة لتوجد فصولاً، واخيراً اجتمعت تلك الفصول بفعل الصدفة وحدها لتؤلف بحثاً علمياً أو فلسفياً او تحفة أدبية. اننا نفترض هكذا ان الصدفة تسير بموجب خطة منسقة تتنافي مع طبيعتها.

فالصدفة هي تحديداً عمياء، غير مرتبة، تهدم ما قد تكون بنته اتفاقاً كما تفصل هبّة ريح ورقتين اتفق ان جمعتهما على الارض هبّة ريح سابقة. لذا نري ان نظرية الصدفة قد نخلي عنها معظم علماء اليوم، حتى الماديين منهم.[7] لقد ذكرنا اعلاه موقف البيولوجي السوفياتي الكبير اوبارين ويمكننا ان نذكر على سبيل المثال ايضاً موقف بيولوجي كبير اخر لاأدري، وهو جان روستان، الذي بعد ان تبني تفسير التطور بالصدفة، نبذه.[8]

فاذا كانت نظرية الصدفة لم تثبت أمام المعطيات الذي كشفها العلم الحديث، بماذا يمكن الاستعاضة عنها؟ ان بعض العلماء الماركسيين كأوبارين الروسي وكاهان الفرنسي.[9] يقولون بأن ما يفسر التطور هو “الناموس الطبيعي”، اي بعبارة أخرى ان طبيعة المادة كانت تحتّم عليها ان تسلك الطريق التصاعدية التي سلكتها. هذا الرأي يستلهم صراحة النظرية الماركسية الاساسية، الا وهي ان المادة “ديالكتيكية”، اي انها بطبيعتها تتجاوز ذاتها باستمرار.

هذا الرأي مُغرٍ لأول وهلة لأنه يبدو علمياً بحتاً ولكن الحقيقة ليس ذلك تماماً.نعم ان التطور قد تم بفعل نواميس الطبيعة وبفعلها وحدها. الماركسيون محقون في ذلك، ومحقون عندما يقولون اننا سوف نكتشف ما لم نكتشفه بعد من تلك النواميس، وعند ذاك ستسد ثغرات معرفتنا للتطور ويصبح التطور مفهوماً بالكلية.

ولكن المسألة التي نحن بصددها ليست هنا، انما تطرح على صعيد آخر. السؤال الصميمي هو هذا: التطور يتم بفعل النواميس الطبيعية، ولكن كيف يفسر كون تلك النواميس مرتبة بشكل انها تعطي ذلك النمط التصاعدي الذي نراه في التطور؟ ما هو سر ترتيبها على هذا الخط؟

يبدو جلياً ان سؤالاً كهذا يتعدى صعيد العلم، سؤال ما ورائي اي انه متعلق بجذور الاشياء، بأصولها العميقة وليس فقط بمظاهرها التي هي من خصائص العلم. بعبارة أخرى، السؤال هو الآتي: ما الذي يفسّر كون المادة تسلك في فعل نواميسها ذلك الخط التصاعدي الذي نراه في التطور؟ ما الذي يفسّر عقلانية مسيرتها نحو اشكال أرقى فأرقى؟ تلك العقلانية تفترض فكراً.

فما هو هذا الفكر؟ هل هو فكر المادة؟ هل نظمت المادة ذاتها لتسير عبر مليارات من السنين في خط تطوري تصاعدي؟ ولكن ان تُنَظيَّم المادة ذاتها يعني انها ذات، ولكن المادة «ليست شخصاً حتى يمكن ان تنظم ذاتها. المادة كثرة. فكيف تنظم ذاتها بذاتها؟».[10] لكي تنظم المادة تلك الكثرة من الذرات، من حبات الطاقة التي تتألف منها، يجب ان يكون فيها ما يعلو على تلك الكثرة، يجب ان تكون المادة ذاتاً، شخصاً، وهذا في وارد.[11]

ثم لو افترضنا ان المادة نظمت ذاتها بهذا الشكل المذهل نكون قد نسبنا لها فكراً يعلو على الفكر البشري لأننا حتى الآن، رغم تقدم علمنا، لم نستطع بعد ان ندرك تماماً النظم التي تم بموجبها التطور.[12] بعبارة أخرى نكون قد نسبنا للمادة فكراً الهياً. ولكن مادة مؤهلة كهذه لم تعد المادة التي يعرفها العلم ويسخرها لخدمة الانسان، تلك المجموعة من الذرات والطاقات التي لا فكر لها. تأليه المادة هذا نكوص الي فكر الأقدمين الذين كانوا كلهم، خارج الخط اليهودي المسيحي، يؤلهون الكون.

فأرسطو مثلاً كان يعتبر الافلاك كائنات إلهية، وقد نُفي أحد فلاسفة الاغريق اناكساغوراس قديماً لأنه تجاسر على ان يعتبر القمر مجرد حجر.[13] لقد بدد الاعلان اليهودي المسيحي تلك الاوهام، وبذلك مهد السبيل للعلم إذ فتح امامه مجال الدراسة الموضوعية للكائنات المادية والسيطرة عليها بعد ان جُرّدت من صفاتها الالهية. [14] اما ان ننسب للمادة قدرة إلهية على تنظيم ذاتها، فهذا تقهقر يضرب عرض الحائط بمكاسب العلم[15] ومكاسب الإعلان المسيحي بآن.

هذا عودة الب الوثنية التي وصفها ارميا النبي بقوله: «يقولون للخشب انت ابي وللحجر انت ولدتني» (ارميا 27:2).[16]  هذا فضلاً عن ان الدفاع عن الوهة الكون كان أسهل في القديم مما هو الآن، لأننا نعرف اليوم ان الكون ابتدأ من لا شيء تقريباً. فاذا تذكرنا ان المادة بدأت بغيوم من الهيدروجين والهيليوم، وجب ان ننسب فكراً منظماً خلاقاً لتلك السحب التي منها خرج كل شيء. تلك هي الاصنام الجديدة كما كتب كلود تريمونتان: «هذا هو، يا اسرائيل، إلهك الذي اخرجك من مصر والذي خلقك: ليس هو عجلاً صهر بذهب الاساور والعقود.

كلا، انه سحابة مؤلفة خاصة من الهيدروجين والهيليوم. فلنبنِ له هيكلاً ولنتعبد لذلك الاله الجديد الذي كشفته لنا فيزياء الفلك».[17]

أما المؤمن، فانه لا يتعبد للمادة ولكنه ينسب الفكر النظم الخلاق العامل فيها لكائن متعال عن المادة، لكائن شخصي يمكنه وحده ان يرسم لتلك الكثرة الغاشمة التي هي المادة ذلك الخط التصاعدي الذي تسير بموجبه.أن ذلك الموقف الإيماني، وان كان تحديداً يفوق معطيات العقل والعلم، الا انه منسجم كلياً، كما اتضح مما سبق، مع متطلبات المنطق ومع المفهوم العلمي للمادة.

ولكن فعل الله هذا في المادة يجب ان يفهم على حقيقته. ليس هو، كما يتصوره العديد من المؤمنين وغير المؤمنين، فعلاً يضاف الي فعل النواميس الطبيعية فيسد الثغرات التي تبدو لنا في سياق التطور. هذا المفهوم مهين للعلم ولتعالي الله في بآن. انه مهين للعلم ان يحدّ من مجاله، كأن هناك ثغرات في سير التطور لابد للعلم ان يستقيل أمامها لأنها مجال حرام، مجال الله. ولكنه مهين ايضاً للتعالي الالهي لأنه يحدر الله الي مستوي العوامل الطبيعية.

اما الرأي الصحيح فهو ان الله لا يضاف الي نواميس الطبيعة لأنه يعمل على مستوي آخر، مختلف بالكلية عن المستوي الذي تعمل فيه تلك النواميس. الله لا يضاف الي نواميس الطبيعة ولكنه ذلك الكائن الذي تستمد منه بلا انقطاع تلك النواميس وجودها وعقلانيتها. هذا يفترض فهماً صحيحاً. لعقيدة الخلق[18]، فالخلق ليست عملية تمت مرة واحدة في بدء الزمن ثم ترك الله الكون يسير بموجب نواميسه وأخذ يتدخل من وقت الي آخر، من الخارج، لكي يوجه تلك النواميس ويعد نقصها ويتمم عجزها.

كلا فالخلق عملية مستمرة لان الله لم يزل عاملاً في الكون في ومن خلال تلك النواميس التي تستمد منه باستمرار كيانها وتخطيطها. هذا الخلق المستمر الذي اشار اليه الرب يسوع عندما قال: “ابي يعمل الي الآن وانا أعمل” (يوحنا 17:5).[19] لذا فالعلم يستطيع ان يفتش الي ما لا نهاية في الطبيعة، والطبيعة وحذها، عن كل حلقات التطور، أنه لن يصطدم بالله ولن يتعدى على حقوقه لان الله الذي يقول عنه الرب يسوع انه «في الخفاء» (متى 6:6) قد ارتضي ان يحتجب وراء عناصر الكون التي به وبه وحده توجد.

شيمة الله في معطائيته ان يحتجب أمام الكائنات التي يدعوها إلى الوجود. ولكن كلما اتضح لنا، بفعل الاكتشافات العلمية، تسلسل العوامل الطبيعة في ذلك الخط التصاعدي الذي سلكه الكون وكلما بدت لنا حلقات التطور منسقة، محكمة، احتجنا لنبرر ذلك كله تبربراً صميماً، ان نتجه نحو ذلك الذي سماه اوليفيه كليمان «شاعر الكون»، ذاك الذي يغمر مجده وبهاؤه الكائنات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن كتاب: السبل إلي الله، لدكتور/ كوستي بندلي

[1] Remy COLLIN: L’Evolution, hypothèses et problèmes, Fayard 1961 p. 27.

[2] Tavlitzki : Le code génétique, Paris 1964, cité par Claude Tresmontant : Comment se pose aujourd’hui le probléme de l’existence de Dieu, Seuil 1966, p. 209.

[3] DR. PAUL CHAUCHARD: LE CERVEAU ET LA CONSCIENCE, SEUIL 1960, P. 38.

[4] Claude Tresmontant: Comment se pose aujourd’hui le probléme de l’existence de Dieu, Seuil 1966, p. 97-98.

[5] A.I. OPARIN: L’ORIGINE DE LA VIE SUR LA TERRE, TRAD. FR., PARIS 1965, P.XV, CITÉ PAR CLAUDE TRESMONTANT: OP. CIT. P. 209.

[6] CF LECOMTE DU NOÜY: L’HOMME DEVANT LA SCIENCE, PARIS, 1946, P.142, CITÉ PAR CLAUDE TRESMONTANT: OP. CIT. P. 211.

[7] CF CLAUDE TRESMONTANT: OP. CIT. P. 197, 209, 216, 217, ETC…

[8] CF JEAN ROSTAND : CE QUE JE CORIS, ED. B. GRASSET P. 46, CITÉ PAR I. LEPP : PSYCHANALYSE DE L’ATHÉISME MODERNE P. 168.

[9] CF CLAUDE TRESMONTANT: OP. CIT. P. 217 À 223.

[10] Claude TRESMONTANT: op. cit. p. 228.

[11]  op. cit. p. 228-229.

[12] op. cit. p. 221.

[13] cf Etienne BORNE: Dieu n’est pas mort, Fayard 1963, p. 112.

[14] cf Pierre DUHEM: Le Système du Monde. II, p. 453, cité par Cl. TRESMONTANT: op. cit. p. 420.

Etienne BORNE: Dieu n’est pas mort, Fayard 1963, p. 79-80.

Pierre ANTOINE: L’église est-elle un lieu SACRÉ? in « Etudes », mars 1967, p. 435-436.

[15] cf Etienne BORNE: op. cit. p. 79-80.

[16] cf TRESMONTANT: op. cit. p. 318.

[17] op. cit. p. 126.

[18] راجع «مدخل الي العقيدة المسيحية» للمؤلف، منشورات النور، 1974.

[19] cf Clande Tresmontant : op. cit. p. 273-280 et p’ Schoonenberg : Le Monde de Dieu en devenir, p. 44, 45, 48-49, 51, 65, 70, 88, 207, 208, 215. Ed. du Centurion 1967.

مختصر تاريخ ظهور النور المقدس

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

صلب المسيح – إزاي بعد 600 سنة المسلمين يقولوا “شبه لهم”؟ – الجزء الأول

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان