آبائيات

التجديف على الروح القدس – ما هو و كيف يتفق مع رحمة – للقديس أثناسيوس الرسولي

التجديف على الروح القدس

التجديف على الروح القدس – ما هو و كيف يتفق مع رحمة – للقديس أثناسيوس الرسولي

التجديف على الروح القدس
التجديف على الروح القدس

هذه هي الكلمات التي تسأل عن معناها: بعد أجراء معجزات كثيرة كما ذكر الإنجيل قال الفريسيون “هذا الإنسان يخرج الشياطين ببعلزبول رئيس الشياطين” والرب الذي عرف أفكارهم قال لهم ” كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب” (مت12: 24- 25). وبعدها مباشرة قال ” إن كنت بروح الله أخرج الشياطين فقد جاء عليكم ملكوت الله” (مت12: 28). ثم ختم بقوله ” كل خطية وتجديف يغفر أما التجديف على الروح القدس فلا مغفرة له لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضًا” (مت12: 31ـ32).

ومن هنا جاء سؤالك: لماذا يغفر التجديف على الابن؟ ولماذا لا يغفر التجديف على الروح القدس لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضًا؟

… أجد في الكلمات السابقة عمقًا عظيماً، ولذلك بعد أن صليت بلجاجة للرب الذي جلس عند البئر ومشى على المياه، أعود إلى تدبير الخلاص الذي تمَّ، راجياً أن أكون قادراً على أن أملأ دلوي من معاني الكلمات الإنجيلية التي نبحثها.

كل الكتب الإنجيلية وبالذات يوحنا تخبرنا عن التدبير الإلهي ” الكلمة صار جسداً وسكن فينا” (يو1: 14) وبولس عندما يكتب: ” الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب مساواته لله اختلاساً بل أخلى ذاته وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس” (في2: 6- 8). ولأنه الإله الذي أخلى ذاته وصار إنسانًا، أقام الموتى وشفى المرضى، وبكلمته حول الماء خمرًا… وهذه كلها أعمال ليست من قدرة البشر.

ولكنه جاع وعطش وتألم لأنه أخذ جسداً وكل أعمال الجسد ليست من صفات اللاهوت. كإله قال ” أنا في الآب، والآب فيَّ”(يو14: 11) ولأنه أخذ جسدًا حقًا وبكل يقين، انتهر اليهود قائلاً: ” لماذا تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلّمكم بالحق الذي سمعه من الله” (يو8: 40). ورغم كونه إلهاً إلا أنه لم يقم بهذا المعجزات مرة واحدة، لأنه تجسد وكان عليه أن يواجه الاحتياجات والظروف المرتبطة بحياته كإنسان.

لكن لم تكن أعمال الجسد تتم بدون اللاهوت، أو أعمال اللاهوت تتم بدون الجسد، بل على العكس كل أعماله صنعها الرب الواحد، الذي أكمل كل شئ في سر نعمته. وعلى سبيل المثال، بصق على الأرض كما يبصق كل الناس، لكن لعابه وحده كان فيه قوة إلهية لأنه وهب به البصر لعيني المولود الأعمى (يو9: 6). ورغم أنه الإله إلا أنه تكلم بلغة بشرية، وقال ” أنا والآب واحد” (يو10: 30). وبإرادته منح الشفاء (مت 8: 3). ولكن عندما مد يده الإنسانية. أقام حماة سمعان بطرس من الحمى (مر31:1) وبنفس اليد أقام من الموت ابنة رئيس المجمع (مر5: 4).

وقد أخطأ الهراطقة كل حسب مقدار جهله. البعض منهم نسب كل ما حدث من الرب لجسده (أي كإنسان) وتعاموا عن القول الإلهي ” في البدء كان الكلمة” (يو1:1). والبعض نسب ما حدث إلى لاهوته فقط، ولم يفهموا القول ” الكلمة صار جسدًا” (يو1: 14). لكن المؤمن الذي يتبع تعليم الرسل يعرف غنى الرب ومحبته للبشر. وعندما يرى أعماله العجيبة الإلهية يمجد الرب الذي ظهر في الجسد.

وعندما يرى أعمال الجسد يتعجب ويرى فيها القوة الإلهية التي تعمل. هذا هو إيمان الكنيسة، ولذلك إذا ثبت البعض عيونهم على الجانب الإنساني في حياة الرب وشاهدوه يختبر الجوع والتعب والألم يتحدثون عنه بدون تقوى كمن يتحدث عن إنسان فقط، فيخطئون بذلك خطية عظيمة. وبلا شك أن لم يتأخروا في التوبة يمكنهم الحصول على المغفرة لأن ضعفهم الإنساني هو عذر لهم.

وحتى الرسول يمنحهم المغفرة وبطريقة ما يمد يده إليهم لأنهم بالحق يقول ” وبدون جدل، عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1تي3: 16). وعندما يرى البعض أعمال اللاهوت يترددون في الاعتراف بإنسانيته وهذا خطأ بالغ، ويتوهمون عندما يقرأون أن الرب يأكل ويتألم أنه خيال، هؤلاء إذا لم يتأخروا في التوبة سيغفر لهم يسوع لأنهم لا يفهمون أعماله الفائقة التي أتمها في الجسد. وإذا فحصنا جهل هؤلاء وأولئك، أي الذين يخطئون ولهم معرفة بالناموس مثل الفريسيين، أو الذين يستسلمون للجنون وينكرون وجود الكلمة في الجسد، أو يذهبون إلى أبعد من هذا عندما ينسبون أعمال اللاهوت إلى الشيطان وجنوده.

فأنه من العدل أن تكون عقوبة عدم تقواهم هي عدم المغفرة لأنهم اعتبروا الشيطان مثل الله وحسبوا أن من هو بالحقيقة الله، لا شئ في أعماله يدل على ألوهيته، بل أنه الشيطان يستخدم أعوانه.

وإلى هذا الدرجة السفلى من عدم التقوى انحدر اليهود في ذلك الزمان وبالذات الفريسيون منهم. ورغم أن الرب كان يقوم بأعمال الآب علانية، فهو أقام الموتى ومنح النظر للعميان وجعل العرج يمشون وفتح آذان الصم وجعل الخرس يتكلمون معلناً أن الخليقة العاقلة وغير العاقلة خاضعة له، لأنه هو الذي أمر الريح ومشى على البحر، والجموع عاينت هذا وامتلأت بالدهشة ومجدت الله، إلا أن الفريسيين قالوا إن هذه أعمال بعلزبول، ومن فرط جنونهم لم يخجلوا من أن يعطوا للشيطان قوة الله.

وأمام هذا أعلن الرب بالحق أن تجديفهم بلا مغفرة، لأنهم عثروا في كل ما يختص بإنسانيته وكان لهم في المسيح كإنسان، رأي شرير، وإذ قالوا ” أليس هذا ابن النجار” (مت13: 55) وكيف يفهم الكتب وهو لم يدرسها (يو7: 15)، وما هي المعجزات التي ” تعملها لنؤمن بك” (يو6: 30) و” لينزل عن صليبه الآن لنرى ونؤمن” (مت 27: 42). وقد احتمل الرب كل هذا، وسمى الإنجيل مثل هذه الأقوال بالتجديف على ابن الإنسان، وتألم الرب من قساوة قلوبهم (مر3: 5) وقال لو كنتم تعلمون ما هو سلامكم (لو42:19).

وغفر الرب لبطرس عندما تكلمت معه الجارية عن يسوع كإنسان وأجاب بطرس بطريقة لا تختلف عن رأي الجارية وكلامها، ولكن الرب غفر له عندما بكى بدموع. أما عندما سقط الفريسيون إلى أدنى من كل هذا وتفوهوا بما هو أشر من كل ما سبق، حتى أنهم قالوا إن أعمال الله هي أعمال بعلزبول لم يحتملهم لأنهم جدفوا على روحه بقولهم أن من يعمل هذه الأعمال ليس الله ولكنه بعلزبول.

ولهذا السبب استحقوا عقوبة أبدية. وفي الحقيقة أن جرأتهم زادت عن الحد وعندما رأوا ترتيب العالم والعناية به نسبوا الخلق إلى بعلزبول، حتى أن الشمس صارت بحسب قولهم تحت سلطان الشيطان وأصبح الشيطان هو الذي يحرك النجوم في السماء، لأن كل أعمال الآب كخالق، عملها يسوع فإذا قالوا أن أعمال يسوع هي أعمال بعلزبول، فكيف إذن يفهمون القول الإلهي ” في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك1:1).

ولكن مثل هذا الجنون ليس غريباً عنهم لأن آباءهم أظهروا نفس الطباع، فبعد خروجهم من مصر صنعوا العجل الذهبي في البرية ونسبوا إليه المعجزات والبركات التي أخذوها من الله وقالوا ” هذه آلهتك يا إسرائيل التي أخرجتك من أرض مصر” (خر32: 4) وبسبب هذا التجديف الذي ارتكبه أولئك المجانين تم فناء الكل في البرية وأعلن الله أنه في يوم افتقاده ” سوف يجلب شرهم عليهم” (خر32: 34).

وعندما اشتكوا من انعدام الخبز والماء اهتم بهم تمامًا مثل اهتمام المرضعة برضيعها، ولكنهم زادوا الشكوى إلى الحد الذي وصفه الروح القدس في المزامير ” أبدلوا مجده بصورة العجل الذي يأكل الحشيش” (مز105: 20). وعندما اجترأوا على ارتكاب مثل هذا العمل الذي لا مغفرة له ضربهم الرب كما يقول الكتاب بسبب العجل الذي سبكه هارون (خر32: 35).

وتصرف الفريسيون بنفس الوقاحة ولذلك أخذوا من الرب عقوبة مماثلة، بل هي عقوبة مثل عقوبة بعلزبول نفسه الذي تحدثوا عنه، كي يحترقوا معه بنار أبدية.

ولم يكن الرب يقصد بما قاله في الإنجيل أن يقارن بين التجديف الموجه ضده والتجديف الموجه للروح القدس، ولا أشار ولو من بعيد أو بطريق غير مباشر إلى أن الروح القدس أسمى منه. ولا لأن التجديف على الروح أخطر، نطق الرب بهذه الكلمات ـ حاشا ـ لأنه علّم من قبل أن كل ما هو للآب فهو للابن، وأن الروح يأخذ من الابن وبذلك يمجد الابن (يو16: 14ـ15). والروح لا يعطي الابن بل الابن هو الذي يعطي الروح وقد أعطاه لتلاميذه، وبهم يعطيه لمن يؤمنون به بواسطتهم.

ولم يكن الرب يقارن نفسه بالروح عندما قال هذه الكلمات، كما أنها لا تعني أن الروح أسمى من الرب، فهذا سوء فهم لكلمات المخلص. والتجديف بنوعيه موجه بالضرورة للروح القدس. والنوع الأول من التجديف محتمل، أما النوع الثاني فهو خطير.

وقد ارتكب الفريسيون نوعي التجديف لأنهم رأوه إنسانًا فأهانوه بقولهم: ” من أين له هذه الحكمة” (مت13: 54). وقولهم: أنت لم تبلغ بعد من العمر ثلاثين سنة فكيف رأيت إبراهيم (يو8: 57). ورغم أنهم رأوا أعمال الآب فيه إلا أنهم لم يرضوا بألوهيته. وبدلاً من هذا قالوا إن بعلزبول فيه، وإن هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول، وبذلك أصبح تجديفهم بنوعية موجه ضده.

والنوع الأول أقل خطورة بسبب العذر الواضح وهو إنسانيته، أما النوع الثاني فهو أكثر خطورة لأنه إهانة موجهة إلى ألوهيته. ومثل هذا التجديف الخطير هو الذي استدعى عقوبة عدم المغفرة. ومن الواضح أن الرب كان يشجع التلاميذ عندما قال لهم ” إذا كانوا قد دعوا رب البيت بعلزبول” (مت10: 25)، وأكدَّ هنا أنه هو رب البيت الذي جدف عليه اليهود.

أما اليهود فعندما قالوا عنه “بعلزبول”، فهم لم يهينوا أحدًا سوى الرب يسوع وهذا واضح من التعبير نفسه. لأن كلمة “الروح” في نص الإنجيل ” أما التجديف على الروح” (مت12: 31) تشير إلى الرب نفسه. وكل هذا القول يقصد به نفسه. لأن “رب البيت” يراد به المسيح أي رب الكون كله. وأنا أرجوك أن لا تتضايق من هذا التكرار فهو لازم إذا كنا نحرص على الوصول إلى المعنى الدقيق للنص ولذلك سأعود إلى ما ذكرته سابقاً أن الجوع والتعب والنوم والإهانات كلها خاصة بناسوته، أما الأعمال الباهرة التي كان يقوم بها الرب، فلم تكن أعمال إنسان بل أعمال الله.

لذلك إذا ما شاهد بعض الناس الأشياء الخاصة بالإنسان مثل الجوع… الخ، وأهانوا الرب لأنه حسب ظنهم مجرد إنسان، فقد حسبوا مستحقين لعقوبة أقل من عقوبة أولئك الذين ينسبون أعمال الله للشيطان. لأن هؤلاء لا يكتفون بإلقاء الأشياء المقدسة للكلاب (مت7: 6)، بل يجعلون الله مساوياً للشيطان ويدعون النور ظلمة (إش5: 20). لذلك سجل مرقس أن تجديف اليهود بلا مغفرة، ” وأما من جدف على الروح القدس فلن يغفر له بل هو مستحق دينونة أبدية، لأنهم قالوا أن به روحًا نجسًا” (مر3: 29ـ30).

والرجل الأعمى منذ ولادته عندما أبصر، شهد بأنه لم يسمع من قبل أن أحداً فتح عيني مولود أعمى، ولذلك قال ” إذا لم يكن هذا الإنسان من الله لا يستطيع أن يفعل شيئًا” (يو9: 32ـ33). حتى الجموع نفسها عندما امتلأت من الإعجاب بما فعله الرب قالت:

” إن هذه ليست أعمال من فيه شيطان هل يقدر شيطان أن يفتح أعين العميان” (يو10: 21). أما هؤلاء الذين امتلأوا من معرفة الناموس، أي الفريسيون وهم الذين يلبسون العصائب العريضة (مت23: 5)، ومزهوون بمعرفتهم بالناموس أكثر من باقي الناس(يو9: 24ـ29)، كان من المفروض عليهم، بسبب هذه المعرفة، أن يخجلوا ولكن كما هو مكتوب عنهم أنهم ” تعساء لأنهم ذبحوا للشيطان وليس لله”(تث32: 17).

وعندما قالوا إن بالرب شيطانًا وإن أعمال الله هي أعمال الشيطان لم يكن لديهم أي أسباب مقنعة تدفعهم إلى هذا الاعتقاد. والدافع الحقيقي لمثل هذا التجديف هو رغبتهم في أن ينكروا أن الذي يعمل هذه الأعمال هو الإله ابن الله. وبالحقيقة لقد أكل أمامهم وشاهدوا جسده وتأكدوا أنه إنسان فكان لديهم فرصة لأن يقتنعوا من أعماله أن الآب فيه وأنه في الآب. أما لماذا لم يقتنعوا؟ فلأنهم لم يشاءوا.

وفي الحقيقة لقد سكن بعلزبول في الفريسيين. وكان بعلزبول هو الذي يتكلم فيهم. ولذلك قالوا عن المسيح أنه مجرد إنسان، بسبب ناسوته، دون الاعتراف به إلهًا بسبب أعماله التي هي أعمال الله. ولكن بهذه السقطة ألَّهوا بعلزبول الذي سكن فيهم، والذي في النهاية سوف يعاقبون معه في النار إلى الأبد.

ودراستنا للنص توضح لنا أنه يعني نوعي التجديف اللذين أشرنا إليهما سابقًا. ذلك أن المخلص أشار إلى نفسه عندما قال “ابن الإنسان” ولكنه كان يعني أيضًا نفسه عندما تحدث عن “الروح”. والاسم الأول “ابن الإنسان” يوضح تجسده، والاسم الثاني “الروح” يوضح طبيعته الروحية غير المادية ولاهوته. وفي الواقع أن الخطية التي يمكن غفرانها هي العثرة الناتجة عن رؤية ناسوته، أي ما يتعلق به كابن الإنسان، ولكنه أوضح أن التجديف الذي لا يمكن مغفرته هو التجديف على “الروح” أي على الطبيعة الإلهية …

واستعمال كلمة “روح” جاء بنفس المعني في حديث الرب مع السامرية عندما وجه فكرها إلى المعنى الروحي ورفع نظرها إلى الأمور غير المادية بقوله لها “الله روح” (يو4: 24)، لكي يستقر في قلبها الفهم الصحيح عن الله، أنه ليس من طبيعة مادية محصورة في مكان بل أنه روح. وهذا ما يعنيه كلام النبى الذي يقول عندما يشير إلى الكلمة وقد تجسد: “روح حياتنا هو المسيح الرب” (مراثي 4: 20). وحتى لا يعثر أحد ما بالشكل الخارجي الملموس ويظن أن الرب هو مجرد إنسان، جاءت كلمة “الروح” لتؤكد أن الذي في الجسد هو الله.

وهكذا يبدو لنا أمران ظاهران تمامًا:

الأول هو حالة من يرى الرب في الجسد ويعتبره مجرد إنسان، ويقول بعدم إيمان ” من أين الحكمة لهذا الإنسان” (مت13: 54). وكل من يتكلم بهذا يخطئ بدون شك ويجدف على ابن الإنسان

والثاني يرى أعماله التي تتم بالروح القدس ويقول إن صانع هذه الأعمال ليس الله ولا ابن الله، وينسب هذه الأعمال لبعلزبول، مثل هذا ينكر لاهوته، وهذا ما يظهر واضحاً عدة مرات في الإنجيل، لا سيما في النص الذي نشرحه.

ومرة أخرى، نكرر، عندما يوصف الرب بأنه “ابن الإنسان” فهو نفسه يستخدم هذا اللقب لتأكيد بشريته، ولكن عندما يتحدث عن الروح أي الروح القدس الذي به يصنع كل هذه الأعمال، أى (الروح) الكائن فيه، يقول بعد إتمام أعماله الباهرة: ” إذا كنتم لا تؤمنون بي فعلى الأقل آمنوا بالأعمال التي أعملها لكي تعرفوا أنني في الآب والآب فيَّ” (يو10: 38).

أما عن موضوع موته عنا بالجسد، عندما صعد إلى أورشليم (مت20: 18) لهذه الغاية، فقد قال لتلاميذه: ” ناموا الآن واستريحوا لأن الساعة قد أتت وابن الإنسان سوف يسلم لأيدي الخطاة” (مت20: 45). وحقًا أن أعماله تجعل أي إنسان يؤمن أنه بالحقيقة الله، ولكن موته يؤكد أيضًا أنه بالحقيقة تجسد. ولهذا السبب قال إن الذي سيسلم لأيدي الناس الخطاة هو ابن الإنسان، لأن الكلمة غير مائت ولا يمكن لمسه بل هو في جوهره الحياة نفسها.

ولكن عندما لم يؤمن الفريسيون، بأعمال الرب ولا بالأعمال التي كان أبناؤهم يقومون بها، وبخهم الرب بهذه الكلمات (مت12: 27ـ28). وإشارته هنا إلى “الروح” أو “روح الله” لا تعني أنه أقل من الروح، أو أن الروح هو الذي كان يعمل هذه الأعمال بواسطته، ولكن لكي يوضح أنه كلمة الله الذي يعمل كل هذه الأعمال بالروح، ولكي يعرف سامعوه أنهم عندما ينسبون هذه الأعمال لبعلزبول، بينما هي أعمال الروح، فأنهم يهينون الذي يعطي الروح أي الابن.

وحقًا لقد أعلن في نص الإنجيل (مت12: 27) أنهم قد نزلوا إلى أسفل الدرجات وأنهم بمعرفة يجدّفون، وليس بسبب الجهل بل هم يجدفون رغم أنهم يعرفون أن الأعمال التي يعملها هي أعمال الله، ولكن هؤلاء المجانين نسبوا هذه لبعلزبول، أى كأنهم يقولون إنها تمت بواسطة روح نجس.

وكيف يستطيع أناس لهم مثل هذه الوقاحة أن ينتقدوا الوثنيين الذين يصنعون الأصنام ويدعونها آلهة؟ حقًا إن جنون الفريسيين مثل جنون الوثنيين. كلاهما يفعل ذات الشيء، وإن كان الذي فعله الفريسيون أكثر خطورة، لأنهم بعد أن أخذوا الناموس الذي يحذرهم من عبادة الآلهة الغريبة يتجرأون ويحتقرون الله بمخالفتهم للناموس.

ولكن بعد هذا التجديف ماذا سيفعلون عندما يسمعون إشعياء النبي وهو يخبر عن علامات مجيء المسيح مثل رد البصر للعميان، ومشى العرج، ونطق الخرس، وإقامة الموتى، وشفاء البرص، وفتح آذان الصم؟ من هو صانع كل هذه المعجزات؟ إذا قالوا الله الآب فأنهم يدينون أنفسهم بعدم قبول الرب، لأن ما رآه النبي وأخبر عنه هو ما فعله الرب يسوع عندما كان على الأرض في الجسد.

ولكن إذا أصيبوا بالعمى وقالوا هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول، فأنهم ينحدرون شيئًا فشيئًا إلى عدم التقوى، خصوصًا عندما يقرأون ” من الذي أعطى النطق للإنسان ومن الذي خلق الصم والخرس والذين لهم عيون والعميان” (خر4: 11)، وأعمال أخرى مشابهة، وربما قادهم جنونهم إلى الإدعاء بأنه حتى هذه الأعمال نفسها هي أعمال بعلزبول، وهذا هو التطور الحتمي لفكرهم، لأنهم إذا نسبوا إليه نعمة البصر فإنه ينسبون إليه أسباب العمى أيضًا، حيث إن كلمات الكتاب المقدس تؤكد أن الذي قام بالخلق هو الذي قام بالمعجزات وأنه هو صاحب كل الأعمال.

وبالتالي سيصلون إلى نتيجة رهيبة وهي أن خالق الطبيعة البشرية هو بعلزبول، لأن من صفات الخالق أن يكون له سلطان على خليقته. وهذا يؤكده موسى: ” في البدء خلق الله السموات والأرض… وخلق الإنسان على صورته” (تك1:1؛ 27)، ودانيال أعلن لداريوس: ” أنا لا أعبد أصنامًا مصنوعة بيد الإنسان بل الله الحي الذي خلق السماء والأرض والذي له سلطان على كل جسد” (تتمة سفر دانيال: 5). وإذا غيروا فكرهم وتصوروا أن ضعفات الجسد مثل العمى والعرج هي عقوبة من الخالق بينما الشفاء وعمل الرحمة هو من بعلزبول، فإن مجرد مناقشة هذا الرأي هو الجنون بعينه.

وطريقة تفكير هؤلاء الناس هي طريقة المجانين والسكارى وعديمي التقوى لأنهم أصبحوا ينسبون ما هو حسن أي معجزات الرحمة لبعلزبول وليس لله. ومثل هؤلاء الناس لا توبخهم ضمائرهم عندما يغيرون تعاليم الكتب المقدسة، طالما أنهم يصلون إلى غايتهم وهي إنكار مجيء المسيح فى الجسد.

وكان من الأفضل لهؤلاء الناس الأشرار الامتناع عن إهانة المسيح “كابن الإنسان” بسبب أن له جسدًا بشريًا والاعتراف به كإله حقيقي بسبب معجزاته، ولكنهم فعلوا العكس تمامًا، لأنهم عندما أدركوا أنه إنسان احتقروه، وعندما عاينوا معجزاته الإلهية أنكروا لاهوته ونسبوا هذه المعجزات للشيطان. وظنوا أنهم بمثل هذه الوقاحة وهذا التجديف سيهربون من دينونة الكلمة الذي أهانوه.

ولتتذكروا أن العرافين والمنجمين وسحرة فرعون عندما حاولوا تقليد معجزات موسى عجزوا وانسحبوا معلنين أن هذه هي إصبع الله (خر8: 19). وبينما أبصر الفريسيون والكتبة يد الله وهي تعمل بل عاينوا معجزات أكثر وأعظم قام بها المخلص، قالوا إن الذي فعل كل هذه المعجزات هو بعلزبول، مع أن بعلزبول هو إله السحرة الذين اعترفوا بأنهم عاجزون عن القيام بأي عمل خارق وحتى أقل من أعمال موسى، فمن ذا الذي يمكنه أن يقبل إهانة الفريسيين أو فسادهم الذي سبق الأنبياء وأدانوه؟

وإذا قارنا بين خطية الفريسيين وذنوب أهل سدوم يصبح أهل سدوم بالنسبة إلى الفريسيين أبرارًا. بل لقد زادوا في جهلهم أكثر من الوثنيين وغباوة سحرة فرعون ولا مثيل لهم في جرمهم إلا الآريوسيين لأنهم معًا سقطوا في نفس الفساد. لأن اليهود عندما رأوا أعمال الآب التي يقوم بها الابن نسبوها لبعلزبول، والآريوسيون عندما رأوا نفس الأعمال نسبوها لمخلوق، لأنهم قالوا إن الابن خُلِق من لا شئ، وأنه مر وقت لم يكن فيه الابن كائنًا، والفريسيون تذمروا عندما رأوا الرب في الجسد وقالوا ” لماذا وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا” (يو10: 33)، وهؤلاء الآريوسيون أعداء المسيح عندما رأوه ينام ثم يتألم، جدفوا عليه بهذه الكلمات “الذي يعاني من كل هذه الآلام لا يمكن أن يكون الإله الحقيقي ولا من ذات جوهر الآب”.

وأخيرًا أن كل من يريد أن يفحص جنون الجماعة الأولى أو الثانية سوف يرى أنهم في النهاية سوف يستقرون في وادي الظلام (تكوين 14: 8).

ولهذا السبب أعلن المخلص أنه بالنسبة للجماعتين، توجد عقوبة واحدة لهذه الجريمة الواحدة وهي عدم المغفرة: ” أما الذي يجدف على الروح القدس فلا مغفرة له لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي” (مت12: 32).

وهذا صواب تماماً لأن الذي ينكر الابن، لا يجد من يسرع لمصالحته مع الآب. وأي حياة أو راحة ستبقى لمثل هذا الإنسان الذي يرفض ذاك الذي قال ” أنا هو الحياة” (يو14: 6) و” تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت11: 28). فإذا كانت هذه هي عقوبة المجدفين، وهي عقوبة كل من يعتنق عقيدتهم في المسيح، فإنه من المؤكد أن الذين يعبدون الرب في الجسد وفي الروح ولا ينكرون أنه ابن الله وأنه تجسد بل يؤمنون في وقت واحد أنه ” في البدء كان الكلمة والكلمة صار جسدًا” (يو1:1، 14) سوف يملكون مع المسيح إلى الأبد في السماء حسب مواعيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي قال “يذهب هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية” (مت25: 64).

المرجع: الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي، الرسالة الرابعة إلى سرابيون الأسقف، ترجمة د. موريس تاوضروس ود. نصحي عبد الشهيد

التجديف على الروح القدس – ما هو و كيف يتفق مع رحمة – للقديس أثناسيوس الرسولي

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه بالمسيح

المذيع محمود داود يُعلن إيمانه في الكتاب المقدس

القديسة مريم العذراء – دراسة في الكتاب المقدس

تاريخ النور المقدس والرد على الأسئلة والتشكيكات المُثارة ضده | بيشوي مجدي