أبحاث

محاكمة الرب يسوع المسيح من الناحية القانونية

محاكمة الرب يسوع المسيح من الناحية القانونية

محاكمة الرب يسوع المسيح من الناحية القانونية

محاكمة الرب يسوع المسيح من الناحية القانونية
محاكمة الرب يسوع المسيح من الناحية القانونية

مقدمة:

نُشِرَ منذ بضعة سنوات كتاب هام بعنوان “المحاكمة التاريخية” تأليف سير جون ماكدونل وهو من مشاهير علماء القانون في القرن 20 م. والمؤلف أحد أصدقائي المخلصين، ولقد اطلعت على الكتاب عند مثوله للطبع. فحدثُ نفسي قائلاً… اجل هناك محاكمات خطيرة – مثل محاكمات سقراط وبرونو وسرفنتوس وجاليليو وجان دارك وفرسان الهيكل وماري ملكة ايقوسيا، ولكن أين أجلُّ المحاكمات وأعظمها أثرً في تاريخ القضاء، بل في التاريخ الإنساني كله، وهي محاكمة لابنا يسوع المسيح.

لعل المؤلف لم يذكرها اكتفاءً بما كتبه عنها المرحوم تيلور إينس. فهذا المُشرّع الكبير، درسها دراسة دقيقة، ببراعة فائقة منذ أوائل القرن العشرين، وكان إينس صديقي كذلك، ولا شك لديَّ أن هذين المفكرين الكبيرين لا بُّ أن يكونا متفقين في هذا الموضوع القانوني الخطير.

أما أنا فبالرغم مما كُتِب عن هذه المحاكمة وعلى كثرته فما زلتُ أقول بصحة أراء إينس وسلامتها من الخطأ في مجملها. ويجب للباحث في محاكمة يسوع أن يبتعد عن الانفعالات النفسية، ويتجَّرد من الاعتبارات الشخصية، ويلقي جانباً ما أثارته هذه المحاكمة الفظيعة من عواطف الأسى نحو الشخص العظيم الذي حمل أعباءها بصبر وشجاعة. ثم يجب أن لا تنفر نفوسنا من تلك الأوضاع القديمة، التي تغرينا على الاستياء منها، عند المقابلة بينها وبين الأوضاع القانونية الحديثة والأكثر رفقاً ومدنية.

وتستلزم دراسة هذه المحاكمة، الاعتقاد بصحتها وصحة ما كتبه الانجيليون عنها. والتسليم كذلك بصحة ما ورد عنها في كتب أخرى، بالرغم من الشكوك التي حاول فريق من الناس إقامتها دليلاً على عدم صحة الفقرة الواردة عن المسيح في كتاب تاسيتوس المؤرخ الروماني. فقد قيل أنا دسّت في الكتاب المشار إليه، بل قيل إن الكتاب كله من وضع رجل إيطالي اسمه بورجيو براكليوني.

ويجب أن نقرأ المحاكمة في الأناجيل الأربعة، ونفحصها بعناية، كما فعل تيلور إينس، ثم نضم إليها ما جاء عنها في أعمال الرسل، ولا شك أننا نخرج – عقب هذه الدراسة – مطمئنين قانعين بصدق الوقائع معجبين بصحتها، كما يعجب كل قاضٍ عادل، مارس تمحيص وفحص الأدلة، والتمييز بين الصحيح منها والزائف فعلاً.

والحقيقة المشتركة بين الإنجيليين تتلخص في العبارة الآتية:

بالرغم من الخلاف الكبير في أساليب التعبير، أو سرد الحوادث، أو العناية التي يُبديها أحدهم عند تسجيله أمراً معيناً ولا يبدّيها الآخر، تبعاً للأثر الذي يتركه هذا الأمر في ذهن الكاتب له، أو المتأمل فيه. فالحقيقة الخالدة لا تزال صافية في جوهرها، وتدعو للثقة في صدقها.

وإن السذاجة التي تُروَّى بها هذه الحوادث الخطيرة تأسر الألباب، وتملأها بالروعة والإعجاب، وتطبّعها بطابع ثابت لا يُمحى. فهي قصة واقعية، لأعظم مأساة سجلها التاريخ في العالم كله.

وقد وقعت المحاكمة على وجهين وتبعاً لنظامين قضائيين، لا رابطة بينهما، ولكل منها إجراءات خاصة دقيقة، يجب الإحاطة بها.

اجتمعت فيهما الشريعتان اليهودية والرومانية، فالأولى أقدمهما عهداً وأكثرهما صرامة في إجراءاتها وقيودها.

وأحاطت الشريعة اليهودية محاكمة المتهم في جرائم الاعتداء على النفس بسياج مُحكّم. فكانت الإجراءات عنيفة وقاسية، تجنباً للخطأ الذي يجوز أن تتعرّض له حياة المتهم.

ونعرض أمام القارئ صورة من الاحتياطات التي تُتبع في محاكمة اليهودية أثناء العصر السابق للغزو الروماني لفلسطين. وسيظهر له منها قدسية حياة المتهم.

كانت القوة التنفيذية كلها – في ذلك العصر – بيد اليهود. أما التنفيذ الشائع لديهم ضد المحكوم عليه بالموت. وهو الرجم بالأحجار، حتى تُزهق روحه. وكانت هناك أساليب أخرى لم يكونوا يلجأون إليها إلا نادراً، مثل الخنق، وفص الرأس، أو التغريّق في الماء. أما الصلّب فلم يكونوا يلجأون إليه، بحال من الأحوال. ثم أن التنفيذ بالإعدام فكان خاضعاً لقيودٍ دقيقة. ونقرأ الفقرة من “المشنا” وقد اوردها اينس في كتابه.

“في هذه الأثناء يقف ضابط على باب المحكمة ويُمسك منديلاً بيده، ثم يمتطي ضابط آخر جواداً ويتبع موكب المحكوم عليه، وإنما يقف بعيداً عنه على أقصى مسافة تمكنه من رؤية الضابط الحامل للمنديل، فإذا كان لدى أي إنسان دليل على براءة المحكوم عليه جاز له أن يُحرِّك المنديل الذي يحمله الضابط الأول، فيُسرع الضابط الفارس في اقتفاء أثر المحكوم عليه ويعود به للدفاع عن نفسه”.

أما الشريعة الرومانية فكانت (في العصر الامبراطوري كما كانت في العهد الأخير من الجمهورية) مصوغة في أجمل نظام ابتكره أقدر وأمهر مشرّعي العالم. فكان هذا النظام البارع الأساس الذي قامت عليه أعظم الشرائع الإنسانية. ولقد تجلت في الشريعة الرومانية قواعد العدالة متمثلة في الأوضاع الخارجية البديعة، فأشبهت في ذلك البناء القائم على الصخور. ثم أن الأحكام القضائية الرومانية وحدت بين أجزاء الامبرطورية وربطتها برباط وثيق.

وكان كلما ازداد سلطان روما سعة ونمواً ازدادت الوحدة الإمبراطورية، حتى شملت معظم العالم المتمدن؛ وكانت قوتها تستند إلى العبقرية التشريعية أكثر من استنادها على سلاح جنودها.

ولنبدأ إذن في سرد ما حدث في تلك المحاكمة التاريخية الكبرى. ولا نتعرض هنا لمشروعية أمر القبض على المسيح في بستان جثسيماني(على جبل الزيتون، شرق القدس). إذ أنه كان من اختصاص السنهدريم، بل من مستلزمات السلطة الجنائية الممنوحة له.

وكان السنهدريم – أو المجلس العام – يتكوَّن من واحد وسبعين عضواً وتتألف لجنته العُليّا، أو دائرته الداخلية، من ثلاثة وعشرين شخصاً. ومع أن منطقة اليهودية كانت ولاية رومانية فقد اقتضت عدالة روما أن تكون لها حكومة ذاتية من النوع الديني أو الإلهي (الثيوقراطي) وكان رئيس هذه المجلس الحبر الأعظم (رئيس الكهنة) واسمه في عهد تلك المحاكمة “قيافا”.

وكان المجلس يضم زعماء الفريقين الدينيين لليهود، وهما الفريسيون والصدوقيون، وكان يسير في أحكامه على تقاليد شريعة لها المنزلة العُلّيا من الاحترام. ثم جُمِعَت أخيراً في السنوات السابقة للمحاكمة في كتاب “التلمود” وكان “المشنا” أهم أجزاء الكتاب لاحتوائه على التقاليد المعمول بها في بدء العصر المسيحي.

وسلّم يسوع أحد أتباعه (يهوذا الاسخريوطي) ومن ثم سهُل القبض عليه واسترك في تسليمه بعض الزعماء من الكهنة الذين كان يتألف منهم مجمع السنهدريم، ثم كان هذا التسليم من الأمور المعيبة التي لا يمكن تبريرها. فقد كان مقروناً بالرشوة. ولو كان القضاء اليهودي أدق ما كان عليه. وتوافرت فيه درجات المحاكمة، ومراجعة الأحكام لقض ببطلان الإجراءات جميعها. أما السنهدريم وهو المحكمة العليا، فلم يكن يجوز التعرُّض لأحكامه بالإلغاء أو النقض.

من هو المتهم؟ سؤال يجب أن نكون عند الإجابة عليه جد حريصين حتى لا تُحول عواطفنا دون تمحيص الإجراءات القضائية بهدوء وشجاعة. فلا يجب لنا حينئذ أن نستلم لما يملأ قلوبنا من ذكرى ذلك الشخص العظيم الذي اقترن باسمه الخالد وحوادث ميلاده وموته وما بعد موته، أسرار عجيبة، وأعمال تُؤّكد الألوهية (الله الظاهر في الجسد).

يجب إذن أن نضبط عواطفنا ونملك مشاعرنا، حتى نستطيع استعادة ذكرى المحاكمة، من الناحية القضائية، لأنه يتعيَّن دائماً – في كل بحث قضائي – النظر إلى الأمر الواقع، واجتناب كل البواعث الأخرى. وهو أمر معمول به في القضاء السليم.

كان يسوع يحترف النجارة بإحدى قُرى الجليل. ولم يبدأ تعاليمه وعظاته إلا حينما ناهز الثلاثين، وينبئنا تاريخه أنه كان يُعلّم بما اشتمل عليه وطنه. من المميزات الطبيعية، مثل البحيرات والشواطئ والحقول ورؤوس الجبال. وكان ذا قدرة باهرة على وصف جمالها، ثم أنه كان يعرف تقاليد أهل وطنه. ورأي بعينيه ما كانوا يعانون من بؤس وشقاء ورثى لآلامهم، ولكنه استشف تحت هذا الضيق معاني روحية جليلة، استمدت منها تعاليمه قوة وسمُوَّاً.

أثارت أقواله في هذه البيئة الدينية روح العداء من المحافظين على القديم. فاستاءوا من التحليل الدقيق الجريء الذي أمعن فيه إلى دخائل وأوضاع التقاليد اليهودية، خصوصاً تلك الحملات العنيفة المتكررة على التقاليد العتيقة وما يُنسَّب إليها من الرياء الممقوت.

أعلن زعماء الكهنة غضبهم من يسوع. أما هو فلم يهتم بعدائهم، وأسرع في طريقة إلى أورشليم، مع أنه كان متأكداً من الخطر الذي يهدد حياته.

وقع أخيراً في قبضة أعدائه وتحت سلطانهم. فساقوه إلى المحاكمة، ولا شك أنه لو كانت هناك قضية جديرة برعاية الأصول الشرعية فيها، لكانت قضيته أجدرها جميعاً بتلك الرعاية. فقد فر أتباعه هاربين. وأنكره أحدهم جهراً وتألبت ضده قوى التقاليد القديمة وثورة الجماهير المضطربة فبدأت محاكمته أثناء هذه الظروف المؤثرة.

وظهرت العقبة الأولى عند البدء في المحاكمة وهي: ما هي التهّمة التي سيُقدم من أجلها للمحاكمة؟!

تقضي الشريعة اليهودية بأن لا يُقدّم أحد إلى المحاكمة إلا إذا قامت الشهود بإثبات جريمته. فشهاداتهم بداية الإجراءات كلها، وإلى أن يؤدوها علانية، لا يعتبر الشخص بريئاً فحسب ولكن غير مُتهمٍ أيضاً.

اختلفت الشهود واضطربت أقوالهم. ولنفرض أنهم أدوا اليمين طبقاً للشريعة، فلا يفوتنا في هذا المقام أن نأتي على النص الرهيب لهذا القسم العظيم، الذي حتمَّته الشريعة في جرائم النفس. فقد بلغ غاية القسوة والصرامة ونصه ما يلي:

“لا تنسَّ أيها الشاهد…. أن في هذه المحاكمة، التي تتعلق بالحياة، سيكون دم المتهم ودم ذريته إلى انقضاء الزمن، في رقبتك إذا شهدت زوراً. فالله خلق آدم وحيداً فريداً، وهو يُعلّمك بهذا: أن أي شاهدٍ يتسبّب في هلاك فرد من إسرائيل، فكأنه أهلّك العالم كله. أما من أنقذ إنساناً واحداً، فكأنه قد أنقذ العالم كله”.

وكان يُشترط للبدء في المحاكمة اتفاق شاهدين على الأقل في الاتهام بعد أداء اليمين التي أوردنا نصها فيما سبق فيتبين حينئذ أن اتهام يسوع لم يكن قانونياً، بل لم يكن هناك ما يجب اتهامه به، حتى في الأمر الذي كاد يتفق الشهود في نسبته إليه. وهو قوله إنه يستطيع أن يُنقض الهيكل (المادي) ويقيمه في ثلاثة أيام. فالمحاكمة لم تكن قائمة على الاخلال بالأمن أو الفخر الزائف ولكنها تتعلق بالحياة.

واختلف الشهود. ولم يكن هناك أمر هام من الجهة القانونية، ولقد أدرك قيافا هذا الأمر حق إدراكه. وكذلك المجمع الذي يتولى رئاسته ولذلك لم يعبأوا بالأوضاع القانونية فارتكب الحبر الأعظم أمراً يخالف الشريعة جد المخالفة؛ وشرع يستجوب المُتهم، واتخذ من هذا الاستجواب ذريعة لاتهامه. وكان هذا الاتهام في الواقع حُكماً بالموت!!

ماذا كان يجب سلوكه إذن؟ المقبوض عليه لا مبرر لاتهامه قانونياً فكان يتعيّن إذن وقف الإجراءات، عند هذا الحد، لأن المحاكمة غير جائزة على هذا الأساس.

والاتهام لا يستّند على أساس قانوني، ولكن المحكمة أجمعت كلها على التضحية بحياة المتهم. فصرّح رئيس المجمع بأنه يحسُن أن يموت إنساناً واحداً عن الشعب كله. والمحاكمة تتعلق بحياة المتهم. ولقد نطق رئيس المجمع بهذا الحكم الرهيب.

أثرت هذه المحاكمة تأثيراً كبيراً في الأدب والتاريخ، فنجد مثلاً في الجزء الثاني من قص “هنري الرابع” أن الملكة مارجريت تنطق العبارة الآتية، التي تَّنُم عن حقد دفين وهي: “يجب أن نتخلص من جلوستر لننجو من الرهبة التي تحيط بقاتليه”، فيجبها الكاردينال بوفور (وهو قيافا عصره) “أجل. إنه سيموت، وهذه هي السياسة الحكيمة، وإنما يجب أن ننتحل سبباً لذلك، حتى يكون موته مستنداً على أحكام (نصوص) القانون”.

نعم يجب أن يتبع في محاكمة يسوع أحكام الشريعة على قدر المستطاع، ولكن إذا يتيسّر الحصول على شهود أو إذا كانت الإجراءات القانونية لا تطاوع في إدانته فلماذا لا يُلقى القانون جانباً ويُستجّوب المتهم؛ هذه هي العقبة الصعبة.

وظل المتهم صامتً ولكنه قطع ذلك الصمت بتوبيخ لطيف لمن تولى الحُكم عليه، فقال: “كنت أتكلم علانيةً وعلى مسمع من كل الشعب. لم أكن أتكلم في الخفاء، بل بشرّتُ في المجامع والهيكل، حيث يحتشد اليهود دائماً، فلماذا تسألني إذن، ويجدر بك أن تسأل الذين كانوا يسمعونني فيخبروك بما كنت أقول”.

وقف سقراط مثل هذا الموقف، قبل ذلك بأربعمائة سنة وذكر أفلاطون عن لسانه في كتاب “الابولوجيا” العبارة التي قيل إن سقراط نطق بها أمام المحكمة العليا للشعب؛ وإذا زعم أحد أنه تعلَّم مني سراً ما لم يتعلّمه علناً. فثقوا أنه غير صادق.

لم تكن محاكمة يسوع مقصورة على التحقُّق من صدق الوقائع (التُهم) الموجهة إليه، ولكن تناول الأمر المبادئ الأولية للشريعة اليهودية.

كانت الحال تبعث على الحيرة أكثر مما ظن الشعب الثائر. فقد وبخوا المتهم لإجابته، ولطموه على وجهه أثناء انعقاد المحكمة. أما هو فقبل هذا الاستهزاء بأن توسل إليهم بالحسنى في معاملته، ومراعاة الشريعة في محاكمته فقال لهم: “إن كنتُ تكلمت بالشر، فأشهدكم على قولي، ولكن إن كان كلامي حسناً فماذا تلطمونني؟!”

وكان يجب وقف المحاكمة حالاً. فالشهود لم يكونوا على اتفاقٍ في أقوالهم. ولذلك إنعدم الشرط الأول الذي كان يجب توافره لمحاكمته طبقاً للشريعة، ولكن ما بقي كان دليلاً كافياً على المساس بأصول العدالة والشريعة. فقد جاء فيها: “لا تحكم شريعتنا على أحد بالموت لمجرد اعترافه. وجاء أكثر من ذلك. وهو أن من القواعد الأساسية للعدالة، أن لا يُضار أحد بما يصدر منه من كلمات أثناء المحاكمة.

نقل المستر إينس النصوص السابق ذكرها. وأضاف إليها ما يأتي: “إن وضع السؤال للمتهم واتهامه على مقتضى إجاباته أمران يخالفان أوضاع العدالة جد المخالفة”.

سلك القضاء اليهودي هذا السبيل الملتوي، ولم يمكن تجاهل العقبات التي تتخلله، ومما يبعث على الأسف، ان يقوم الإتهام على هذه الإجراءات الباطلة!!

ما هو الإتهام؟ قدم للمحكمة أحد اليهود التابعين لحكومة دينية، ثم أن المتهم صرّح بأنه لا يخامره شك في الشعور بالألوهية الساكنة فيه، فلماذا لا يسألونه عن هذا الأمر؟ واليهود في مقدمة الأمم التي تؤمن بمسيح منتظر، بالرغم من أن آمالهم ترتكز على أساس مادي. ولعل إجابته تتضمن شيئاً نافعاً. فهو يُعلم تعاليم غريبة تشير إلى مملكة جديدة قوامها الحق الروحي والحلول الإلهي وخلود النفس. فألقي عليه السؤال الآتي: “هل أنت المسيح ابن الله؟”.

كانت هذه اللحظة أخطر الأوقات في حياته. فأجاب “نعم” وقد كان هذا الجواب منطبقاً كل الانطباق على تعاليمه كلها. ولقد أدرك قيمته من الخطورة والجلال.

كان يسوع على اعتقاد ثابت أن فداءه ليس مقصوراً على اليهود ولكنه شامل لكل العالم. وأنه الشخص الوحيد المرسل إليهم. والذي تمَّت فيه نبوءات إشعياء – نبي اليهود بل نبيه هو أيضاً.

وقع المشهد المؤثر للمحاكمة فقد دق جرس السرعة، هذه العجلة التي ألبست المحاكمة رداء العار!!

مزق رئيس الكهنة ملابسه وختم المحاكمة بأن “أعلن أنه لا حاجة لشهود”. وقد انطوى تحت هذه العبارة كل مظاهر الاستهانة بقواعد العدالة ثم قضي بالموت على المتهم، بعد أن تجردت محاكمته من كل الضمانات الشرعية.

إن ما يلفت النظر هو تلك العجلة الغريبة التي صحبت المحاكمة فكانت الإجراءات مضادة من كل وجه لجميع ما أمرت به الشريعة، أجدرها كلها بالملاحظة، أن المحاكمة قد حصلت “ليلاً”، خلافاً لما تقضي به الشريعة الموسوية.

ولا يوجد إسرائيلي واحد يعرف شيئاً من تقاليد قومه أو كتبهم المقدسة، ويجرُؤ على القول بصحة محاكمة جنائية بدأت ليلاً وظلت مستمرة ليلاً وختمت بالحكم ليلاً بدون أن يؤجل النطق بالحُكم إلى اليوم الثاني!!

وقد قسّم المشنا المحاكمات إلى نوعين. أولاً محاكمات عن جرائم الأموال، وثانياً محاكمات عن جرائم النفس. وهذا نص ما جاء فيه:

لا يجوز البدء في المحاكمات المتعلقة بجرائم الأموال إلا في النهار، ولكن يجوز الانتهاء منها ليلاً. أما المحاكمات الخاصة بجرائم النفس فلا يصح البدء فيها إلا نهاراً، وكذلك لا يصح أن تختم إلا في النهار أيضاً. ثم يجوز أن تنتهي المحاكمات في جرائم الأموال بصدور الحكم بالبراءة في اليوم الذي تحصل فيه. أما المحاكمات في جرائم النفس فيجوز الانتهاء منها في نفس اليوم إذا صدر الحكم بالبراءة، وإنما يجب إرجاؤه على اليوم التالي “إذا كان الحكم بالإدانة”.

ويتضح إذن، أن العجلة في محاكمة يسوع، كانت اعتداءً جسيماً على الضمانات الأولى التي اشترطتها الشريعة اليهودية.

قُبض عليه في بستان جثسيماني، الخميس ليلاً اجتمع السنهدريم – أو لجنته العُليا – مساءً لمحاكمته. وحوكم ليلاً!!

لنفرض جدلاً صحة البواعث الدينية والسياسية، بل الاعتبارات الشخصية التي ترجع إلى العداء لشخص المتهم. هل هذه الاعتبارات تبرر الاعتداء على التقاليد الشرعية وتمزيق العدالة وانتهاك قدسية القضاء وزعزعته من أساسه؟!

ونرى مما سبق أن المحاكمات في جرائم النفس يجب أن يؤجل النطق بالحكم فيها إلى اليوم الثاني، إذا كان الحُكم صادراً بالإدانة، ولكن يسوع حوكم وأُعلن أنه مُستحق للموت. وكان كل هذا قبل أن ينجلي ظلام الليلة التي قُبضَ عليه فيها!!

إن السؤال الذي تُلقيه الشريعة اليهودية هو هل صدر الحكم بالإدانة في هذه القضية المتعلقة بالحياة، ولم يؤجل النطق به إلى اليوم الثاني؟ الجواب نعم – قُبض على المتهم الخميس ليلاً، وحوكم أثناء الليل، وحُكم عليه ليلاً. وسُلم في الصباح إلى الحاكم الروماني، الذي صدقَ على الحُكم الساعة 9 صباحاً وصُلِب في الساعة 12 من صباح يوم الجمعة، وفي الساعة 3 عصراً أسلم الروح (النفس البشرية) بعدما أعلن إكمال الفداء الموعود به في الكتب اليهودية ذاتها.

ولو نظرّنا إلى هذه المحاكمة – كحادث عظيم في التاريخ الإنساني – لكانت من الناحية القضائية عملاً فظيعاً مُغايراً العدالة وضد الرحمة والقانون. أُرتكِبَ فيه القتل عمداً وبعجلة وبلا شفقة.

ولماذا كل هذه العجلة؟ لا يستند السبب فقط إلى أن الجماهير الثائرة المضطربة، المدفوعة بالتعصب الديني، ترغب الفصل السريع في أمر المتهم؛ ولكن تَبيّن لي بعد التدقيق وتمحيص الأسباب، أنها ترجع لما يعلمه القائمون بالمحاكمة من تقلّب العواطف، لدى أهل أورشليم.

فخشوا من تغيّر الشعور لمصلحة المتهم إذ لم يمض زمن طويل بعد، على المقابلة الباهرة التي قوبل بها حينما هتفوا قائلين: “أوصنا في الأعالي”. وخافوا لئلا يعود الناس إلى سابق هتافهم، أو ربما دفعتهم الشفقة عليه إلى الارتداد ضد من بصق عليه ولطمه. بل لعلهم يذكرون أنه المُصلح الجريء والشافي الشهير لأمراضهم، ومعزيهم في أحزانهم، وفتبكتُهم ضمائرهم وينقلبون ضد المنادين بموته ظلماً وعدواناً.

لذا يجب حينئذ الإسراع بلا هوادة أو رفق بإدانته. ولا محل إذن لشهود. ولتُطرح الشريعة جانباً ولتكُن العجلة أساس المحاكمة، خاصة وأن السلطة التنفيذية (الرومانية) وا أسفاه قد أصبحت الآن عاجزة. ولا شك أنها كانت عقبة. وإنما هذه لا يُثني عزمهم. وليستفيدوا من السُلطة الممنوحة لهم. وليحكم عليه مجمع اليهود الظالمين ويُعلنوا أنه مستحق للموت، ويسلم فوراً إلى رجال روما، لاعتماد الحُكم الظالم.

ظل قيافا أثناء عواصف الاضطراب والفوضى مُسيطراً على الموقف، فهو الذي هيمن على الإتهام، حتى بلغ هذه المرحلة. فخاطب الرب يسوع علناً بهذا القَسم العظيم، الذي يتردد في أسماع اليهود، وينطق به كل لسان فيهم “استحلفك بالله الحي؛ هل أنت المسيح ابن الله؟ّ”

لنقف قليلاً أمام هذا السؤال، الصادر من يهودي إلى يهودي وفي بيئة يهودية. أي أنه صادر إلى شعب وبين شعبٍ اعتاد التأمل في هذا الأمر، وقامت عليه أقوال أنبيائهم وشعرائهم وعقيدتهم. فهم يؤمنون بمجيء المسيح وظهوره في وسطهم. فالشك في ذلك هو حكم على كل النبوات الإلهية السابقة بالكذب!!

ولم يكن السؤال “هل أنت الواضع أو المخترع لمذهب جديد؟ ولكن “هل أنت مسيحنا؟ هل تدّعي أنك هو بعينه الذي تنبأ به أنبياؤنا وموضع آمالنا كأمة؟”

حلت بهذا السؤال الأزمة الكبرى في حياة يسوع. فتعلَّق بإجابته ميزان القدر. ولا شك في أنه كان من المُحال عليه أن يُنكر. وكيف ينكر، وهو لو فعل، لحكم على طبيعته وعقيدته ورسالته إلى العالم بالكذب والتزييف؟… إنه المسيح.

وقد أصرَّ على دعواه – ادعاء بسيط في مبناه، ولكنه جليل في معناه، فقد وضع يسوع نفسه – بهذا الجواب – في مركز البنوّة لله، والحكم في اليوم الأخير؛ ولكن لم تنطق شفتاه بادعاء السيادة المادية والانتصار بالسيف، وإزالة سلطان روما أو غيرها من ممالك العالم. فكل حياته وتعاليمه كانت إنكاراً لذلك. والمملكة التي جاهر بها قائمة في قلوب الناس. وسيادته مقرها في النفس، وعلمّ بأن العُنف ضعف والعالم زائل، لا محالة.

وكانت دعوته للمساواة الروحية صفعة عنيفة للمحكمة، لأن كل آمالهم في المسيح المنتظر كانت أرضية. والخروج من نير المستعمر، فكيف أن عاملاً ومعلماً وضيعاً مثل هذا الإنسان – الحاضر أمامهم – يهدم كل آمالهم ويستخف بمُثلهم العُليا. ويزعُم أن مملكته ليست من هذا العالم؟! فرجل مثل هذا يحتقر آمالهم وأطماعهم، لا يمكن أن يكون هو المسيح (الملك) المنتظر، والقوي كشمشون وداود وسليمان؟!

إن قوة الشهادة تقوم – في الواقع – على الحالة العقلية للأشخاص الذين يُراد إقناعهم بصدقها، وأعضاء المحكمة لم يكونوا إلا فئة متحمسة، خاضعة للعقيدة التي أشرنا إليها. فالشهود لم يكونوا في نظر المحكمة سوى أشخاص، ضد المتهم بلا دليل. فلا يجوز إذن سماعهم، لآن المتهم قد “جدَّف” وجزاء التجديف في الشريعة اليهودية الموت. فليُسرعوا به إلى الوالي بيلاطس، لاعتماد الحكم رسمياً، واتخاذ اللازم للتنفيذ.

عَرِف كل من بيلاطس وقيافا الآخر. وكان لبيلاطس تاريخ غير محمود، ولكنه الممثل الفعلي والنائب عن طيباريوس. ثم أن فلسطين كانت تُشبه مستعمرة تابعة للتاج البريطاني. وكان بيلاطس نائب قيصر، ولكنه أتى أعمالاً شريرة…. وكان عدواً للنظم اليهودية.

يؤكد المؤرخ يوسيفوس أنه نقل الجيش من قيصرية إلى أورشليم، للقضاء على الشريعة اليهودية. ثم أباح رفع تماثيل قيصر على أعمدة، في بل يُحرم أهله صنع التماثيل أو حملها. فاستاء الشعب، ولكنه طوقّه بالجنود فآثر اليهود أن يذعنوا إلى ما يُحرِّمه دينهم. فامتثل الوالي الشرير لمشيئتهم. وأذعن في تلك المرة، لإرادة الغوغاء، من أهل أورشليم.

أما هو فلم يكن سهلاً في كل ما وقع بينه وبين اليهود. فقد جرد الهيكل من كنوزه الثمينة. لإنشاء نظام المياه. ولما ثارت الغوغاء دس جنوده في وسطهم بعد أن تزّيوا بملابس اليهود، واستخدموا خناجرهم. فخمدت الفتنة أن أمعنوا قتلاً وجرحاً. فهذا الحادث المُريع لا يمكن أن يبرح خواطر وقلوب اليهود. ولا يتصوَّر أحد منهم أنه يمكن نسيانه أبداً.

كان بيلاطس والياً قاسياً. ولا يتردد في إراقة الدماء. وتجلى هذا في محاكمة يسوع. والحوادث التي حصلت بعد ذلك، خصوصاً حوادث الاغتيال والقلاقل في منطقة السامرة.

فاستبدلته السُلطة الرومانية بعد عشر سنوات من ولايته بمارسيلوس. واستدعيَ إلى روما ليجيب عن اتهامات اليهود كما يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس.

كانت هناك حينئذ أمور كثيرة تجعل بيلاطس يخشى الوقوف أمام قيصر. وكان هذا في الوقت الذي حصل فيه النزاع بينه وبين السنهدريم، بشأن يسوع الجليلي المتهم.

ثم يجب أن نذكر أيضاً أن في هذه الأثناء جمع طيباريوس في شخصه كل وظيفة وسلطة في الدولة، سواء أكانت دينية أو حربية أو مدنية، فكان بما لديه من السُلطة غير المحدودة يستطيع أن يعز ويذل – بكلمة منه – وله أن يحكم بالموت في كل الجرائم سواء أكانت صغيرة أو كبيرة، وخصوصاً تلك الجريمة الكبرى التي تنطوي تحتها الخيانة كلها وهي جريمة المسيح المتهم “أنه غير صديق لقيصر”.

أما قيافا فكان رجلاً عظيم الدهاء واسع الحيلة، ولقد استطاع بمكره، الذي فيه كثيرين إلى إكراه بيلاطس على أن ينقض إرادته، القاضية ببراءة المتهم واستعان قيافا على بيلاطس لبلوغ مأربه، بشكوكه ومخاوفه حتى تمكن من الحصول على رضائه، وصدود الحكم بالموت على المتهم المظلوم.

اشترك قيافا وبيلاطس البنطي في صفة “السوء” فكان كل واحد منهما لا ضمير له، ولكن قيافا كان أكثر الرجلين مكراً. أما الينطي فأكثرهما جبناً، على الرغم من مظاهر الرهبة وتوفر السلطة الرومانية المسموع بها له في الإدارة.

سلّم قيافا (الحبر الأعظم والزعيم الديني) المتهم إلى بيلاطس (الممثل لحَبرٍ أعظم أخر، وهو الحبر الأعظم للوثنية) ورئيس السلطة المدنية، فوقع الصدام بين السلطتين. وهذا يحدث كثيراً بين الكنيسة الغربية والدولة، حينما تتقابل السلطتان الروحية والمدنية. إذا تثور العواطف في البيئة الدينية، فتستنجد بالسلطة السياسية، لتمنحها تأييدها ضد من يُخالفها، في إيقاع عقوبات اللعنة الدينية والحرمان، بأن تجازي السلطة السياسية من تغضب عليهم الكنيسة، بمصادرة الأموال أو بالحبس أو الموت.

فيطول أجل السلطة الدينية، ولكن لابد من التسليم لهذه المشيئة التي تصبح بمقتضاها مجرد آلة للنقمة الكنسيَّة، ووسيلة لنشر دعوتها، او لحلول غضبها على شعبها (كما حدث في العصور الوسطى).

يجب إذن البحث في الرابطة بين السلطتين اليهودية والرومانية فهذه مسألة قضائية تستحق الدرس والعناية:

السلطة الدينية تمثلت في السنهدريم، بزعامة قيافا كبير الكهنة، والسلطة الرومانية تمثلت في محكمة وسلطة بيلاطس، نائب طيباريوس قيصر روما.

لم يكن قيافا قائماً بتحقيقات ابتدائية كقاض للتحقيق، ولكنه باشر محاكمة حقيقية، مُتبعاً في ذلك أوضاع الشريعة اليهودية. ويجب أن نُلفِت النظر إلى أنه قبل خضوع فلسطين للسيادة الرومانية، كان التنفيذ يتبع الحُكم، ولكن تغيرت الحال الآن. فروما تتوسط بين الحكم والتنفيذ، على اعتبار أن المتهم من رعاياه، فلا يسوغ أن يموت مواطن لها قبل أن يتحقق نائب الامبرطور من أنه تمتع بضمانات الشريعة الرومانية.

وخُتمت المحاكمة اليهودية بصدور الحُكم. أما الاعتماد للحكم، ثم التنفيذ بالموت، فأصبح بين يدي السلطة الرومانية، ولا يستفاد من هذا أن بيلاطس أصبح بصيرورة الأمر إليه محكمة استئنافية. فيسوع لم يستأنف الحكم الصادر عليه.

ثم أنه لم يكن كذلك مجر مأمور بالتنفيذ يرأس محكمة للتنفيذ فقط. بل كان في استطاعة الوالي الروماني ومن واجبات سلطته أن يستعرض الإجراءات التي آلت إلى وضع المتهم في سلك الإتهام.

فسلطة بيلاطس كانت تشبه من وجوه عديدة السلطة الممنوحة لمجلس الملك البريطاني الخاص في الجنايات التي تُرتكب في المستعمرات التي كانت تابعة للتاج البريطاني (مثل الهند). فقد أعلن هذا المجلس مراراً عديدة أنه ليس محكمة استئناف، ولكن له الحق المطلق في أن يحُول دون إنتهاك العدالة الطبيعية، مثل رشوة القضاة، او حرمان المتهم من حق الدفاع عن نفسه، أو الحُكم عليه في أمر لا يُعد جريمة.

وهكذا كان يملك بيلاطس كل السلطة السابق ذكرها، بل أكثر منها بالتأكيد. فلا يسمع أقوال الطرفين فحسب، بل يفحص الدعوى، ويستجّوب المُتَّهم، ويرجح أنه كن يملك استدعاء الشهود أمامه، ليزداد طمأنينة إلى أن العدل استقر في مكانه. وبالجملة كانت له على الأقل الحقوق الآتية قبل التصديق على الحكم وهي الحرية الكاملة في إعادة النظر في الإجراءات، والامتناع عن تنفيذ الحكم، وإطلاق سراح المتهم، والتصريح بأنه لم يرتكِب أمراً يستوجب الحُكم عليه بالموت.

وكان لبيلاطس فوق السلطة التامة في إقامة العدالة الرومانية وصيانة الحرية الشخصية للأفراد، أن يبذل كل ما لديه من جهد وقوة في حفظ النظام، بصفته حاكماً رومانياً. فهو في الواقع قاضٍ ووزير للدولة على السواء.

فله تخفيف العقوبة أو العفو عن المحكوم عليه. كما كان عليه أن يصون النظام، ويمنع الاضطرابات والضوضاء. ويقوم بسائر ما تدعو إليه التعليمات الإدارية. ولكن من المؤكد أن الاعتبارات الإدارية لم يكن يجوز أن توضع موضع الاعتبار إلا بعد الفصل في الامر من الجهة القضائية على الوجه الآتي هي هذا الرجل مذنب أو بريء؟ فان كان مذنباً فيجوز العفو أو تخفيف العقوبة عنه. أما إذا كان بريئاً فلا يحل إذن لاستعمال السلطة الإدارية معه.

لأن البريء يجب إطلاق سراحه، وإلا كان الحكم عليه بالموت بمثابة قتله غدراً، ولا يُقال في هذه الحال، أن الحاكم ضعيف أو قوي، بل يتحتم القضاء عليه بالخبث والطغيان (كما حدث مع المسيح).

وقف بيلاطس الموقف الذي أشرنا إليه فيما سبق، حينما تقدمت إليه السلطة الدينية بأنه مستحق للموت. وكان الأمر الظاهر في المحاكمة والمخالف للمأمول، هو التسرُّع في صدور الحكم والعجلة في استصدار أمر قضائي بالتصديق عليه في عيد الفصح، وهو من الأيام التي لا يجوز مباشرة أي عمل فيها بمقتضى الشريعة اليهودية (عطلة رسمية).

لماذا إذن وقعت المحاكمة المتعلقة بحياة إنسان؟ وارتكبت فيها إجراءات مُغايرة للشريعة العبّرانية؟ ولماذا خولف فيها العُرف المتبع. فنُظِرَت الدعوى، وحُكم فيها في اليوم السابق للسبت، أو يوم عيد الفصح؟!

وكان يجب على بيلاطس أن يُدرِك أيضاً أن المُحاكمة حصلت ليلاً. هذا مغاير تماماً للأصول الشرعية اليهودية، أجل هذه المُحاكمة لم تكن عادية. فكان يجب على بيلاطس أن يسير على حذر في إجراءات المحاكمة الهامة.

ومن الأمور الممتعة أن تُحلل العوامل التي كانت تتنازع عقل بيلاطس. فقد أدرك كل الادراك المتاعب التي تنجُم عن خلافه مع الغوغاء من اليهود. ولا يخفَّى أن منصبه كقاضٍ وحاكم معاً استُهدِف لهذا الخلاف.

ولقد جرب عواقب الإذعان والمقاومة فيا سبق، فليفحص إذن هذه الدعوى بنفسه، ولا شك أن هير السُبل التي يمكن أن يهتدي إليها هي اتباع الأوضاع القانونية الدقيقة، لأنها وحدها الطرق الأمين ثم إذا سلمنا بالمعايب الخلقية التي كشفت أعماله الخيرة الغطاء عنها فهو يعلم جيداً – سواء أكان قاضياً أو حاكماً إدارياً – خطورة واجباته ومسئولياته لدى دولته. فليتدبّر الأمر حينئذ من الناحية القضائية والإدارية، ولا بُد في النهاية، من الأخذ بالعدالة، للخروج من هذا المأزق القانوني.

يجب إذن أن يكون قرار بيلاطس – في كفة العدالة – استناداً للظروف المائلة لديه… هناك جماهير من الغوغاء تصيح بالإتهام، مستخدمةُ في ذلك كل الأساليب الهمجية.

أما المتهم نفسه فلزم الصمت، وصَبر على الإهانة. وكان أعزل من كل وسائل الدفاع. وهجره أصدقاؤه فلا يجب لنا أن نجد من قدر العدالة الرومانية، والمبادئ الخُلقيَّة التي قامت عليها. ونتوهم أن القاضي الروماني لا تشعر نفسه بهذه الظروف. يتسرب الجزع إلى قلبه. فتتزعزع عزيمته ويعمد إلى النطق بحم مُنافٍ للعدالة. وربما ظن الجمهور أنه أفزعه بصراخه.

أما بيلاطس فأظهر لهم حالاً أنهم كانوا واهمين. فقال ما هو الشر الذي صنعه؟ فردوا عليه قائلين: “إنه لو لم يصنع شراً لما حكموا عليه”. هذا الجواب أخوف، لا يشتمل على شيء، وإذ ذاك أدركتّه الحيرة التي أدركت رئيس الكهنة من قبل.

ورأى العقبة ظاهرة في تحديد نوع الإتهام!!! وقد أورد القديس لوقا الإنجيلي النص الكامل، لِما حدث، وهو: “إننا وجدنا هذا يُفسِد الأمة، ويمنع أن تعطى جزية لقيصر قائلاً: إنه مسيح ملك.”

وهو إتهام سياسي، لإثارة الوالي ضد المسيح. ثم شرع بيلاطس يفحص الدعوى، ويسمع أقوال بعض الشهود. أما يسوع فلم ينطق بشيء، واتضح لبيلاطس، كما اتضح للمحكمة الأدنى منه، أن هذا الأقوال لا تؤدي إلى الإتهام الحقيقي. فأحدهما وهو “الإفساد” أمر ديني بحت. والثاني وهو “الجزية” يتنافى مع ما اشتهر به من تعاليم المتهم، ولم ينهض دليل واحد على صحته. أما التهمة الثالثة فمشكوكٌ فيها. وهي ادّعاء يسوع إنه “ملك”. اتفقت الأناجيل على أنه أجاب على سؤال بيلاطس “هل أنت ملك اليهود؟

بقوله: أنت تقول” وهذا جواب يعادل اعترافاً. ولكنه لا يخطو بالإتهام خطوة واحدة إلى الأمام، طبقاً للشريعة اليهودية، بل يتعين إقامة الدليل عليه، وأنه لا يجوز أن يقف الأمر عند هذا الحد، لأن هذه التُهمة تتضمن أمراً أخطر بكثير من خلاف بين اليهود على أمرٍ ديني كنسي أو تقليدي، إذ يجوز أن تدخل التهمة في نطاق السياسة.

ولهذا رأى بيلاطس – وكان محقاً في رأيه – أن يوالي استجواب المتهم. ودار بعد ذلك، حديث بينهما ليس له ما يُماثله في تاريخ العالم، وحصل ذلك في داخل السراي التي يمتنع اليهود عن دخولها في يومن عيد الفصح.

وكان الحديث يشتمل على كثير من الحرية والصراحة. وننقل نص الحديث عن الإنجيل الرابع: “ثم دخل بيلاطس دار الولاية ودعا يسوع وقال له: أنت ملك اليهود؟ أجابه يسوع أمن ذاتك تقول هذا؟ أم آخرون قالوا لك عني؟ أجابه بيلاطس: ألعلي أنا يهودي؟! أمتّك ورؤساء الكهنة أسلموك إليَّ. ماذا فعلت؟

أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خُدّامي يجاهدون لكي لا أُسلَّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا. فقال له بيلاطس: أفأنت إذن ملك؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلِدتُ أنا. ولهذا قد أتيّتُ إلى العالم، لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي. قال له بيلاطس: ما هو الحق؟!”

ونستخلص أمراً جليلاً، من هذا الحديث، فقد حصل اتصال – اتصال حقيقي – بين عقل يسوع وعقل وثني مادي، ولم يكن هذا العقل الثاني غير مُثقف أو ضيقاً أو غير مُدرَّب على البحث الفلسفي. فقد ظهر من الحديث – بأجلى بيان – أن بيلاطس طرح سُلطانه جانباً، وأخذ يبحث الأمر من ناحيتي العقل والحق. فأجابه المتهم، عن الناحية الأولى، جواباً تمثلت فيه القوة، حينما كشف له – بتؤدة ولُطف –عن رؤيا عالم جديد.

ملك؟ أجل ملك ولكنهما لم يتلاقيا ليتراشقا بالألفاظ. فالأمر يتعلّق بطبيعة هذه المملكة، ولذلك حينما امتد بينهما الحديث وظهر بوضوح أن لا منافسة بين مملكته وبين روما. ومن ثم فلا خيانة منه لسيدة العالم المادي… وملك بلا شك فقد ولِدَ لهذا الغرض، ولكن “مملكتي ليست من هذا العالم”، ولو كانت مملكته من هذا العالم لكان قد قام قتال وحرب، واستخدام للقوة، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث لأني أشهد للحق، وكل من هو منْ الحق يسمع صوتي”.

أقوال غريبة على سمع وفكر روماني مادي وثني. وأجُرؤ على القول أن علامات الحيرة والتردُّد لدى بيلاطس كانت الأشعة الأولى الحقيقية للتسامح في كل تاريخ الفكر الإنساني والحرية، فقد كان قلقه شريفاً، ومرّجعه الفلسفة والتفكير. إني لأجل هذا القلق العقلي، أُظهر الإجلال كله، وأضعه في مرتبته اللائقة به، من الإحترام.

كانت الأساطير الدينية الوثنية – في ذلك العهد – أقوالاً لا روح فيها. ولا حياة لدى كل رجل من حاشية طيباريوس، بالرغم من أن آثارها الرمزية كانت لا تزال باقية، ولكن ذهبت أيام العبادة المُنظمة للحياة والتفكير السليم.

زالت الحياة من عيادة “تعدُّد الآلهة”. فقد ألهُّوا كل قوة من قوى الطبيعة، حتى الغرائز الطبيعية الإنسانية – وتحوَّل الأمر إلى صبغ العقيدة بصبغة الوطنية، فصار الامبراطور إلهاً. هذا كل ما تبقى من سُلطان العبادة. فلم تعد كما كانت مُحركاً أو رقيبً للنفس، أو مصدر وحي لها. إنماا اقتصر سُلطانها على الرقابة المادية للأعمال الإنسانية…. ماذا يقصد هذا العبراني؛ يظهر من أقواله بجلاء، أنه توجد نفس للإنسان، أي يوجد كائن يُعمّر مملكة أخرى. وهذا الكائن تابع للحق، يُحرّكه ويراقبه ويُوحي إليه بما يراه.

“ما هو الحق؟” ألا يوجد شيء صحيح في أقوال هذا العبراني؟ إذا كان ما يقوله صحيحاً. فالعقائد القديمة تبدَّدت وخلفتّها عقيدة جديدة تكاد تُحقق رغبات القلب الإنساني، أو إصلاحه من الخضوع لمملكة في عالم التصوّر الكمالي، حاكمها وزعيمها، ومركزها هو الحق.

وسواء أكانت هذه الخواطر قد مرت بذهن بيلاطس أم لم تمُّر بخاطره، فإن أمراً واحداً كان بلا شك واضحاً لديه وهو: أن هذه العقيدة المتعلقة بالنفس والحق لم تكن جريمة ضد القانون، أو الإدارة الرومانية، ولكن هذا الشخص الهادئ. المُسّالِم الوديع آمن بهذه العقيدة الكمالية، وجعل حياته وتعاليمه كلها وقفاً عليها. ومن ثم لم يكن يعبأ بأي خطر يُهّدد حياته، في سبيل المحافظة عليها. فهو لم يقترف جُرماً ما. وليس خائناً لروما فلا يُقتل هذا الرجل بل يجب أن يُطلق سراحه.

إنتهت المقابلة بين يسوع وبيلاطس. وأورد القديس يوحنا الإنجيلي الخاتمة هكذا: “ولما قال هذا خرج أيضاً إلى اليهود، وقال لهم: لست أجد فيه علة واحدة”!!

تمّت المحاكمة وصدر الحكم. وقام القضاء الروماني بنصيبه فيها. فأعلن براءة يسوع المسيح. فماذا كانت النتيجة؟!

فقدت الغوغاء عقلها بإيعاز من رؤساء الكهنة وسرت فيها روح الكراهية. فارتفعت منها صحيات التمرّد – التمرّد على القانون – وعلى الوالي نفسه، فرفعت صوتها مطالبةً بدم يسوع.

ومنذ تلك اللحظة، دخل شيطان الأنانية (الحرص على المصلحة المادية الشخصية) في قلب بيلاطس، فانحدر من النور إلى الظلام. ومع أنه كان ينادي – منذ قليل – وفي كل أدوار مقاومته. وعدم إذعانه لهذا الجمهور الأحمق، أنه لم يجد أية علة في هذا المتهم البريء!!

كان استسلام بيلاطس باعثاً على الأسف والرثاء. فتورَّط في حمّأة الرذيلة، وتمرغ في قاذورات من الإجراءات العملية، ولاح عليه – منذ البدء في الاضطرابات – أنه كان يخشى الغوّغاء، ولكن تبيّن له أيضاً خطر المسئولية، مسئولية إقامة العدل وإطلاق سراح المتهم وعدم الإذعان لهذا الشعب الثائر.

فقرر الخروج من هذه الضائقة، بأن أحال الدعوى على هيرودس لسبب مُضّحك، وهو أن المتهم جليلي. فلعل هيرودس يقول باختصاصه، استناداً إلى محل إقامته أو لأصله الجليلي، ولكن هيرودس عد عمل بيلاطس من أساليب اللياقة المجاملة، وأعاد إليه الدعوى، فلم ير بيلاطس مندوحة من القيام فعلاً بالمحاكمة. فقام بها. وأصدر حُكمه الظالم بصلب المخلص.

ولكن ماذا كان يجب أن يعمله، ليُسكن من حدة ثورة هذا الشعب المضطرب؟ ليتظاهر بكراهية المتهم، ويسلك سبيلاً يخدع به هذا الجمهور المتحمس للبطش بالمسيح، ويأمر جنوده بجلده. ويتخذ من تُهمة الملكية ذريعة للسخرية منه. ويأمر بإلباسه ثوباً بنفسجياً شعالا الملكية. ويُكلّله ولكن بإكليل من الشوك، ثم يُصرح – مرة أخرى – أن يسوع بريء. وبذلك يُطفئ غضبها بوابل من كلمات السخرية والازدراء، فلعل هذه المهزلة تضع حداً للمأساة.

ولكن الغوغاء تمِقُت المتهم مقتاً شديداً، فلا تكفي هذه المهزلة لخديعتها. ولقد أدركت: أنها لم تُخضِع يسوع لسلطانها فقط، ولكن بيلاطس كذلك، فصرخت: “الصلب الصلب”.

ما هذا؟ الصلب! هذا النوع التنفيذ مُخالف للقانون. سقط بيلاطس سقوطه الأخير فيفر إذن من مسئولية التنفيذ بقبل بريء، وليُلقها على كاهل هذه الغوغاء، ولتْحمل وحدها وزر هذا العمل المنافي للقانون والأخلاق.

هذا عمل الجبان اليائس، وفشل للقانون. ولم تفلح السلطة الإدارية وفرضت الغوغاء الرأي الخاطئ.

فأسرع بيلاطس إلى إعادة استجواب المتهم سراً، ولكن هذه الوسيلة أظهرت أنه بريء ولا جريمة أو خطأ لديه. ولما ظهر يسوع وبيلاطس أمام الجمهور، كرر بيلاطس تصريحه السابق ببراءة المتهم، فاستفز قوله غضب الجمهور، وأطلق العنان لكُرهِه. وصرخ طالباً دم المتهم، وأنه يجب أن يموت، على الصليب بالذات.

ولجأ هذا الحاكم الضعيف – الذي سلم زمامه للجمهور – طريقاً آخر. فقد اعتاد اليهود منذ سنوات عديدة – وأيدتهم روما في ذلك – أن يُطلِقوا أحد المحكوم عليهم بالموت، في العيد. فللا ماذا لا يلوز بهذه الوسيلة للفرار من الموقف؟! وبذلك يكون قد وفّق بين ضميره وصيانة الأمن وتنفيذ القانون، واحترام تقاليد اليهود؟!

لم تنفعه هذه الحيلة أيضاً. فقد جاءت بعد فوات الأوان. وصاح الجمهور لا يُطلق يسوع ولكن ليُطلق لص وقاتل يُدعى باراباس. وسدد قيافا سهمه نحو قلب بيلاطس، في هذه اللحظة التي اضطرب فيها ميزان القدر. فنفث في قلوب الغوغاء أن تنادي مهددة وقائلة: “أنت لست محباً لقيصر”. فخر بيلاطس صريع الخوف على منصبه الإداري الرفيع والخوف من محاكمته أمام قيصر روما.

لا تدع الخطأ يتسر إليك من هذه الناحية. فإن أعلم جيداً الجدل الذي احتدم حولها، ومحاولة بعضهم الدفاع عن بيلاطس، بالاحتماء وراء الضرورات الإدارية، التي تُبيح المحظورات. فقد أمعنّت النظر في هذا الدفاع، ولكن لم يسفر لدَّي عن فائدةٍ ما لبيلاطس. فنحن لا نفحص الأمر من جانب ما، كان يجب عليه اتباعه، أو ما كان يدخل في دائرة سلطته كحاكم.

وإنما يقصر البحث على ما وقع منه فعلاً. ثم أن المركز الإداري والأوضاع القانونية، بل كل الواجبات الحكومية، كانت جميعها ماثلة لديه. ومع ذلك فقد حكم وأعلن براءة يسوع.

فهو إذن لم يحفَل بحماسة فئة ثائرة من رجال الدين اليهودي، ولم ينتهك قدس العدالة الرومانية بسبب صياحها، ولكن حينا وجّهت إليه تُهمة العداء لقيصر، خذَلته قواه، وذهبت شجاعته. وتبدل موقفه وملأه الرُعب والخوف على المنصب وعلى العقاب المتوقع!!

هل يُقدم حساباً لقيصر؟ يعلم بيلاطس ما يجرُّ وراءه الوقوف أمام قيصر من جلائل الأمور. فهناك مسائل عديدة تفوق في الخطر أعمال يوم واحد أو الحكم بالموت على شخص واحد، إذ سيعرض حينئذٍ سجل حياته كلها. وتُوضع سُمعته وإدارته في الميزان، بل تستهدف حياته الخطر (الفصل والعقاب).

ذهب الشعب في كراهيته إلى أقص حدٍ مُستطاع، وشعر بأنه أسّمى قوة في فلسطين، وتجلت لبيلاطس تلك المنزلة الرفيعة التي وصل إليها الشعب، بل أدرك ميوله للمقاومة وعواطفه الدينية المتقدة. ظهر كل هذا لبيلاطس. ثم اقترنت هذه القوى أخيراً بالذكاء السياسي الذي لعب به قيافا. فاجتمعت الوجهتان الدينية والسياسية في الهدف، ومن ثم خشي أن يصبح شخصه وأعماله الإدارية المريبة قيد البحث الدقيق، والدفاع عنها لدى سلطات روما.

كانت مهارة قيافا ظاهرة ظهوراً جلياً. فقد بدأ الاتهام أمامه بالتجديف، ولكن حينما دخل الأمر فيم منطقة السياسة، تحول بسهولة من إتهام التجديف إلى خيانة الدولة، وعواقبها معروفة الموالي.

تكررت هذه المهارة مراراً عديدة في التاريخ. وأسفاه. وكان هذه في تاريخ المسيحية أكثر منها في اليهودية. فكم من ألوف المرات لجأت السلطة الكنسية الرومانية لبلوغ أهدافها إلى عقد حلف مع عاهل أرضي، وكانت تستخدم هذا التحالف لأغراض شريرة (مثل تحالف البابا لاون مع الامبراطور البيزنطي مركيون وإمرأته بولكاريا ضد القديس ديوسقورس الاسكندري في مجمع خلقدونية سنة 451 م).

درست المسيحية الغربية هذه الدرس بدقة بعدما تلقته من قيافا، لا عن يسوع المسيح. واقترن طلب التنفيذ على يسوع بتهديد بيلاطس بأنه إذا أصرَّ على تبرئته للمسيح. فسيكون مُحرّضاً على خيانة الدولة!!

واشتد هياج الشعب. وأخفقت المطالبة بالتسامح، أو باستبدال المسيح البريء بمجرم شرير، ومحبوس فعلاً.

ماذا كان الحق لدى هذا الجمهور اليهودي الثائر المتحمس؟ كانت قيود الحق وأوضاعه لديه قائمة على التقاليد ليس غير.

فكانوا بذلك يخشون ينفرون من كل نوع آخر من أساليب الحق. ويحاولون القضاء عليه بالمحو. أما القوة المادية – بوجه خاص – فهي العلاج الوحيد للتغلّب على هذا التعليم المنير الجديد، وإطفائه، ليعيشوا في ظلام!!

كان التقليد، القياس الوحيد للحق، في عصر قيافا. أما فيما يلي ذلك العصر، فكلمة الوحي. وقد حكم على برونو وجاليليو لأن الرأي المنسوب إلى كوبرنيكس من أن الأرض هي التي تدور حول الشمس. أما الشمس فثابتة. يُخالف الكتاب المقدس ومن ثم لا يمكن إتباع هذا الرأي، أو الدفاع عنه.

ومع أن مقياس الاضطهاد تغيّر، فإن طريقته – وهي الاستنجاد بالسلطة السياسية – ظلت قائمة. وهي نفس طريقة قيافا الماكرة.

وكانت تعتبر الهراطقة مصدر خطر للدولة. الانقياد لوحي الضمير – خضوعاً لزعيم خائن – وحُرية الفِكر تمرداً. الأمانة للحق فتنةً!!

ويتساءل القارئ: ألا تشب حتى اليوم النار – مرة أخرى – من رماد الاضطهاد القديم، حينما تعصف عاصفة من غضب الشعب؟ وإلا فما هو الغرض من الكلمات الواسعة المدى: “لتسقط الحكومة. فلنترك التأمل في هذا الموضوع إلى فُرصة أخرى. وإنما يجب أن تكون الثقافة على قِدم الاستعداد للدفاع عن الحرية.

وهكذا تغلبت طريقة قيافا مئات من السنين إذ كان رواد الحق – والإيمان الجديد – يُساقون إلى الهلاك، ولكن حينما قبض هؤلاء الرجال على السلطة انتقل هذا السلاح بذاته من أيدي خصومهم إلى أيديهم، واستخدموه بعنف شديد ضد منْ لم يتبع منطقهم. فقد نهضت – في كل عصر – طائفة من الرجال والأباطرة والحكام الشجعان تجاهر بتنصلها من تبعة الاضطهاد، ولكن بيلاطس لم يكن أحد هؤلاء الأبطال.

ثلاثة رجال وثلاثة سياسات، طريقة قيافا والقوائم السود، طريقة بيلاطس والتسامح. ثم أن يسوع شاهد بعينيه أثر الاضطهاد في جسمه، فقد طورد بقسوة. ورأى خذلان التسامح حينما تولت الدفاع عنه أيد ضعيفة ضد قوية ماكرة.

ماذا كانت سياسة هذا الجليلي المتهم؟ كانت في ظاهرها أقل باعث على التفاؤل من التسامح، ولكم في حقيقتها شيئاً سيؤول في خاتمه إلى تغيير وجه الأرض.

كانت المغفرة لكل البشر. يفيض التسامح من العقل، وهو يُبهر الأبصار. أما المغفرة فتنبع من القلب وانها لتتوقد وفي اشتعالها نرى مبادئ الوحدة الإنسانية والرحمة والتضحية والمحبة العملية.

بلغ يسوع الذروة من السمو – حينما صاح – وهو يجود بنفسه – أن أعداءه أخطأوا في موضع الحق، وتجلّى حبه وحنانه حينما طلب المغفرة لهم من أبيه السماوي، وهو معلق على عود الصليب.

لم يتعلم اليهود – أو الأمم – أموراً كثيرة من هذه الدروس العالية. فتُركت المغفرة للسماء. وفر التسامح من الأرض، أما الجنس اليهودي وهو الذي وُلد منه يسوع فقد حلت به لعنة الله للشعوب التي حملت اسم يسوع، ولم تتبع تعاليمه العظيمة القيمة (هتلر واليهود).

والبُغض سُم النفس ينتج كراهية وحقد. ولقد بسط سلطانه على العالم قروناً عديدة عانت فيها الإنسانية الآلام المُبرّحة وأخذت هذه العاصفة تزول بالتدريج من العالم. ولندع التسامح يؤدي عمله كاملاً في القلوب، ولكن التسامح لا يكفي وحده، بل يجب أن تكون جهود الإنسانية متجهة الآن إلى توطيد السلام في العالم. وهذا السلام القلبي لا يمكن نيله إلا بطريق المغفرة، وستتحقق هذه الأمنية، حينما نحب النور أكثر من الظلمة (عمل الخير والابتعاد عن الشر).

وظهرت هذه الفوارق في السياسة أثناء الفوضى التي صحبت محاكمة يسوع، ثم أصبحت من أخبار التاريخ. والأن فلنعد إلى المشهد الأخير من المحاكمة.

كان الدور الأخير الذي مثّله بيلاطس – في تلك المأساة – يدعو إلى الرثاء حقاً. فقد حاول أن يُزيح المسئولية عن نفسه القلقة، بأن قام باحتجاج مسرحي. فأخذ ماءً وغسل يديه – أمام الشعب – وقال: “إني بريء من دم هذا البار. أبصروا أنتم”.

وهكذا دفعه الخوف إلى هذا الحد – حد التنازل عن السلطة وانتهاك حرمة العدالة عمداً – ثم ختم التمثيلية أخيراً بحادث مؤثر، ينُم عن قسوة الإنسان على الإنسان فقال “ليجلد قبل أن يُصلب؟” وبذلك أسلم يسوع للضربات والجلدات والاهانات وأكملت اللعنة العميقة بأن أزهقت نفسه البريئة!!

هذا ما كان من قيافا وبيلاطس. وإنما يوجد في كل محاكمة فصل لا يُدوّن وهو الخاص بالحالة النفسية للمُتهم، وإن أكثر هذا الفصل محجوب عن الأبصار. ولا تصل إلى أعماقه غير عين العناية الإلهية، ولكن وراء هذا الحجاب توجد الحقيقة والمأساة.

ولو كان في الإمكان كشف الستار عن هذه المنطقة المحجوبة، لأعيد تدوين فصول عظيمة من تاريخ الإنسانية.

وإن الآداب والفكر والخيال الإنساني والفنون والنقوش والنحت والموسيقى، كلها خرت راكعة لعدة قرون – أمام عظمة يسوع. فاستمدت من الظلم والقسوة الإنسانية جلالاً. رصعت به آلامه الإلهية. ولكن الحكم على المتهم في بحث قضائي قديم لا يستند إلا على أقواله وسلوكه ونتائجه.

أمر واحد لم يكن محل شك لدى يسوع. فقد عرف خاتمته ووقف وجهه نحو أورشليم. ثم أعلن لأتباعه قبل أن يفروا من حوله أن الموت سينزل به وشيكاً.

وقد كان في كل فترة المحاكمة هادئاً ولم يلجأ إلى الاحتجاج، إلا مرة واحدة، عندما سأل لماذا يُلطَم عند عدم الإجابة على الإتهام؟ وفيما عدا ذلك ظل صامتاً كحملٍ أثناء الاعتداء على الأصول القانونية واستخدام الأساليب الوحشية. بل استسلم لكل شيء صعب ومهين جداً، كالجلد والسخرية ووضع إكليل الشوك على رأسه ودق المسامير في جسمه لتثبيته على الصليب.

أذعن لكل ما حل به، بدون تململ أو شكوى، بل عن ثقة وقبول، فالحكم صدر تبعاً لمشيئة الآب الذي وضع يسوع الإبن كل ثقته فيه حتى يخلص الناس، حتى أن بيلاطس الذي أعلن له يسوع عقيدته في الفداء والمملكة الروحية السماوية والحكم في اليوم الأخير- استطاع أن ينسبها إلى التعصُب اليهودي الأعمى، ولقد أصر يسوع على عقيدته والموت جاثم على صدره فوق الصليب. وهو مثال لكل إنسان أمين إلى النهاية.

ولا شك أن هذه الخاتمة التي تجلت فيها يد العناية الإلهية، كشفت أن هذا الفادي آمن بأن مملكته مملكة حقيقية، وأن كل الناس يجب أن يعيشوا إلى الأبد تحت لوائها، فهو لم يعش ولم يمت عبثاً وبلا غاية. فما أجل وأقوى هذه العزيمة العجيبة وذلك الإيمان العملي وثماره الصبر والشكر.

وقد قصّرت دراستي على العنصر الإنساني، ومن تلك الحياة الباهرة. ومع ذلك فقد كان يبدو أمامي – في كل مرحلة منها – الإيمان السامي بالحياة الأبدية، والايقان بوجود الله، والعقيدة الثابتة بتلك المملكة الروحية السعيدة إلى الأبد. كل هذه الميزات الجليلة سمت (لا توجد كلمة أخرى تفي بالمعنى المُراد) إلى محبة الفادي وكانت كما قيل فيها “أشعلت النار في قلوب الناس، فجعلتها تحتقر الأرضيات البائدة. وتحنّ إلى السمائيات الخالدة. فلنأخذ الدرس من المُخلص ونشكره على قبوله لكل نفس.

له الشكر والحمد إلى الأبد أمين

تم بحمد الله

محاكمة الرب يسوع المسيح من الناحية القانونية

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !