أبحاث

اللاهوت كعلم علاجي – كيف يعطي اللاهوت شفاء للنفس؟

اللاهوت كعلم علاجي – كيف يعطي اللاهوت شفاء للنفس؟

اللاهوت كعلم علاجي - كيف يعطي اللاهوت شفاء للنفس؟
اللاهوت كعلم علاجي – كيف يعطي اللاهوت شفاء للنفس؟

يتضح مما قيل أن المسيحية هي أساساً علم يعطي شفاءً أي أنها طريقة علاج نفسي. وينطبق نفس الشيء على علم اللاهوت فهو ليس فلسفة ولكنه علاج شافي بدرجة أساسية. يظهر علم اللاهوت الأرثوذكسي بوضوح أنه من جهة هو ثمرة العلاج ومن جهة أخرى يشير إلى طريق العلاج. وبمعنى آخر فإن اللاهوتيين هم فقط أولئك الذين شُفوا والذين حصلوا على شركة مع الله وهم وحدهم الذين يستطيعون أن يظهروا للمسيحيين الطريق الحقيقي للوصول ” لموضع الشفاء”. اللاهوت هو إذاً ثمرة وطريقة للعلاج في نفس الوقت.

وهنا نحتاج للتوسع فيما قيل لكي نرى هذه الحقائق بطريقة أوضح. لذلك سوف نقتبس من تعاليم الآباء القديسين الخاصة باللاهوت واللاهوتيين.

أعتقد أنه يجب علينا أن نبدأ بالقديس غريغوريوس النزينزي إذ أن الكنيسة لم تمنحه لقب اللاهوتي بالصدفة. إنه يكتب في بداية نصوصه اللاهوتية الشهيرة أنه لم يُعط َ لكل واحد أن يتكلم باللاهوت وأن يتحدث عن الله لأن هذا الموضوع ليس رخيصاً ومتدنياً لهذه الدرجة. لم يوضع هذا العمل لكل الناس ولكن “لأولئك الذين إمتـُحنوا وحسبوا أساتذة في رؤية الله والذين تنقوا في النفس والجسد من قبل أو على الأقل الذين يخضعون للتنقية”.

لا يتكلم عن الله إلا أولئك الذين عبروا من العمل للتيئوريا (رؤية الله) ومن التطهير للإستنارة. ومتى يحدث ذلك؟ ” يحدث ذلك عندما نصبح أحراراً من الدنس والإضطراب الخارجي وعندما لا تختلط القواعد الموجودة داخلنا بالغضب والصورة الخاطئة”. من أجل ذلك ينصح القديس قائلآً:” إنه من الضروري أن يكون المرء مطمئناً لكي يعرف الله” [1].

يربط نيلوس الناسك اللاهوت بالصلاة وخصوصاً الصلاة العقلية. إننا نعرف جيداً من تعليم الآباء القديسين أن من إكتسب نعمة صلاة القلب يكون قد دخل أول مرحلة في رؤية الله إذ أن هناك نوع من الصلاة هو صورة من التيئوريا. وبالتالي فإن كل الذين يصلون بالعقل يكونون في شركة مع الله وهذه الشركة هي معرفة الإنسان الروحية لله. وهكذا يقول القديس نيلوس: ” لو كنت لاهوتياً فإنك سوف تصلي بحق. ولو أنك تصلي بحق فإنك تكون لاهوتياً” [2].

يقدم القديس يوحنا الدرجي اللاهوت الحقيقي في عدة مواضع في كتابه الروحي المبهج “السلم”. ” إن الطهارة الكاملة هي أساس اللاهوت”. ” عندما تتحد حواس الإنسان بالله بصورة كاملة فإن ما قاله الله يصبح بشكل ما واضحاً بطريقة سرية. ولكن حيثما لا يوجد إتحاد من هذا النوع مع الله فإنه يكون أمراً بالغ الصعوبة أن يتحدث الإنسان عن الله”[3] . وعلى العكس من ذلك فإن الذي لا يعرف الله حقاً فإنه يتكلم عنه فقط في صورة “إحتمالات”[4].

وفي الواقع وبحسب تعليم الآباء فإنه أمر سيء جداً أن نتحدث عن الله في تخمينات لأن ذلك يقود المرء للضلال. يعرف هذا القديس كيف ينمو في داخلنا ” لاهوت الشياطين “. تعطينا الشياطين الدنسة ” دروساً في تفسير الكتاب” [5] في القلوب المحبة للمجد الباطل التي لم تتطهر من قبل بعمل الروح القدس. ولذلك لا يجب على المأسور في الهوى أن ” يلعب باللاهوت”[6].

ولقد تلقى القديسون ” الأشياء الإلهية بدون تفكير”. وبحسب الآباء فإنهم تكلموا باللاهوت لا بطريقة أرسطو من خلال التفكير ولكن ” بطريقة الرسل ” أي من خلال عمل الروح القدس. إن لم يتطهر الشخص من الأهواء مسبقاً وخصوصاً من الخيالات فإنه يكون غير قادر على التحدث مع الله أو الكلام عن الله طالما أن العقل الذي ” يكون إنطباعات يعجز عن اللاهوت”. لقد عاش القديسون لاهوتاً ” مكتوباً بالروح القدس”.

إننا نجد نفس الكلام في كتابات القديس مكسيموس المعترف. فعندما يحيا المرء في فلسفة عملية التي هي التوبة والتطهر من الأهواء ” فإنه يتقدم في الفهم الأخلاقي”. وعندما يختبر رؤية الله ” فإنه يتقدم في المعرفة الروحية”. إنه يستطيع في الحالة الأولى أن يميز بين الفضائل والرذائل وفي الحالة الثانية تقود التيئوريا (رؤية الله) “المشارك إلى الخصائص الداخلية للأشياء الغير متجسمة والمتجسمة”. ويمضي القديس مكسيموس إلى القول أن الإنسان ” يُمنح نعمة اللاهوت عندما يُحمل على أجنحة الحب” في التيئوريا ” وبمعونة الروح القدس يدرك صفات الله بالقدر الذي يستطيعه العقل البشري”[7].

ينكشف اللاهوت أي معرفة الله للشخص الذي وصل لرؤية الله. وفي الواقع يقول نفس الأب في موضع آخر أن الشخص الذي ” يركز بإستمرار على الحياة الداخلية ” لا يصبح فقط منضبطاً وطويل الأناة ولطيفاً ومتواضعاً ولكنه ” سوف يصبح قادراً على التأمل والتكلم باللاهوت والصلاة” [8]. وهنا أيضاً يرتبط اللاهوت بدرجة وثيقة بالتيئوريا والصلاة.

يجب علينا أن نؤكد على أن اللاهوت الذي لا ينتج من التطهير أي من “العمل” هو لاهوت شيطاني. وبحسب القديس مكسيموس فإن ” المعرفة بدون عمل هي لاهوت الشياطين” [9].

كتب القديس ثالاسيوس صاحب نفس المنظور قائلاً أنه عندما يبدأ عقل الإنسان بإيمان بسيط ” فإنه سوف يصل حتماً للاهوت يتجاوز العقل ويتميز بإيمان عالٍ مطرد وإلى رؤية الغير مرئي”[10]. يتجاوز اللاهوت المنطق فهو إعلان الله للإنسان ويعرفه الآباء على أنه التيئوريا. وهنا أيضاً يكون اللاهوت بدرجة رئيسية هو رؤية الله. لقد كتب نفس القديس في موضع آخر أن الحب الحقيقي يولد المعرفة الروحية   ” ويتبع ذلك شهوة كل الشهوات أي نعمة اللاهوت”[11].

ويقدم اللاهوت في تعليم القديس ديادوخوس الذي من فوتيكي على أنه العطية العظمى الممنوحة من الروح القدس للإنسان. إن كل عطايا النعمة التي يهبها الله هي ” غير خارقة” و” لكن العطية التي تلهب قلبنا وتحركه لكي يحب صلاحه أكثر من أي أحد آخر هي عطية اللاهوت”. إذ أن ” اللاهوت هو أول مولود للنعمة الإلهية يمنح النفس أعظم العطايا”[12].

وبحسب بولس الرسول فإن الروح القدس يعطي معرفة روحية للواحد وحكمة للآخر(1كو8:12). ويفسر القديس ديادوخوس ذلك قائلاً أن المعرفة الروحية توحد الإنسان بالله ولكنها لا تحركه لكي يعبر خارجياً عن الذي يعرفه. يوجد رهبان يحبون السكون ويستنيرون بنعمة الله ” ومع ذلك لا يتكلمون عن الله. إن الحكمة هي أحد المواهب العظمى والتي يعطيها الله للشخص الذي يمتلك كلاً من تعبير وذهن متسع. وهكذا تأتي معرفة الله “من خلال الصلاة والسكون العميق والإنعزال الكامل على حين تأتي الحكمة من خلال التأمل المتواضع في الكتاب المقدس وقبل كل شيء من خلال النعمة المعطاة من الله”[13].

إن عطية اللاهوت هي عمل الروح القدس ولكن في تعاون مع الإنسان حيث أن الروح القدس لا يحقق في الإنسان معرفة روحية للأسرار ” بعيداً عن تلك القدرة الموجودة داخله والتي تبحث عن هذه المعرفة بطريقة طبيعية”[14].

وبحسب تعليم القديس غريغوريوس بالاماس فإن المدعوين لاهوتيين بحق هم أولئك الذين يرون الله واللاهوت هو ليس إلا رؤية الله (التيئوريا).” لأنه توجد معرفة عن الله وعن تعاليمه وهي رؤية الله التي نسميها لاهوتاً”[15]. وهكذا فإن أياً من لا يمتلك معرفة وخبرة عن أمور الإيمان ويقدم عنها تعليماً ” بحسب حكمته الشخصية محاولاً من خلال الكلمات أن يظهر الصلاح الذي يفوق كل الكلمات فإنه يكون قد فقد كل الصواب”.

ومن خلال حماقته ” يكون قد صار عدواً لله”[16]. وبالإضافة إلى ذلك فإنه توجد حالات بدون أن يعمل أصحابها أي بدون أن يخضعوا للتطهير إلتقوا وسمعوا لرجال قديسين ولكنهم بعد ذلك ” حاولوا أن يكونوا مفاهيمهم الخاصة” وهكذا تنحوا عن الرجل القديس وإنتفخوا بالكبرياء”[17].

توضح كل هذه الأشياء أن اللاهوت هو ثمرة شفاء الإنسان وليس نظاماً منطقياً. لا يستطيع سوى الشخص الذي تطهر أو على الأقل الذي هو في مرحلة التطهير أن يقتحم الأسرار الفائقة الوصف والحقائق العظمى وأن يتلقى إعلانات وبعد ذلك ينقلها للناس. وهكذا فإنه بحسب التقليد الآبائي الأرثوذكسي فإن اللاهوت يرتبط ويتوحد بالأب الروحي والأب الروحي هو اللاهوتي بدون منازع بمعنى أن الذي يختبر أمور الله يستطيع عندئذ أن يقود أولاده الروحيين بطريقة سديدة.

يكتب الأب يوحنا رومانيدس قائلاً:” إن اللاهوتي الأرثوذكسي الحقيقي هو الذي يمتلك معرفة مباشرة عن بعض قدرات الله بواسطة الإستنارة أو يعرفها أكثر من خلال الرؤية. أو أنه يعرفها بطريقة غير مباشرة من خلال الأنبياء والرسل والقديسين أو من خلال الكتاب المقدس وكتابات الآباء وقرارات وأعمال مجامعهم المسكونية والإقليمية. اللاهوتي هو الذي من خلال هذه المعرفة الروحية المباشرة والرؤية يعرف بوضوح أن يميز بين أعمال الله وأعمال الخليقة وخصوصاً أعمال إبليس والشياطين. لا يستطيع المرء أن يمتحن الأرواح لكي يرى إن كان الأمر هو عمل الروح القدس أو عمل إبليس والشياطين بدون موهبة تمييز الأرواح.

وهكذا فإن اللاهوتي والأب الروحي هما نفس الشيء. من المؤكد أن الشخص الذي يفكر ويتكلم باحثاً عن فهم عقلاني لتعاليم الإيمان ليس أباً روحياً ولا نستطيع أن نسميه لاهوتياً بالمعنى الصحيح الذي للكلمة. ليس اللاهوت معرفة وممارسة مجردة مثل المنطق والرياضة والفلك والكيمياء ولكنه على العكس يمتلك خاصية جدلية مثل المنطق الرمزي والطب. فالأول يهتم بأمور الدفاع والهجوم من خلال التدريب العسكري والإستراتيجيات الخاصة بنشر الأسلحة والتحصينات والنظم الدفاعية والهجومية على حين أن الثاني (الطب) يقاتل الأمراض الذهنية والعضوية لصالح الصحة ووسائل إستعادة العافية.

إن اللاهوتي الغير مطلع على طرق العدو ولا على طرق الكمال في المسيح هو ليس فقط غير قادر على الكفاح ضد العدو من أجل كماله الخاص ولكنه أيضاً يكون في وضع لا يسمح له بإرشاد وعلاج الآخرين. يشبه هذا الأمر أن يُدعى المرء جنرالاً أو حتى أن يكون جنرالاً بالفعل بدون أن يكون قد تدرب أو حارب أو درس فن الحرب ولكنه إهتم فقط بالمظهر الجميل المجيد الذي للجيش العظيم وبالزي العسكري البراق في حفلات الإستقبال والعروض. كما أن ذلك يشبه الجزار الذي يتظاهر بأنه جراح أو مثل الذي يدعي أنه طبيب بدون أن يعرف أسباب الأمراض أو طرق علاجها أو حالة الصحة التي يجب أن يستعيدها المريض[18].

 

[1] . Gregory the Theologian. Or.27, 3. NPNFns, vol.7,p.285

[2] . Evagrius. Philokalia 1, p. 62,61

[3] . Ladder. Step 30. CWS p. 288

[4] . Ibid.

[5] . Ibid. p.250

[6] . Ibid. p262

[7] . Philok.2, p. 69, 26

[8] . Ibid. p. 108, 64

[9] . PG 91, 601 C. Letter 20, to Marinos the Monk

[10]. Philok.2, p. 330, 80

[11] . Ibid. p. 328f, 62

[12] . Philok. 1, p. 275, 67

[13] . Ibid. p. 254f, 9

[14] . St. Maximus the Confessor. Philok. 2, p. 239, 16

[15] . Triads. 1.3, 15

[16] . Ibid. 1, 3, 12

[17] . Ibid. 3, 1, 32. CWS p. 87

[18] . Romanides: Dogmatic and Symbolic Theology… p. 85f. In Greek.

اللاهوت كعلم علاجي – كيف يعطي اللاهوت شفاء للنفس؟

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)