روحيات

بحث عن الإيمان في أصول معناه ومفهومه الصحيح في الكتاب المقدس تابع أولاً: تمهيـــــــــــد – [4] كيف نفهم العقيدة

بحث عن الإيمان في أصول معناه ومفهومه الصحيح في الكتاب المقدس
تابع أولاً: تمهيـــــــــــد – [4] كيف نفهم العقيدة – الجزء الأخير من التمهيد

1274025215-Sunset_and_the_cross

  • كيف نفهم العقيدة:

إن أردنا أن نعرف شيئاً عن المسيحية، يجب أن نعرف أن المسيحية كل عقائدها متضادة ولم ولن تكن متناقضة قط مع نفسها، بل وتُعتبر مُعضلة حقيقية وغير مفهومة بل وأحياناً تُسبب إشكالية أمام العقل الغير مستنير ومتسربل بالنعمة، وقد تكون حجر عثرة وصخرة شك [ الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله (2كورنثوس 4: 4) ]: فنحن نُقرر أن الله واحد ونقرر أنه ثالوث مساوي! نُقرر أن الله يُدنى منه ونُقرر أنه لا يُدنى منه، وذلك كله بآنٍ واحد! وهذا ليس تناقضاً ولكنه تضاد..

فهذه الأقوال يجب أن تُقال معاً بآنٍ واحد، وإذا قيلت معاً فالحقيقة هيَّ بالتقائها. فالحقيقة هيَّ بجمع المتضاد، ولكن الجمع بين المتضاد لا يتوفر للإنسان على المستوى العقلي، ولكنه فوق العقل ومع ذلك يُدرك بالعقل المستنير بنور النعمة المُشرق، فهو لا يأتي بالشكل المنظور في حسابات بشرية دقيقة، بل هو قفزة من المنظور للغير منظور، نقله من الأرض للعلو السماوي، وهذه القفزة لا تأتي على حساب قدرات بشرية ولا حسب طاقة إنسانية، بل هي قفزة تأتي بقوة الله بالإيمان الحي، فالحقائق المسيحية كلها لا تُدرك إلا بالحس الروحي الذي بالإيمان، بخبرة لقاء الله في الصلاة والكلمة والإفخارستيا وممارسة الأسرار المقدسة التي ترفعنا لله حسب مسرة مشيئته، بعلاقة الحب بيننا وبين الله، التي تظهر في طاعة وصاياه.

إننا نجد في العقيدة، إن الكنيسة منظورة وغير منظورة بآنٍ واحد. هذا أيضاً تقرير لاهوتي متضاد. وأسرار الكنيسة مادية وغير مادية في نفس ذات الوقت، فكيف تجمع المادة ما هوَّ ليس مادة ؟!! ( هذه ليست فلسفة جديدة نعتنقها ونطرحها للمناقشة ولكنها عقيدة حية قوامها وسرها الله الذي نتمتع بها برؤية الإيمان الحي بعقل مُستنير ناظر الله)

إذن نستطيع أن نخرج بنتيجة وهيَّ:
إن مفتاح اللاهوت المسيحي كله هوَّ الإيمان بشخص الرب يسوع المسيح، إيماناً قلبياً واعياً، فيه يُصبح الرب يسوع المسيح نفسه هوَّ الشارح [1] للاهوته بفتح ذهن متلقي العقيدة وأسرار الكنيسة من الله الحي بالإيمان: [ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب ] (لوقا 24: 45)

  • أي أن يؤمن الإنسان بشخص الله إيمان حقيقي حي وعلامته الطاعة لوصاياه. وبذلك يستمتع بفتح الذهن وفهم الكتب!!

عموماً أن كل الدراسات التي يأتيها الإنسان لمعرفة العقيدة الإيمانية، بل وحتى كل المبادئ التي يستقرّ فيها الإنسان ذهنياً فيما يختص بلاهوت المسيح تظل واقعة تحت الظلمة العقلية الكثيفة – مهما كان العلم على درجة دقيقة من الصحة [2]– إلى أن يدخل المسيح بشخصه داخل القلب فينيره، وحينئذٍ تتبدد الظلمة وتُستعلّن الحقيقة، بدون أي جهد أو برهان: [ أنا هوَّ نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة ] (يوحنا 8: 12)
كما لا يُخفى على الإنسان أن التعبير عن الحقيقة الإلهية المعلَّنة في شخص الرب يسوع المسيح وحياته، بلّ وكل الحقائق الإلهية على وجه العموم، من العسير غاية العُسرّ أن توضحها للعقل الكلمات والمصطلحات بنفس القدر التي تكون فيه واضحة للقلب بنور النعمة المُخلِّصة.

فإنه على قدر ما يكون الإنسان في أقصى حالات النشوة الروحية والاستعلان والرؤيا القلبية، بقدر ما ينحصرّ الفكر ويعجز اللسان عن التعبيرّ والوصف: [ أعرف إنساناً في المسيح.. اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها ] (2كورنثوس 12: 2 – 4)

لذلك، كان من النتائج الواضحة والحتمية لهذا القصور في التعبير عن الحق الإلهي الكائن في شخص المسيح الكلمة، أنه أصبح من الصفات اللازمة للعقيدة المسيحية، فكان اعتمادها الأساسي على الإلهام الذي يتدفق في القلب بمجرد قبول شخص الرب يسوع المسيح، لذلك بعدما تجد الكنيسة أن المسيح الرب ملك على القلب تُسلم أولادها علم اللاهوت دون خوفٍ من كبرياء أو تعالي يُصيب القلب، لأن المسيح النور الحقيقي بشخصه في القلب يسكن، وروحه القدوس يُعطي الرؤيا والإلهام والفهم الواعي في عقل مستنير وقلب مستقيم، لتتحول المعرفة لحياة، فيخرج التعليم مُعاشاً قبل أن يكون كلاماً وألفاظاً، لذلك نجد أن المعلم الأمين الذي تذوق عمل الله ونال الموهبة السماوية، فهو يعمل أولاً ثم يُعلِّم، ولكن تعليمه ليس جامداً متمسكاً بالحرف الذي يقتل أو يدخل في جمود الفكر متمسكاً بلفظ يُعادي به الآخرين، بل بحرية وإلهام يشرح بألفاظ متنوعة، وقد يحفر ألفاظاً لاهوتية وروحية جديدة بالروح عينه الذي ألهم الآباء، فتظهر قوة عمل الله فيه، هذا الذي لا ينقطع من جيل لجيل، فيظهر أن إلهام الروح لا يتوقف قط في أي عصر أو زمان، لا بالمنطق بل بالروح والقوة في حياة مقدسة تعلن مجد الله الحي فيه، بل وتظهر مع الأيام والنمو ملامح الله الحي فيه.

  • وسؤلنا الآن:

ما هوَّ هذا الإيمان الحي؟ ما هيَّ أصوله؟ ما معناه؟ كيف نحيا به؟ كيف نناله؟

سوف نبحث حسب قصد الله في الكتاب المقدس، الذي فيه يُستعلن سرّ الله وقصده، علنا نَسبرّ غوره، فننال قوته ونحيا به بكل أصالة، لنرضي الله، لأنه بدون إيمان لا يُمكن إرضاؤه، ونُميز بين الإيمان الحي الذي ينمو، الذي هوَّ حسب عطية الله وقصده الذي فيه طاعة مطلقه لله وتنفيذ وصاياه بكل لهفة وحب صادق، وبين الإيمان الميت الجامد الذي هوَّ حسب الناس، البعيد كل البعد عن حياة الطاعة والبذل والعطاء والاكتفاء بالشعارات والكلمات المزوقة، والتفلسف والانفعال النفسي الذي يجعل الحياة في تقلب وعدم استقرار روحي أصيل !!

وينبغي لنا أن نعلم إننا لا نُريد أن نتفلسف أو نضع مبدأ جديد، أو إننا إزاء موضوع عقيم قدّ عفا عليه الزمان، أو موضوع معروف عندنا وسمعنا عنه الكثير ونُريد موضوع جديد وفكرة جديدة، لكننا الآن نبحث عن الأساس الذي تُبنى عليه حياتنا كلها، فالمؤمن الحقيقي يزداد إيماناً، والغير مؤمن يضع قدميه على الطريق طالباً من الله أن ينال هذا الإيمان الحي الفعال بالطاعة، مُميزاً ما هوَّ من الله وما هوَّ من العقل البشري الجامد الغير مستنير والذي لا ينظر الله.

إننا – في الواقع – نبحث عما فُقِد في زماننا وجيلنا هذا، الذي معظمه وغالبيته العُظمى يحيا حياة انفعالية عابرة تتسم بالسطحية والبرودة والاكتفاء، وعدم التدقيق، وحتى كثير من المدققين يدخلون في المجال العقلي ويحصرون الإيمان والمعرفة في الفكر وفلسفة كلام الحكمة الإنسانية المقنع بدون برهان الروح والقوة، وأيضاً البعض الآخر يحصر الإيمان في الحسيات والأرضيات حتى أنهم يتعلقون بالمعجزات ناسيين حياة الوصية ومقدسين المعجزات ورفعوها فوق تغيير القلب والدخول في سرّ الإيمان الحي، والبعض يحيا في اكتفاء بدون الدخول للعمق ظناً منهم أن العمق كبرياء القلب، وهذا خطير، فقد فقدنا في هذا الزمان – للأسف – كل أبعاد الحياة الروحية الأصلية والأصيلة واكتفينا بالفلسفة وكثرة المعارف بدون أن نحيا ما نقوله، أو يظهر فينا قوة الإيمان الحي الذي نتكلم عنه كثيراً، ويكفي أن نُلقي نظرة على بعض شباب الكنيسة، وأيضاً على بعض خدامها وسلوكهم ومعرفتهم !!! وأيضاً على حال معظم الشعب الذي عند أدنى مشكلة يخور إيمانه ويحزن ويكتأب كأنه بلا رجاء، وكف عن أن يسمع صوت الله الحي الذي قال للتلاميذ حينما خافوا: [ ثم قال لهم أين إيمانكم فخافوا وتعجبوا قائلين فيما بينهم من هو هذا فانه يأمر الرياح أيضاً والماء فتطيعه ] (لوقا 8: 25)، وللأسف بسبب ضعف التعليم وكثرة الشعارات والكلام بدون حياة، وقلة المؤمنين الأحياء بقوة الله يُسلَّمون الإيمان الحي فلم تُفتح عين الناس بعد ليروا أن من هو معهم أقوى من الذي عليهم:

  • [ لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم ] (2ملوك 6: 16)
  • [ جميع عظامي تقول يا رب من مثلك المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه والفقير والبائس من سالبه ] (مزمور 35: 10)
  • [ لأن الرب فدى يعقوب وفكه من يد الذي هو أقوى منه ] (أرميا 31: 11)

للأسف كثيراً ما نَدَّعي أننا مؤمنون، ولكن مكتوب من ثمارهم تعرفونهم؟!! ولن نُعَلّق على هذا، فالأمرّ متروك لكل واحد فينا ليسأل نفسه ويبحث عن أبديته ويهتم بحياته، لأن من يعرف أعماق الإنسان إلا روح الإنسان، فمن يعرف عاره يعرف كيف يطلب مجده، ومن يعرف كيف يطلب مجده، يصل لله بسهوله، ومن يصل لله ينال منه قوة يلبسها ويرتفع بها للعلو الحلو الذي للقديسين، فيحيا من مجد إلى مجد كما من الرب الروح…

عموماً سنبحث عن الإيمان في الكتاب المقدس وعند آباء الكنيسة، علنا نستطيع أن نُصغِ إلى قول القديس بوليكاربوس الشهيد ونجتهد أن يكون قوله فينا:

[ من بوليكاربوس والشيوخ الذين معه إلى كنيسة الله المقيمة في فيلبي سلام ورحمة من الله الكلي القدرة ومن يسوع المسيح مخلصنا فلتكن معكم.
إني أُهنئكم جداً بيسوع المسيح ربنا على استقبالكم لصور المحبة الحقيقية وعلى توديعكم، كما هوَّ مفروض عليكم، لمن حملوا السلاسل الجديرة بالقديسين، هذه السلاسل التي هيَّ أكاليل لمن أختارهم الله ربنا حقيقة.
إن الجذور الراسخة لإيمانكم والمعرفة منذ القديم ما زالت تُثمرّ بيسوع المسيح سيدنا الذي تحمل الموت من أجلنا وأقامه الله ناقضاً آلام (أوجاع) الموت.
الذي وإن لم تروه تحبونه، لذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُوصف ومجيد، هذا الإيمان يرغب الكثيرون أن يصلوا إليه، إنكم تعرفون، ولا يُخفى عليكم، إن خلاصكم ما كان بأعمال عملتموها، بل بنعمته خلصكم على حسب رضا مشيئته بيسوع المسيح.
لذلك منطقوا حقويكم، واتقوا الله بالمخافة والحق، طارحين جانباً كلام الثرثرة الفارغ وضلال الأمم، موطدين الإيمان على من أقام ربنا من الموت، وأتاه المجد، وأعطاه أن يجلس عن يمين عرشهُ وأخضع لهُ كل ما في السماء وما على الأرض ويُطيعهُ كل من لهُ نسمة حياة. وسيأتي ليُدين الأحياء والأموات وسيطلب الله حساباً عن دمه من أولئك الذين يرفضون أن يؤمنوا بهِ.
كما أقامه من بين الأموات كذلك يُقيمنا إذا فعلنا إرادته وسلكنا حسب وصاياهوأحببنا ما أحبه وابتعدنا عن كل مظلمة وطمع وبُخل ونميمة وشهادة زور..] (عن رسالة القديس بوليكاربوس أسقف أزمير الفصل الأول والثاني)

________________________
[1] طبعاً لا يجوز فهم أن المسيح يجلس أمامنا وجهاً لوجه أو يُرسل ملاكاً ليشرح لنا، طبعاً مضطر اكتب هذا التوضيح لكي لا يفهم كلامي أحد خطأ كعادة البعض، فالمقصود هوَّ أن الرب يسوع يفتح الذهن كما فتح ذهن التلاميذ ليفهموا الكتب، والكنيسة على مرّ العصور لم تُستحدث كلمة لاهوتية من ذاتها، بل نطقت بما تسلمته من الرسل والقديسين الذين استلموا من الرب نفسه بإلهام الروح القدس، وتشربت كلمة الله على مستوى الإيمان والمحبة بالنعمة، ونطقت، وكرزت، بعمل الله، بقوة سلطان الروح الذي عمل ويعمل وسيستمر يعمل فيها على مدى العصور والأزمنة، لذلك نحتت ألفاظ لاهوتية جديدة ولكنها في ذات الوقت من نفس ذات الإلهام والامتداد الرسولي بالروح الواحد عينه.

[2] طبعاً لا نقصد أن العلم غير ضروري أو نستهين به باي حال من الأحوال، ولكننا نقول أن العلم بدون نور الله في القلب يُصبح نقمة على الإنسان نفسه لأن العلم ينفخ كما قال بولس الرسول، والعلم مهما كان دقيق بدون لبس شخص الكلمة يسوع المسيح وحضوره في القلب مُعطياً استنارة للذهن، ويحيا الإنسان منقاداً بروح الله يُصبح بلا معنى، لأنه كيف أدرس طبيعة شخص المسيح الحي وليس لي أي علاقة تربطني به، وليس لهُ أي دور في حياتي اليومية المٌعاشة ولا أطلب مجده وألتمس وجهه ؟!!!، فلا بُدَّ لي – قبلما أدرس وأعرف – من أن يكون لي إيمان حي حقيقي به، أي علاقة حقيقية قائمة على إيمان حي أساسه الثقة فيه وطاعة وصاياه، وثمر الروح القدس واضح في حياتي..