أبحاث

بليني الاصغر – يسوع التاريخي في المصادر القديمة

بليني الاصغر – يسوع التاريخي في المصادر القديمة

بليني الاصغر - يسوع التاريخي في المصادر القديمة
بليني الاصغر – يسوع التاريخي في المصادر القديمة

الجزء الثاني – بليني الاصغر

بليني الأصغر: مسيحُ الديانة المسيحيّة

عاش غايوس بلينيوس كاسيليوس سيكوندوس ما بين 61-113 م، وهو ابن أخ الكاتب “بليني الأكبر” وابنه بالتبني. شغل بليني الاصغر عدّة مناصب إدارية هامَة، سيناتوراً ومحامياً بارزاً في روما، وربما كان أشهر إداريّ مدنيّ في عهد الإمبراطورية. وقد حفظت كتابات بليني الاصغر شهرته الواسعة، فقد نشر تسعة كتب رسائل بين عامي 100 و109 م.

وقد عُزي إلى “بليني الاصغر” إيجاد الرسائل كضربٍ أدبيَ، وذلك بسبب النجاح الذي لقيته كتبه ضمن أدب عهده وما تلاه. وتتدّرج رسائله من ملاحظاتٍ شخصيّةٍ إلى مقالاتٍ منقّحةٍ عن مواضيع متنوعة. ويصيغ “بليني الاصغر” بمهارة كلماته وعباراته ضمن الجملٍ والمقاطع، وتمتاز مفرداته بغنى وتنوَع كبير، وقد كان يُنقّح كلّ رسالة ويزيّدها لتصبح جاهزة للنشر.

أمّا الكتاب الأخير من رسائله “الكتاب 10″، والذي نُشر بعد مماته وكُتب بطريقةٍ أبسط وبأسلوب أكثر مباشرةً من أسلوب الكتب السابقة، فيحفظُ مراسلات “بليني” مع الأمبراطور “تراجان”[1] عندما كان الأوَل في منصب حاكم بيثينيا في آسيا الصغرى ما بين 111-113م.

وتبيّن رسائله أنه كان شخصاً وجدانياً وإنسانياً، لكن البعض يرون أن “بليني الاصغر” لم يكن واثقاً في ردود أفعاله، وكان يُسارع لاستشارة الإمبراطور. وبينما يعدّ ذلك صحيحاً إلى حدً ما فإن التاريخ يثبت ذلك، لأن رسائل الكتاب 10 تقدّم أكبر مراسلات إداريّة باقية من العهد الرومانيّ.

الرسالة 96 من الكتاب 10، وهي أكثر رسالة دُرست من رسائل “بليني الاصغر” تتناول المسيحيّين كما تأتي على ذكر المسيح. وبما أن رسائل هذا الكتاب مرتّبة وفق تسلسلٍ زمنيّ فيما يبدو، فإن الرسالة 96 قد تعود إلى عام 112 للميلاد. حيث يستهلّ “بليني” هذه الرسالة بالتماس رفق الإمبراطور، يقول: “يا سيدي: إن من عادتي إحالة كافة المسائل التي يخامرني الشكّ حولها إلى جلالتك، حيث أنه لا أحد أفضل قدرة منك ليخلّصني من شكّي أو يوجهّني في جهلي”.

قد يكون هذا التزلّف طريقة “بليني الاصغر” في تقديم القضايا القانونيّة الصعبة، حيث أن الرسائل 30 و56 من الكتاب 10 يستفتحان بإسلوبٍ مشابهٍ لهذه الرسالة، وتعرض كلّ منها قضايا قانونية صعبة. دلالةً أخرى على صعوبة موضوع الرسالة 96 هو طول الرسالة، حيث أنها ثاني أطول رسالة في الكتاب 10 بعد الرسالة 58. ويبدأ عرض الرسالة 96 بشرح “بليني” لشكوكه حول محاكمات المسيحيين.

وحيث أنه لم يحضر مثل هذه المحاكمات قبل تنصيبه حاكم بيثينيا، كما سنستنتج مما سيلي، فقد كان لديه عددً من الأسئلة: ما هي الطريقة لمعاقبة المسيحيين؟ ما هي أُسس التحقيق؟ولأيّ درجةٍ يجب استعجال التحقيق؟ هل يشكّل العمر أو التبرّؤ من المسيحيّة أيّ فارق؟ هل يجب معاقبة المسيحيين لمجرّد كونهم مسيحيين؟ أي لمجرّد الاسم فقط، حتّى ولو لم يكونوا مذنبين بجرائم متعلّقةٍ بهذا الاسم.

وبعد هذا يُقدّم “بليني الاصغر” إلى “تراجان” سرداً لكيفيّة إدارته للمحاكمات، فهو يسأل المتّهم ثلاث مرّات عند الضرورة مع التحذير من العقاب، إذا كانوا مسيحيّين. فإذا أجابوا دائماً بالإيجاب: “فإنني آمر بأخذهم للإعدام، مهما كان ما اقترفوه، لأنني اعتقد أن عنادهم وصلابتهم لا بُدّ وأن تُعاقب”[2]. أمّا المواطنون الرومان الذين كانوا يتمسّكون بإعلان إيمانهم المسيحيّ فكان “بليني الاصغر” يُرسلهم إلى روما من أجل المحاكمة. لكنّ الآن فإن “بليني الاصغر” لديه شكوكٌ تتعلّق بالمسألة كلّها. وفي هذا السياق فإنه يذكر المسيح ثلاث مرّات:

منذ أن بدأت التعامل مع هذه المشكلة، أصبحت التهم أكثر شمولاً وتنوعاً، كما هو الحال غالباً. تمّ نشر قائمة اتهاميّة تحمل أسماء العديد من الناس. وقد قررت أن أُطلق سراح كلّ من يُنكر كونه أو أنه كان في يومٍ من الأيام مسيحياً، وذلك بالتكرار من بعدي صيغةً تُمجّد الآلهة، وتقديم قرابين الخمر والبخور لصورتك، التي أمرت بإحضارها إلى قاعة المحكمة مع أيقونات الآلهة لهذا السبب، وعندما يقوم المتّهم بلعن المسيح، فقد علمت أنه لا يمكن لأيّ مسيحيّ حقيقيّ أن يقوم بهذه الأشياء.

أمّا أولئك الذين أُعطيت أسماؤهم لي عن طريق بعض المخبرين فكانوا بدايةً يقولون إنهم مسيحيون ومن ثمّ ينكرون ذلك، وقالوا إنهم لم يعودوا مسيحيين منذ سنتين أو أكثر، والبعض منهم منذ عشرين عاماً. وقاموا كلّهم بتبجيل صورتك وصور الآلهة كما فعل الآخرون، كما قاموا بلعن المسيح أيضاً.

كما أكّدوا أن مجمل ذنبهم أو خطئهم لم يكن أكثر مما يلي: فقد كانوا يجتمعون على نحو منتظم قُبيل الفجر في يومٍ محدّد، ويغنّون ترنيمةً للمسيح كما لو كان إلهاً. كما أنهم أقسموا على عدم ارتكاب أيّ جريمة، وبالابتعاد عن السرقة والنهب والزنا، وألاّ يخلفوا عهداً أو يحجبوا أمانةً حان موعد تسليمها.

وهنا تنتهي الإشارة إلى المسيح. ويروي “بليني الاصغر” أن تطبيقه لقوانين “تراجان” على الناس “الرسالة 10.34” قد أثمر نتائجه المرجوَة في قمعهم إلى درجةٍ معيّنة. وقد استجوب مؤخّراً امرأتين تعملان في الكنيسة كانتا عبدتين فيما سبق، فلم يجد إلاّ خرافاتٍ فاسدةٍ غير مضبوطة.

وكما يُشير “ي.ن.شيروين وايت” فإن “بليني الاصغر” خَلُصَ عند هذه النقطة إلى أنّ المسيحيين كانوا متعصّبين حمقى خلت حياتهم أخلاقياً من أي شعورٍ بالذنب. هذه النتيجة جعلت “بليني” يتوقّف لفترة، وأعلم “تراجان” أنه قام بتأجيل كافّة محاكمات المسيحيين حتى يستشيره بهذا الخصوص.

ويبرر “بليني” إحالته هذه المشكلة إلى الإمبراطور بالقول: إن العديد من الناس في مقاطعته، ومن كافّة الطبقات والأعمار والديانات، قد أصيبوا بهذه الخرافات المعدية. ومع ذلك مازال ممكناً التحقق من هذا المعتقد الخرافيّ الجديد وشفاؤه في حال أُعطي الناس فرصةً للتوبة من المسيحيّة.

ويجيب “تراجان” وبشكلٍ مختصر كما هي عاداته في مراسلاته مع ولاته، بإقرار توجه “بليني الاصغر” (الرسالة 97). ويقرّ أنه لا يستطيع إعطاء “بليني الاصغر” توجهاً محدداً ليتّبعه، وهذا يفسّر عدم إجابته على كافّة أسئلة “بليني الاصغر”.

فلا يتوجّب على “بليني الاصغر” أن يبحث عن المسيحيين، لكن في حال تمّ إحضارهم إليه واتّهامهم في محاكمة بكونهم مسيحيّين، فلاُبدّ من معاقبتهم إذا لم يرتدوّا، وذلك عن طريق تقديم الصلوات إلى آلهتنا. لكن في حال ارتدوّا فيجب إطلاقهم مهما كان سلوكهم السابق مثيراً للريبة، وهذا يشير إلى أن “تراجان” وافق على ملاحقتهم لمجرّد الاسم فقط. علماً بأن ردّ “تراجان” لا يذكر أي شيء عن المسيح، بل يتناول المسيحيين فقط.

إنّ نصّ هاتين الرسالتين مُثبت ومؤكّد، ولا يُشكك بمصداقيتها جدياً، ويتطابق أسلوبها مع أسلوب الرسائل الأخرى في الكتاب 10، وقد كانت الرسالتان معروفتين بشكلٍ جيّد في زمن “تيرتولين” الذي اشتهر بين 212-196م[3]. ويرفض “شيروين وايت” الآراء القليلة القائلة بأن الرسائل عبارة عن أكاذيب ملفّقة أو أنها تحتوي أجزاء محرّفة. وقد قدّم “موراي ج. هاريس” أسباباً وجيهة تفيد أن الرسالة 96 لم تُحرّف من قبل كتبة مسيحيين.

فلن يثبت الكتبة المسيحيون الارتداد المسيحيّ أو يتوقعوا أن معظم المسيحيين سيرتدّون إلى الآلهة الرومانية اليونانية في حال هيّئت لهم الفرصة. كما أنهم لن يتحدّثوا بمثل هذه الازدراء عن المسيحيّة واصفين إياها: بالجنون، الخرافات الفاسدة، المرض المعدي. علاوةً على ذلك، يغلب على الرسائل 96 و97 طابعٌ سلبيّ تجاه المسيحيين، وهذا ما لن ينقله أيّ مسيحيّ.

وتثير هذه الرسالة وردّ “تراجان” عليها مجموعةً كبيرةً من القضايا التاريخيّة، والتي انكبّ على دراستها عدد كبير من الباحثين. وفضلاً عن الموضوع الأساسيّ لمعاقبة المسيحيين، وخاصّةً أُسسها القانونيّة في القانون الرومانيّ وتاريخها، تحتوي الرسالة 96 أول وصف غير مسيحيّ للعبادات المسيحيّة الأولى. لا يمكن لنا أن نتناول هذه المواضيع بذاتها، لكننا سنتطرق إليها بينما نبقي تركيزنا على روايات “بليني الاصغر” عن يسوع.

ماذا يقول “بليني الاصغر” عن المسيح بالتحديد؟ يأتي “بليني الاصغر” على ذكر هذا الاسم ثلاث مرات في الرسالة 96، مرتين عندما يتكلّم عن المسيحيين المشبوهين، وهم “يلعنون المسيح” كجزءٍ من ارتدادهم وتوبتهم – (96.5،6)، ومرّةً عندما يروي لـ”تراجان” أن المسيحيين عادةً يغنّون ترنيمةً للمسيح كما لو كان إلهاً – (96.7). ويبدو المسيح هنا القائد الدينيّ لهذا الدين الذي يعبده المسيحيون، وبذلك يكون لعنُه معادلاً لرفض الدين المسيحيّ بكامله.

ويبدو أن “بليني الاصغر” لا يتناول “يسوع التاريخي” بشكلٍ صريح، وفي حال أنه علم أيّ شيء عن يسوع من خلال تحقيقاته وتحرّياته، فإنه لا يرويها للإمبراطور. أنّ وصف “بليني الاصغر” المسيحيّة بالخرافة قد يقف ضدّ أي معاينة دقيقة لأصولها، حيث أن أصول الخرافات لم يكن مهمَاً.

ونجد العبارة الوحيدة التي يمكن أن يكون “بليني” قد قصد فيها بشكلٍ ضمنيّ يسوع التاريخيّ في كلماته: وهي: ” يغنّون ترنيمةً للمسيح كما لو كان إلهاً”[4]. ويرى “هاريس” وهو بهذا على خطا “غوغل” أنّ “بليني” باستخدامه لكلمة ” كما لو كان – quasi” فهو يقصد القول أن يسوع الإلهيّ الذي يعبده المسيحيّون كان بشراً فيما مضى. ويشير “شيروين وايت” إلى أن كلمة “كما لو كان” قد استُخدمت هنا بشكل عام دون مفهوم الافتراض، لتعني بذلك “كما يدعون”.

على أية حال، يمكن أن يكون “بليني” قد استخدم كلمة “quasi” بمعناها الافتراضي التقليديّ “كما لو كان، أو وكأنه”. وبينما قد تشير “كما لو كان” أن المسيح الذي يعبده المسيحيون كان في ما مضى إنساناً، فلا يجب أن نعوّل كثيراً على هذا الأمر. وإذا كان “هاريس” و”غوغل” محقّين، فإن “بليني” يزوّدنا بأبسط شاهد على يسوع التاريخيّ، إلاّ أنّ ذلك لم يكن قصده على الأطلاق.

وهذا يقودنا في النهاية إلى مسألة مصادر “بليني”، فقد يكون “تاسيتوس”، صديق “بليني” هو مصدر المعلومات العامّة عن المسيحيّة والمسيح، إذ “تتحدث الرسالة 1.7 الموجّهة إلى “تاسيتوس” عن صداقتهما الطويلة، وأنهما غالباً ما تبادلا الرسائل، كما تبيّن بداية الرسالة 96 أن “بليني” لم يكم حاضراً على محاكمات أخرى للمسيحيين”، وهذا ما يشير إلى أنه كان على علمٍ بمحاكمات المسيحيين. وربما يكون “بليني” قد عَلِمَ عن المسيحيّة من الشائعات والتقارير المنتشرة في زمنه، على أية حال، فإنه لا يروي هذه الإشاعات الشائنة، ولا ينسبها إلى المسيح.

ومن الواضح أن كافّة المعلومات المحدّدة عن المسيحيّة، والمعلومات القليلة عن المسيح المذكورة في الرسالة 96، تأتي من تجربة “بليني” الشخصيّة في بيثينيا. وقد حصل على هذه المعلومات من مسيحيين سابقين، وأثبتها بمعلومات حصل عليها من المرأتين التين تعملان في الكنيسة. وبالمثل، فإن هذه المعلومات ليست شاهداً علي يسوع مستقلاً عن المسيحيّة.

وما ذُكر عن المسيح يُثبت نقطتين في العهد الجديد: أولاً، أن المسحيين يبجّلون المسيح في أغانيهم – (فيلبي 5: 2-11، كولوسي 1:15، رؤيا يوحنا 5:11،13). ثانياً، لا يمكن لأي مسيحيّ أن يلعن أو يشتم المسيح – (كورنثوس الأولى). على أية حال، لا يُظهر “بليني” أي معرفةٍ بكتاباتٍ مسيحيّة في هذه الرسالة.

 

لقراءة بقية السلسلة:

[1] تراجان: 53-117 م، ثاني الأباطرة الأنطونيين. كان والده حاكم سورية، فانتسب تراجان للجيش الروماني وارتقى فيه حتى تم تعيينه قنصلاً، فاصطحب المهندس أبوللودور الدمشقي معه إلى روما، فقام بتصميم أكثر المباني شهرة في روما وفي إقليم الراين. شارك تراجان الإمبراطور دوميتيان في حروبه ولما مات خلفه نيرفا، الذي كان غير مرغوب فيه من الجيش فقاما بتسمية تراجان ابناً بالتبني، وعندما توفى نيرفا تولى تراجان حكم الإمبراطورية فاوصلها أوج اتساعها.

[2] أن هذه العبارة من قبل حاكمٍ روماني: “بأن هؤلاء المتهمين العنيدين وغير المتعاونين يستحقون الموت”، والتي يوافق عليها “تراجان” ضمنيّاً في رده، قد توضّح توجّهات “بيلاطس” وأفعاله في محاكمة يسوع. إذا كان حاكم إنساني إلى حدّ ما مثل “بليني” يفكّر بهذه الطريقة، فكيف بحاكم مثل “بيلاطس” الذي كان معروفاً بافتقاره للإنسانية؟.

[3] تيرتولين: فيلسوف معاصر لأوغستين، كان معروفاً بعدائه للمرأة.

[4]  العبارة هي: “carmenque Christo quasi deo dicere secum invicem”.

بليني الاصغر – يسوع التاريخي في المصادر القديمة