أبحاث

تحدي الإيمان – لي ستروبل

تحدي الإيمان – لي ستروبل

تحدي الإيمان – لي ستروبل

تحدي الإيمان – لي ستروبل
تحدي الإيمان – لي ستروبل

تحدي الإيمان – لي ستروبل 

 تحدي الإيمان

“الإيمان بالإله المسيحي لابد أن يرفضه أي إنسان يوجه أدنى إحترام للمنطق.”   
جورج هـ. سميث، ملحد(1)

“الإيمان المسيحي ليس قفزة لاعقلانية. فعندما تفحص إدعاءات الكتاب المقدس بموضوعية، يتضح إنها مسائل عقلية مدعمة جيداً بالمنطق والبرهان.”

تشارلز كولسون، مسيحي(2)

تماسك ويليام فرانكلين جراهام بالقبض على جانبي المنبر. كان في الثمانين من عمره، يتصارع مع مرض شلل الرعاش، لكنه تأمل ملياً في الحشود داخل قبة RCA في انديانابوليس، وتكلم بصوت قوي ثابت. لم تكن هناك أي إشارة تردد، لاشك، أو غموض. كانت عضته هي نفس الرسالة البسيطة الصريحة التي إعتاد أن يعضها لمدة 50 عاماً.

لقد أشار الى الفوضى والعنف حول العالم، وركز على العذاب، والألم، والإضطراب في قلوب البشر. تكلم عن الخطية، والغفران، والفداء، وعن الوحدة، واليأس، والإكتئاب الذي يرهق الكثير من البشر.

قال بلهجة نورث كارولينا المألوفة لديه بينما إقترب من ختام حديثه: “نحن جميعاً نريد أن نكون محبوبين. فكلنا نريد من يحبنا. حسناً، أريد أن أخبركم أن الله يحبكم. إنه يحبكم جداً حتى بذل عنا إبنه كي يموت على الصليب من أجل خطايانا. وهو يحبكم جداً حتى إنه سيغير حياتكم، وسيعدل مسارها، وسيجعل كلاً منا إنساناً جديداً مهما كانت حالته.

” هل أنت متأكد إنك تعرف المسيح؟ تأتي لحظة يوبخك فيها روح الله، ويدعوك، ويتحدث إليك عن فتح قلبك والتأكد من علاقتك مع الله. مئات الحاضرين منكم الليلة غير متأكدين. عليكم أن تتأكدوا. عليكم أن تغادروا هذا المكان الليلة وأنتم عارفين إنه إن متك في طريق عودتكم، تكونون مستعدين للقاء الله. “

وهكذا حثهم على المجئ. وقد فعلوا. في البداية كانت هناك قلة من الناس، ثم بدأت الجموع تتدفق: أفراد، أزواج، وعائلات بأكملها تتدفق الى الفضاء الشاسع أمام المنصة. وسرعان ماصاروا كتفاً لكتف حتى إلتفوا حول جوانب المنصة، وكان عددهم حوالي 3000 إنسان. كان البعض يبكي وهم متأثرون بالتوبيخ الشديد، والبعض الآخر يحدق للأسفل، وهم لايزالوا نادمين على ماضيهم، وكان كثيرون مبتسمين، متحررين، فرحين…فقد عادوا أخيراً الى الوطن.

كانت هناك سيدة متزوجة تعيش حياة مثالية. فقد قالت لأحد الإستشاريين: “أمي ماتت بمرض السرطان عندما كنت صغيرة، وإعتقدت حينها أنني أعاقب من الله. والليلة أدركت أن الله يحبني. لقد كنت أعرف ذلك، لكني لم أستطع الفهم. الليلة لمس السلام قلبي.” (3)

ماهو الإيمان؟ لم تكن هناك حاجة لتعريف الإيمان لهؤلاء الناس في ليلة يونيو الحارة تلك. لقد كان الإيمان ملموساً بالنسبة لهم تقريباً. فلقد توصلوا الى الله تقريباً كما لو كانوا يتوقعون أن يحتضنوه بالجسد. لقد إنتشلهم الإيمان من الذنب الذي حاصرهم. الإيمان بدل اليأس بالرجاء. الإيمان ألهمهم بمسار جديد وبهدف جديد. الإيمان فتح السماء. الإيمان كان كماء بارد ينفذ الى نفوسهم الظمآنة. لكن الإيمان ليس دائماً بهذه السهولة، حتى بالنسبة لمن يريده بكل كيانه. البعض يجوع من أجل اليقين الروحي، ومع ذلك يعوقهم شئ ما عن إختبار ذلك. يتمنون أن يكونوا قد ذاقوا ذاك النوع من الحرية، لكن العقبات تعترض طرقهم. الإعتراضات تضايقهم. الشكوك تسخر منهم. قلوبهم تريد أن تحلق الى الله، لكن عقلياتهم تجعلهم مربوطين ومشدودين لأسفل.

يشاهدون التغطية التلفزيونية للجماهير التي جاءت للصلاة مع بيللي جراهام، فيهزون رؤوسهم، ويتهددون قائلين آه لو كان الأمر بهذه البساطة. آه لو لم تكن هناك أسئلة كثيرة.

من المثير للسخرية أن الأسئلة الدائرة حول الله قد تحولت الى إعتراض حاد للمسيحية من قبل تشارلز تمبلتون- رفيق بيللي جراهام على المنبر وصديقه المقرب. ومثل جراهام، تحدث تمبلتون بقوة للجماهير في إحدى المرات في مساحات شاسعة. ودعا الناس لأن تكرس حياتها ليسوع المسيح، حتى إن البعض تنبأوا أن شعبية تمبلتون كواعظ ستفوق شعبية جراهام.

لكن هذا كان منذ وقت طويل. كان هذا قبل الأسئلة المحيرة.

واليوم فإن إيمان تمبلتون- الذي يتحطم بإستمرار بالشكوك المتواصلة العنيدة- قد إنهار. وربما للأبد.

… ربما.

من الإيمان الى الشك

كان العام 1949. لم يكن بيللي جراهام البالغ من العمر ثلاثين عاماً يدرك إنه على وشك أن ينطلق للشهرة والنفوذ حول العالم. والمثير للسخرية أنه بينما أعد نفسه لهذه الحملة القوية في لوس أنجلوس، إلا أنه وجد نفسه يتصارع مع الشك- لاحول وجود الله أو ألوهية يسوع- بل حول ماإذا كان بإمكانه الوثوق كلية فيما يقوله له الكتاب المقدس.

في سيرة حياته، قال بيللي جراهام أنه شعر كما لو كان مهملاً. وقد جذبته الى الله هنرييتا ميرس المعلمة المسيحية الرقيقة اللامعة التي كان لها فهم شامل للثقافة الحديثة، وثقة وافية بيقين الأسفار المقدسة. وكان ينتزعه للجانب الآخر رفيقه المقرب وزميل كرازاته تشارلز تمبلتون البالغ من العمر الثالثة والثلاثين عاماً. (4)

أصبح تمبلتون مسيحياً- على حد قوله- مبكراً بخمسة عشر عاماً عندما وجد نفسه قد سأم على نحو متزايد أسلوب حياته الذي إعتاده في فريق تورنتو جلوب. وبعد أن أفاق من ليلة ماجنة قضاها في الخارج في ناد للتعري، شاعراً بالدناءة والدنس، دخل غرفته وركع أمام فراشه في الظلام.

وفيما إستدعى ذكرياته بعد ذلك قال: “وفجأة، بدا كما لو كانت بطانية سوداء قد إنسدلت علي. شعور بالذنب غطى عقلي وجسدي بأكمله. كانت كلماتي الوحيدة هي: يارب، هلم إلي. هلم إلي…”

ثم:

بدأ حمل يرتفع عني ببطئ، حمل ثقيل ثقلي أنا. مر من خلال فخذي، وجذعي، وذراعي، وكتفي، وفارقني. وبدأ دفء يفوق الوصف يغمر جسدي. بدا الأمر كما لو كان نور قد أنار في صدري، وإنه قد طهرني… تجرأت بصعوبة أن أتنفس، خشية أن أغير هذه اللحظة أو أختمها. وسمعت نفسي أهمس مراراً في رقة. “أشكرك يارب، أشكرك، أشكرك.” وبعدها إستلقيت بهدوء في الفراش في منتهى السعادة الغامرة المتألقة السامية.(5)

بعدما ترك الصحافة من أجل الخدمة، تقابل تمبلتون مع جراهام في العام 1945 في أحد إجتماعات “شباب للمسيحYouth for Christ”. كانا رفيقا غرفة واحدة، ورفيقان دائمان خلال رحلة أوربية مثيرة، حيث كانا يتبادلان مكانيهما على المنبر أثناء وعظهما في الإجتماعات. أسس تمبلتون كنيسة سرعان ما كان عدد المترددين عليها يفوق الـ1200مقعد التي هي سعتها. قالت المجلة الامريكية American Magazine إنه “وضع معياراً جديداً للكرازة الشاملة”.(6) وقد نمت صداقته مع جراهام حتى قال عنه جراهام ذات مرة لأحد كاتبي السير: “إن تمبلتون هو أحد الرجال القلائل الذين أحببتهم في حياتي.”

لكن الشكوك سرعان ما بدأت تزعج تمبلتون. فقد قال فيما بعد: ” لقد جزت إختبار تحول بينما كنت شاباً غضاً. إفتقدت المهارات العقلية والتدريب اللاهوتي الضروري لتدعيم معتقداتي حينما بدأت الأسئلة والشكوك تعذبني، وكان هذا الأمر لايمكن تجنبه… بدأ عقلي يتشكك، وأحياناً يهاجم، العقائد الأساسية للإيمان المسيحي.”(8)  

إنتصار للإيمان

والآن كان تمبلتون المتشكك- على خلاف هنرييتا ميرس الأمينة- يجذب صديقه بيللي جراهام بعيداً عن تأكيداتها المتكررة بأن الأسفار المقدسة موثوق بها. وكان يتجادل قائلاً: “بيللي، أنت إنسان متأخر بمقدار 50 عاماً. فالناس لم يعودوا يقبلون بالكتاب المقدس كموحى به كما تقبله أنت. إن إيمانك ساذج جداً.”

كان يبدو أن تمبلتون يكسب السباق. فقد قال جراهام فيما بعد: “حتى ولو لم أكن متشككاً تماماً، فقد كنت بالتأكيد مضطرباً.”

لقد عرف إنه إن لم يستطع أن يثق بالكتاب المقدس، لما تمكن من الإستمرار. كانت حملة لوس أنجلوس- الحدث الذي سيفتح الباب أمام خدمة بيللي جراهام حول العالم- موضع تقييم.

بحث جراهام الأسفار المقدسة من أجل الإجابات، وقام بالصلاة والتأمل. وأخيراً في نزهة تمشية كئيبة في جبال سان بيرنادينو المتلئلة تحت ضوء القمر، وصل كل شئ الى حد الذروة. ممسكاً بكتاب مقدس، خر جراهام على ركبتيه، وإعترف إنه لم يستطع إجابة بعض الأسئلة الفلسفية والنفسية التي كان يثيرها تمبلتون وآخرون.

وكتب قائلاً: “كنت أحاول أن أكون صادقاً مع الله، لكن شئ مابقى دون أن يوصف.” “في النهاية حررني الروح القدس كي أقول ذلك. “أبي، سأقبل هذا ككلمتك أنت- بالإيمان! سأسمح للإيمان أن يتخطى أسئلتي وشكوكي العقلية، وسأؤمن أن هذه هي كلمتك الموحى بها.”

نهض من ركوعه، والدموع تملأ عينيه، قال جراهام إنه شعر بقوة الله كما لو لم يشعر بها من عدة شهور. وقال: “لم تجاب كل أسئلتي، لكن جسراً رئيسياً تم عبوره. عرفت بكل تأكيد أن هناك معركة روحية في نفسي قد حوربت وربحت.” (9)

كانت هذه اللحظة محورية بالنسبة لجراهام، لكنها كانت بمثابة إنقلاب أحداث مخيب للآمال بالنسبة لتمبلتون. فقد صرح تمبلتون قائلاً: “لقد إرتكب [ جراهام ]  الإنتحار العقلي حينما أغلق عقله.” وكانت العاصفة التي شعر بها بالأكثر تجاه صديقه هي الشفقة. والآن بدأت حياتهما في الإنعطاف في إتجاهين مختلفين.

التاريخ يعرف ماسيحدث لجراهام في السنوات اللاحقة، ذاك الذي سيصبح أكثر كارزي العصور الحديثة إقناعاً وتأثيراً، وأحد أكثر الرجال المحبوبين حول العالم. ولكن ماذا سيحدث لتمبلتون؟ لقد إستقال تمبلتون- مقهوراً بشكوكه- من الخدمة، وعاد الى كندا حيث أصبح معلقاً وروائياً.

إن منطق تمبلتون طارد إيمانه. ولكن هل الإيمان والعقل متنافران حقاً؟ هل من الممكن أن تكون مفكراً ومسيحياً مؤمناً بالكتاب المقدس في نفس الوقت؟ البعض لايؤمنون بذلك.

يؤكد الملحد جورج هـ . سميث قائلاً: “العقل والإيمان ضدان، مصطلحان مانعان تبادلياً: فليس هناك توافق أو أرضية مشتركة. فالإيمان هو الثقة بدون، أو بالرغم من، العقل.” (10)

أما المعلم المسيحي بينجهام هانتر W. Bingham Hunter فيتبنى الرؤية المضادة، حيث قال: “الإيمان إستجابة عقلية لبرهان إعلان الله عن ذاته في الطبيعة، والكتاب المقدس، وإبنه القائم” (11)

بالنسبة لي، وبما أني عشت أغلب حياتي ملحداً، فإن الشئ الذي لاأريده بالمرة هو إيمان ساذج مبني على أساس هش من تطويع الأفكار للأماني أو التظاهر. فأنا أحتاج إيماناً متناغماً مع المنطق، لامتعارضاً معه. أريد معتقدات متأصلة في الواقعية، لامنفصلة عنها. أحتاج أن أكتشف مرة واحدة والى الأبد ماإذا كان الإيمان المسيحي يمكنه أن يواجه الفحص.

آن الأوان بالنسبة لي كي أتحدث مع تشارلز تمبلتون وجهاً لوجه.

من “خادم” الى “لاأدري”    

على بعد 500 ميل تقريباً من المكان الذي كان بيللي جراهام  يطلق منه حملته في أنديانابوليس، تعقبت تمبلتون الى مبنى حديث في إحدى مقاطعات تورونتو متوسطة المستوى. وحيث أخذت المصعد الى الدور الخامس والعشرين، توجهت الى باب عليه هذه العلامة “Penthouse”، وضغطت على المقبض النحاسي.

كنت أحمل تحت ذراعي نسخة من آخر مؤلفات تمبلتون الذي لايترك عنوانه أي مجال للشك بخصوص منظوره الروحي، فقد كان عنوان الكتاب “وداعاً لله: أسباب رفضي للإيمان المسيحي Farewell to God: My Reasons For Rejecting The Christian Faith” هذا الكتاب الفظ يسعى لسلب المعتقدات المسيحية، وشن الهجوم عليها بإعتبارها “عتيقة، خاطئة مع توافر الأدلة، وغالباً ماتكون في إظهاراتها الخاصة ضارة بالأفراد وبالمجتمع.”

يعتمد تمبلتون على مجموعة من التوضيحات فيما يجاهد أن يفوض الإيمان بإله الكتاب المقدس. لكني صدمت بشكل خاص بقطعة مؤثرة أشار فيها لمصاعب مرض الزهايمر، وهو يصف بالتفصيل الممل الطريقة التي يسلب بها الزهايمر شخصية الإنسان بإفساد ذهنه وذاكرته. وتسائل قائلاً كيف يمكن لإله حنان أن يعذب مثل هذا المرض مثل هذا المرض المرعب ضحاياه ومحبيهم؟

وإستنتج أن الإجابة بسيطة: فالزهايمر لايمكن أن يوجد إن كان هناك إله محب. ولأن الزهايمر موجود، فهذا دليل آخر مقنع إن الله غير موجود. (13) وبالنسبة لإنسان مثلي، حيث إحتملت أسرة زوجتي عواقب الزهايمر المدمرة، كان ذلك بمثابة حجة قوية.

لم أكن متأكداً مما كنت أتوقعه بينما إنتظرت على عتبة تمبلتون. هل سيكون مهاجماً كما كان في كتابه؟ هل سيكون حاداً تجاه بيللي جراهام؟ وهل حتى سيستكل لقائنا؟ عندما كان تمبلتون قد وافق في مكالمة هاتفية قصيرة قبل يومين، قال بغموض إن صحته ليست على مايرام.

فتحت مادلين تمبلتون- وهي منتعشة من ري الزهور في حديقتها أعلى السطح- الباب، وألقت علي التحية بدفء. وقالت: “أعرف غنك جئت من شيكاغو، لكني أخشى أن أقول لك إن تشارلز مريض جداً.”

فعرضت عليها قائلاً: “يمكنني العودة في وقت آخر.”

فقالت: “حسناً، لنر كيف هي صحته الآن.” قادتني للأعلى عبر سلم مغطى بسجاد أحمر الى شقتهما الفاخرة، وكان بالقرب منها كلبان كبيران نشيطان. “لقد كان نائماً…”

في تلك اللحظة، خرج زوجها البالغ من العمر الثالثة والثمانين من غرفة نومه. كان يرتدي رداءاً بنياً قاتماً خفيفاً فوق بيجاما بنفس اللون، وخفاً أسمر في رجليه. كان شعره الرمادي الخفيف مبعثراً قليلاً. كان نحيفاً شاحباً. رغم أن عيناه ذات الزرقة الرمادية قد بدتا متحفزتان معبرتان. مد يده للمصافحة في أدب.

قال: “من فضلك أعذرني- وهو يسعل- لكنني لست على مايرام.” ثم أضاف كنوع من التأكيد: “في الواقع أنا أحتضر.”

فسألته: “ماالأمر؟”

فصدمتني إجابته: “الزهايمر”

إتجه ذهني لما كتبه عن أن الزهايمر هو برهان عدم وجود الله، وفجأة تبادرت الى ذهني فكرة بخصوص بعض الدوافع وراء تأليف كتابه.

لقد أصبت به… هل منذ ثلاث سنوات؟

قالها وهو يقطب حاجبيه ويوجه نظرة لزوجته من أجل المساعدة. “لقد أصبت به… منذ ثلاث سنوات. حقاً، أليس كذلك يامادلين؟”

فأومئت إليه قائلة: “بلى، ياعزيزي، ثلاث سنوات.”

فقال: “لم تعد ذاكرتي كما كانت، فكما تعرف أن الزهايمر قاتل دائماً. دائماً. كم يبدو هذا مأساوياً، لكن الحقيقة هي أنني أموت غير مأسوف علي. فآجلاً أم عاجلاً سيقتلني. لكنه أولاً سيحتل ذهني.” ابتسم بشحوب وقال: “أخشى أن يكون قد بدأ. ومادلين يمكنها أن تشهد بذلك.”

فقلت: “عفواً لتدخلي، طالما أنت لست على مايرام…”

فأصر تمبلتون على إجراء الحوار، وقادني نحو غرفة المعيشة، المزخرفة بألوان زاهية بأسلوب عصري، والمغمورة بأشعة شمس مابعد الظهيرة التي تسللت من خلال الأبواب الزجاجية التي أتاحت رؤية بانورامية رائعة للمدينة. جلسنا على مقاعد مزخرفة قريبة، وفي غضون دقائق بدا أن تمبلتون قد أستجمع طاقة جديدة.

قال: “أعتقد أنك تريدني أن أشرح كيف إتجهت من الخدمة الى اللاإرادية .” وبهذه الكلمات أفاض الحديث عن الأحداث التي قادته لرفض أيمانه بالله.

كان هذا هو ماتوقعته، لكنني لم أتوقع أبداً كيف سينتهي حوارنا.    

قوة صورة   

كان تمبلتون منهمكاً فيما كان يقوله آنذاك. ففي بعض الأحيان كنت أرى دلائل إصابته بالزهايمر، مثلما كان عاجزاً أن يستدعي التتابع الدقيق للأحداث، أو عندما كان يكرر كلامه. لكنه تكلم غالبية حديثه بفصاحة وحماس، مستخدماً مفردات مؤثرة. كان صوته القوي الثري يرتفع وينخفض من أجل التأكيد. كانت له نغمة أرستقراطية بدت أنها نغمة مسرحية في بعض الأحيان.

في البداية سألته: “هل كان هناك شئ معين دفعك لفقد إيمانك بالله؟”

ففكر لمدة قصيرة وقال أخيراً: “صورة في مجلة لايف Life.”

فقلت: “حقاً؟ صورة؟ كيف كان ذلك؟”

فضيق عيناه قليلاً ثم إتجه ببصره نحو الجانب، كما لو كان يستطلع الصورة من جديد، ويستعيد إحياء تلك اللحظة، وقال شارحاً: “لقد كانت صورة إمرأة سوداء في أفريقيا الشمالية. كانوا يعانون من مجاعة مدمرة. وكانت تحمل طفلها الميت بين ذراعيها، وتنظر للأعلى الى السماء في أبأس تعبير.”

نظرت للصورة وفكرت قائلاً: “هل من الممكن أن أؤمن أن هناك خالقاً محباً مهتماً بينما كل ماتحتاجه هذه المرأة هو المطر؟”

وبينما أكد على كلمة “مطر” لمع حاجباه الرماديان، ورفع ذراعيه نحو السماء كما لو كان يلتمس إستجابة.

فإلتمس قائلاً فيما أصبح أكثر نشاطاً، وكان قد تحرك نحو حافة مقعده: “كيف يمكن لاله محب أن يفعل هذا لتلك المرأة؟ من يجري المطر؟ لاأنا، ولاأنت. بل هو- أو هذا ماكنت أعتقده. لكنني حينما رأيت هذه الصورة، عرفت على الفور إنه من غير الممكن أن يحدث هذا طالما أن هناك إلهاً محباً. لم تكن هناك طريقة. من سوى عدو يمكنه أن يفني طفلاً ويقتل أمه بالعذاب- بينما كل المطلوب هو المطر؟”

توقف تمبلتون تاركاً السؤال يتردد في الهواء طويلاً، ثم إستوى في جلسته من جديد، وقال: “كانت هذه هي اللحظة الحاسمة. وحينها بدأت أفكر بعمق في قضية أن العالم هو خليقة الله. بدأت أفكر في الأوبئة التي تحصد أجزاءاً من كوكب الأرض، وتقتل كل أنواع البشر- العاديين، والنبلاء، والأدنياء. وقد بدا لي من الواضح جداً أنه من غير الممكن لإنسان ذكي أن يؤمن أن هناك ألهاً يحب.”

لقد تطرق تمبلتون لموضوع ظل يؤرقني شخصياً عدة سنوات. ففي عملي محرراً صحفياً، لم أر صوراً للمعاناة الشديدة فحسب، بل كنت أيضاً أعاين بأم عيني أدنى مستويات المعيشة حيث المأساة والمعاناة: المناطق العشوائية في الولايات المتحدة، وضواحي الهند المهمشة، وسجن كوك كاونتي، والسجون الرئيسية، وعنابر مصحات الحالات الميؤس منها، وكل أنواع المشاهد المفجعة. ولأكثر من مرة تردد ذهني في محاولة قبول فكرة وجود إله محب مع وجود الفساد وإنفطار القلب والعذاب أمام عيني.

لكن تمبلتون لم يختم حديثه. وقال: “ذهب ذهني آنذاك الى المفهوم الأشمل للجحيم. “ياإلهي- وقد إمتلأ صوته بالدهشة- لاأحتمل أن تمد يد إنسان للنار لدقيقة واحدة، ولاحتى للحظة! فكيف يمكن لإله محب، بمجرد إنك لاتطيعه ولاتفعل مايريده، أن يعذبك الى الأبد- دون أن يسمح لك أن تموت، بل أن تستمر في هذا الألم الى الأبد؟ فحتى المجرم لايفعل هذا!”

فسألته: “إذاً، هذه هي الشكوك الأولى التي واجهتك؟”

فأجابني: “قبل هذا، كانت لدي الكثير والكثير من الأسئلة. لقد وعظت للمئات وللآلاف من الناس بالرسالة المعكوسة، ثم إكتشفت بعدها لدهشتي إنني لم أعد أؤمن بها. فلكي أؤمن بها فهذا معناه أن أنكر العقل الذي وهب لي. لقد أصبح من الواضح تماماً أنني كنت على خطأ، لذلك قررت أن أترك الخدمة. وهكذا صرت لاأدرياً.

فقلت: “عرف ماذا تقصد بذلك، فهناك كثيرون قدموا تفسيرات مختلفة لهذا المصطلح.”

فأجابني: “الملحد يقول لاإله. المسيحي واليهودي يقولان إن هناك إلها. أما اللاأدري فيقول: “لايمكنني أن أعرف.” لم يسبق لي أبداً أن قلت بوضوح إنه لايوجد إله. أنا لاأعرف كل شئ، فأنا لست تجسيد الحكمة. لكن من غير الممكن بالنسبة لي أن أؤمن بالله.”

ترددت في طرح السؤال التالي، فبدأت بلهجة ملطفة قائلاً: “فيما يتقدم بك العمر. وتواجه مرضاً قاتلاً دائماً، فهل أنت…”

فإعترضني قائلاً: “أقلق بكوني قد أكون مخطئاً؟”

“لا،لاأقلق” قالها وهو مبتسماً.

“ولم لا؟”

“لأنني قضيت العمر كله أفكر في ذلك. ولو كانت هذه خاتمة بسيطة لإختلف الأمر. لكن من المستحيل بالنسبة لي- من المستحيل- أن أؤمن أن أي شئ أو شخص أو كيان يمكن أن يوصف كونه إلهاً محباً يسمح بما يحدث في عالمنا كل يوم.”

فسألته: “هل تود أن تؤمن؟”

فتعجب قائلاً: “بالطبع! لو إستطعت لآمنت. أنا في الثالثة والثمانين من عمري ومصاب بالزهايمر. بالله عليك إني أحتضر! لكني قضيت حياتي أفكر في ذلك، ولن أغير موقفي الآن. إفتراضياً، لو جاءني واحد قائلاً لي: “أنظر، أيها العجوز، إن سبب مرضك هو عقاب من الله لرفضك أن تستمر في الطريق الذي سرت فيه- فهل سيمثل هذا أي إختلاف بالنسبة لي؟” ورد على نفسه بوضوح مصرحاً: “لا. لا. لايمكن أن يكون في عالمنا إله محب.”

وأغمضت عيناه مع عيني. “لايمكن.”

خداع الإيمان            

مرر تمبلتون أصابعه من خلال شعره. كان يتحدث بنغمات حادة، ويمكنني أن أقول إنه كان قد بدأ بالإرهاق. أردت أن أكون حساساً تجاه ظروفه، لكن كانت لدي أسئلة قليلة أردت طرحها، فواصلت الحوار بعد إستئذانه.

“بينما تتكلم الآن، يكون بيللي جراهام في منتصف سلسلة إجتماعات في إنديانا. ماذا تقول للناس الذين خطوا خطوات نحو الإيمان بالمسيح؟”

فإتسعت عينا تمبلتون، وأجابني قائلاً: “أنا لاأتدخل في حياتهم على الإطلاق. فلو كان إنسان لديه الإيمان، وكان هذا الإيمان يجعله إنساناً أفضل، فأنا أؤيد ذلك تماماً- رغم إني أعتقد إنهم حمقى. بما أنني كنت مسيحياً، أعرف مدى أهمية ذلك لحياة الناس، وكيف أن ذلك يبدل قراراتهم، وياعدهم على التعامل مع المشكلات الصعبة. بالنسبة لمعظم الناس، الإيمان بركة لاتوصف. ولكن هل ذلك لأن هناك إله؟ لا، ليس كذلك.”

لم يحمل صوت تمبلتون أي وهن، ومع ذلك كانت إيحاءات كلماته متعالية تماماً. هل هذا هو الإيمان كله- أن تخدع نفسك كي تصير إنساناً أفضل؟ أن تقنع نفسك أن هناك إلهاً حتى يكون لديك مايدفعك للتنازل عت أخلاقياتك خطوة أو خطوتين؟ تصديق قصة خيالية قبل النوم بهدوء في المساء؟ لا، عفواً، هكذا قلت لنفسي. إن كان هذا هو الإيمان، فأنا لاأهتم به.

فتسائلت: “ماذا عن بيللي جراهام نفسه؟ لقد قلت في كتابك إنك تشعر بالأسف من أجله.”

فأصر قائلاً: “آوه، لا، لا- على خلاف كتاباته- فمن أنا حتى أشعر بالأسف حول مايؤمن به إنسان آخر؟ يمكنني أن أعتذر عن ذلك نيابة عنه- لوجاز لي ذلك- لأنه أغلق عقله عن الحقيقة. ولكن هل أتمنى أن يكون مريضاً؟ لاعلى الإطلاق!”

تطلع تمبلتون كثيراً لمائدة قهوة زجاجية قريبة كانت فوقها السيرة الذاتية لبيللي جراهام.

فأوضح بإعجاب: “إن بيللي كالذهب الخالص، فلا غش فيه أو رياء. إنه إنسان من الطراز الأول، وهو مسيحي راسخ الإيمان، وإنسان صالح بحق كما يقولون. فهو يؤمن بإخلاص دون شك. وهو أخلاقي ومخلص كما يمكن لأي شخص أن يكون.”

“وماذا عن يسوع؟” أردت أن أعرف رأي تمبلتون عن أساس المسيحية. فسألته: “هل تؤمن أن يسوع قد عاش؟”

فأتاني الرد السريع: “بلا شك.”

“هل تعتقد بأنه الله؟”

فهز رأسه قائلاً: “لقد كانت هذه هي آخر فكرة يمكن أن تطرأ على ذهنه.”

“وتعليمه، هل أعجبت بما علمه؟”

“حسناً، لم يكن واعظاً جيداً، فما قاله كان ساذجاً جداً، ولم يفكر فيه. ولم يرهق نفسه بإثارة أخطر سؤال مطروح.”

“وهو…؟”

“هل هناك إله؟ وكيف يمكن لأي إنسان أن يؤمن بإله يفعل، أو يسمح، بما يدور في العالم؟”

“كيف تقيم إذاً يسوع هذا؟” بدا إن هذا هو السؤال المنطقي التالي، لكني لم أكن مستعداً للإجابة التي تلقيتها.

جاذبية يسوع                                       

 هدأت حركات تمبلتون. وبدا الأمر كما لوكان قد شعر فجأة بالاسترخاء والراحة بالحديث عن صديق عزيز قديم. وقد أخذ صوته- الذي كان حاداً مصمماً- نغمة هادئة متأملة. وقد هدأ إحتراسه، وتكلم في تواتر بطئ، يختار كلماته بحرص فيما يتحدث عن يسوع.

بدأ تمبلتون كلامه: “كان يسوع أعظم إنسان عاش على الإطلاق. كان عبقرية أخلاقية. وكان حسه الأخلاقي فريداً. وفي الواقع كان أحكم إنسان قابلته في حياتي أو في قراءاتي. كان تكريسه كلياً، وهو ما أدى الى موته- في الغالب لضرر العالم. ماذا يمكن للمرء أن يقول عنه إلا أن ذلك كان نوع من العظمة؟”

فإندهشت قائلاً: “تبدو وكأنك مهتم به حقاً.”   

فأجابني: “حسناً، نعم، فهو أهم شئ في حياتي.” وتمتم باحثاً عن الكلمة المناسبة قائلاً: “أنا…أنا…أنا…أعرف إن هذا قد يبدو غريباً، ولكن علي أن أقول…أنا معجب به!”

لم أدر كيف أجيبه، فقلت: “تقول هذا بنوع من الحميمية.”

فقال: “حسناً، نعم. فكل شئ حسن أعرفه، وكل شئ جليل أعرفه، وكل شئ نقي أعرفه، قد تعلمته من يسوع، نعم…نعم! وبقوة! أنظر فقط الى يسوع. لقد وبخ الشعب، وكان غاضباً. الناس لاتفكر فيه هكذا، فهم لايقرأون الكتاب المقدس. لقد كان لديه غضب مقدس. إهتم بالمسحوقين وبالمظلومين. ولاجدال إنه كان لديه المستوى الأخلاقي الأعظم، والإزدواجية الأقل، والتعاطف الاعظم من أي إنسان في التأريخ. كانت هناك الكثير من الشخصيات الرائعة- لكن يسوع هو يسوع.

“وهكذا سيفعل العالم حسناً كي يتمثلوا به؟”

“ياإلهي، نعم! لقد حاولت- ومازلت أحاول بكل جدية- أن أتصرف كما آمنت إنه سيتصرف بالمثل. وهذا ليس معناه أنه يمكنني قراءة أفكاره، لأن أحد أروع الأمور عنه هو إنه غالباً مايفعل عكس ماتتوقع.”

وفجأة قطع تمبلتون كلامه. كانت هناك وقفة قصيرة، فغالباً ماشعر إنه غير متأكد من الإستمرار.

قال ببطء: “آه… ولكن…لا، إنه الأكثر…” توقف تمبلتون، ثم بدأ من جديد مصرحاً: “من وجهة نظري، يسوع هو أهم إنسان وجد على الإطلاق.”

حينما نطق تمبلتون هذه الكلمات، لم أكن أتوقع أبداً أن أسمعها منه. فقد قال بينما كان صوته قد بدأ في الخفوت: “ولو جاز لي التعبير، فأنا… أفتقده!”

وبهذه الكلمات غمرت الدموع عينيه، وحول رأسه ونظر للأسفل، رافعاً يده اليسرى كي تحجب وجهه عني. وكان كتفاه يتحركان فيما كان يبكي.

ماذا كان يجري؟ هل كانت هذه لمحة صريحة داخل نفسه؟ لقد شعرت نحوه بالتعاطف، وأردت أن أعزيه. وفي نفس الوقت، فإن روح الصحفي التي بداخلي أرادت أن تكتشف جذور رد الفعل هذا. لماذا إفتقده؟ وكيف إفتقده؟

فسألته بصوت رقيق: “كيف؟”

فجاهد تمبلتون كي يعبر عن نفسه. وأؤكد إنه لم يكن ليفقد السيطرة على نفسه أمام شخص غريب. تنهد بعمق ومسح دمعة من دموعه. وبعد لحظات حرجة قليلة، أشار بيده لي بالإنصراف. وأخيراً أصر بهدوء، بل بصلابة، قائلاً: “كفى هذا.”

مد يده للأمام لإلتقاط قهوته، وأخذ رشفة ماسكاً الكوب بقوة بين يديه كما لو كان يلتمس منه الدفئ كان من الواضح إنه أراد أن يدعي إن هذه النظرة الصريحة داخل نفسه لم تحدث أبداً.

لكني لم أستطه أن أتجاهل ذلك، ولم أتجاهل إعتراضاته المركزة القلبية حول الله.

في الواقع، كانت هذه الإعتراضات تحتاج إجابة. له، ولي أنا أيضاً.

 

الى طريق الإجابات

“1.6مليار ]مسيحي[ من الممكن أن يكونوا على خطأ… ودليلي ببساطة…هو أن الناس العقلانيين يجب أن “يهجروا هذه المعتقدات.”                                                                         مايكل مارتن، ملحد(1)

“اليوم يبدو لي أنه ليس هناك سبب مقنع يمكن أن يتبناه إنسان ذكي لقبول خداع الإلحاد أو اللإرادية وإرتكاب نفس الأفكار العقلية التي إرتكبتها أنا. أتمنى… لو عرفت آنذاك ماأعرفه الآن.”     باتريك جلين- ملحد صار مسيحياً(2)

بعد فترة وجيزة من اللقاء مع تشارلز تمبلتون، بدأت مع زوجتي ليزلي في العودة الى شيكاغو، وقد أمضينا غالبية المسافة في مناقشة حيوية عن مواجهتي الغامضة مع المبشر السابق.

بصراحة كنت في حاجة لبعض الوقت لمعالجة هذا الإختبار. لقد كان لقاء غير عادي، إذ إنه يتضمن التحول الرهيب من الرفض المطلق لله الى رغبة حميمية لإعادة التواصل مع يسوع الذي إعتاد على عبادته. أشارت ليزلي لإحدى نقاط مناقشتنا قائلة:

“يبدو إنك تحب تمبلتون حقاً”.

فقلت لها: “بالطبع أحبه”

الحق أن قلبي قد إنجذب إليه.

إنه يتعطش للإيمان، وقد تنازل كثيراً. وكإنسان يواجه الموت، فهو لديه كل الدوافع التي يريدها كي يؤمن بالله. هناك جاذبية لايمكن إنكارها تجاه يسوع تنبع بوضوح من أعماقه، لكن في نفس الوقت هناك أيضاً تلك الحواجز العقلية الهائلة التي تقف بشدة في طريقه.

كما هو الحال مع تمبلتون، كنت على الدوام إنساناً يتصارع مع الأسئلة. ففي دوري السابق، إذا عملت محرراً للشؤون القانونية في صحيفة شيكاغو تريبيون، كنت معروفاً بإثارة ماأسميته بإعتراضات “نعم، ولكنyes, but objections”. نعم يمكنني أن أفهم أن الدليل في تجربة ما كان يشير لرأي معين، ولكن ماذا عن هذا التضارب، أو ذاك النقص، أو تلك الوصلة الضعيفة؟ نعم، يمكن أن يكون المدعي قد قدم دفاعاً مقنعاً عن جريمة موكله، ولكن ماذا عن إدعائه بوجوده في مكان آخر أثناء الجريمة، أو عدم توافر البصمات؟

وقد كان نفس الشئ حقيقي بالنسبة لتحرياتي الشخصية عن يسوع. فقد إنطلقت كملحد، مقتنعاً تماماً إن الله لم يخلق البشر، بل إن البشر هم الذين خلقوا الله بمجهود يائس لشرح المجهول ومعالجة خوفهم الشديد من الموت. لقد وصف كتابي السابق “القضية.. المسيح” إختباري الذي أخذ مايقرب من عامين للدليل التاريخي الذي أشار لي بالحكم أن الله موجود حقاً، وأن يسوع هو إبنه الوحيد بالفعل. (لمخلص هذه الإكتشافات أرجو أن تنظر الى الملحق بهذا الكتاب).

ولكن هذا لم يكن كافياً في حد ذاته لتسوية الأمر تماماً بالنسبة لي. فقد كانت تلك الإعتراضات المؤرقة لاتزال موجودة. نعم، يمكنني أن أفهم كيف إن الدليل التاريخي لقيامة يسوع يمكنه أن يدعم حكماً أنه إله، ولكن ماذا عن التتابع المتصاعد للمشكلات؟ لقد أطلقت على هذه الألغاز لقب “الثمانية العنيدة The Big Eight”.

  • بما أن هناك إلهاً محباً، فلماذا يئن هذا العالم المسحوق بالألم بالكثير من المعاناة والشر؟
  • بما أن معجزات الله تعارض العلم، فكيف يمكن لأي إنسان عقلاني أن يؤمن إنها حقيقته؟
  • لو كان الله قد خلق الكون حقاً، فلماذا يجبر الدليل المقنع للعلم الكثيرين جداً لإستنتاج أن عملية التطور الغير موجهة تفسر الحياة؟
  • بما أن الله طاهر أخلاقياً، فكيف يصدق على ذبح الأطفال الأبرياء كما يقول العهد القديم؟
  • لو كان يسوع هو الطريق الوحيد الى السماء، فماذا إذاً عن ملايين الناس الذين لم يسمعوا عنه؟
  • لو كان الله يهتم بالناس الذين خلقهم، فكيف أمكنه أن يسلم كثيرين جداً منهم لعذاب أبدي في الجحيم لمجرد أنهم لم يؤمنوا بالامور الصحيحة عنه؟
  • لو كان الله هو راعي الكنيسة الأعظم، فلماذا كانت حافلة بالرياء والقسوة عبر العصور؟
  • بما أنني مصاب بالشكوك، فهل من الممكن أن أظل مسيحياً؟

هذه بعض الأسئلة المثارة حول الله بشكل عام. في الواقع كانت هذه بعض الموضوعات التي ناقشها تشارلز تمبلتون في لقائي معه وفي كتابه. وكما كانت مع تمبلتون، فقد وقفت هذه العقبات بصلابة بيني وبين الإيمان أيضاً.

قهر الإعتراضات

بينما إستطعت أن أروي الكثير من الإعتراضات التي أثارها تمبلتون، إلا إنني في نفس الوقت لم أكن ساذجاً لقبول كل منها على محمل الجدية. كان من الواضح أن بعض عقباته في طريق الإيمان يجب أن لاتكون معوقات على الإطلاق.

فمثلاً كان تمبلتون مخطئاً بوضوح بخصوص يسوع وهو يعتبره مجرد إنسان. فحتى لو عدنا للمعلومات المبكرة والأكثر أصالة عنه- تلك البيانات التي لايمكن أن تكون قد تبدلت بالتطور الأسطوري- فسوف نجد أن يسوع قد عبر عن نفسه دون شك بتعبيرات مسيانية، إلهية، سامية.(3)

في الواقع توجد هنا مفارقة، فالوثائق التأريخية نفسها التي أعتمد عليها تمبلتون للحصول على معلوماته عن حياة يسوع الأخلاقية المثيرة هي في الواقع نفس السجلات الدقيقة التي تؤكد ألوهيته على الدوام. ولذلك لو كان تمبلتون مستعداً لقبول دقتها بخصوص شخصية يسوع، فعليه أن يعتبرها جديرة بالثقة أيضاً حينما يؤكد أن يسوع نادى أنه إلهاً ثم أيد هذا التأكيد بقيامته من الأموات.

بالإضافة الى ذلك، فإن قيامة يسوع لايمكن إعتبارها أسطورة كما إدعى تمبلتون. فالرسول بولس حافظ على قانون إيمان الكنيسة الأولى الذي وضع على تقارير شهود العيان عن قيام يسوع من الأموات، تلك التي أرجع كثير من الدارسين تاريخها الى مابعد موت يسوع بحوالي 24- 36 أسبوعاً. (4)

وهذا الأمر سريع جداً بالنسبة لعلم الأساطير حتى يكون قد زيف السجلات. الحق هو أن لاإنسان كان قادراً أن يبين مثالاً واحداً عبر التاريخ لأسطورة تنمو بهذه السرعة وتمحو صميم الحق التاريخي.(5)

بينما وثقت بإنتظام في كتاب “القضية..المسيح”، فإن برهان شهود العيان، والبرهان المؤيد، والبرهان النفسي، وبرهان “بصمة الأصابع”، أو البرهان النبوي، والبيانات التاريخية الاخرى تشير بقوةلإستنتاج أن يسوع هو إبن الله الوحيد حقاً.

نعم، ولكن…

ماذا عن تلك الموضوعات المريبة التي تمنع من قبول الإيمان الذي يرغبه بإعترافه الشخصي كثيراً؟ لقد إنتابتني. وقد كانت هي نفس الموضوعات التي أربكتني ذات مرة- وبينما كنت أقود السيارة مع ليزلي بين ولايتين تجاه البيت، بدأت بعضها تنتابني من جديد.

على نفس الطريق

هدأت أنا وليزلي لبعض الوقت. نظرت خارج النافذة الى المروج المتموجة من الريف الكندي. وأخيراً قالت ليزلي: “يبدو أن لقاءك قد إنتهى على نحو مفاجئ. ماذا قال تمبلتون قبل أن تغادره؟”

فقلت لها: “في الواقع كان دافئاً جداً. حتى إنه أخذني في جولة عبر شقته. وكان يبدو كما لو لم يرد أن أغادره، ولكن بغض النظر عن محاولاتي، لم أستطع أن أقنعه بالإستمرار في مناقشة مشاعره عن يسوع.”

فكرت للحظات قبل الإستمرار. لقد قال شيئاً آخر أدهشني. فبينما كنت مستعداً لمغادرته، نظر الي بمنتهى العطف، وصافح يدي وقال بإخلاص عظيم: “لقد كنا على نفس الطريق.”

فأومئت ليزلي قائلة: “لقد كنتما كذلك. فكلاكما كاتب، وكلاكما كان متشكك.” ثم أضافت مبتسمة: “وكلاكما عنيد لدرجة إنكما لاتقبلان الإيمان حتى تتأكدا من إنه ليس مليئاً بالثقوب.”

لقد كانت على حق. فقلت لها: “ولكن بداأن عقله مغلقاً جداً. فلقد أصر إنه لايمكن أن يكون هناك إله محب. ومع ذلك في نفس الوقت، بدا أن قلبه منفتح جداً. بطريقة ما أعتقد أنه يريد يسوع بنفس الأسلوب الذي يريده به الناس الذين كانو في أنديانابوليس. إنه فقط لايمكنه أن يملكه. وعلى الأقل لايعتقد ذلك. وليس بإعتراضاته.”

قضيت الليلة مع ليزلي في أحد فنادق ميتشجان، وفي النهاية وصلنا قبيل ظهيرة اليوم التالي. سحبت حقيبتنا الى السلم وألقيتها على الفراش، فقامت ليزلي بفتحها، وبدأت في إخراج الملابس منها.

وأشارت قائلة: “على الأقل وصلنا البيت في وقت قصير.”

فقلت: “حسناً، ليس تماماً.”

لم أستطع أن أنسى أسئلة تمبلتون، فقد تردد صداها بعمق شديد مع أسئلتي الخاصة. ولذلك قررت أن أبدأ من جديد، وأتوسع في رحلتي الروحية في إتجاه مختلف عما سلكته حينما كتبت كتاب “القضية..المسيح” الذي كان تحرياً عن الدليل التاريخي عن حياة، وموت، وقيامة يسوع المسيح.

أردت أن أقرر من جديد ما إذا كانت هناك إستجابات مرضية للنفس حينما تواجه المسيحية بأصعب وأقسى أسئلة الحياة التي تبعث شكوكاً مؤرقة في قلوبنا وعقولنا. هل يمكن للإيمان أن يواجه العقل حقاً؟ أم أن الفحص العقلي الصارم سيطارد الله؟

عزمت أن أتتبع أشهر وأمهر المدافعين عن المسيحية. ولم يكن هدفي هو أن أتخذ مدخلاً ساخراً أو منافساً كي أضايقهم بأسئلة محيرة، أو كي أرى ما إذا كنت سأدفعهم لوضعهم في موقف محرج. لم تكن هذه هي لعبتي.

لقد كنت مهتماً بأمانة بتحديد ماإذا كانت لديهم إجابات عقلية عن الأسئلة “الثمانية العنيدة The Big Eight”، أردت أن أمنحهم فرصة مواتية لتوضيح فكرهم ودليلهم بالتفصيل حتى يمكنني في النهاية تقييم ماإذا كانت نظرياتهم تفي بالمعنى أم لا. على العموم، أردت أن أكتشف ما إذا كان الله يقول الحق حين قال: “وتطلبونني فتجدونني إذ تطلبونني بكل قلبكم.” (إر29: 13).

رفعت سماعة الهاتف. آن أوان تخطيط طريق البحث عن الإجابات.

لم يكن تمبلتون يتوقع أقل من ذلك.

تحدي الإيمان – لي ستروبل