أبحاث

قراءة قصة آدم وحواء اليوم على ضوء العلم الحديث

قراءة قصة آدم وحواء اليوم على ضوء العلم الحديث

قراءة قصة آدم وحواء اليوم على ضوء العلم الحديث

 

قراءة قصة آدم وحواء اليوم على ضوء العلم الحديث
قراءة قصة آدم وحواء اليوم على ضوء العلم الحديث

كيف يمكننا أن نقرأ قصة آدم وحواء اليوم على ضوء العلم الحديث؟

ثمة سؤال مطروح كثيراً: كيف نقرأ قصة آدم وحواء في سفر التكوين 2-3. وراء هذا السؤال يكمن اهتمامٌ مقلقٌ حول التضاد الظاهري بين العلم والكتاب المقدس. يقول السؤال: “إن آخذنا القصة الكتابية بصورة جديّة،علينا أذاً أن نرفض نظرية التطور بالكلية ونضع أنفسنا مع أولئك المؤمنين بالخلق “creationists” الذين يؤمنون بأن قصة التكوين يجب أن تؤخذ حرفياً، كوصف بيولوجي واقعي للطريقة التي بها أتت الحياة البشرية إلى الوجود”.

توجد هنا مسألتان متداخلتان جداً: معنى قصة سفر التكوين، ودور الله في حدثية الخلق. لمناقشة كل مسألة من الضروري قبل كل شيء أن نفكهما ونفصلهما عن بعضهما البعض. سنحاول هنا التحدث عن السؤال الأول؛ ومن ثم سنلتفت باختصار إلى المناظرة المتعلقة بالتطور والخلق.

قبل أن نأخذ بعين الاعتبار كيف يمكننا أن نقرأ قصة آدم وحواء، علينا أن نعود إلى نقطة أكدنا عليها في هذا الخصوص…. في ثقافة اليوم نميل إلى الخلط بين الحقيقة والواقع. فلو استطعنا، على الأقل من حيث المبدأ، أن نسجّل أو نصوّر حدثاً، عندئذ نعتبر هذا أنه حدث حقيقي. مع ذلك فهذا يُعتبر فهماً محدوداً جداً لل “الحقيقة”. لأن هذا يستثني من عالم الحقيقة حقائق مثل الحب والشوق الروحي، لأن هذه لا يمكن التأكد منها بصورة وضعية تجريبية.

أيضاً يستثني هذا كل ما يحدث على النطاق الكوني الشامل، حيث قوانين هندسة اقليدس لا تعد تنطبق (الفضاء المنحني، الثقوب السوداء). أيضاً يستثني هذا الأمر الإيمان. إذ يمكننا أن نحمل الشهادة على إيماننا وعلى محتواه، لكن لا يمكننا أن نبرهن أننا بالفعل نؤمن أو أن محتوى إيماننا هو حقيقي أو واقعي. الحقيقة تتعالى عن الواقع بطرف عديدة. هذا واضح على وجه الخصوص في القصص الكتابية مثل أمثلة يسوع (غير تاريخية) وفي قصة آدم وحواء.

الأسئلة الرئيسية المتعلقة بالقصة المسرودة في سفر التكوين 2-3 هي: ماذا غاية الكاتب الكتابي (والذي يُعتبر تقليدياً أنه موسى) في تأليف القصة، وماذا كانت غاية الله في إلهام ذلك الكاتب لتشكيل القصة بالطريقة التي فعل؟

هل اعتبر الكاتب الكتابي نفسه أن قصة آدم وحواء قصة “واقعية”؟ إنه بالتأكيد اعتبرها “حقيقية”، بمقدار ما تتحدث بفصاحة عن عمل الله الخالق في خلق البشرية، وعن تمرّد الإنسان ضد مشيئة الله، وعن معاناة البشر في تغرّبهم عن الله، وعن حياتهم “خارج الفردوس”. على كل حال توجد عناصر في القصة تعاكس القراءة الحرفية الصرفة للنص مثل تشكيل آدم بيدّي الله “من تراب الأدمة”، وصورة الله كمزارع” يزرع جنة في عدن”، وتشكيل المرأة من ضلع الرجل، و”صوت الرب الإله الماشي في الجنة”، وإلباس آدم وحواء ب”أقمصة جلدية”، ووجود أشخاص آخرين في الوقت نفسه في أرض نود، شرقي عدن.

هذا الصورة التي تؤنسن الله مع التناقضات المنطقية في القصة تتطلب تأويلاً، كما كان آباء الكنيسة يعرفون جيداً. أيضاً أوضح الآباء أن كامل القصة يجب أن تُفهم بالمعنى التقني كأسطورة (ميثولوجيا) تاريخية: ليست “خرافة”، ليست قصة فولكلورية ملفقة، بل عنصر قصصي من تاريخ إسرائيل المقدس الذي يتحدث عن التداخل الذي لا يوصف بين الله والخلائق البشرية، وعن علاقة يمكن في أحسن الأحوال أن توصَف بلغة رمزية (تأمل مثلاً التعابير العبرية: آدم (أدمة) والتي تدل على الإنسان/الأرض؛ عدن والتي تعني الغبطة والبهجة، وهي مرادفة عملياً للفردوس كما في أشعيا 51: 3؛ حزقيال 28: 13؛ 31: 9، 15-18، حيث العنصر الأسطوري الضمني واضح جداً).

لا نستطيع معرفة ذهن المؤلّف الكتابي بالطبع. لكن يبدو من المحتمل أنه طوّر قصة آدم وحواء (على أساس تقليد شفهي غابر) كنوع من “المّثّل السببي”: قصة تفسّر بالتصوير الأسطوري عمل الله منذ خلق العالم إلى وقائع وخبرات معينة في حياتنا اليومية. كان هدفه أن يُجيب على أسئلة مثل هذه: كيف أتى الرجل والمرأة إلى الوجود؟ لماذا توجد خطيئة بشرية ولماذا يوجد موت؟ لماذا تتألم المرأة في الولادة، ولماذا على الرجل أن يتعب بعرق جبينه لكي يؤمّن ضروريات الحياة؟

للإجابة على أسئلة مثل هذه، فإن مؤلف تكوين 2-3 سمح لنفسه أن يكون مُلهّماً وموجَّهاً من الروح القدس، ليخلق قصة آدم وحواء الرائعة والجميلة. ولكي نفسّر القصة بصورة صحيحة تحتاج أن نقرأها بصورة مجازية، رمزية. نحتاج أن ننظر إلى ما وراء أي حدث تاريخي معين (الفردوس، هو بالنهاية يتعالى على التاريخ، ما وراء الزمن والمكان، كما تشهد كلمة يسوع بهذا للص التائب)، لكي ندرك في وسط التاريخ البشري الأول حضور وعمل الله الذي هو خالق وداعم كل ما يوجد.

هذا يوحي بالدافع الكامن وراء العمل المُلهِم للروح القدس في توجيه تركيب القصة الكتابية. فبواسطة قصة آدم وحواء يكشف الله نفسه كخالقٍ وقاضٍ وفادٍ، وكمَن له السلطان الأسمى على الحياة والموت. لم تُمنع غايته بخطيئة الإنسان أو بالتأثير الشيطاني، وهي نقطة جُعلت واضحة ليس فقط بالحوادث في الجنة، بل أيضاً بحمايته لقايين. إن ابن آدم هذا الذي قتلك أخاه يصير صورة نبوية لشعب إسرائيل الذي هو أيضاً خاطئ ومتمرد ومع ذلك أيضاً محبوب ومحفوظ برب العهد ضد كل مَن سيقضي على هذا الشعب.

إن قصة آدم وحواء هي في الحقيقة قصة كل واحد منا. فبسبب تمرّدنا طُردنا من الفردوس، ويمنعنا الآن سيف من نار من حياة الجمال والسلام والفرح التي من أجلها خلقنا الله. في أقمصتنا الجلدية نطوف في الأرض مشتاقين إلى إعادة اكتشاف والدخول ثانية إلى الجنة التي فيها ومن أجلها قد خُلقنا.

إن الغاية الحقيقية والتحقيق النهائي لقصة سفر التكوين مذكورة بطلاقة بأيقونة الفصح التي تصوّر نزول المسيح إلى الجحيم. فبينما كان جسده مستريحاً في جنة أخرى، يتغلغل ابن الله، آدم الثاني، في عالم الأموات ليحرّرنا من قوة الموت الذي يُمسك بنا في عبودية ونفي. هناك يُمسك بيدّي آدم والمحبة. إن المعنى النهائي لهذه القصة إذاً ملخَّص بالكلمات البسيطة ومع ذلك العميقة للقديس أفرام السوري:

“إن ربَّ آدم خرج ليبحث عنه،

فدخل الجحيم ووجده هناك،

عندئذ قاده وأخرجه،

ليضعه مرة أخرى في الفردوس” (24) (الأب جان بريك)

“الهذيذ المتواصل بالأسفار الإلهية سيملأ النفس على الدوام بنشوة وفرح بالله لا يُوصفان” (القديس اسحق السوري)

“…. قَبِلَ لطمةُ، الذي أعتق آدم في الأردن” (الخميس العظيم المقدّس)

(24) Hymns on Paradise 8: 10 (Tr. By S. Brock, SVS Press, 1990, P. 13

قراءة قصة آدم وحواء اليوم على ضوء العلم الحديث