أبحاث

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 8 – الأمثال وكيفية فهمها والهدف منها

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 8 – الأمثال وكيفية فهمها والهدف منها

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 8 – الأمثال وكيفية فهمها والهدف منها

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 8 – الأمثال وكيفية فهمها والهدف منها
خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 8 – الأمثال وكيفية فهمها والهدف منها
  • الأمثال في التاريخ.
  • طبيعة الأمثال.
  • التفسير الاستنتاجي للأمثال.
  • التفسير الحياتي للأمثال.

فى البداية علينا أن نلفت نظرك يا صديقي الدارس إلى أن كل ما جاء في الفصل السابع حول تعليم الرب يسوع في الأناجيل ينطبق أيضاً على الأمثال الواردة فيها. وهنا قد تسأل إذاً لماذا خصصنا للأمثال فصلاً خاصاً بها في هذا الكتاب؟ وهل تستحق هذا؟ ربما تسأل أيضاً كيف يمكن لهذه القصص المباشرة القصيرة والبسيطة التي تكلم بها السيد المسيح أن تٌشكل أسئلة أو قضايا تهم القارئ أو الدارس المفسر؟

ونحن نقول: من الصعب عليك أن يفوتك الهدف الذي يرمى إليه مثل السامري الصالح أو الأبن الضال. فإنه مجرد قراءتك لهذه القصص ستلمس قلبك وتتعزى ومع ذلك، فضرورة تخصيص فصل مستقل للأمثال تعود إلى سبب مهم وهو أنها بالرغم من بساطتها وإثارتها، قد عانت كثيراً من خطأ التفسير وسوء استخدامه.

الأمثال في التاريخ

ربما يعود سبب هذا التاريخ الطويل من إساءة تفسير الأمثال إلى ما قاله الرب يسوع ذات مرة، وقد قام مرقس البشير في أصحاح 4: 10-12 بتسجيله لنا (نرى ما يوازيه في مت 13: 10-13، لو 8: 9-10). إذ عندما سُئِل المسيح عن أسباب ضربه للأمثال، بدا وكأنه يشير إلى أن تلك الأمثال قد احتوت في ذاتها على أسرار لأولئك الذين من الداخل، بينما قامت على تقسية قلوب مَنْ هم في الخارج. إذ أنه بعد أن ضرب مَثل الزارع، قام بتفسيره بطريقة شبه رمزية، لدرجة اعتبر معها هذا التفسير مؤيداً لنظرية تقسية القلوب وفاتحاً أبواباً لا حصر لها في التفسير الرمزي.

وهكذا، فقد ظهرت على سبيل المثال عدة تفسيرات رمزية لمَثل السامري الصالح من بينها هذا التفسير:

  • إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا = آدم
  • أورشليم = مدينة السلام السماوية التي سقط منها آدم
  • أريحا = القمر، الذي يشير إلى طبيعة آدم المائتة
  • اللصوص = إبليس وملائكته
  • عرّوه = أي أنهم جردوه من صفة عدم الموت
  • ضربوه = بإقناعه بارتكاب الخطية
  • تركوه بين حي وميت = أنه كان يعيش كإنسان، ولكنه مات روحياً، إذاً فهو نصف حى.
  • الكاهن واللاوي = كهنوت وخدمة العهد القديم
  • السامري = يٌقال إن هذه الكلمة تعنى الحارس لذلك فالمسيح نفسه هو المقصود
  • ضمد جراحاته = ربط قيود الخطية
  • الزيت = تعزية الرجاء الصالح
  • الخمر = الحث على العمل بروح متقدة
  • الدابة = الجسد الذي اتخذه المسيح
  • الفندق = الكنيسة
  • الغد = بعد القيامة
  • الدينارين = الوعد في هذه الحياة والوعد في الحياة الأتية
  • صاحب الفندق = بولس الرسول

مهما بلغت غرابة كل هذا التفسير، فما يمكننا أن نكون متأكدين منه هو أن السيد المسيح لم يقصد أبداً ان نصل إلى مثل هذه الاستنتاجات. لأن النص أولاً يٌصرِح وبكل وضوح أن المثل كان إجابة على سؤال يتعلق بالعلاقات الإنسانية والسؤال هو: من هو قريبى؟ وليس عن علاقة الله بالإنسان، ثم إنه لا يوجد أي مبرر يدعو للظن بأن المسيح كان يتنبأ عن الكنيسة وعن بولس بهذا الشكل الغامض!

كما أنه وفى واقع الأمر، يوجد شك كبير جداً فيما إذا كان القصد من معظم الأمثال البقاء ضمن دائرة داخلية )أى قاصرة على مَنْ هم من الداخل(. ففي مناسبات ثلاث على الأقل يقول لنا لوقا البشير إن الرب يسوع كان قد كَلّم الناس بأمثال )3:15، 9:18، 11:19(، هذا الأمر الذي يُشير بوضوح إلى وجوب فهمهم لهذه الأمثال. علاوة على ذلك، فإن الناموسي الذي ضرب له الرب يسوع مثل السامري الصالح )لو 10: 25-37(، كان قد فهم المثل، تماما كما كان الكهنة والفريسيون قبلاً قد فهموا مثل الكرامين الوارد في متى 45:21.

وهنا نقول نعم وإن صادفتنا بعض الصعوبات أحياناً أثناء دراستنا للأمثال إلا أن السبب في ذلك يعود لكونها تحتاج إلى بعض المفاتيح التفسيرية لحلها، لكنها وبكل بساطة لأنها أصلاً مرتبطة ببعض الأمور التي سبق وأن اقترحناها في الفصل السابق عن الأناجيل. إن واحداً من أهم مفاتيح فهم تلك الأمثال هو اكتشاف هوية المستمعين الأصليين لها كما قلنا وذكرنا سابقاً، وفى الحقيقة كثيراً ما وصلت تلك الأقوال إلى البشيرين دون أية قرينة.

إذاً إن لم تكن الأمثال أسرارا رمزية للكنيسة، فما الذي قصد وعناه الرب يسوع في قوله في إنجيل مرقس 4: 10-12 عن سر الملكوت وعن علاقته بالأمثال؟ ما يمكننا قوله هنا أنه على الأرجح يكمن حل هذا الغموض في تعدد معانى الكلمة الآرامية )مثال( كما هي في العربية والتي ترجمت إلى اليونانية كانت تستخدم للدلالة على أنواع كثيرة من الاستعارات سواء الألغاز أو الأحاجي أو الأمثال، إذ لم تكن تعنى المعنى الأضيق للكلمة والمتمثل في ضرب مَثَل.

ولعل العدد الحادي عشر من هذا المثل قصد أن يوضح معنى خدمة الرب يسوع )سر الملكوت( إذ لم تكن هذه الجملة لتفهم من قِبل الذين هم من الخارج. فقد كان المعنى بالنسبة لهم بمثابة لغز أو أحجية. ولهذا السبب بالذات كان استخدامه للأمثال جزءًا من اللغز الذي انطوت عليه خدمته بجملتها بالنسبة لهم. لقد أبصروا، ولكنهم لم يروا، وقد سمعوا – وربما فهموا – الأمثال، ولكنهم أخفقوا في تقدير الدافع الحقيقي لخدمة الرب يسوع.

ونتيجة لما سبق، علينا من أجل نجاح عملية التفسير الاستنتاجي للأمثال أن نبدأ بالافتراضات التي اقترحنا تبنيها في كل النصوص الأخرى السالفة الذكر.

نعم فالرب يسوع لم يشأ ان يكون غامضاً، بل كان كل قصده أن يُفهم تماماً. إن مهمتنا الأولى إذاً هي محاولة سماع ما قد سمعوه هم أولاً. (السامعون الأصليون للمثل(. ونحن نحتاج من اجل القيام بهذا الأمر على نحو سليم البدء في معالجة السؤال التالى: ما هو المثل؟

 

طبيعة الأمثال

اختلاف أنواع الأمثال

عزيزي الدارس: أول ما يجب أن تلاحظه أثناء دراستك للأمثال هو أن الأقوال التي تم تصنيفها تحت بند الأمثال ليست كلها من نفس النوع، فهناك فرق جوهري، على سبيل المثال، بين مثل السامري الصالح (وهو مثل حقيقي)، من جهة، ومثل الخميرة في العجين )وهذا مثل تشبيهي(، من جهة أخرى كذلك أيضاً يختلف هذان المثلان السابقان عن قول المسيح ” أنتم ملح الأرض” )وهذا تعبير مجازى(، أو ” هل يجتنون من الشوك عنباً، أو من الحسك تيناً؟ ” (وهي عبارة ساخرة).

وعلى الرغم من ذلك، فستقابل عزيزي الدارس كل هذه الأنواع الأدبية من حين إلى آخر أثناء دراستك للأمثال.

إن مَثل السامري الصالح نموذج للمثل الحقيقي، فهو قصة واضحة وبسيطة لها بداية ولها نهاية وفيها نوع من الحبكة، هناك أيضاً أمثلة أخرى وكثيرة على هذا النوع من الأمثال كمثل الخروف الضال أو الابن الضال، ومثل العشاء العظيم، والفعلة في الكرم، أيضا مثل الغنى ولعازر، والعذارى العشر.

أما مثل الخميرة التي في العجين، فيميل إلى الأسلوب التشبيهي. فما قيل عن الخميرة، أو عن الزارع، أو عن حبة الخردل، ينطبق فعلياً على الخميرة وعلى الزراعة وعلى حبوب الخردل. والأمثال التي من هذا النوع هي أقرب إلى أن تكون إيضاحات مأخوذة من الحياة اليومية والتى استخدمها السيد المسيح لإيضاح غايته.

إن أقوالاً مثل أنتم ملح الأرض، عادة ما تختلف عن هذين المثلين. نعم ربما تدعى في بعض الأحيان بالأقوال الرمزية، إلا أنها في الحقيقة ليست سوى أقوال مجازية أو تشبيهات. أيضاً قد تبدو هذه الأقوال وكأنها تعمل بطريقة مماثلة للأمثال التشبيهية، إلا أن القصد منها أو السبب في ضربها، عادة ما يكون مختلفاً وبشكل ملحوظ.

من الجدير بالملاحظة هنا أنه وفى بعض الحالات، خاصة مَثَل كمَثَل الكرامين )مر 12: 1-11، مت 21: 33-44، لو 20: 9-18(، علينا الانتباه إلى أن هذا المثل قد يشبه وإلى حد كبير القصة الرمزية، حيث يكون القصد من سرد تفاصيل كثيرة للمثل هو إظهار أمر آخر لإثارتنا. (شاهدنا سالفاً كما في مثل السامري الصالح (، غير أن الأمثال بحد ذاتها ليست قصصاً رمزية حتى وإن كانت في بعض الأحيان قد تبدو لنا ذات معالم رمزية. وسبب ذلك يتعلق بالوظائف أو الأدوار المختلفة التي تقوم بها عادة تلك الأمثال.

ولأن الأمثال ليست كلها من نوع واحد، لذا لا يستطيع الدارس منا بالضرورة أن يضع قواعد يمكن أن تغطيها جميعها، وما سنقوله الآن هنا قد ينطبق فعلاً على “الأمثال” لكن بالمعنى الضيق للكلمة وفي نفس الوقت سيشمل الكثير مما سنقوله أنواعاً أخرى من الأدب أيضاً.

كيف تؤدي الأمثال وظيفتها؟

إن أفضل دليل يمكن أن يبين لنا ماهية الأمثال عادة ما نجده في عملها أو وظيفتها. وبالتباين مع معظم الأقوال التي ترد في صيغة الأمثال، كثل التين من الشوك، فإن الأمثال التي ترد في صيغة قصص لا تهدف لأن توضح بكلمات تصويرية تعاليم الرب يسوع النثرية، ولم تُعطَ من أجل أن تكون وسيلة لإظهار الحق –

مع أنها في نهاية الأمر قد فعلت هذا وبكل وضوح،

 لقد جاءت الأمثال القصصية كدعوة لتوليد نوع من

 الاستجابة عند السامع. فهو من خلالها يخاطب سامعيه ليستحوذ على اهتمامهم أو ليوقظهم لحقيقة الضعف الموجود في أفعالهم، أو ليحث فيهم استجابة ما تجاه المسيح وخدمته.

 في الحقيقة إن الطبيعة التي يتمتع بها المثل هي التي سببت لنا صعوبة كبيرة في تفسير الأمثال، فهى طبيعة داعية تنتظر الاستجابة من الآخرين. وهنا نرى أنه في كثير من الأحيان يصبح تفسيرنا للمثل هدماً لما كان عليه المثل في الأصل. إنه يشبه تماماً القيام بتفسير أو شرح نكتة. إذ إن كل القصد من النكتة عادة، هو ان يستجيب أو أن يتفاعل السامع معها استجابة فورية، وهذا ما يجعلها مضحكة. والنكتة مضحكة للسامع، لأنه وبكل بساطة يلتقط معناها كما هي.

إلا أن سامعها عادة لا يمكنه التقاطها إلا إذا فهم دلالاتها على الفور. فإن كان من الواجب عليك أن تشرح النكتة وتوضح دلالتها فستفقد هدفها ولن تعود قادرة على الاستحواذ على السامع، وبالتالي ستفشل في إحداث نوعية الضحك نفسها. نعم يمكن فهم النكتة فهماً كاملاً، إن قام أحد بتفسيرها، وقد تبقى مضحكة )لإن سامعها على الأقل فاهم لما كان منتظراً منه أن يضحك عليه(، لكنها ستعجز كما أسلفنا ، في أن تحدث نفس التأثير ذاته. وهكذا، فهي لن تعود لتعمل بالطريقة نفسها.

وهذا هو الحال مع الأمثال التي رواها الرب يسوع، والتي يمكننا الافتراض فيها بأن معظم السامعين قد تعرفوا فورًا على دلالاتها التي جعلتهم يدركون الهدف الجوهري لها والتي جعلت الأمثال تستحوذ على انتباههم. أما بالنسبة لنا، فالأمر مختلف. فالأمثال لم تُلق على مسامعنا، ولكنها وصلتنا مكتوبة. نعم قد نستطيع أو قد لا نتمكن من أن نفطن مباشرة للدلالات، إلا أنه لا يمكن لتلك الأمثال أن تعمل فينا بنفس الأسلوب الذي عملته في السامعين الأصليين.

لكن تفسيرنا وشرحنا لها يمكّننا من فهم ما قد أدركوه “هم” أو ما كان يمكننا أن ندركه لو كنا هناك معهم. وهذا هو بالضبط ما يتوجب علينا عمله في عملية التفسير الاستنتاجي. أما مهمة التفسير الحياتي فستأتي لاحقاً، إذ من خلالها سنعرف كيفية فهم واستيعاب فاعلية تلك الأمثال في أيامنا الحاضرة، وفى ظروفنا المعاصرة.

 

التفسير الاستنتاجي للأمثال

ايجاد الدلالات

دعونا الآن نعود إلى التشبيه الذي أوردناه عن النكتة، إن الأمرين اللذين يمكن أن يستحوذا على سامع النكتة وأن يثيرا فيه استجابة الضحك هما نفس الأمر ان اللذان استحوذا على سأمعى أمثال الرب يسوع. هذان الأمران هما: أولاً: معرفة السامعين أصلاً لدلالات القصة. ثانياً: التحول غير المتوقع في القصة. إن مفاتيح فهم القصة عادة ما تكون دلالاتها، وهي تلك الأجزاء المختلفة للقصة والتى يدركها السامع ما إن يسمعها.

فإن فات سامع النكتة فهم هذه الدلالات فيها انتفى عنده الإحساس بالتحول المفاجئ، ذلك لأن الدلالات عادة هي التي تخلق التوقعات العادية. فإن أغفل الشخص سامع المثل هذه الدلالات فيه فستفوته القوة والقصد أيضا مما قد قاله الرب يسوع.

إن أفضل إيضاح يمكننا تقديمه عن “الدلالات” هو مَثل ضربه الرب يسوع ودونه لنا لوقا البشير في قرينته الأصلية كاملاً (لو 7: 40-42). والقرينة الأصلية لهذا المثل تقول: إن الرب يسوع كان قد دُعي إلى عشاء عند واحد من الفريسيين اسمه سمعان. وهنا علينا ملاحظة أن هذه الدعوة لا تتميز بكونها جاءت إكراماً لأحد معلمي اليهود المشهورين. ومع ذلك فلعل إخفاق سمعان الفريسي في إظهار حسن الضيافة المعتاد والتي تميزت به تلك الحقبة من الزمن وفى البيئة الشرق أوسطية كان يعتبر نوعاً من الإهانة المتعمدة.

وفى تلك القصة سنرى أن أحد زواني البلدة سارعت بشق طريقها بين الضيوف إلى حيث كان الرب يسوع جالساً، ثم قامت بغسل قدميه بدموعها ومسحتهما بشعرها، وهذا ما جعلها تبدو حمقاء في عيون المدعوين، وعزز ذلك الفعل شكوك الفريسيين. فحسب رأى الفريسيين كيف يمكن أن يكون الرب يسوع نبياً ولم يقُم بإدانة فعلها المهين أمام الحاضرين؟

أما الرب يسوع العالم بأفكارهم، فقد قام بقص قصة بسيطة على مضيفيه. “كان لدائن مديونان، على الواحد خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامح كليهما”. طبعاً كان هدف المسيح الجوهري من هذا المثل. هو أن يجيب الرجل عن سؤال فقُل أيهما يكون أكثر حباً له؟

ولم تكن هذه القصة بحاجة إلى تفسير، إلا أن الرب يسوع استمر في إيصال الهدف الذي أراده إلى أذهان سامعيه. لقد كان مَثله هذا يتضمن ثلاث دلالات رئيسية واضحة: المداين، والمديونين. فالله يشبه المداين، أما المديونان فهما سمعان والمرأة الزانية. والمثل هو بمثابة كلمة إدانة تتطلب استجابة من سمعان. كان من المستحيل أن يغفل سمعان الهدف، وربما احمرت وجنتاه خجلاً لدى انتهاء يسوع من سرد القصة. وهذا التأثير بالذات هو قوة المثل.

وهنا علينا الانتباه إلى أن المرأة أيضاً قد سمعت المثل ولا بد أنها رأت نفسها في أحد عناصر القصة. إلا أن ما سمعته المرأة لم يكن إدانة لها بل قبولاً من المسيح وبالتالي من الله.

ملاحظة هامة جداً: هذه القصة ليست رمزاً، بل مثلاً. فالقصة الرمزية الحقيقية هي تلك التي يُعطى كل عناصر فيها معنى غريباً تماماً عن القصة نفسها. فالرمز قد يعطى الدنانير الخمسمائة معنى معيناً، بينما يعطى الخمسين معنى آخر. كما أن الرمز قد يعطى معنى لأى تفصيل آخر قد تتضمنه القصة. علاوة على ذلك، هناك أمر آخر يتسم بأهمية خاصة، وهو أن الهدف من هذا المثل لا يكون في العادة موجودًا في دلالاته، كما هو الحال مع القصة الرمزية الفعلية.

بل إن الدلالات فيه لا تتعدى كونها أجزاء القصة التي تشد انتباه السامعين وتنطبق عليهم بطريقة أو بأخرى أثناء إصغائهم ومتابعتهم لها. أما الهدف أو الغاية من القصة، فيمكننا إيجاده في رد الفعل المطلوب. والهدف من هذا المثل هو كلمة إدانة لسمعان وأصدقائه، أو كلمة قبول ومغفرة للمرأة.

معرفة مستمعي الأمثال

سبق وأشرنا في الإيضاح السابق لأهمية معرفة منْ هم سامعو هذا المثل وكيفية تلقيهم للقصة لأن معرفتنا هذه تلعب دورًا في معنى المثل. وبطبيعة الحال، لقد تم ذكر المستمعين في سياق الكثير من الأمثال. وفى حالات كهذه، تكون مهمتك في التفسير ماهى إلا عبارة عن مزج لأمور ثلاثة:

  • أن تجلس وتستمع للمثل مرة تلو الأخرى.
  • أن تتعرف على الدلالات التي قصدها الرب يسوع، وأمكن إدراكها من قِبل المستمعين الأصليين.
  • أن تحاول تحديد كيفية رؤية المستمعين لشخصياتهم من خلال شخصيات القصة وبالتالى لكيفية تلقيهم الهدف الجوهرى.

والآن دعونا نحاول تطبيق هذا الأمر على مثلين مشهورين: مثل السامري الصالح (لو 10: 25-37)، ومثل الابن الضال (لو 15: 11-32). لقد ضرب الرب يسوع مثل السامري الصالح لرجل خبير في الناموس. ومن أجل تبرير نفسه، قال البشير لوقا، بأن هذا الرجل سأل المسيح قائلاً: “ومَنْ هو قريبي؟” ستجد لدى قراءتك للمثل مرة بعد مرة أن الرب يسوع يجيب على السؤال بالشكل الذي طرح به.

لكن بأسلوب مُعَبِر جدًا ساهم في كشف طبيعة ذلك الناموسي المعتد بنفسه وببره الذاتي. فهو كان يعلم تماماً ما يقوله الناموس في محبة الواحد لقريبه كنفسه، ولكنه كان ينوى تفسير معنى كلمة قريب بطريقة تظهر منها تقواه وطاعته للناموس.

وهذه القصة لها فقط دلالتان وهي: الرجل الجريح، والسامري الصالح، مع أن التفاصيل الأخرى في المثل ساعدت على إيضاح أثر القصة. وهنا بالتحديد يجب أن يراعى أمرين:

  • الرجلان اللذان جازا مقابل الرجل الجريح كانا من الطائفة الكهنوتية، ذلك النظام الديني الذي يقف وعلى نفس مستوى معلمي اليهود والفريسيين الذين يعدوا خبراء في الناموس.
  • في نظر الفريسيين كان التصدق على الفقراء ذا أهمية كبيرة، حيث أنه الطريقة الوحيدة التي كانوا يُعبِّرون بها عن محبتهم لأقربائهم كأنفسهم.

لاحظ كيف وقع الفريسي في شراك هذا المثل. كانت حادثة وقوع رجل بين أيدي لصوص على الطريق بين أورشليم وأريحا أمرًا كثير الحدوث. وفى هذا المثل نجد فئتين كهنوتيتين تمران بذلك الطريق وتجتازان مقابل الرجل الجريح. لقد روى الرب يسوع القصة من وجهة نظر الرجل الضحية، ولعل الناموسي قد شعر بسموه. ومن الممكن أن يكون قد دار في خاطره ما يلي: “وهل يمكن أن نتوقع أمرًا آخر من الكهنة؟ على كل حال لابد أن يكون الشخص النازل التالي فريسياً.

وسيظهر محبته للقريب بمساعدة هذا الرجل المسكين”. ولكن، على عكس هذا التوقع، فلم يكن الشخص التالي إلا سامرياً! وهنا عليك أن تتخيل أيها القارئ العزيز مدى ازدراء الفريسيين للسامريين. وإن أردت أن تسمع وأن تدرك ما سمعه الناموسي، لاحظ جوابه الذي جاء ردًا على سؤال الرب يسوع في نهاية القصة، فهو لم يسمح لنفسه حتى أن يتلفظ بكلمة السامري.

هل أدركت ماذا صنع الرب يسوع بهذا الرجل؟ إن الوصية العظمى الثانية هي أن تحب قريبك كنفسك، وقد كان لذلك الناموسي طُرق حسنة كثيرة مكنته من أن يحب قريبه لكن ضمن حدود معينة. أما ما فعله الرب يسوع فقد كشف الكبرياء والحقد في قلب هذا الفريسي، وبالتالي تقصيره الحقيقي والواضح في طاعة تلك الوصية. إذ لم يعد ممكناً لكلمة “قريب” أن تُحَدِّد بمعان محصورة. وقد ظهرت قلة محبة الفريسي في كراهيته للسامريين (وأيضًا في احتقاره للكهنة) وليس في عدم مد يد المساعدة للرجل الجريح.

وهذا أيضًا هو الأمر الحاصل مع مَثل الابن الضال. أما القرينة فقد كانت تذمر الفريسيين من جلوس الرب يسوع والأكل مع الفئة المرفوضة من الناس. إن الأمثال الثلاثة التي حكت عن الأشياء المفقودة في لوقا 15، جاءت بمثابة تبرير الرب يسوع لأعماله. ففي مثل الابن الضال، كانت هناك دلالات ثلاث واضحة: الأب، والابنان.

وهنا أيضًا، نجد بأن ما يحكم كيفية سماع الشخص لهذا المثل هو موقعه في المثل. ولكن في كلتا الحالتين يبقى الهدف هو: أن الله لا يغفر للضالين مجاناً فقط، بل ويقبلهم أيضًا بفرح عظيم. فالذين يعتبرون أنفسهم أبرارًا يظهرون بعكس ذلك عندما لا يشتركون في فرحة الأب بالابن الضال.

بطبيعة الحال، لقد استطاع شركاء المسيح على مائدة الطعام هنا وفى هذا المثل أن يروا أنفسهم من خلال الابن الضال، تمامًا كما ينبغى أن نفعل نحن أيضًا جميعًا. إلا أن قوة المثل التي نريدها لا نجدها إلا في موقف الابن الآخر، الذي كان دائما مع الأب، ومع ذلك فقد عزل نفسه خارجًا. فقد أخفق في مشاركة الأب محبة قلبه للابن الضال.

وهنا وكما في كل هذه الحالات، أو غيرها، ستنشأ صعوبات في الفهم وصعوبات في الاستنتاج، وسنوجهها في أغلب الأحوال. وصعوبة الفهم هذه عادة ما تسببها الفجوة البيئية التي تفصل بيننا وبين مستمعي الأمثال الأصليين، مما يجعلنا نغفل بعض أدق النقاط التي تتركب منها القصة كلها.

وهنا قد تحتاج في هذه المرحلة – صديقنا الدارس – إلى مساعدة خارجية، لكن عليك ألا تهمل هذه الأمور، لأن معرفة العادات الاجتماعية والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك وأضفت الواقعية على القصص الأصلية أمر مهم جدًا.

الأمثال التي ليست لها قرينة

لكن ما الذي يمكن أن نفعله مع تلك الأمثال الموجودة في الأناجيل دون ذكر لقرينتها التاريخية الأصلية؟ لقد سبق وأوضحنا هذا الأمر في الفصل السابق من خلال مثل الفعلة في الكرم (مت 20: 1-16)، لذلك سنقوم الآن بمراجعة موجزة فقط. نكرر ونقول بأن القضية هي قضية تحديد المستمعين الأصليين وتحديد دلالات المثل. ولعل المفتاح الذي يقود للحل يكمن في تكرار قراءة المثل إلى أن تبرز دلالاته الرئيسية بوضوح. ويساعد هذا الأمر عادة على إعطاء الدارس دليلاً مباشرًا لمسألة المستمعين الأصليين.

وعليه، ففي مَثل الفعلة في الكرم، نجد ثلاث دلالات رئيسية: صاحب الكرم، والفعلة الذين عملوا طوال اليوم، والفعلة الذين عملوا لمدة ساعة فقط. إن تحديد هذا الأمر سهل، وذلك لأن المذكورين هم الوحيدون الذين دارت حبكة القصة حولهم.

وهنا يسهل أيضًا تحديد السامعين الأصليين. فمَنْ ذا الذي كان سيرى نفسه في شباك قصة كهذه؟ من الواضح تمامًا أنهم أولئك السامعون الذين يتمثلون في فعلة الكرم الذين عملوا طوال اليوم، خاصة وأن خاتمة المثل تركز عليهم وحدهم.

هكذا كان الأمر أيضا في مثل الابن الضال. فالله منعم، أما البار فعليه ألا يحسد المستفيدين من كرم الله. والذي حدث في القرينة الراهنة التي أوردها البشير متى هو أن القصد ذاته قد تم توجيهه إلى مستمعين جدد. ففي قرينة التلمذة، عَدّ هذا المثل تأكيدًا على كرم الله، بالرغم من اعتراضات الآخرين أو حقدهم.

وهنا يمكننا رؤية نفس هذا الأمر وقد حدث في مَثل الخروف الضال (مت 18: 12-14). ففي إنجيل لوقا، عمل هذا المثل إلى جانب مثل الدرهم المفقود ومثل الابن الضال كرسالة موجهة إلى الفريسيين. كان واضحًا أن الخروف الضال هو الخاطئ الذي يؤدي إيجاده إلى فرح في السماء. مرة أخرى، وكرسالة للفريسيين، كان يبرر الرب يسوع بهذا المثل قبوله للمنبوذين، أما للمنبوذين أنفسهم، فقد كان يؤكد لهم بأنهم غاية الراعي المحب من بحثه.

نجد هذا المثل أيضًا في إنجيل متى لكن كجزء من مجموعة أقوال تدور حول العلاقات في إطار الملكوت. ونجد القصة نفسها في هذه القرينة الجديدة، اهتمام الله بالضالين. ولكن الضالين هنا كانوا تلك الخراف التي ضلت عن القطيع. في إنجيل متى، كان الرب يسوع يتحدث من خلال المثل عما ينبغي فعله لأولئك الأصاغر ذوي الإيمان الضعيف والميالين إلى الضلال. وفى الأعداد من 6-9 في إنجيل متى نرى يسوع وهو يخاطب جماعته ويحذرهم من خطورة التسبب في ضلال أحد أولئك الأصاغر.

أما في الأعداد 10-14، فهو يحكى لهم مَثل الخروف الضال بضرورة الانطلاق للبحث عن ذلك الضال وإعادته إلى الحظيرة ومعاملته بمحبة. وهنا نرى أن المثل والهدف بقي نفس الهدف لكن المستمعين كانوا من نوع جديد تمامًا.

أمثال الملكوت

قمنا حتى الأن بأخذ إيضاحاتنا من الأمثال التي تُظهر الخلاف ما بين الرب يسوع والفريسيين. إلا أنه يوجد مجموعة أكبر من الأمثال – وهي أمثال الملكوت – يجدر بنا التحدث عنها. صحيح أن كل الأمثال التي سبق ومررنا بها عن الملكوت أيضًا إذ إنها تُعبِّر عن بزوغ فجر زمن الخلاص بمجيء الرب يسوع. إلا أن الأمثال التي نحن بصددها الآن هي وبالتحديد تلك التي تبدأ بعبارة “يشبه ملكوت الله…”.

أولاً:    علينا أن ننتبه إلى أن عبارة يشبه ملكوت الله تمهيدية لا ينبغي أن تفسر بالارتباط مع العنصر الأول الوارد في المثل. أي أن ملكوت الله لا يشبه حبه خردل أو تاجرًا أو كنزًا مدفونًا في حقل. فالمعنى المقصود من هذه العبارة التمهيدية هو: “هكذا يكون الحال أو الأمر في ملكوت الله…”. وعلى هذا الأساس فإن المَثل كله بجملته يقول لنا شيئا عن طبيعة الملكوت، وليس فقط بعضًا منه أو أحد دلالاته أو عناصره أو تفاصيله.

ثانيًا:    نجد إغراء في التعامل مع هذه الأمثال بطريقة مختلفة عن تعاملنا مع الأمثال التي سبق وبحثنا فيها، وكأنها في الحقيقة وسائل تعليم بدلاً من أن تكون قصصًا تتطلب استجابة أو رد فعل. ولكن هذا لا يعنى أن نسيء استخدام الأمثال. فمن المسلم به تمامًا أن الموضوعات الموحى بها من الله في كل من إنجيل مرقس 4 وإنجيل متى 13 وفي ترتيبها الحالي قد أُعطيت بقصد تعليمنا عن الملكوت، إلا أن هذه الأمثال كانت في الأصل جزءًا من المناداة الفعلية للرب يسوع بالملكوت الذي بزغ فجره بمجيئه شخصيا.

إن هذه الأمثال نفسها هي وسائل نقل للرسالة التي تتطلب الاستجابة لدعوة الرب يسوع للتلمذة.

خذ على سبيل المثال، مَثل الزراع الذي فسره الرب يسوع (مر 4: 3-20، مت 13: 3-22، لو 8: 5-15)، والذي اعتبره إنجيل مرقس المفتاح لفهم بقية الأمثال.

لقد فسر الرب يسوع دلالات المثل، فأنواع التربة الأربعة تشبه أربعة أنواع من الاستجابة للمناداة بملكوت الله. أما الهدف الجوهري الذي رمى إليه المثل فهو الإلحاح العاجل للوقت (مر 4: 3-20). لذلك نلاحظ أن معظم هذه الأمثال قد وُجهت إلى الجموع بصفتهم يمكن أن يصيروا تلاميذ.

وبما أن هذه الأمثال هي في حقيقتها أمثال الملكوت، نراها الآن وهي تنادي بالملكوت باعتباره “جاء بالفعل – ولم يأت بعد أيضًا”. لقد كان تشديدها يتركز على “ما جاء بالفعل”. فقد أتى ملكوت الله وساعة الله قد حانت، لذلك تتسم اللحظة الحالية بالإلحاح الشديد. ويتميز هذا الإلحاح في كرازة المسيح بأمرين:

إن الدينونة وشيكة والكارثة على الأبواب.

لكن هناك خبرًا سارًا فالخلاص متوفر للجميع. وهنا دعونا نتأمل في مثلين آخرين سيوضحان هذين الجانبين:

  • في لوقا 12: 16-20 تم وضع مَثل الغنى الغبي ضمن قرينة من المواقف تتعلق بالممتلكات، وكان ذلك في ضوء حضور الملكوت. إنه مَثل يسهل فهمه، وبه رجل ثرى ظن أنه بسبب اجتهاده قد أمن على حياته بأنه يستطيع الآن أن يستريح مطمئنًا. ولكن كما قال الرب يسوع في مواضع أخرى: “فإن مَنْ أراد يُخلِّص نفسه (أي يضمنها) يُهلكها” (مر 35:8 وما يوازيها). وهكذا. وبحسب منطق الكتاب المقدس، فإن هذا الرجل أحمق، لأنه حاول أن يعيش حياته دون أن يضع الله في الحسبان، وهناك كارثة مفاجئة توشك أن تحل به.

لم يكن الهدف من هذا المثل هو الحديث عن المجيء المفاجئ للموت، لكن الحديث عن الطبيعة المُلحة والعاجلة للوقت. فالملكوت على الأبواب، ومن الحماقة أن يعيش الشخص حياته من أجل ممتلكاته لكي يؤمِّن نفسه، خاصة عندما تكون النهاية على الأبواب.

لاحظ كيف عززت القرينة هذا الأمر، فقهيا رجل يريد من أخيه أن يقاسمه الميراث، إلا أن الرب يسوع رفض التدخل في التحكيم في قضيتهما وأخبرهم بهذا المثل الذي كان الهدف منه الايضاح بأن الرغبة في اقتناء الممتلكات لا تتناسب وإلحاح الساعة.

  • إن الساعة المُلحة التي تتطلب عملاً وتوبة هي أيضا ساعة الخلاص. وعليه، فإن حضور ملكوت الله هو في نفس الوقت خبر سار. ففي المثلين التوأمين بمتى 13: 44-46 (الكنز في الحقل واللؤلؤة الغالية الثمن) نجد التشديد مُنصباً على فرحة الاكتشاف. فالملكوت قد أدرك الأول، بينما سعى الآخر نحو الملكوت.
  • وبفرح قام كل منهما ببيع كل ما لديه من أجل الكنز واللؤلؤة. والملكوت ليس هو الكنز ولا اللؤلؤة، لكن الملكوت هو هبة الله. أما اكتشاف الملكوت ففرح لا ينطق به، وستلاحظ أيضاً كيف أن الدافع ذاته ظهر في الأمثال الثلاثة للأشياء المفقودة (لوقا 15).

إذن، هذه هي الطريقة التي نحتاج بها أن نتعلم قراءة الأمثال ودراستها. وهنا لا يفترض منا أبدا أن نحول الأمثال إلى رموز، بل علينا الاستماع لها وكأنها نداءات تتطلب استجابة للرب يسوع وخدمته.

 

التفسير الحياتي للأمثال

إن مهمة التفسير الحياتي التي تطرحها الأمثال فريدة من نوعها. ولهذه المهمة علاقة بحقيقة مفادها أنه عندما قيلت الأمثال في الأصل كادت ألا تحتاج إلى تفسير. فقد كان لها بداهتها الفورية في آذان السامعين بحيث كام جزء من تأثيرها في الكثيرين سببه قدرتهم على إدراك ما تهدف إليه. ومع ذلك. فقد جاءتنا هذه الأمثال مكتوبة، وبالتالي احتاجت إلى تفسير، نتيجة لافتقارنا لفهم دلالات الأمثال بالشكل الفوري الذي امتاز به السامعون الأصليون. ما علينا فعله إذاً.

نقترح أمرين:

كالعادة نحن نهتم أساساً بالأمثال في قرائنها الكتابية الحالية، لأنها قد وُجدت لنا في هذه القرائن ومن خلال التفسير الاستنتاجي الذي وضعناه لها سابقاً يمكننا اكتشاف معناها وغايتها بدرجة عالية من الدقة. وما نحتاج لإليه إذاً هو ما عمله متى (18: 10-14، 20: 1-16) هو ترجمة نفس الهدف الجوهري أو الغاية إلى ما يناظرها في قرينتنا المعاصرة.

وهنا نقول إنه من الجائز أن تحاول مع الأمثال القصصية بالذات رواية القصة بإعطائها دلالات معاصرة بحيث يستطيع السامعون المعاصرون الإحساس بالغضب أو بالبهجة التي اختبرها السامعون الأصليون. إن الصياغة التالية هي إعادة لمثل السامري الصالح لكننا نتخيل فيها هذا المثل وقد حدث في مجتمع معاصر وحديث في الغرب.

فى صباح يوم من أيام الأحد، وقفت عائلة فقيرة وبائسة ومستميتة على جانب أحد الطرق الرئيسية. فالكآبة كانت بادية على وجوههم والبؤس يوشح من ملامحهم. في هذا المشهد الحزين ترى الأم وهي جالسة على حقيبة ثياب بالية وقد تشعث شعرها واتسخت ثيابها، تنظر نظرة حزينة وهي تحمل بين ذراعيها طفلاً تفوح منه رائحة كريهة وهو يبكي بلا توقف. أما الأب ذو الذقن المسترسلة فكان يرتدى ملابس العمال ونظرات العبوس تنطلق من عينيه وهو يراقب ولديه الآخرين.

كانت هناك سيارة صغيرة وقديمة جدا بجانب العائلة، وقد تعطل محركها والناظر إلى السيارة يرثي لما عمله الزمن، إذا كانت حالتها كمَنْ أسلم الروح. لم تمض فترة طويلة حتى أتت من بعيد سيارة فاخرة كان الراعي هو مَنْ يقودها في طريقه إلى الكنيسة. وطبعاً ما إن رأى ربُّ الأسرة المسكينة السيارة تقترب منه حتى قفز من مكانه ملوحاً بيديه كمَنْ لدغته أفعى – لكن الراعي اجتاز العائلة مفتعلاً عدم رؤيتها، لأنه على ما يبدو، لم يكن راغباً في أن يطيل انتظار أفراد رعيته المحبوبة.

وبينما كانت سيارة الراعي تعانق الأفق البعيد، لاحت في الأفق القريب سيارة أخرى فتصدى لها الأب بسخط وغضب، لكن صاحب السيارة إذا كان رئيسا لإحدى الجمعيات الخيرية في تلك المنطقة، لم يشأ أن يتأخر عن موعد الكنيسة وهذا أيضاً تظاهر بعدم رؤيته للعائلة المنكوبة، مثبتا عينيه على الطريق، حتى اجتازهم مسرعاً.

أما السيارة الثالثة، فكان يقودها شخص معروف في المدينة بإلحاده وهو لم يدخل الكنيسة في حياته قط، لكنه لدى مروره بهذه العائلة التعيسة، أوقف سيارته على جانب الطريق ودعاهم للركوب معه. وبعد استفساره عن حاجتهم، أخذهم إلى إحدى الشقق السكنية المعروضة للإيجار وقام بدفع ما يوازى إيجار أسبوع وتغطية مصاريف الأسرة المشتملة على طعامهم وشرابهم أملاً في أن يجد الأب المسكين عملاً يرتزق به. ليس هذا فقط، بل قام أيضا بإعطاء الأب ما يكفي للانتقال للبحث عن عمل، وأعطى الأم بعض المال لتأمين بعض احتياجات أطفالها.

هذا هو ما جرب فعله أحد المؤلفين مرة. أما الذين سمعوه فتجاوبوا برد فعل غاضب ومستنكر إذ كانوا يفهمون “المثل” للمرة الأولى. ألعلك لاحظت مدى انطباق هذه القصة على قرينة المثل الأصلية؟ لقد كان المستمعون في هذه القصة يفكرون بالراعي وبرئيس الجمعية الخيرية، قائلين: (بالطبع هذا متوقع منهم) وكانوا يتوقعون أن يكون الشخص الذي يليهما من كنيستهم. وعلى كل حال، فنحن تعودنا في جيلنا أن نتحدث عن السامري الصالح وكأن السامريين كانوا أكثر الناس احترامًا.

ولكن بالنسبة للناس الصالحين الذين اعتادوا ارتياد الكنائس، فلا يوجد أمر أكثر إساءة لمشاعرهم من أن تمتدح أمامهم أعمال شخص مُلحد. وكان هذا هو بالضبط حال الناموسي في قرينة المثل الأصلية.

قد يكون هذا الأمر قاسياً على البعض، لكننا نصر بأنك أن تحاول عمل شيء من هذا القبيل فعليك القيام بالتفسير الاستنتاجي أولاً وبكل حذر، لأن تجربتنا علَّمتنا أننا وللأسف نبالغ في مدح أنفسنا، مما يجعلنا عازفين عن سماع أي إعادة أو صياغة جديدة لأمثال الرب يسوع، إذ قد تتناول قصورنا في أن نغفر لبعضنا (مت 18: 23-35)، أو غضبنا على النعمة عندما نريد أن يكون الله عادلاً (مت 20: 1-16)، أو كبرياءنا بسبب معرفتنا لمراكزنا في المسيح مقارنة مع الأشرار (لو 18: 9-14).

أذكر مرة كيف أننا لم ندر هل نضحك أم نبكى بعد سماعنا لمدرس في مدرسة الأحد كان قد أمضى ساعة في شرح رائع لهذا المثل (لو 18) تناول فيه تجاوزات الفريسيين. وبعد أن انتهى من شرحه، اختتم الدرس بصلاة ملؤها الصدق قائلاً فيها: نشكرك يارب لأننا لسنا مثل مدرس مدارس الأحد ذلك.

إن اقتراحنا الآخر للتفسير الحياتي متعلق بحقيقة أن كل أمثال المسيح هي من جهة خاصة وسائل للمناداة بالملكوت، لذلك نرى أنه لزامًا عليك الخوض في معنى الملكوت في خدمة السيد المسيح، وذلك بالرجوع إلى الدراسات الجيدة عن هذا الموضوع.

إن الرسالة العاجلة عن الملكوت باعتباره حاضرًا وموشكًا على الاكتمال لا تزال مطلوبة في يومنا الحاضر. فأولئك الذين يحاولون تأمين حياتهم باقتناء الممتلكات يحتاجون وبشكل مُلح إلى سماع كلمة الله عن الدينونة الوشيكة، وبالتالي يحتاج الضالون إلى سماع الأنباء السارة.

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 8 – الأمثال وكيفية فهمها والهدف منها